هل يساعد الماضي على زيادة فهمنا لذواتنا ولطريقة تعاملنا مع الوقائع؟ أم إنه يُثقل كاهلنا ويعيق شخصياتنا في محاولة كسر ردود أفعالنا المكررة المتوقعة، وفي محاولة تغيير بعض صفاتها التي جار عليها الزمن؟ هل الاعتراف بمشاكل الماضي هو فعلاً نصف الحل وبداية تقبّلنا لأنفسنا بسلبياتها قبل إيجابياتها؟ هل السلطة الذكورية هي منشأ الخوف الأول، والسبب في خضوعنا أو تمردنا لاحقاً؟ هل العنف والتعنيف هو سبب الإحساس بالعجز -في بعض الأحيان- والخوف من المجهول، وبالتالي التغيير؟ هل المنفى بدايةٌ جديدة، أم أن سجوننا ومشاكلنا ستبقى تحاصرنا أينما اتجهنا؟ هذا النص هو محاولة عودة إلى أثر بعض صور الماضي علينا، والتي تتقاطع مع تجارب الكثير من السوريات والسوريين كنوعٍ من الماضي الجمعي الذي قد تختلف أشكاله، ولكن تجتمع في نهايته بتشابه أنواع الوجع والمعاناة وأثرها علينا.
الذاكرة والوقت والمنفى
بعد تجربة اعتقالي لم تعد ذاكرتي تسعفني كثيراً في تذكر التفاصيل التي أحتاج، ولا في الوقت الذي أحتاجها فيه، بل اقتصرت على بعثرتي بين العديد من الصور التي لا تخضع لسياقٍ يسهّل بحثي بينها. ذاكرةٌ صوريةٌ عبثيةٌ تحررت للحظاتٍ من أثر رائحةٍ أو تفصيلٍ صغير حفّز ظهورها من ماضٍ نسيتُهُ أو تناسيته مع الوقت، فنسيت تفاصيل الحكاية التي حاصرتني أو آلمتني لأعوام، لتغيب الحكاية ويبقى أثرها الموجع المخيّب ملتصقاً ببعض جوانب شخصيتي؛ الظاهر منها والمكتوم سهواً، ليُسقطني في ثغرات ذاكرتي، ولأحارَ مع الوقت كيف أفهمُ وأحللُ وأحاول إعادة ترتيب قطع حكاياتي المبعثرة بذاكرةٍ هشّة، وكيف أفهم شخصيتي وردود فعلي وخيباتي بشكلٍ أكبر، وأيضاً كيف أتحكم في توقعاتي بحيث لا تكون مصدر حكمٍ في علاقاتي تجاه الآخر وتجاه نفسي.
المنفى والوقت كانا كفيلَين للتفكير في الجوانب التي تكاتفت في تكوين شخصيتي الآنية وفي طريقة اختياري لأسلوب تعاملي مع نفسي ومع من حولي. تكاتفت وتباينت تلك الأمور بين العابر البسيط وبين المدروس المتوارث المتناقل من جيلٍ لجيل كقطيعٍ لا يختلف أي فردٍ فيه عن غيره. قد يكون تسليماً بالعادات المتوارثة من قبل أهالينا وأهاليهم، أو مجرد استسلام وطاعة لإشباع حاجة الفرد للقبول والتقبل؛ بمعنى أن ما لُقنّا إياه في صغرنا واعتدنا عليه سقط سهواً دون التدقيق به، فلم نعد إليه للبحث فيه لاحقاً. منّا مَن نقلَ ما رُبّي عليه لأطفاله كما هو، ربما لا رغبةً ولا عمداً، وسقطت بعض العبارات من أفواهنا دون التفكير بها أو بأثرها علينا وعلى الآخر رغم جهلنا لمدى صحتها: عيب، حرام، جيد، سيء، مسموح ممنوع. ليصبح المتوارث المبنيَّ للمجهول؛ اسمه وخبره وفاعله ومفعوله مجهولون؛ لا بداية له ولا نهاية، كالموت المجهول الذي لم يبقَ منه إلا الأثر.
