في غياب المكان يصبحُ البحث عنه ضرورةً مُلحّة، وفي إيجاده، وربّما افتراضه، وجد سوريون في لبنان بعض العزاء. فقد فرضَ واقع اللجوء الحاجةَ إلى التفكّر في سُبلٍ لمواصلة هذه الرحلة الصعبة، وسط غياب أيّ جهة رسميّة تمثلهم وتكون قادرة على الإجابة عن تساؤلاتهم وشكوكهم، وأحياناً، مشاركتهم مخاوفهم. فكان لا بدّ من مساحةٍ يعبّرون فيها عن مشكلاتهم وقضاياهم، ما دعاهم إلى التفاعل في مساحاتٍ افتراضية، انطلاقاً من اعتقادهم بأنهم يستطيعون التحرّك فيها دون قيودٍ أو مضايقات.
تُرجمت هذه الحاجة عبر خلق مجموعات على فيسبوك جسّدت حضورهم «غير المُرحَّب به» على أرض الواقع، وصار عددها بالمئات، تتوزّع ما بين عامةٍ ومغلقة، منها ما يصل عدد أعضائها إلى مئات الألوف. وتمثّل هذه المجموعات باختلاف أسمائها وأهدافها انعكاساً للواقع الذي يعيشه لاجئو ولاجئات هذا البلد.
لا رقعة جغرافية مُحدِّدة لكل مجموعة، باستثناء القليل منها، وتنقسم تبعاً لاحتياجات اللاجئين على صعيد الحصول على المعلومات والخدمات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك مجموعات تهتم بالجانب التعليمي، ومنشوراتها تختص بمتابعة أوضاع الشؤون الدراسيّة والجامعيّة والإعلان عن المنح الدراسية المتوافرة، ويديرها -عادةً- مجموعةٌ من الطلاب المتطوعين ذوي المعرفة الكافية بتلك الأمور. مجموعاتٌ أخرى تهتم بنشر فرص العمل والبحث عنها، فضلاً عن غيرها لبيع وشراء الأجهزة الإلكترونية أو الأثاث المنزلي، ومجموعاتٌ مخصصةٌ للإعلان عن المفقودات، كما تتواجد بشكلٍ كثيف تلك المتعلقة بتقديم معلوماتٍ عن البلاد المتاحة للسفر بالنسبة للسوريين، وشروط الحصول على فيزا سياحية أو دراسية وغيرها.
تُشكّل إحدى تلك المجموعات، متضمنةً قرابة 340 ألف عضو-ة، الجسد الافتراضي الأكبر للوجود السوري في لبنان، وبالتالي فإنّ رصد تعليقاتهم وتفاعلاتهم فيها يكون بمثابة تتبّعٍ لخصائص هذا الوجود. ففي الأيام التي سنقول عنها «عاديةً» والركود سِمَتُها، قد يصل عدد المنشورات فيها إلى حدود 300 منشور، وهي تروي قصصاً عن مشكلاتٍ «عادية»؛ كغلاء الأسعار بشكلٍ هستيري والارتفاع في نسب البطالة وأزمات الوقود وغياب الكهرباء، بالإضافة إلى انقطاع المساعدات المقدّمة من قبل المفوضيّة عن بعض العائلات المستفيدة بسبب صعوبات التواصل المباشر مع المفوضية، لتُحدِث هذه المنشورات جلبةً باتت مألوفة.
العديد من المنشورات يتم كتابتها بلا اسم، أيّ باستخدام خاصيّة الاسم مجهول الهويّة. تلاقي هذه الخاصية رواجاً جيداً بين الأعضاء بسبب حساسيّة بعض المشكلات التي يتعرّض لها سوريون يجدون خطراً في الكشف عن هويتهم، فيلجؤون للمجموعة لطرحها باسمٍ مجهولٍ. تُشكّل النساء الفئة الأكثر استخداماً لتلك الميزة بحسب مراقبتنا الدورية للمجموعة، وذلك خشية أبٍ أو زوجٍ أو أيّ طرف معنّف، إذ تطرحنَ مشكلات تعرضهنّ لأحد أشكال العنف، وتطلبنَ المساعدة والاستشارة القانونيّة عبر المجموعة لأنّ بيئتهنّ، في الغالب، غير آمنةٍ لمثل هذا البوح. تشغل هذه المنشورات حيزاً كبيراً من تلك الهموم الواقعة على النساء، إذ بلغ عدد منشورات النساء اللواتي تعرضنَ للعنف المنزلي والتحرّش والابتزاز حوالي الألف منذ بداية العام الحالي، وذلك بحسب مقابلةٍ أجرتها الجمهورية.نت مع مدير المجموعة.
