ما هي معالم السياق الإيراني الذي قُتلت مهسا (جينا) أميني فيه؟ وكيف تقرأ الاحتجاجات الشعبية على مقتلها؟
ما يحصل هذه الأيام يذكّرني بالاحتجاجات التي اندلعت في 2018 و2019، وأيضاً 2017، و2009 إذا عدنا أكثر في الزمن. بالنظر إلى العقدين السابقين، يبدو لي أن هناك موجات متتالية من الاحتجاجات، وما يحصل أن هذه الموجات باتت أقرب وأقرب فيما بينها زمنياً، وهذا ليس التطوّر الوحيد، فهناك نمو متزايد في حجم التظاهرات ومداها. ما نشهده، باعتقادي، أكبر ما حصل حتى الآن على مستوى اتساع رقعة الاحتجاج وشمولها الكثير من المدن، إثر انطلاقها من كردستان.
دعنا نقول أن حظّ «الجمهورية الإسلامية» كان سيئاً فيما حصل: فتاة كردية، مهسا (جينا) أميني، كانت في رحلة عائلية في طهران حين قُتلت وهي محتجزة لدى الشرطة الأخلاقية، المكلّفة بفرض الحجاب، لأنهم اعتبروا أن «حجابها سيء». كردستان هي المنطقة الأكثر تسييساً في إيران نتيجة التاريخ الطويل لتواجد الحركات اليسارية والاشتراكية والقومية الكردية هناك. وبعد شيوع نبأ وفاة الفتاة حصلت تظاهرات منددة، وبدأت الصدامات في الأيام التالية. وقد حصلت العديد من المشاهد الرمزية التي ساهمت في الحشد، فمثلاً خلال جنازة جينا أميني خطب والدها في الجموع داعياً إياهم ألا يتركوا الأسرة لوحدها، وهذا الطلب تحوّل إلى شعار أساسي من شعارات الاحتجاج، «لستم لوحدكم»، في مدينة سقز. ومن الدفن خرجت لحظة أيقونية أخرى، حين خلعت عدة نساء حجابهن ولوّحن به في الهواء، أرى أن هذا الفعل الجماعي قد نقل المبادرات الفردية السابقة إلى مستوىً جديد. حصلت بعد ذلك مقاومة شجاعة لمحاولات «الجمهورية الإسلامية» فرض السرديات المعتادة في هذه الحالات: لم نقتلها نحن، أو كانت مريضة وتوفيت، وغيرها من الخلفيات المصطنعة للحدث، والتي قاومها والد جينا أميني وعائلتها والمحتجون بشجاعة.
وكانت هذه الحادثة بمثابة شرارة لانفجار الغضب المتراكم لدى الناس، لأسباب متعددة وفي مناطق كثيرة من البلد.
أعتقد أن هذه الاحتجاجات هي أيضاً حركة اعتراض على الكذب، لأن ما حصل كان كذبة كبيرة من قبل السلطة، والقسم الأكبر من سياسات السلطة في إيران عبارة عن كذب محض. في نفس اليوم الذي كان [الرئيس الإيراني] إبراهيم رئيسي يتحدث عن «ازدواجية معايير مؤسسات حقوق الإنسان» من على منصة الجمعية العمومية للأمم المتحدة كان النظام الذي ينتمي إليه يقتل أناساً في إيران. ثمة رياء كبير، ويُستخدم في بناءه أحياناً خطاب شيعي ديني: هناك مصلحة عُليا -الحفاظ على «الجمهورية الإسلامية»- يجوز الكذب في سبيلها.
إذاً، هناك غضب كبير لدى الناس. ما حصل كان صادماً للكثير من الإيرانيين والإيرانيات، ودعني أضع ما حصل في سياقه: الحجاب مسألة غاية في الأهمية في إيران، وهو الرمز الأبرز لسلطة الدولة. صورة بحجاب معمم تُحيل بسهولة إلى توقّع أنها صورة داخل سلطة «الجمهورية الإسلامية» في إيران. حالما وصلت «الجمهورية الإسلامية» إلى السلطة بعد الثورة، حلّت القوانين السابقة المتعلقة بالنساء والعائلات وفرضت قوانين جديدة. بإمكاننا القول أن عهد الجمهورية الإسلامية وسياساتها ولد مع تعميم القمع على النساء وعلى كردستان، وربما يرى كثيرون أن هذا العهد يجب أن ينطوي على يدهما.
