ليست قوارب الهجرة جديدة على شاطئ لبنان الشمالي، بل إنها نشطت منذ أكثر من ثلاث سنوات مع اشتداد الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها لبنان. لكنّ العام الجاري حملَ تحولاً عنيفاً بدأ مع الحادث المأساوي الذي تعرّضَ له مركب طرابلس في نيسان (أبريل) الماضي، والذي تقول مؤشرات قوية إنه لم يكن حادثاً طبيعياً، إذ قال شهود عيان إن الجيش اللبناني هو من أغرق القارب عن قصد، وذلك من ضمن خطته لمكافحة الهجرة «غير النظامية» عبر البحر.
تنطلق القوارب من السواحل الشمالية اللبنانية بشكل شبه يومي من منطقتين هما طرابلس وعكار، وتحاول الوصول إلى إيطاليا بشكل أساسي. تحمل هذه القوارب سوريين من اللاجئين في لبنان أو من الذين يتم تهريبهم من سوريا إلى لبنان بغرض الهجرة بحراً، بالإضافة إلى لبنانيين وفلسطينيين من مخيمات لبنان.
أرقام الهجرة عبر البحر في لبنان
بحسب مصدر خاص في المفوضية السامية للأمم المتحدة في لبنان، تضاعفَ عدد الأشخاص الذين غادروا أو حاولوا المغادرة عن طريق البحر تقريباً في العام 2021 عمّا كان عليه في العام 2020. واستمرّ هذا الاتجاه التصاعدي في العام 2022 مع زيادة بنسبة 73٪ في عدد الركاب المغادرين في الفترة الممتدة من كانون الثاني (يناير) إلى آب (أغسطس) مقارنة بالفترة نفسها من العام 2021.
وعلى الرغم من وجود زيادة ملحوظة في أعداد المسافرين اللبنانيين منذ العام 2020، إلا أن هذه المجموعة لا تزال أقلية (27.5٪ حتى الآن في 2022 و12٪ في 2021 و18٪ في 2020)، حيث يشكل السوريون الغالبية العظمى من الأشخاص الذين يهاجرون أو يحاولون الهجرة في رحلات القوارب غير النظامية.
في العام 2020 رصدت المفوضية 34 قارباً استطاع 13 منها الوصول فقط، فيما لم يستطع 21 قارباً الوصول إلى بلدان أخرى. وكان مجموع المسافرين 794 مقسمين على الشكل التالي: 59.7% سوريين و18.6% لبنانيين و2.3% من جنسيات مختلفة و22.7% غير معروفي الجنسية. لم يستطع 62% من هؤلاء المهاجرين الوصول إلى وجهتهم بل عادوا أدراجهم، وقد تمت إعادة 230 مهاجراً من قبرص في ذاك العام.
وفي العام 2021 علمت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بوجود 38 قارباً حملت 1570 شخصاً (1138 سورياً و186 لبنانياً و235 غير مؤكد و11 من جنسيات أخرى) غادروا أو حاولوا المغادرة بشكل غير نظامي عن طريق البحر من لبنان، أو غادروا من مكان آخر لكن تم إحضارهم إلى الشاطئ في لبنان، وحاولت الغالبية من تلك القوارب الوصول إلى قبرص.
وفي عام 2022 علمت المفوضية حتى الآن بوجود 24 قارب حملت 1826 شخصاً غادروا لبنان أو حاولوا مغادرته بشكل غير نظامي. كانت 6 من هذه القوارب تنوي الوصول إلى قبرص، بينما 16 منها تنوي الوصول إلى إيطاليا، وهو تحوّل في الاتجاه من حيث الوجهة المقصودة في السنوات الأخيرة. من بين الركاب الذين عُرفت جنسيتهم 1257 سورياً، أي ما نسبته 58٪، و27.5٪ لبنانيين والباقون فلسطينيون أو لم يتم التأكد من جنسيتهم.
تعامل السلطات اللبنانية مع تزايد هذه الهجرة
تتعامل السلطات اللبنانية مع أزمة الهجرة غير النظامية كورقة ابتزاز للمجتمع الدولي، وورقة ضغط لتحصيل المزيد من الأموال والمساعدات للبنان، وذلك عبر التهديد المباشر أو غير المباشر من قبل مسؤولين لبنانيين، من خلال القول إن لبنان لم يعد باستطاعته ضبط الحدود البحرية ومنع تدفق اللاجئين إلى أوروبا.