ويحدث أن يتواءم الواقعي والافتراضي، لتقفز مخاوف السوريين نفسها من أرض الواقع إلى فضاء المجموعات، وأبرزها موضوع الهجرة «الشرعيّة»، التي تتم بشكلٍ أساسي عبر برامج إعادة التوطين من قبل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أو عبر السفارات، و«غير الشرعيّة» منها أيضاً. وبغض النظر عن اعتبارات البعض الأخلاقية والإنسانية إزاء النوع الثاني من الهجرة ومخاطره، إلّا أنّه ما يزال بالنسبة لكثيرين حبل النجاة من وضعٍ تضافرت فيه كلّ الظروف السيئة، بدءاً من كرامة اللاجئ الواقعة على المحكّ، وليس آخرها صعوبة تأمين الاحتياجات الأساسيّة للبقاء على قيد الحياة. نرى ارتدادات تلك النقاشات في المنشورات اليوميّة، تنقسم بين آراءٍ تنصح بالصبر والاحتساب والاتعاظ من تجارب من لقوا هلاكهم في البحر، وأخرى تجد أنّ لا مفرّ من المجهول إلّا مجهولٌ آخر.
لا يحتاج الأمر أكثر من نظرةٍ على التعليقات أدنى نصٍّ منقولٍ عن المفوضية تعرب فيه عن «قلقها حول الهجرة غير الشرعية وازدياد أعداد الذين يحاولون مغادرة لبنان عبر الرحلات البحرية غير النظامية». يكتفي بعض المعلقين-ات بالاستغفار والحوقلة، وآخرون يعبّرون عن استيائهم وسخريتهم من تلك البيانات، مشيرين إلى أنّ البطء الشديد في إجراءات برنامج إعادة التوطين «سببٌ شريك في توجههم نحوها». يقول معلّقٌ إن هذا هو الطريق «الذي سيسلكه عاجلاً أم آجلاً»، متأكداً من أن هناك «عودة قسرية إلى سوريا»، ومستنكراً الآراء التي تطلب التريث: «بدنا ننطر يرجعونا عند بشار الأسد؟».
وفي السياق ذاته، يعلق أحد الأشخاص: «نحن مجرد أرقام في لبنان… لا عدالة ولا إنسانية». ويقول آخر: «لو أتيحت لي فرصة السفر بقاربٍ مهدّدٍ لفعلت، ولن أتردد لحظة. مجرد تخيل فكرة البقاء هنا تحت وطأة الفقر والذل والجهل والاختناق هو شيء أصعب من الموت، بل إن الموت غرقاً أفضل». يصعب علينا قراءة «حقائق» بهذه القسوة، ويصعب علينا بالمقدار ذاته تخيل حجم اليأس الذي يكابده اللاجئ السوري في لبنان ليصل إلى نتيجةٍ تقول إن «في احتمالية الغرق حياة».
ياسين هو لاجئٌ سوريٌّ مقيم في فرنسا بعد رحلةٍ بدأها من لبنان حيث أقام سبع سنوات، وهو عضوٌ جديدٌ في مجموعة فيسبوكية كبيرة للسوريين في لبنان، يقول إن انضمامه جاء بعد فاجعة غرق المركب الذي يحمل مهاجرين سوريين ولبنانيين وفلسطينيين قبالة الساحل السوري منذ أيام. أراد ياسين الذي وصل إلى أوروبا حديثاً في رحلةٍ بحريةٍ من ليبيا إلى إيطاليا، فقدَ فيها أفراداً من عائلته، أن يروي قصته كي «ينصح ويحذر السوريين في لبنان من خطورة هذه التجربة».