حصلت الكثير من الاعتقالات نتيجة سياسات فرض الحجاب في السابق، وما حصل هذه الأيام ليس بجديد. لم يُفرض الحجاب بعد الثورة مباشرةً، بل أخذ الموضوع قرابة سنتين. وفي الثمانينات تشكّلت ميليشيا اسمها «ثأر الله» مهمتها فرض التعاليم الإسلامية، ومن بينها الحجاب. وقد تزايد هذا الموضوع في عهد أحمدي نجاد، إذ تعرضت الكثير من النساء للاعتقال والإساءة والتشهير بدعوى سياسات فرض الحجاب، وتعرض رجال أيضاً للإهانة والإساءة والعنف في سياق نفس السياسات، فالقوى الأمنية الإيرانية مشهورة ببطشها وإهانتها المستمرة للناس. لهذا، كان ما حصل صادماً ومستفزاً للناس: ما حصل لجينا أميني كان يمكن أن يحصل لي.
من المهم، لفهم غضب الناس، أن يُشار إلى أن جينا أميني لم تكن غير محجّبة، لم تكن قد خلعت الحجاب أو قامت بفعل ذو طابع سياسي احتجاجي. قبل نحو شهرين، حصلت مشادة في وسائل النقل بين سيدة خلعت الحجاب وسيدة أخرى ترتدي الشادور، إذ هددت الأخيرة الأولى بأنها ستصوّرها وترسل الصورة إلى الحرس الثوري، فردّت الأولى بأنها ستصوّرها بدورها، وترسل الصورة للعالم كي يروا كيف تتعرّض للتهديد لأنها لا ترتدي الحجاب. اعتُقلت السيدة غير المحجبة، وأجبروها على تصوير «اعترافها» وبثّوه على وسائل الإعلام. لكن هذه لم تكن حالة جينا أميني ، إذ كانت محجبة ومع ذلك قُتلت وهي محتجزة، وهذا ما عزز غضب الناس واستيائهم.. ماذا فعلت جينا أميني كي تُعتقل وتموت، حتى وفق معاييركم أنتم؟! ما حصل لجينا أميني يعني أنك غير آمن حتى لو التزمت بما يفرضونه عليك، ومن الممكن أن تُضرب أو تتعرض للأذى أو تُقتل، حتى لو لم تُبدِ احتجاجاً. في كلّ مرة نعتقد أنهم قد بلغوا حدّهم تجدهم يجتازون هذا الحدّ بسهولة، وهذا سبب تراوما جماعية بكل معنى الكلمة كما تعلمون أنتم السوريون بالذات. هذا تعذيب متواصل ليس إلاّ.
الحجاب في إيران يحجب كلّ الناس. نعيش في نظام أبارتهايد جندري بكل معنى الكلمة.
لكن كما سبق وأن قلت، الناس غاضبون، وليس فقط لهذا السبب. هناك أزمات متراكمة كثيرة، مثل أزمة المياه، والتضخّم، والاقتطاعات التقشّفية في الإنفاق العام. هناك إفقار مُعمم يعيشه الإيرانيون، مزيج من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية والسلطوية القمعية الخانقة.
هناك نقطة مهمة للقراء السوريين: على مدى السنوات الماضية، استُخدمت سوريا في إيران كتحذيرٍ للناس المستائين من سوء الأوضاع: لو تجرأتم على الانتفاض فستصبح إيران مثل سوريا. ورغم أن الخطاب الرسمي يقول ذلك على سبيل توقع تبعات «الفوضى» والتحذير منها، إلا أن الإحالة إلى سوريا يقرؤها كثيرون بوصفها تهديداً واضحاً: انظروا ماذا فعلنا في سوريا، وما يمكن أن نفعله هنا لن يكون أقل من ذلك.