وقد ظهرت سياسة الابتزاز بوضوح في مؤتمر بروكسل الأخير، عندما طلبَ وزير الشؤون الاجتماعية التابع للتيار العوني هكتور حجار مبلغ ثلاثة مليارات دولار من المجتمع الدولي، بسبب ما اعتبره تعويضاً عن التأثير السلبي لوجود اللاجئين السوريين في لبنان، وفي الفترة عينها كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يهدد المجتمع الدولي بفرض عودة اللاجئين السوريين بالقوة، في حال لم تتحرك الجهات المانحة لمساعدة لبنان.
حتى اليوم، لا يزال الجيش والقوى الأمنية يحاولون مكافحة الهجرة عبر البحر، ولكن بحسب معلومات من بعض سكان المناطق الشمالية، فإن ضباط البحرية في الجيش يتلقون الرشى من المهربين مقابل غض النظر عن بعض الرحلات، فيما تنشط مخابرات الجيش في عكار والشمال لمكافحة هذه التجارة والهجرة قبل حدوثها وإقلاعها عبر البحر، وكذلك الأمر بالنسبة لفرع المعلومات، الذي أحبط عمليات تهريب عديدة في الأشهر الماضية قبل حدوثها. ولعلّ هذا ما يفسر كيف أن بعض القوارب تنجح في خرق طوق البحرية اللبنانية والاتجاه إلى إيطاليا ومالطا، فيما تفشل قوارب أخرى بالخروج من المياه الإقليمية
كذلك تتفاوت معاملة السلطات للمهربين من حالة إلى أخرى، وأغلب هؤلاء المهربين لبنانيون، منهم من تم توقيفه لأيام قليلة فقط ثم إطلاق سراحه. في مقابل ذلك، اختفى أحد الناجين من قارب طرابلس، وبحسب تحقيق نشره موقع درج، فإن السلطات اللبنانية تحتجزه منذ نيسان الماضي من دون إبلاغ عائلته عن مصيره أو مكان احتجازه.
بعد غرق مركب طرابلس، كثّفت السلطات اللبنانية في حملتها لضبط الحدود البحرية، ولا تزال حتى الآن تحبط عمليات هجرة عبر البحر، وتعتقل المهاجرين بطريقة مذلة جداً. في 24 آب (أغسطس) الماضي، اعتقل الجيش اللبناني حوالي 113 شخصاً في بلدة ببنين العكارية، وهي البلدة التي ينطلق منها معظم المهاجرين عبر البحر في عكار، ونشر صورهم بطريقة مهينة جداً على حساب الجيش على تويتر.
طريق الهجرة الطويل: كيف تتم العملية؟
يقول الناشط اللبناني المتابع لملف الهجرة عبر البحر محمد الدهيبي للجمهورية: «يشهد كل أسبوع رحلتين، وارتفع العدد إلى ثلاث رحلات في الأسبوع خلال شهر آب بسبب الطقس الجيد والموج المنخفض. في أيلول أصبح المعدل رحلة أو رحلتين أسبوعياً، والزوارق المستعملة هي إما زوارق صغيرة تتسع لستين شخصاً، أو زوارق كبيرة تتسع لـ 220 شخصاً. وأغلب هذه الزوارق تنطلق من مرفأ ببنين ومرفأ العبدة شمال لبنان، ولكن المشكلة أن هذه الزوارق تتعرض للمصادرة عندما تصل إلى وجهتها، وهي زوارق صيادين، لذلك أصبح هناك شح في هذه الزوارق التي يتم جلبها من جزيرة أرواد. الآن، يمنع الجيش شراء وإدخال هذه الزوارق لأنها تُستعمل للهجرة».
أما فيما خصّ العلاقة بين المهربين والجيش والسلطات الحدودية، يقول الدهيبي: «تتم رشوة الضباط المسؤولين عن النقاط البحرية مقابل إطفاء الإضاءة والسماح للزوارق بالانطلاق. هذه الرشوة لا تشمل مخابرات الجيش، بل على العكس، مخابرات الجيش كانت قد أحبطت الكثير من العمليات قبل حدوثها. بسبب هذا الأمر، تنجح محاولات عديدة للهجرة عبر البحر».
يقول الدهيبي إن أغلب المهاجرين من السوريين التي يتم تهريبهم من سوريا عبر الحدود مباشرةً الى البلدات الموجودة على البحر، ويتم تحميلهم من هناك. أما أغلب اللبنانيين الذين يذهبون فهم من الشباب الذين لا عائلة أو أولاد لديهم، والسبب في كون غالبية المهاجرين هي من السوريين هو أن الرحلات البحرية عبر سوريا أصبحت أصعب، لذلك يتم تهريبهم عبر الحدود اللبنانية الشمالية ليصلوا إلى البحر.