المنفى بالنسبة لي يجعلُ كل شيءٍ محضَ تشكيك، ويستدعي تساؤلاتٍ فلسفيةً واجتماعيةً بشكلٍ مستمر، من صعوبات الحياة وحاجاتنا الإنسانية للقبول والتقبل وكسب مكانةٍ اجتماعيةٍ مرضية إلى حدٍّ ما. أهذا ما أدى إلى ظهور فكرة الأقنعة الاجتماعية المتغيرة، والتي أكسبتنا خاصية تعدد الوجوه والشخصيات لتسهّل حيواتنا الاجتماعية علينا؟ أم أنها الحاجة التي ولّدت الدافع الذي ابتكر الأسلوب المقنع، ومنه أيضاً الشخصية غير محددة المعالم، التي تتلون لتتناسب مع الدارج أو الأقوى؟ أم إنه سبب الازدواجية في الانفعالات والمواقف التي مهدت الطريق لبعض الاضطرابات النفسية والتناقضات التي فُهمت وفُسّرت من خلالها بعض جوانب الشخصية ولم يُفهم بعضها الآخر. ولربما الذي دفعنا لتقبل بعض الجوانب المتناقضة فينا وفي الآخرين كان وسيلةً لنا لننسق -قدر الإمكان- بين ما نريده نحن وما يتوقعه الآخر منا؛ كأن أصوم وأصلي وأشرب الكحول، أو أن أكون نصيراً لحقوق المرأة لكن نسونجي أو أضرب زوجتي أو أخون على حدٍّ سواء، وأن أكون شخصاً معروفاً ولي شعبية واسعة وأستغل نفوذي وأتحرش، أو أن أكون شخصاً طبيعياً جداً في حياتي الاجتماعية والأسرية وأكون سجاناً أو محققاً أمارسُ مهنة التعذيب وأُبدع بها كأي مهنةٍ أخرى.
أبي وأمي وذاكرتي عنهما
طفولتي في ظل أبي كانت أقسى وأطول فترةٍ اختلطت فيها انفعالاتي في حياتي. عجزتُ آنذاك عن فهم شخصيته وسلوكياته المزدوجة الغريبة في حبه وغضبه وعنفه، لكنّ الشيء الوحيد الذي عرفته في صغري آنذاك هو الإحساس الغامر بالراحة لغيابه. مشاعري المختلطة نحوه آنذاك لربما كانت سبب رفضي اللاحق لأي سلطة ذكورية بطريركية، وبالتالي لأي أسلوبٍ يُفرَض تجاهي بالقوة أو يُهدِّد بسحب المزايا. شخصٌ عشتُ معه وجميع الحكايات حوله ضبابية، في غيابه المتقطع المستمر وحضوره المقلق، في غضبه أغلب الأحيان لأسباب غير مفهومة، ومعاقبته لأفراد أسرته، وتهديداته المتكررة المستمرة لأمي بترحيلها من بيته، وردة فعلها الوحيدة المعتادة في بكائها وصمتها وخوفها الذي ينام معها على وسادتها ويستيقظ معها أغلب لياليها. أمي تلك المرأة الحنونة الضعيفة البسيطة، التي تقبّلت حياتها تلك بصمت، وكتمت صوتها لأن محيطها لقّنها فكرة أن الطلاق تابو لا يجب الاقتراب منه ولا حتى التفكير فيه لأنّ المطلقة عالةٌ على أهلها ومجتمعها، فاستسلمت لسلطة زوجها الذكر الذي لُقِّن هو أيضاً درسه الذكوري في أنه يستطيع أن يُفرغ غضبه متى يشاء وبمن يشاء، بما عجز عن مواجهته وخرج عن سيطرته ليحوله ويُسقطه على زوجته وأطفاله الأضعف منه قوةً ونفوذاً.
كبرتُ مع مشاهد كمّ الإساءات التي رافقت أمي من أبي، الذي لا يرى في وجود الأنثى إلا أداةً لمتعته وتلبية احتياجاته وطاعته وتربية أطفاله. أمي تلك المرأة الأشبه بإسفنجةٍ تمتص الإساءات بدموعها الكثيرة، وذلك حتى من دورية شرطة الأمن التي اعتادت أن تأتي لمنزلنا بشكلٍ متكررٍ وفجائي بحثاً عن أخي المطلوب لمراجعة فرع الأمن السياسي؛ رجالٌ يصرخون بصوتهم العالي وبدلاتهم العسكرية المخيفة وأجسادهم الضخمة، يبعثرون بيتها ويكسرون أدواتها ويتوعّدون، لا يحترمون عمرها ولا أمومتها ولا نظراتها ونظراتي المذعورة من همجية تصرفاتهم. أمي البسيطة تلك لربما لو استطاعت أن تكمل تعليمها لاستطاعت الحلم، ولَتمنّت شريكاً أقل تعقيداً، ولربما كانت ستثور على حياتها الرتيبة المثقلة آنذاك. في مخيلتي لا أجد لها الكثير من اللحظات السعيدة سوى في أعراس إخوتي وأخواتي وفرحها لنجاحاتنا العلمية. أمي تلك المرأة التي لطالما كان حلمها الوحيد أن تتعلم، ولكنّ مجتمعها الذكوري حرمها تلك المتعة فزرعت علمها فينا مع أنها لم تنشأ على أهميته.