ما هي تقديراتك حول حجم وامتداد الاحتجاجات الحالية؟
هناك موضوع مهم يجب أن يُشار إليه وهو أن الانتفاضة التي بدأت في كردستان لقت صدىً متضامناً في أذربيجان الإيرانية، حيث الناس تُرك قومياً، ومع ذلك تضامنوا مع الأكراد. الطلاب في طهران خرجوا أيضاً للتظاهر، وهذا بالذات فارق نوعي مهم بالمقارنة بموجات الاحتجاج السابقة، ففي 2019 اشتعلت الاحتجاجات في عموم الجغرافيا الإيرانية فيما كانت الطابع الغالب في طهران هو الهدوء. الوضع مختلف هذه المرة، وهناك اندفاع عام نحو التضامن ما بين المناطق، يشمل ثنائية المركز-الأطراف، والشعار الكردي «نساء، حياة، حرية» (جِن، جيانا، آزادي) سُمع صداه في مختلف أنحاء إيران. هذا مهم وجميل، وهو بمثابة استدعاء مفهوم الحرية مع مفهوم تقاطعي للعدالة.
قلتَ في بداية حديثك أن هذه أكبر موجة احتجاجات شهدتها إيران حتى الآن، هل هي أكبر من احتجاجات «الثورة الخضراء» عام 2009؟
لا شك أنها أكبر. لم يكن المميز في احتجاجات 2009 أنها ضخمة، بل أنها حصلت في مراكز المدن المركزية الأكبر. احتجاجات 2017 -2019 كانت أوسع على صعيد الامتداد الشعبي، إذ شملت الفقراء و«الطبقة الوسطى الفقيرة» حسب تعبير آصف بيات، لكن لم يحصل لها صدىً في طهران. وعدا الموجات الأكبر، هناك دوماً احتجاجات قطّاعية، مثل المتقاعدين والمزارعين وغيرهم.
ولكن من المشروع قول أن الموجة الحالية من الاحتجاجات ضد «الجمهورية الإسلامية» هي الأكبر حتى الآن.
ما هي الممكنات المتوافرة أمام الاحتجاجات؟ ما هي الأهداف الواقعية التي يمكن للمظاهرات أن تحققها؟
أي تفكير حول ممكنات تحقيق تغيير فعلي عبر الاحتجاج يقودني للقول أن إحراز ذلك صعب للغاية. ثمة درس لم نتعلمه من إيران، بل في سوريا: المُحدد الأساسي في النهاية ليس الاستعداد للتضحية أو مدى الجهد المبذول في سبيل التغيير، بل أين هي حدود الوحشية الذي يمكن للنظام أن يستخدمها، إن وُجِدت هكذا حدود أصلاً. محدد مهم آخر هو مدى تعب القاعدة الشعبية للنظام. رغم كل المتاعب، ورغم أنهم ليسوا قطعاً غالبية، إلا أنه ما زال هناك أقلية كافية وصلبة مستعدة للموت في سبيل «الجمهورية الإسلامية».
من الأسلم والأكثر واقعية أن أقول أنني غير متفائل حول إمكانية تحقيق تغيير فعلي وجذري عن طريق هذه الاحتجاجات، إلا في حال تأزمت أوضاع النظام بشكل مفاجئ، كأن يواجهوا عصيانات أو رفض تنفيذ أوامر ضمن القوى الضاربة، أو أن يموت خامنئي فجأة، أو شيء من هذا القبيل.
لكن إن كنا نفكر في الممكنات الكامنة وراء هذه الاحتجاجات فأرى أنها يمكن أن تشكّل مشكلة خطيرة لـ «الجمهورية الإسلامية». نزع الحجاب يشكّل مشهد عصيان جذري ضد أهم رمز من رموز النظام الحاكم، وإن كنا قبلاً نرى نساءً فرادى يقومون بذلك فقد شهدنا عشرات الحالات، وربما المئات، خلال الأيام الماضية، وفي كل مكان، لنساء ينزعن الحجاب، بل ويحرقنه في مشهد عصيان، وبأدائية عالية النبرة.
