وسط السوق العربي في الخرطوم، يحكي أحد عمّال النظافة أنهم اكتشفوا بالصدفة أنه يتم التلاعب بأجورهم وسرقتهم. اكتشفوا ذلك لأن أحدهم كان يجيد قراءة الأرقام. يشتغل العامل لدى هيئة نظافة ولاية الخرطوم، ويحكي أنهم يصرفون أجورهم من مكتب وسط السوق العربي: «غالبيتنا لا نجيد القراءة والكتابة، ولذلك عند الصرف نضع إبهامنا على الحبر ونبصم في ورقة مكتوب فيها اسم العامل والمبلغ الذي استلمه. زميلنا الجديد يعرف القراءة والكتابة، فاكتشف أننا نبصم على استلام مبلغ مالي محدد بينما في الحقيقة نستلم مبلغاً أقلّ منه بكثير. يتفق معنا المشرف على أن يوميتنا تبلغ 150 جنيهاً، ولكننا نبصم على أنها 1500 جنيه دون أن نعرف. ومن يعرف ويعترض يتم طرده، إذ لا توجد عقود عمل ولا جهة نلجأ إليها».
يكذب كثيرٌ من المسؤولين والسياسيين، ولكنه ليس كذباً عادياً يمكن كشفه ببساطة، بل هو كذب أكثر تعقيداً يتضمن تدليساً وحشواً قانونياً، ووثائقَ وقراءة وكتابة. من لا يجيد القراءة والكتابة، وحتى من يقتصر مستوى تعليمه على القراءة والكتابة فقط، يصبح فريسة سهلة لهؤلاء وجزءاً من جمهور يمكن التلاعب به. لذلك، فإن الاستثمار في الجهل هو استثمار رابح لهم، والاستثمار في التعليم هو الخسارة الكبرى!
«التعليم حق من حقوق الإنسان، ويمثل مُحرّكاً قوياً للتنمية وإحدى أقوى أدوات الحد من الفقر وتحسين الصحة والمساواة بين الجنسين والسلام والاستقرار». هذا ما ذُكر على موقع البنك الدولي في استهلال سرد برامجهم وسياساتهم تجاه التعليم، وهذا ما يتناقض مع قصة عمّال هيئة نظافة ولاية الخرطوم. جديرٌ بالذكر أن السودان منذ نهاية السبعينات -فترة حكم الجنرال جعفر نميري- ينفذ برامج البنك الدولي، ومن ضمنها برامج التعليم، وكان النظام المتبّع قبلها هو الذي أسسه المستعمر البريطاني 1898/1956. وإلى حدٍ ما، لا يزال هذا النظام التعليمي موجوداً في الواقع السوداني، حيث تَرّكزَ التعليم وقتها في مناطق محددة هي الوسط والشمال بمحاذاة نهر النيل، وذلك نظراً للظروف والعوامل التاريخية حيث كانت تسكن طبقة التجار في تلك المناطق، ومع بداية تطبيق برامج وسياسات البنك الدولي بخصوص التعليم، استمرّ الوضع على ما هو عليه من ناحية وفرة المدارس ورياض الأطفال في مناطق الوسط والشمال، وانتشرت مؤسسات التعليم الخاص. ولم تختلف السياسات بعد سقوط حكم الجنرال نميري، حتى في ظل حكم الإمام الصادق المهدي حين كان رئيس وزراء منتخب في 1986. وفي فترة حكم الجبهة الإسلامية بعد انقلاب حزيران (يونيو) 1989 بقيادة عمر البشير، استمرّت السياسات نفسها مع إضفاء طابع ديني فقط، فجاءت «المدارس القرآنية الخاصة».
في هذا المقال نحاول أن نلقي نظرة على هذه البرامج والسياسات ونتائجها، في دراسة إحصائية وتحليلية منذ العام 2008 وحتى هذا الوقت.
التعليم حق؟ الواقع والأرقام لا تقول ذلك
بحسب إحصاء العام 2008، بلغ معدل معرفة القراءة والكتابة في السودان لمن تجاوزوا الست سنوات 57٪. كانت نسبة العارِفين بالقراءة والكتابة بين الذكور 63٪، فيما كانت النسبة بين الإناث 51٪.
