تحتل الذاكرة، كمادة مشتعلة كما يصفها ياسر صافي، مكانة جذرية من بين عناصر التخييل والواقع في أعماله، «فهناك انطباعات بصرية بعيدة زمنياً لا تزال راسخة في ذهني» بحسب تعبيره .عن هذه الذاكرة ورمزية مفردات أخرى تحفل بها لوحاته، وعن أثر المكان والمَشغَل في فنه، دار بيننا حديثٌ في زيارة لمرسمه:

زرناك عدة مرات من قبل في هذا المشغل، في كل مرة كنتَ بصدد العمل على مشروع جديد، هل بتَّ أكثر تآلفاً مع هذا المكان وإلى أي حد يمكن أن نقول إنه مَشغَلُكَ الفني بالفعل؟

أعمل في هذا المَشغل منذ 4 سنوات، هو قريب من منزلي لحسن الحظ، قد أعمل لساعات متأخرة من دون أي اعتبار لحركة المواصلات. مع مرور الوقت صرتُ أشعر بأن المكان مستطيل الشكل، على نحوٍ ممل. أَنحازُ اليوم للعمل ضمن فضاءٍ مربّع. سأحاول البحث عن مكان جديد.

كانت هناك شجرة ملونة كبيرة متسلّقة تظهر من النافذة على الجدار الخلفي للمبنى المقابل، كانت دليل أُنس يتبع حركة الفصول. تمت إزالتها منذ فترة للأسف. عندما سألنا عن السبب قالوا لنا إنها باتت تؤثر على أساسات البناء المقابل. بغض النظر عن الأسباب ولكن غيابها «يقهر». أنا متأكد أنّ هذه الشجرة التي نتحدث عنها هي أقدم من البناء والسكان، الشجرة هي السكان الأصليون، ولكن الإنسان دائماً يعيش على احتلال فضاء الموجودات الأخرى من نباتٍ وحيوان. يمكن أن يقتلع غابة كاملة ليقدّم محاضرة علمية في المكان نفسه، عن الأشجار.

أسّستَ في مرحلة ماضية مَشغلك الخاص، ثم تعرض لعملية التفكيك مع رحيلك القسري الأشبه بالاقتلاع من الجذور، كيف ظهرت آثار هذا الانتقال على عملك؟

مثل غالبية الناس، ومنهم من عانى على نحوٍ أكبر بكثير. في عملنا أدوات ومواد كثيرة، بعضها يشغل حيزاً كبيراً من المكان، أذكر من بين الأدوات المربكة أثناء عملية النقل كلاً من مكبس الطباعة ومختبر الحموض كأداة إنتاج أساسية في عملي الطباعي. تنقلت بين عدة أمكنة/مشاغل للاستمرار بالعمل داخل البلد، أذكر حين مازحني صديق كاتب كان يساعدني بعملية النقل: ليش ما تنتقل للكتابة بورقة وقلم وتختصر علينا حفلة النقل تبعك؟

انتقلت إلى بيروت في 2015 لمدة عام تقريباً – حيث كان المشغل هو البيت أو العكس – لإقامة معرض. ثم جئت إلى برلين. تجربة النزوح والتنقل حتى في قلب البلد، عززت لدي مع الوقت فكرة التخلي عن أي حمولة زائدة وعدم الرغبة بالامتلاك. علاقتي العاطفية اختلفت مع أدواتي ومع الأمكنة الجديدة أيضاً. أقوم بإنجاز أعمال الحفر والطباعة خارج مشغلي حالياً، في مؤسسة بيتانين (Bethaniien) الفنية التي تضم ورشات حفر وطباعة، يكون العمل فيها مع حفارين آخرين، من المقيمين أو الزائرين بشكل عابر لبرلين، ممّا يضمن الاحتكاك بتجارب فنية مختلفة.

لا يقتصر مفهوم المشغل على حرفية المصطلح. سوى الآلات المتروكة ومساحة الشغل، المكان هو مشغل أكبر، مصدر الانطباعات وتفاعلاتك مع من حولك ومكانٌ أسست فيه مسيرتك. بت مطالباً أن تكون جزءاً من تفاعلات جديدة على نحوٍ شبه قسري، هل يحمل هذا الشكل من التغيير عنفاً ما؟

لا شكّ أن فكرة الاندماج هي عنف رمزي، هيمنة ثقافة على أخرى. هل من الممكن لشخصٍ نسيان سيرته وإيقاعه الداخلي في المكان الجديد؟ يستكثر البعض على المهجرين مشاعر الغضب، وكأن فكرة حق العودة للبيت ليست سبباً بديهياً وكافياً لإدانة العالم! عالم يستغبيك بفكرة أنك ناجٍ ويطالبك بأن تكون ممتناً ومبتسماً طيلة الوقت، وبِنسيان ما حدث.

بالحديث عن المُطالبات، أين تجد نفسك من فكرة الإنتاجية بمفهومها المعاصر؟

لكل فنان/ة زمنه الشخصي، هناك أشخاص يميلون نحو الإقلال وأشخاص يحبون الكثرة، كلاهما ينتج أعمالاً فنية، طالما أن الفنّ لا تعريف نهائي له. الخطر في رأيي هو أن يستجيب الفنان/ المنتج لحاجات السوق والاستهلاك، ليتحول الموضوع إلى عمل وظيفي، أي أن يصبح في منطقة آمنة ويضيع على نفسه فرصة التجريب والاستكشاف.