كان ياسين، بحسب منشوره على المجموعة، الناجي الوحيد من عائلته التي غرقت في قارب هجرةٍ انطلق من طرابلس الليبية قاصداً إيطاليا. يقول إنه إلى جانب مرارة الفقد وصدمة رحيلهم، عاش مأساةً حقيقيةً في البحث عن جثث ذويه ولاحقاً دفنها. يضيف ياسين بأن المسافة من شاطئ لبنان إلى إيطاليا تفوق بخمسة أضعاف مثيلتها من ليبيا إلى إيطاليا، وبالتالي فإن هكذا رحلات «هي الذهاب إلى الجحيم بعينه»، كما أن السعي لإيجاد قبر لجثة قضت غرقاً في لبنان أو إخراج مهاجر اعتقلته دوريات البحرية اللبنانية «يبدو بمثابة معضلة ويحتاج لإجراءات أعقد من ليبيا وواسطات ومعارف ودفع رشاوى مرهقة».
تمكنّا من التواصل مع ياسين عبر واتساب، فقال إن صدى صوته «قد وصل لمئات الألوف من السوريين في لبنان رغم بعده عنهم آلاف الكيلومترات»، خاصةً من التفاعل الذي وصفة بالجيد والإيجابي من لاجئين، منهم من أزاحوا فكرة الهجرة عبر البحر من دماغهم بعد قراءتهم لقصته وما جرى لأسرته، وهذا برأيه «لم يكن ليتحقق لو أنه روى قصته في صفحته الشخصيّة».
من جهةٍ أخرى، ومع تفجّر أيّ أزمة أو حدوث تغيّراتٍ سياسيّة في لبنان، ينقلب الركود إلى قلق، وفي بعض الأحيان إلى مشاحنات بسبب تباين الآراء، وآخرها كان مع أزمة الخبز في تموز (يوليو) الماضي، وتعرّضِ العديد من السوريين إلى اعتداءات على أبواب الأفران لمنعهم من شراء الخبز. في المقابل، حصد منشورٌ آلاف التعليقات والتفاعلات، نصح كاتبه السوريين بعدم الذهاب إلى الأفران، والاستغناء عن الخبز «تجنباً لتصاعد العنف ضدهم، وفي سبيل صون الكرامة». بإمكاننا أن نُجمل عدداً من التعليقات الرافضة للمقترح بالتالي: «لكنّ الحق في تأمين الخبز لإشباع أطفالنا كرامة أيضاً. نحن الكبار يمكننا أن نستعيض عن الخبز بأي طعامٍ متوفر، لكن كيف يمكنك أن تقنع اطفالك بين ليلةٍ وضحاها أن الخبز بات مغمساً بالدم؟ كيف يمكنك أن تقنع طفلاً بتناول البرغل أو الرزّ فقط؟». يكتب آخرون أنهم قرروا استخدام الطحين «إن توفر» للخَبز في المنزل. ردود الأفعال مختلفة، ولكلّ منها مقاربةٌ خاصةٌ ينطلق منها، إلا أنه كان لمشاعر الأمومة والأبوة والمسؤوليات المرتبطة بهما دور كبير في توجه الكثير منهم نحو تجاهل أو تحمّل الأذى المحتمل لتأمين الخبز، ومع هذا كلّه نجد على الضفة الأخرى مَن امتنع عن شرائه، ورأى في «الاستغناء تماماً عن الخبز فضيلةً وكرامة».
آلية عمل المجموعات
في المجموعات الكبيرة، أي التي تحوي مئات الألوف من الأعضاء، يتناوب فريقٌ من المسؤولين على إدارتها يومياً، ويُفترض أن تكون لديهم قاعدة معلومات جيدة حول التسجيل في المفوضية وقوانين اللجوء وإعادة التوطين وأمور الأحوال الشخصية للاجئ، يستقبلون يومياً مئات المنشورات التي تجد مكاناً لها في المجموعة، بينما تُهمَل منشوراتٌ أخرى لأنها تخالف سياسيات وأخلاقيات النشر، وهم يحذفون التعليقات التي «لا تنفع» على حد قولهم، كالتي تحوي تنمراً أو تؤجج خطاب الكراهية والعنصريّة، ويحدث ذلك كله بناءً على قوانين وقواعد يحددها مسؤول المجموعة.