كان أبي بالنسبة لي رجلاً مركباً، أخاف الاقتراب منه دون دعوة. عرفتُ عنفُه الهائج الذي قد يبدأ في لحظة بـ«عرق الجنان»، وهي حالة غضبٍ شديدٍ وعنيفٍ جداً يصل لدرجة الضرب بأداة قاسية لشخصٍ أو لأكثر بما يتناسب مع الحالة، أو ليس بالضرورة أن يتناسب معها تماماً؛ حالة تتكرر كثيراً دون معرفة الأسباب المباشرة لها، فقد يكون ذلك نتيجة رفضه لصعوباته وخيباته، ليتحول الأمر إلى غضب، ومنه الى تعنيف لفظي ونفسي، ثم جسدي. أو قد يكون ذلك نتيجة العنف الذي تعرّض له من أسرته في صغره، لأن العنف مكتسب، والأشخاص العنيفون يكونون غالباً ضحايا لتجارب عنفٍ في صغرهم. أو قد يكون ذلك أيضاً نتيجة رفض محيطه له، كونه ابن بيئة لم تُعلّم أبناءها وزوّجتْ بناتها لأبناء الأعمام، في حين أن أولاده تعلموا ولم يتزوجوا من أقاربهم، فنبذوه لاختلافه.
سلطة الذكر وجريمة قتل النساء وثورة الأنثى الأولى
السلطة، سلطة الأب، ثم سلطة الذكر، وسلطة النفوذ للأقوى. مفرداتٌ عرفتُها مبكراً بأحاسيس طفلةٍ كوّنت معارفها من مشاعرها. سلطة الأب تمثّلت بواضع القوانين والمُتحكِّم والمُطاع في ماله وبيته وأفراد أسرته؛ سلطة الدولة بأساليبها القمعية الجائرة، وبزيها العسكري ورجالها المخيفين بأصواتهم وتهديداتهم، وبسجونها المُعتمة وكلام الناجين عمّا عاشوه داخل جدرانها وأساليب التعذيب المعتادة والمبتكرة، عمّن عاد ومن لم يعد، وعن انشقاقات حزب البعث والانقلابات التي نجحت والتي لم تنجح، عن محرقة حماة وملاحقة منتسبي حزب العمل، عن المدافعين عن حقوق الإنسان، وعن موت حافظ الأسد عام 2000 الذي كان أشبه بموت الإله في سن العاشرة.
في مراهقتي تعلمتُ أن أقاوم ما يُفرض على شخصي سراً، أن أتقبل مؤقتاً ما يُفرض عليَّ لعجزي عن رفضه أو تغييره تحت سلطة التهديد بحرماني من المصروف أو من المنزل أو حتى من تعليمي (شهادتي التي كانت وسيلة نجاتي وحريتي الوحيدة لاحقاً). حاولت ألا أنسى أنها سياستي المؤقتة، كيلا أعتاد ذاك القناع فأنسى من أنا، ثم تُسحق ذاتي بأحلامها. أَحقرُ التجارب وأشنعها أن يكون هناك جزءٌ منك لا يمتّ لك بصلة، وتُرغم على أن تشاركه أجزاءً منك كل يوم مثل ظلٍّ يُخفي جانباً منك لم تُرد إخفاءه يوماً. سلطة الأهل لها قائمة قوانين تُفرض عليك فجأةً عندما تكبر قليلاً، ودون أن تفهم حينها لماذا؛ قائمة جديدة بما هو مسموح وممنوع وحرام، وعليك أن تلتزم بها رغم عدم فهمك لها، كأن أرتدي الحجاب في صيف السادس الابتدائي وألّا ألعب مع صبية حارتي الذين اعتدت اللعب معهم على الدوام، وأن أُمنع من مصاحبة الفتيات السبور، وأُمنع من قصات الشعر القصيرة لأني أتشبّه بالصِبية، وألّا أذهب إلى منازل صديقاتي بعد المدرسة.