بمراجعة الأعمال النقدية لأعمالك، تتكرر ثيمات مثل الطفولة والشارع، كيف تقرأ هذه المفردات تأويلياً بما يخص أعمالك.

تناولَ النقدُ مفردة الطفولة في تجربتي، كإحالة للحالة الغريزية والشعورية، وأيضاً للإشارة إلى الشغب وكسر قواعد اللعب، فالطفولة هي وقت الأسئلة والدهشة.

مثلاً هناك انطباعات بصرية بعيدة زمنياً لازالت راسخة في ذهني. تتسرب أثناء الرسم. ربما من هنا الإحالةُ الى العلاقة مع المكان الأول. الكلام هنا عن الزمن كوعاء لمشاعر أولية. راقبي طفل يأكل حبة تين لأول مرة وسترين الدهشة في عينيه. 

بالنسبة للشارع، هناك محفزات عديدة تأتي من الواقع، باص أو أي مكان يحمل بعداً اجتماعياً. فالعملية هنا أصبحت مركبة، أي دخول الوعي على العمل، فلم تعد عملية الرسم حالة شعورية هذيانية فقط كما في حديثنا في البداية، إذ هناك وعي مرتبط بنشاط ذهني وإدراكي. أعتقد أن العمل يتراوح بين الوعي واللاوعي.

يتخلل العملية لحظات حدسية، أي النفاذ إلى باطن الموضوع. يقولون بالعامية «عين العقل». أرى فيها إشارة إلى الحدس.

انشغلتَ فترةً أيضاً بموضوع اللعب، عبر مجموعة أعمال تحضر فيها ألعاب الورق. ما هو مصير هذا المشروع؟

المشروع لم يكتمل، ليس لدي سبب واضح، كما في الحياة، يحدث أن نغير الطريق، هذه هي الحال أيضاً مع بعض المشاريع. لا نكملها، وربما نعود إليها لاحقاً. على ما أذكر كنت في فترة انتقالية إجرائية، مرتبطة بمصائر عالقة. شدّني موضوع أوراق اللعب بشكلٍ تلقائي بوجه الإجراءات القانونية الجافة.

هناك تفاصيل إجرائية أخرى قد تفرضها دورة التمويل الفني، من مواعيد تسليم وتَقيُّدٍ بمواضيع محددة. كيف يمكن للمرء المرور بين طرفي المعادلة، ما بين وفائه للعملية الإبداعية والمتطلبات المادية لعمله ومعيشته.

إشكالية التمويل الثقافي، ودور الموسسات سواء كانت حكومية أو دينية أو مستقلة، هي إشكالية قديمة. كنت أقرأ منذ فترة عن الكم الهائل للمخطوطات الفكرية والفنية والعلمية في الفترة العباسية في بغداد، أي كان هناك عمل ثقافي منظم بما يشمل مثلاً ورشات صناعة الورق والتجليد والتزويق والرسم.  ذلك يفتح سؤالاً عن علاقة الفن بالنمو الاقتصادي؛ بالتأكيد لا يعني ذلك أن تكون الثقافة مجرد انعكاس للقاعدة الاقتصادية المادية، وإلا تشيأ الانسان وازداد اغتراباً مع نفسه ومحيطه..

كان ولا يزال هناك هيمنة ثقافية من مؤسسات سلطوية. تحاول أن تعمل على صياغة أهداف الفنان وغاياته. تحاول وضع الفنان في إطار محدد، يحد من التخيل كشرط لتجاوز الراهن. لم يمنع ذلك حدوث  عمليات اختراق واسعة، هناك الكثير من الفنانين قاموا بالاحتيال على جهات الرقابة والتمويل، وقدموا أعمالاً وفق رؤيتهم الفنية المستقلة، حصل ذلك في السينما أيضاً. هناك تيارات أو تجمعات ثورية تقاوم الهيمنة الثقافية، وتنحاز لثقافات الهامش. فتاريخ التجمعات الفكرية والمهنية قديم سواء كان على هيئة نقابات أم بصيغ وتسميات أخرى. هي فضاء اجتماعي تكافلي، ممتد حتى عالم اليوم.

هناك حصار للخيال اليوم على حساب التعبير المباشر عن القضايا؟

لا أفهم فناً لا يتحدى توقعات المتلقي، فداخلَ العمل الفني هناك تناقضاتٌ تتخذ شكلاً جدلياً، يصعب تأطيرها، ما يعني استحالة تحويل العمل الفني إلى درس تعليمي، كما يحدث في بعض المشاريع الثقافية والمَعَارض.

على أي مشروع تعمل الآن؟

أعمل على مشروعٍ هو عبارة عن تأويلات بصرية لكتاب الحِيَل الهندسية للجزري، وهو كتاب علمي/ فيزيائي، فيه رسومات توضيحية وبيانية عن الآلات هي التي شدتني إلى هذا العالم.