يلاحظ المتابع لما يُنشر في أغلب المجموعات ندرةً في التعاطي المباشر مع ما يجري وجرى سابقاً من أحداث سياسية وعسكرية في سوريا. سوريون عديدون قالوا للجمهورية.نت إن الحريّة غائبة عن كثيرٍ من المجموعات، إذ غالباً ما كانت تُرفض منشوراتهم، خاصةً إنْ كان الأمر يتعلق بانتهاكات أو جرائم ارتكبها النظام السوري، أو أخبار وآراء تنتقد السلطات اللبنانية وتمسّها بشكلٍ مباشر من خلال توجيه النقد إلى كيفية تعاطيها مع الوجود السوري.
لا ينكر مدير أكبر مجموعة في لبنان أنه يهمل ويرفض معظم المنشورات السياسية، ويبرّر ذلك بأن منصته «ليست ساحةً للنقاش السياسي الذي سيتحول لخطاب كراهية وعنصريّة». يضيف: «نحتاج لما يجمعنا، لا العكس»، كما أن انتقاد السلطات المحلية اللبنانية ونشر أخبار عنها «قد يعرّضهم للمساءلة». هامش حرية الرأي يختلف بين مجموعةٍ وأخرى بحسب المسؤول، إذ لكل واحدةٍ حساباتها واعتباراتها. يوضح: «ليس هناك مقياس محدد، فكل آدمن ينظر للمنشور من زاوية مختلفة». فهو مثلاً يرفض أي منشوراتٍ تروّج لسماسرة التهريب البري أو البحري أو معقبي المعاملات أو لأشخاص ومحامين يعرضون خدماتهم لإخراج معتقلين من السجون السورية واللبنانية مقابل المال، ويفسّر ذلك بأنه «لا يريد لمجموعته أن تكون قناةً لعمليات النصب والاحتيال».
آدمن آخر يدير مجموعةً تحوي أزيد من مئتي ألف عضو يقول للجمهورية.نت إنه «لا يمانع نشر مثل تلك المنشورات طالما أنها تقدم للناس شيئاً من المساعدة»، في حين يطلب منهم الحيطة والحذر. يخبرنا الآدمن أنه يمنح لأعضاء مجموعته مساحةً كبيرةً من الحرية، ويشرح ذلك من خلال مثالين: «في أزمة الخبز السابقة، وما لقيناه من عنصرية، وفي حادثة إحراق مخيم للسوريين في 2020، منحتُ الأعضاء حرية أن يقولوا ما يشاؤون. نحن لسنا هنا لنُجيبَ عن أسئلتهم واستفساراتهم فقط، علينا أن ننقل صوتهم ووجعهم». من الواضح أن صوت هؤلاء الناس لم يصل إلى أي جهةٍ معنيةٍ وقادرةٍ على فعل شيءٍ مثمر، ولكن ذلك يمكن أن يندرج في إطار بوح و«فشة خلق» في مساحات سورية افتراضية خالصة.
بموازاة ذلك، حققت هذه المجموعات تضامناً وتلاقياً في فضاء افتراضي لا يتطلب المعرفة المُسبقة. يتحدّث محمد عوّاس، وهو لاجئٌ سوري ومتابعٌ لمجموعات السوريين في فيسبوك، عن عشرات -وربما مئات- المنشورات التي كانت تدعو لتقديم الإغاثة والمعونة وإيواء الأهالي بعد حوادث إحراق المخيّمات (نهاية 2020 ومنتصف 2022). الأمر ذاته في انفجار المرفأ، وأيام غرق المخيمات في البقاع وفي كل مفصلٍ أو حدثٍ يهمّ لاجئي هذا البلد: «كان يكفي أن تكتب أنك بحاجة لوحدات دم وتحدد اسم المشفى وعنوانه وتضع رقم هاتفك، أو أنك بحاجة لمنزل يؤويك أو لقبرٍ في مكانٍ يُسمح بدفن السوريين فيه، لتأتيك عشرات الاتصالات من أشخاصٍ يشتركون معك في تلقّف مرارة اللجوء، ولتجد تناغماً يصهر الجميع في مفصلٍ إنسانيٍّ مشترك دون الالتفات إلى مَن أنت أو معرفة مسقط رأسك وعاداتك وثقافتك».