بعد التطرق لسلطة الأب وسلطة النفوذ، يستحيلُ تجنب الحديث عن جريمة قتل النساء. جريمة «الشرف» التي هي فعلٌ ذكوري بامتياز ومن أشنع الانتهاكات المرتكبة بحق النساء لكونها جريمة إنسانية اجتماعية عن سبق الإصرار والترصد. لا أدري كيف ومتى كانت المرة الأولى التي سمعتُ فيها عن هذا المصطلح في صغري، لكنه بدا -من وقعه- أنه شيءٌ كبيرٌ ويستحق هول حجم الخوف منه. لا أعرف لماذا نسبته حينها لفكرة رفض الحجاب وخلعه، ربما لأنني لم أكن أعرف في صغري ولا مراهقتي أنه ارتبط بغشاء البكارة والعلاقة الجنسية خارج إطار الزواج، ولأني اعتدت على سماع ورؤية الكثير الكثير من الأمور دون الحصول على تفسيرٍ ولو بسيطٍ لها. أتذكر جيداً الخوف الذي رافقني سنة مغادرتي للمنزل، أي سنة خلعي للحجاب في سن الثامنة عشرة. فعلى الرغم من بُعد المسافة الجغرافية لاحقاً بين أبي وبيني، اعتراني ذعرٌ وقلقٌ دائمٌ لقرابة سنتين من أن أكون ضحية أبي بجريمة شرف. ولسذاجتي البريئة آنذاك أخبرتُ أخي الذي كان صديقي وداعمي في قراري بما أخشاه، ليقول لي: «من وين جبتي هالحكي؟ شيلي هالشي من راسك، ما في هيك شي! تعلّمي تواجهي مخاوفك لحالك وخلّي شخصيتك قوية ودافعي عن خياراتك وحريتك». ولأنه لم يشرح لي كيف ولماذا لن أكون ضحية تلك الجريمة، احتفظت بخوفي لأشهر إلى أن فهمتُ لاحقاً أن جريمة الشرف لها معنىً آخر.
في المنفى، على الرغم من اختلاف اللغة والمكان والفرص في بداية جديدة وتحدياتٍ جديدة، لكني لم أشعر بالاختلاف كثيراً بين هنا وهناك؛ لأني كنت هناك في منفىً قبل أن أكون هنا فعلاً. ما هو المنفى وما الذي نتوقعه في المنفى ومنه؟ أسئلةٌ كثيرةٌ تتمحور حول كينونة المنفى فيما إذا كان امتداداً للماضي أم أملاً ببدايةٍ جديدة؛ أم هل محتواه مرهونٌ بأفعالنا ومدى تحررنا من وجع الماضي ومدى استعدادنا للمضي قدماً؛ هل المنفى مساحة أملٍ وفرصةٌ لعقد هدنةٍ مع وجع الماضي وبدء مرحلةٍ جديدةٍ من البحث عن الذات؛ أم أن فكرة العودة وعقدة الذنب وعقدة النجاة هنّ ما يُعيق فرصة إعطاء المنفى مفهوماً ومعنىً جديداً؛ أم هل سنبقى ننظر للمنفى على أنه فعلٌ قسريٌّ للوجود، مثل التهجير والترحيل والتوطين والتغييب والتبييض والتطهير؟ أرى في الشتات كمفهوم أنه الألطف وقعاً وإيقاعاً؛ الشتات الجامع لمجموعةٍ من المشتتين في مكانٍ ما مع حكاياتٍ متشابهةٍ وغير متشابهة، مشتتين جُرِّدوا من روتين حياةٍ وغُيّبوا عن وسطٍ داعمٍ اعتادوا عليه؛ شتاتٌ جماعي ووجعٌ واحدٌ وماضٍ جمعيٌّ تتشابك أوجاعه ويتنوع الأثر الذي تركه على كل واحدٍ فينا. هذا الشتات هو منعطفٌ مرهونٌ بنا، ونحن من سيحدد معنى المنفى وأثره علينا، لنحدّد ماهية المرحلة التالية كيف ستكون، فإما أن نبقى أسرى الماضي وضحاياه، أو أن نتحرر منه ونستغلّ فرصة وجودنا في مكانٍ جديدٍ لحياةٍ مختلفة.