كان يوجد وقتها 6 ملايين طفل في سنّ التعليم (بين 10-17 سنة) لم يذهبوا إلى المدرسة، 84٪ منهم في الريف و62٪ منهم فتيات. يظهر هنا تباين مزدوج حادّ، بين الريف والمدينة وبين الذكور والإناث، وهذا مرتبط بالبنى المجتمعية والاقتصادية في السودان التي تعيش في هذا التناقض؛ يُنتج الريف الثروة التي يتم إعادة توزيعها في الخرطوم، وتُخصَّص منها مبالغ قليلة لميزانية التعليم -سنتناول هذه الأرقام في المقال- وتستثمر هذه الميزانيات بقدر ما تيسر في تركيز وتوفير التعليم في مناطق الحضر والمدن، تحديداً الوسط والشمال النيلي كما أسلفنا، وحين تضطر الأسر المتوسطة والفقيرة للانسياق نحو الخيارات/الإمكانات المحدودة، تتجه بطبيعة تركيبتها الأبوية إلى تعليم الذكور من أطفالها وتشغيل الإناث في الأعمال المنزلية غير المأجورة.
كذلك فإن التسرب من التعليم الأساسي/الابتدائي كان مرتفعاً، بواقع 7٪ لكل فصل دراسي. تتضح جلياً هنا صعوبة الالتحاق بالمدرسة، ثم صعوبة الاستمرار في الدراسة. عانت الأسر الكثير في ذلك الوقت لتوفير التعليم لبناتها/أبنائها، وسبّبت هذه الصعوبات انتعاشاً في سوق عمالة الأطفال، إذ بلغ عدد الأطفال العاملين في الفئة العمرية 12-18 سنة عام 2010 ما يقدر بـ800 ألف طفل.الإحصائية لعبد السلام مصطفى في العام 2010، وكانت مُضمَّنة في دراسة بعنوان العمل غير المنظم في السودان، نشرتها شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية. ونستطيع القول في المجمل إن الأطفال انتقلوا من فصول الدراسة إلى حقول الزراعة وتجارة الجملة والتجزئة والخدمة في المنازل. هكذا نشأت طبقة عمال/عاملات في قطاعات غير منظّمة، وهذا ما يتحدث عنه التقرير الذي استقينا منه هذه الأرقام في الأساس. لنشأة هذه الطبقة أسباب أخرى غير التعليم بالطبع، وهي ليست معرض حديثنا هنا، لكن هذه الدواعي الأخرى ترتبط بالضرورة بالإصلاحات الهيكلية كما في التعليم. تُظهر الأرقام في التقرير أن غالبية العمالة كانت للمجالات التي لا تحتاج للقراءة والكتابة.
حق أم امتياز طبقي تُعزّزه الدولة؟
في تقرير اليونيسيف للمسح العنقودي متعدد المؤشرات للعام 2014، ذُكِرَ أن 37٪ فقط من الأطفال في عمر 6 سنوات التحقوا بالصف الأول. بالرغم من عدم توفر معلومات تشير للفرق بين الذكور والإناث في تلك الفترة، إلا أن التباين بين الريف والحضر يتضح مجدداً في هذا التقرير. كما نلحظ وجود تباين طبقي في نسبة الملتحقين من الأطفال بعمر 6 سنوات بالصف الأول؛ حيث يبلغ 77٪ في الأسر الأكثر ثراءاً و14٪ فقط في الأسر الأكثر فقراً.
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، ورغم التغيرات التي طرأت على دفة قيادة الدولة؛ بلغ نصيب التعليم من الميزانية العامة ما يلي:
197 مليون دولار في العام 2018 بحسب صحيفة القدس العربي، ثم تغيب الأرقام في العام 2019 عام سقوط حكم الجبهة الإسلامية، وربما يكون الفراغ الدستوري هو سبب ضبابية المعلومة، ثم تنخفض الأرقام بالتتالي بحسب اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير، من 174 مليون دولار عام 2020 إلى 61 مليون دولار عام 2021.
هذه الشراهة في التقشف وتجفيف تمويل التعليم العام زادت حدتها منذ العام 2012، في أعقاب انفصال جنوب السودان، حيث كان بترول الجنوب قبلها يوفّر النقد الأجنبي، وهذا ما ساعد حكومة البشير على دعم التعليم. ومنذ الانفصال وفقدان البترول كمُغّذٍ أساسي للميزانية العامة بدأ التقشف والتجفيف مباشرة في الاضطراد، وتُرِكَ البراح «للاستثمار في التعليم» كمجال لمراكمة الثروة، واستمرت الدولة حتى بعد سقوط نظام الجبهة الاسلامية -والتي حلّ محلها ائتلاف مدني عسكري يحكم الفترة الانتقالية- في المسار ذاته؛ مسار خصخصة التعليم وحصره بين النافذين طبقياً.