في مثالٍ تابعناه، أمضت غصون، اللاجئة السورية في لبنان، أياماً تجول في مدينة صيدا وقراها بحثاً عن حليبٍ لطفلها ابن الستة أشهر. تقول إنها في كل مرة كانت تعود للبيت خالية اليدين وخائبة وعاجزة، إلى أن خطر في بالها أن تصوّر علبة الحليب وترسلها إلى إحدى المجموعات طالبةً المساعدة في تأمينه، وبكثيرٍ من الرجاء. في التعليقات كانت النساء السوريات تقترحنَ الحلول على غصون، ومنهنّ من أعطاها لاحقاً علبةً أو اثنتين مما تخزّنه كل واحدةٍ لابنها، كما زوّدنها بأرقام صيدلياتٍ تسجل أسماء السوريين المحتاجين للحصول على حليب بواقع مرة في الأسبوع. ترى غصون أن هذه المجموعات «مثّلت جسراً عبر عليه لاجئون وغيرهم لإنقاذ حياتهم وحياة مَن يحبون، خاصةً إن كان الأمر يتعلق بعلبة حليب أو حبة دواء تعني الكثير لمن يحتاجها».
على حائط هذه المجموعات تُلصق أيضاً نعواتٌ تطلب بحرارة الرحمة والغفران للفقيد، وأخرى تطلب التهنئة والمباركة لنجاح أحدهم أو تخرّجه، وسورياتٌ وجدنَ فيها سوقاً لتصريف ما أنتجت أيديهن من المؤونة المنزلية كالمكدوس والجبن والكبيس، ونرى عمالاً وأصحاب مهن ينشرون صوراً لما يصنعوه في مهنهم بحثاً عن عمل، ونجد نداءاتٍ للتبرع بالدم، كما يتسع المجال لنشر أمورٍ ترفيهية مثل حكمة اليوم أو القصص والعبر، أو معلومات عن أماكن جغرافية سورية، فضلاً عن نكاتٍ ومناكفات حول تشجيع فرق كرة القدم، لتقسم هذه الأخيرة الآلاف إلى برشلونيين ومدريديين في ليلةٍ واحدة.
تداركُ قصور التغطيات الإعلامية عبر فيسبوك
انتفاء مساحات التفاعل والتواصل المادية بين اللاجئين السوريين في لبنان لم يكن الدافع الوحيد لإيجاد تلك المجموعات، إذ لم تنفرد بكونها ناقلةً للأحداث فحسب، بل حاولت أن تكون أداةً لتغيير طبيعة التعاطي مع شؤون اللاجئين السوريين اليومية، واستجابةً للضبابية والشعور بعدم الرضا عن صورة اللاجئ في العديد من المنصات الإعلاميّة. إذ لطالما وجد اللاجئون أنفسهم إمّا مواداً إعلاميةً في تغطياتٍ تقتصر على بعض الحوادث التي أثارت الرأي العام كالانتهاكات بحقّهم على أساس عنصري، أو وجدوا أنفسهم مُمَثّلين بـ«ملف النازحين» وخطط «العودة الآمنة» إلى سوريا. ففي وسط تجاذبات سياسيّة لبنانية، يرى اللاجئ-ة السوري-ة نفسه-ا خارج المشهد وغير فاعل-ة فيه. على سبيل المثال، في فترة الانتخابات النيابيّة التي جرت في أيار (مايو) المنصرم من العام الجاري، كان الوجود السوري في لبنان حاضراً في عناوين العديد من المنصات الإعلاميّة، مثلما كان في برامج النواب الهادفة لاستقطاب أكبر عدد من الناخبين المناهضين للجوء السوري، وعلى هامش ما كان يجري، عكست منشورات السوريّين في المجموعات حالة الريبة التي عاشوها حينها، من ترقب مصير وجودهم المتقلقل والمتعلق بأملٍ وحيدٍ يكاد يكون ضعيفاً، وهو أنهم مسجلون لدى المفوضيّة لشؤون اللاجئين؛ الدرع الذي لم يَعُد اللاجئ يعوّل عليه كثيراً. فضلاً عن منشوراتٍ دعا أصحابها إلى المكوث في المنازل ريثما تتضح صورة وتداعيات ما بعد الانتخابات.