هل يمكن أن يُبدي النظام مرونة ما أمام الاحتجاجات، مثلاً عن طريق حلّ شرطة الأخلاق؟
قد يتخلى النظام عن شرطة الأخلاق. هذا ممكن. لكن ذلك لن يكون نتيجة مرونة بل بنتيجة الضغط الذي يشكّله الشارع. بعد مظاهرات عام 2009، وطوال أكثر من عامين، بالكاد كانت تُشاهَد «شرطة الحجاب» لأن الشوارع كانت تغلي.
لكن هذا لا يعني إمكانية التخلي عن إجبارية ارتداء الحجاب في إيران. لا أرى ذلك ممكناً بالمعطيات الحالية، فهذه مسألة كبرى وأساسية للنظام. لا يمكن توقع نموذج «انفتاح» سعودي، على نسق التخلّص من معالم تزمّت اجتماعي اعتُبرت جوهرية سابقاً في سبيل تحسين الصورة، مع الإبقاء على القبضة القمعية في الشأن السياسي. كما قلت، موضوع الحجاب جوهري في تكوين «الجمهورية الإسلامية»، وهي نظام سياسي تأتي شرعيته من تظافر جهود تنظيمات ثورية وميليشياوية ما زالت حاضرة وعالية الصوت، وليس بإمكان المرشد، حتى لو أراد، تخطيها بسهولة. وفي الحقيقة، هم بحاجة لهذا التزمّت لتقديمه لقاعدتهم الشعبية المستعدة للموت من أجلهم، فبدونه لا يستطيعون الادّعاء بأن وجودهم لوحده هو ما يمنع انهيار الإسلام وأخلاقه ونشر الانحلال والعري وغيرها من الأمور.
يبدو لمتابع غير مختص أن النظام الإيراني قد فقد الكثير من مرونته، حتى الخطابية، خلال السنوات القليلة الماضية. في فترة سابقة كنا نسمع عن سجالات وصراعات وتنافسات ما بين أجنحة «إصلاحية» وأخرى «محافظة»، وهذه التنافسية داخل النظام ربما كانت قادرة على امتصاص بعض الصراعات السياسية ونقلها إلى داخله بشكل مُسيطر عليه، لكن يبدو الآن أن هذا «التنوع» داخل الجمهورية الإسلامية أقل بكثير، أقله ضمن خطابها العام وتقديمها لنفسها. ما دور ذلك اليوم؟
ما يشير إليه السؤال هو في الحقيقة جزء من آلية النظام لمنح الناس أملاً سياسياً حيناً، أو سحب هذا الأمل منهم حيناً آخر. يجب قول أن هذه السردية حول معتدلين إصلاحيين ومحافظين متشددين قد انتهت في إيران منذ انتفاضات عام 2017 و 2018 في المدن الصغرى. ولم تكن هذه الانتفاضات نهاية هذه السردية فحسب، بل قادت لموجة غضب جذري ضد ما كان يُعتبر تياراً إصلاحياً داخل النظام، إذا اعتُبر أنهم خدعوا الناس بوعودٍ لم يكونوا قادرين على إيفائها، ويبدو أحياناً أنهم لم يكونوا راغبين أصلاً بتنفيذها، كما ثبُت أنهم مستعدون لمقايضة الشعارات الكبرى بمكاسب صغيرة هنا وهنا ضمن معادلات النظام نفسه. للأمانة، كان خامنئي في هذا الشأن أكثر صراحةً وصدقاً، فقد كان يطرح على هذه التيارات الإصلاحية سؤالاً استنكارياً: لماذا تعدون الناس ما تعلمون أنهم لو أحرزوه لانتفى أي معنى لكم؟ إذا أعطيت الناس مساحة للتعبير والفعل السياسي الحر فلماذا سيناصرون [الرئيس الأسبق محمد] خاتمي، مثلاً، وهو الذي كان طوال الوقت جزءاً من المنظومة.