مشاكل كثيرة أصبحت ترافق مراكب الهجرة غير النظامية مع مرور الوقت، فيقول الدهيبي إن هناك نقصاً كبير في القباطنة الذين لديهم خبرة في هذا المجال، لأنهم عندما يصلون إلى إيطاليا لا يعودون. ولذلك فإن ثمة قوارب ضلت طريقها أو غرقت بسبب جهل القبطان بمهمته وبطريقه، كما أن نوعية المراكب أصبحت رديئة بسبب شحّ القوارب.
مصيرٌ واحد
شهدت الأيام القليلة الماضية فاجعة جديدة كبرى. في الثاني والعشرين من أيلول الجاري، غرق قبالة شواطئ طرطوس قاربٌ كان قد انطلق من منطقة المنية شمالي لبنان بهدف الوصول إلى إيطاليا، وعليه كالعادة أشخاص من جنسيات سورية وفلسطينية ولبنانية. ليس هناك حصيلة نهائية للضحايا حتى الآن، لكن عدد الجثامين التي تم انتشالها تجاوز المئة، فيما تم إنقاذ نحو 20 شخصاً ولا يزال العشرات في عداد المفقودين.
بعد أن انتشر الخبر في الإعلام، قامت مخابرات الجيش بدهم بلدة ببنين العكارية، المكان الذي يجمع فيه المهربون المال والمسافرين من أجل الانطلاق في الرحلات. وليل الخميس الجمعة أوقفت مخابرات الجيش في طرابلس ودير عمار ثمانية لبنانيين بتهمة الاتجار بالبشر عبر الهجرة غير النظامية، وأعلن الجيش يوم السبت 24 أيلول توقيف أحد الأشخاص المرتبطين مباشرةً بالقارب الذي غرق قبالة ساحل طرطوس، والذي كان محمّلاً بأكثر من 150 شخصاً.
حتى الآن، أغلب ضحايا المركب اللبنانيين هم من طرابلس وعكار، أما الفلسطينيون الذين يقدر عدد الضحايا منهم بحوالي 20 فهم من مخيم نهر البارد، فيما الباقون من السوريين. ولم ترحم وسائل التواصل الاجتماعي غرقى #قارب_الموت، مع تصدر هذه العبارة الترند في اليومين اللاحقين لغرق المركب، إذ جاء تضامن بعض اللبنانيين مع مساءلة من نوع: «من أين للفقير أن يأتي بـ 6 آلاف دولار كي يسافر؟ كيف يأخذ أطفاله معه؟ وإذا كانوا عائلة ودفعوا 40 ألف دولار، فلماذا لم يفتحوا عملاً بهذا المبلغ؟». يتجاهل هذا المنطق حقيقة أن المُساءلة يجب أن تكون لأصحاب النفوذ والسلطة: هل تعلمون كيف يدفع هذا الفقير للمهرب؟ هل تعلمون أنه يبيع بيته وفرشه؟ وسيارته إذا كان يملك سيارة، يستدين آو يبيع أرضاً؟ هل ضاقت الدنيا أمام أصحاب هذه التساؤلات يوماً إلى هذا الحد؟ هل ينامون جائعين!؟
هذه المأساة تكرارٌ كارثيٌ لمأساة مركب طرابلس الذي غرق في نيسان الماضي، بعدد أكبر من الضحايا، وتفصيل إضافي آخر هو أن المركب اليوم ضلّ طريقه إلى المياه الإقليمية السورية، وعليه ناجون يمكن أن يكونوا سوريين، كانوا قد نجوا من جحيم الموت في البحر، ليجدوا أنفسهم عادوا إلى جحيم النظام السوري. واللافت هنا أيضاً أن أكثر من قام بعمليات الإنقاذ هم أهالي جزيرة أرواد، الذين انطلقوا فيه مراكبهم الصغيرة التي يستعملونها للصيد كي ينقذوا من بقي على قيد الحياة، وقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات وتفاصيل حول عمليات الإنقاذ التي قام بها الأهالي والصيادون.
لن يوقف قواربَ الموت شيءٌ سوى الشتاء القادم والموج العاتي، ولكن ستعود هذه التجارة لتنشط في الصيف القادم، وربما بوتيرة أكبر من الآن، طالما أن سبل الحياة تضيق باللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، إذ يبدو أن ملوحة البحر ليست أقسى من ملوحة العيش في لبنان وسوريا بنسبة لكثيرين!