لا نحاول أن نقلّل من أهميّة التقارير التي تفضح العنف المتكرّر على اللاجئين السوريّين، إلّا أنّها في أحيان كثيرة غرّدت خارج سرب المشكلات اليوميّة، ودون الغوص في هموم اللاجئ السوري. ومع حسن نيّة بعضها، لكن كثيراً من التغطيات، في وسائل إعلام لبنانية وغيرها، بَعُدت عن مسارها بسبب التعاطي مع تلك الانتهاكات كحوادث فرديّة «تتكرر كثيراً»، بحيث تحوّلت تلك التغطيات السريعة إلى أدوات رصدٍ بهدف الرصد، ودون فهم سياق اللجوء وهيكلية العنف الذي يتعرّض له اللاجئ السوري في لبنان، وبلا محاولة التصدي لها، فتكتفي بالقول إن هذا الانتهاك شخصي، وعلى تبعاته أن تكون شخصيةً أيضاً. ومن جهةٍ ثانية، نلاحظ قصوراً من قبل الإعلام اللبناني في التعاطي مع قضايا اللجوء واللاجئين بموضوعية، ويمكن أن نرجع أحد الأسباب إلى أن العديد من المنصات الإعلامية اللبنانية المحلية ذات أجندات سياسية حزبية معادية للاجئين السوريين، بل لا تتطرق لقضاياهم إلا عبر نشر خطابات الكراهية وإلقاء الضوء على بعض الممارسات السلبية الفردية للاجئين، لتتحول بدورها إلى تلك الصورة النمطية عن مجتمعٍ بأكمله، في حين أن الانتهاكات ضد اللاجئين السوريين، كما سبق أن أشرنا، فردية فقط.
ثمّة مثال عن ذلك، فعبر متابعة تلك المجموعات لاحظنا عدة منشورات يتحدّث فيها سوريون عن المشاكل الناتجة من القرارات المُجحفة التي تصدرها بين فترةٍ وأخرى بلديّةٌ لبنانيةٌ هنا وأخرى هناك، وذلك إمّا عبر تقييد تحركات السوريين ضمن ساعاتٍ محدّدة أو بتحديد أجور عمل متدنيّة، وهي ممارساتٌ تتنافى مع المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي كان اللبناني شارل حبيب مالك أبرز واضعيه: «لكل فرد حق في حرية التنقل وفى اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة». للأسف باتت تلك النداءات مألوفة، وتغاضي الإعلام اللبناني عنها مألوف أيضاً، فلا تجد مكاناً لها سوى في مجموعات السوريين في فيسبوك.
لا تقدّم تلك المجموعات نفسها كمنابر إعلامية بالمعنى الدقيق للكلمة، إلّا أنها نقلت مشكلات اللجوء، بل كان اللاجئون أنفسهم من يكتب قصصهم بعد فقدان أملهم بنقل الحقائق كما هي من قبل الإعلام، فتمكنت إحداها، وبسبب عدد الاعضاء الكبير فيها فضلاً عن التفاعل المكثّف فيما بينهم، في أن تكون حبل تواصل مع المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين في لبنان. يقول مدير المجموعة من خلال المقابلة التي أجريناها معه: «استطاعت المجموعة أن تكون جسراً بين اللاجئين والمفوضية، فجميع التحديثات المتعلقة بالمساعدات والقرارات الأمميّة يتم إرسالها بشكل مباشر إلى مشرفي-ات المجموعة ليتم نشرها، بالإضافة إلى نقل بعض الشكاوى المتكرّرة إلى المفوضية عبر برنامج التواصل مع المجتمعات». ولكن يبقى أنه لا يمكن التنبؤ بمدى قدرة تلك المجموعات على التأثير في الرأي العام كما تفعل التلفزيونات والمنصات الإعلامية، أو في إحداث تأثير سياسي ملموس.