عبر هذه السجالات العقيمة كانوا يخدعون الناس بإيحاء أن هناك إمكانية لتغييرات حقيقية من داخل المنظومة، وعليّ أن أقول أن هذا كان جزءاً من لعبة أتقنها خامنئي، وضمنها بإمكاني إدراج الإشاعات حول مرضه مؤخراً، والتي أثارت اهتماماً إعلامياً ووُظِفت سياسياً بشكل ملائم للنظام، فقد استُخدمت لإعطاء الناس ضرباً من «أمل» ترقّب أن الأشياء قد تتغيّر قريباً عند وفاة المرشد، دون أن يضطروا للتظاهر في الشوارع والتعرّض لخطر الموت. وهذه الاستراتيجية كُسرت مع التظاهرات الحالية بلا شك.
الناس اليوم يتظاهرون في الشوارع ليس لأن لديهم «أمل» بإحداث تغيير حقيقي، بل لأن أي سيرورة طبيعية للأمور على ما هي عليه الآن لا يمكن إلا أن تنحدر بأوضاعهم العامة نحو الأسوأ، وهذا فرق كبير.
ما هي التجمعات والقوى المنظّمة المشاركة في الاحتجاجات؟
لا يمكن قول أن المظاهرات التي نراها الآن هي فحسب مظاهرات نسوية، أو أن هناك علاقة سببية مباشرة وواضحة بين عمل دوائر نسوية ناشطة واندلاع المظاهرات. لكن التيار النسوي الإيراني مهم للغاية على مستوى تشكيل الخطاب، ورفع مستوى حساسية الناس تجاه قضايا مثل التحرش والعنف الجنسي، أو تجاه الحجاب نفسه. أيضاً، للنسويات الإيرانيات داخل وخارج إيران دور مهم في الإشارة للطابع الميزوشيني لعنف أجهزة الدولة المعمّم، وفي وضع عنف هذه الأجهزة تجاه النساء بشكل خاص، وخصوصاً في مواضيع مثل الحجاب، في قلب النقاش السياسي العام كما نرى الآن.
عدا ذلك، هناك دور شديد الأهمية لأطر مثل النقابات وجمعيات المعلمين والمتقاعدين وغيرهم، لأنهم خلال السنوات القليلة الماضية جعلوا التظاهر والاحتجاج، «الشارع»، أمراً طبيعياً ومألوفاً. لم يكن الأمر كذلك في إيران أبداً، خصوصاً حين هيمنت سردية محافظين وإصلاحيين داخل النظام، حين كان الشارع يُعتبر خيار «المتطرفين» و«المخربين» فقط. منذ 2009 تصاعد التصالح مع كون «الشارع» خياراً سياسياً، ولهذه القطاعات المذكورة دور مهم للغاية في ذلك. وقد بنت هذه النقابات والجمعيات خبرة تراكمية في ذلك على مدى السنوات السابقة. النظام يعلم ذلك، ويتعامل مع الموضوع الآن عبر اعتقال شخصيات وتجمعات يعتقد أن لها دوراً في التحريك.
هل هناك جوانب إيديولوجية محددة تطبع هذه الاحتجاجات في وجه نظام أيديولوجي بعمق؟
دعني أتحدث عن إيديولوجيا النظام أولاً. بالطبع «الجمهورية الإسلامية» نظام إسلامي واضح المعالم الإيديولوجية، لكن أعتقد أنهم، ومنذ سنوات، وصلوا إلى قناعة أنهم لا يستطيعون الهيمنة فقط باستخدام هذا الجانب الإيديولوجي. لقد صارت وراءنا مرحلة إعادة تشكيل المجتمع على أسس إسلامية كما اعتُقد بعد الثورة. بالطبع أن الإسلام مكوّن أساسي بالنسبة للنظام، لكنه في الحقيقة موجّه الآن أساساً نحو قاعدة هذا النظام الشعبية، ويُستخدم حين يجب إرسالهم لكي يموتوا في سوريا مثلاً. وحتى شخص مثل [الرئيس الأسبق محمود]أحمدي نجاد لديه تحفظات حول بعض هذه الاستخدامات.