خوفٌ وصمتٌ مستمران
يقف كثيرٌ من اللاجئين على حدود هذه المجموعات لأسباب عديدة، فمما لا شك فيه أنّ بعض الأسباب شخصيّة تتعلّق بعدم الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي، لكن يمكننا القول إنّ لهذا أسبابٌ أخرى، أولها أمني. يقول طارق، وهو طالب دراسات عليا في بيروت وعضو في إحدى المجموعات: «لا يمكننا أن نقلّل من أهميّة الأسباب التي تدفع البعض للابتعاد عن تلك المساحات والخوف من التفاعل فيها، إذ ما تزال علاقة السوري بمواقع التواصل الاجتماعي مضطربةً جراء القمع والملاحقة المديدين من النظام السوري، لا سيما نتيجة رقابته على تلك الفضاءات». لذا يُفضّل البعض عدم اللجوء إلى تلك المساحات لكونها شبكة كبيرة وتفتقد للأمان الذي بات يبحث عنه السوريون دائماً، ويخشى كثيرون الانخراط فيها خشية رقابة الأجهزة الأمنية اللبنانية من جهة، والنظام السوري ومؤيديه من جهة ثانية. بالإضافة إلى ذلك، يتملك السوريون هاجس الإعادة القسرية إلى سوريا لأسبابٍ يجهلونها، وهذا سببٌ كافٍ ليحول بينهم وبين ممارسة فعل التعبير عن الرأي والتفاعل في تلك المجموعات، التي يظن بعضهم أن كلمةً يكتبها فيها قد تودي به إلى الحدود السورية اللبنانية، وبعدها إلى أحد المعتقلات.
كما نجد أن نسبةً كبيرةً من المنشورات في المجموعات موجهة لأولئك المستفيدين-ات من برنامج المساعدات الذي تقدّمه المفوضيّة العليا لشؤون اللاجئين، وقد بلغت نسبة السوريين غير المستفيدين من المساعدات النقدية نحو 45 بالمئة في عام 2021، وهؤلاء ربما لا يعنيهم الانضمام لتلك المجموعة ومتابعة تحديثاتها.
واستناداً إلى معايير النشر المثبّتة في المجموعات، يبدو وكأنّ بعضها بمثابة فضاءات انتقائيّة تقصي الآراء التي لا تتطابق مع معايير النشر، وتتجه للإبقاء على الآراء الممتثلة لتلك السياسات، إذ إن معايير النشر والتعليق في مجموعات عديدة تفرض على اللاجئ عدم الاشتباك مع أي حدث سياسي أو موضوعات حول الدين والجنس على منبر هذه المنصات، لتتحوّل هي الأخرى في بعض الأحيان إلى امتدادات للقمع الذي لم يتخلّص منه السوري حتى بعد تركه لبلاده، ولينسحب الصمت الملازم له من أرض الواقع إلى المساحات الافتراضية.
تبقى تلك المجموعات حلولاً آنيّة خلقها لاجئون سوريون وسوريات ليسدّوا عبرها عدداً من الفراغات، غير أن استعادة الصوت والمكان لا يمكن أن يتحققا عبر فضاء يخضع لسياسات تحكمها التقلبات الاقتصاديّة والسياسيّة، بل إن كثيراً من معاييرها تمييزيّة. تشتبك تلك المجموعات مع تفاصيل لجوء السوريين وحصارهم، لتكون نافذةً نطل من خلالها على حياة السوريين الذين يعرفون بعضهم من خلالها، ونعرف أخبارهم وتفاصيل حياتهم الصغيرة ونقرأ قصصهم وحكاياهم اليومية، لنجد بين سطورهم تعباً كبيراً، ونلمس خوفهم من مستقبلٍ مبهم الملامح.
لا إثارة ولا تشويق أبداً في متابعة هذه المجموعات ومنشوراتها، ففي واحدةٍ تستقي معلوماتها من مفوضيّة اللاجئين، وكانت الأخيرة قد روّجت لها واعتمدتها في برنامج التواصل مع المجتمعات لاطلاع اللاجئين على آخر التحديثات والقرارات، نقرأ في آخر المنشورات أن لا مدارس للسوريين هذا العام، وأن المساعدة ستتقلص لتصلَ فقط إلى نصف عدد المستفيدين حالياً.
وحده، في آلاف المنشورات، يتردد صدى صوتٍ عالٍ، وبإصرار: «أخرجونا من لبنان».