لتحشيد الناس ضد التظاهرات نجد أنهم يستخدمون أدوات الخطاب الإسلامي: انظر، إنهم يفكون حجابات النساء فأين غيرتكم؛ انظر، لقد حرقوا علم إيران وعليه كلمة «الله» (وهذا يتمازج مع الخطاب القومي)؛ انظر، لقد حرقوا حسينية وفيها مصاحف.. الخ. لكن تجدهم أيضاً يستخدمون خطاباً قومياً ضد الكُرد، ويقولون أن هذه الاحتجاجات هدفها سلخ كردستان عن إيران. وطبعاً هناك خطاب المؤامرة الغربية، الحاضر دوماً
هناك مستويات متعددة من الخطاب الذي يمكن للنظام استخدامها، وليست نابعة حصراً من الإيديولوجية الإسلامية فحسب.
أعتقد أن هناك تنويعات يسارية واضحة داخل الحركة النقابية بالذات، ولكن الجامع ما بين هذه الفئات المتعددة وما يجعلها تحتج سوية هو الغضب تجاه ما يرونه امتيازات للنظام ومسؤوليه على كل الصُعد، ورفضاً للتصالح مع هذه الامتيازات أو التطبيع مع وجودها بحجة صالح أكبر ما، مثل الإسلام أو القومية أو «مقاومة الإمبريالية». بالمناسبة، هناك يساريون إيرانيون مهادون للنظام باسم هذه الحجج.. يقولون لك بوضوح أن هذا النظام سيء، لكن ثمة قيمة عُليا مفترضة تجعل من الواجب تحمّله والتعايش معه.
ما رأيك بردّة فعل «المجتمع الدولي»، وما تقييمك لسلوك الدوائر اليسارية والتقدمية في العالم تجاه الاحتجاجات في إيران؟
أعتقد أن هناك استياءً كبيراً تجاه هذه الدوائر اليسارية والتقدمية نتيجة فتورها تجاه الاحتجاجات، ولكن أيضاً تجاه بعض الدوائر النِسوية التي ترفع الصوت عالياً للدفاع عن حقوق المحجبات في الغرب، وهو صوت ضروري ومُحق؛ لكنها تتجاهل ممارسات الإسلاميين في إيران وغيرها في فرض الحجاب على النساء، لأنهن يعتبرن أن أي نقدٍ للإسلاميين يصير نقداً للمسلمين، مع ما يستجر ذلك من اعتقاد بأنه إسلاموفوبيا أو عنصرية.
هناك كسل مثير للغضب في هكذا مقاربات. أشعر بغضب شديد منذ زمن طويل تجاه هذا الأمر. بدايةً مع سوريا، ثم رأيناه في أفغانستان، والآن مع أوكرانيا. روسيا صارت الآن، وفقط الآن، كياناً عدوانياً يجب أن يُعاقب، ولكن قصف سوريا من قِبل الجيش الروسي لاقى تجاهلاً مريعاً.. أشعر أحياناً أننا وقضايانا ومعاناتنا وحياتنا نُعامل بوضوح وكأننا ما-دون-بشر.
إذا وسّعنا نطاق التفكير ليشمل كل «المجتمع الدولي»، فهناك استياء شديد بطبيعة الحال، مع استيعاب كبير لفكرة أن هذا «المجتمع الدولي» لا يتعامل إلا مع أقوياء وفق قوّتهم، وتجري وفق هذه المعادلات التفاهمات. ثمة مثال على ذلك: مؤخراً سُمح للنساء بدخول ملاعب كرة القدم في إيران، لكن ذلك لم يحصل استجابةً لطلب الناس للانفتاح، بل لأن الفيفا أجبرت الاتحاد الإيراني للكرة على ذلك فحسب.