وقد صرَّحَ الدكتور عبدالله حمدوك في آب (أغسطس) 2019، بعد أدائه اليمين الدستوري كرئيس وزراء لحكومة الفترة الانتقالية، بأن «هناك قضايا لا تقبل المساومة مثل معالجة الفقر ومجانية التعليم والصحة».تصريحات عبدالله حمدوك في المؤتمر الصحفي عقب أداء اليمين الدستوري. وبالفعل في كانون الأول (ديسمبر) من العام ذاته طرح مجلس الوزراء موازنة للعام المالي 2020 تكفل مجانية التعليم الابتدائي وتوفير وجبة مجانية كذلك للطلاب، لكنها كانت مجرد إجراءات أو قرارات شكلية لم يُطبَّق منها شيء، وذلك ما يُبيّنه تراجع الإنفاق على التعليم كما رأينا في الأرقام الموضحة أعلاه. كما لم يتم اتخاذ أي إجراءات في ملفّ المدارس الخاصة، ونظراً لضعف التمويل استمرت المدارس الحكومية في تحصيل مبالغ من الطلاب لتسيير أعمال المدرسة، كما كان يحدث في عهد نظام الجبهة الإسلامية. تُظهِر هذه الأرقام والوقائع طبيعة توجهات الدولة نحو التعليم، وهي توجهات تخدم انتعاش المدارس الخاصة وتُحوِّلُ التعليم إلى امتياز وسلعة لا يحصل عليها إلا من يملك المال.
الأرباح قبل التعليم
سنضرب مثلاً بمدرسة أساس (ابتدائية) عالمية في شرق الخرطوم؛ كان عدد طلابها في سنة 2021 يبلغ 150 طالب وطالبة وبرسومٍ دراسية تتراوح قيمتها بين 355 ألف إلى 450 ألف جنيه للسنة الواحدة. يبلغ عدد الأساتذة فيها 17 معلّماً ومعلّمة، تتراوح أجورهم الشهرية بين 30 ألف و70 ألف جنيه، وعدد العمّال 5 تتراوح أجورهم الشهرية بين 20 ألف إلى 30 ألف جنيه. تمتاز المدرسة ببيئة جيدة نوعاً ما، حيث توجد حقيبة إسعافات أولية وكافتيريا تبيع الوجبات والمشروبات للطلاب والطالبات، وتوفّر تعليماً جيداً جداً باللغة الإنكليزية (فضّلَ المصدر حجب اسمه واسم المدرسة).
بعملية حسابية بسيطة، سنعتبر أن رسوم الطلاب السنوية هي 400 ألف كمتوسط مخصوماً منها الحد الأعلى للأجور في الهيكل الراتبي الخاص بالأساتذة والعاملين بالمدرسة. نجد أن صافي الربح السنوي يقدر بـ 43 مليون و920 ألف جنيه! هذه العملية الحسابية لم تتضمن المصاريف التشغيلية لعدم توفر معلومات كافية، لكن فلنفرض أنها تكلف 5 ملايين سنوياً، بعد خصمها من صافي الربح: لا يزال الفائض ضخماً. ربما علينا أن نفهم من هذه الأرقام الكثيرة أن فائض القيمة آخذٌ في التضخم كما أن فائض الجهل آخذٌ في التضخم، في علاقة طردية تثير الخوف والقلق على مستقبل التعليم في السودان.
إذا ما قارنا هذه المدرسة العالمية بمدرسة حكومية في منطقة مايو جنوب الخرطوم، حي مانديلا، في العام نفسه 2021، يبلغ عدد طلابها 700 طالب يدفع كلٌّ منهم يومياً 100 جنيه كرسوم كهرباء، وهذا مبلغ ضخم جدًا لمدرسة لا تتوفر في فصولها أجهزة تبريد وتكييف، ويدفعون كذلك رسوماً أسبوعية وشهرية هي عبارة عمّا تبقى من بنود المصروفات التشغيلية، ولا توجد لدينا معلومة عن قيمتها أو أوجه صرفها. يتم تحصيل هذه المصاريف عبر مكتب التعليم، الذي لا يباشر أي مهام بخصوص المدرسة. كما لا تنعكس هذه الرسوم على أي خدمات للطلاب.
يتكفّل سكان الحي بصيانة المدرسة وحتى نظافتها، في ظلّ وجود أطفال طيلة الصباح في حرم مدرسة لا يوجد فيها إصحاح بيئي، كما لا توجد أي وجبة سواء مجانية أو بمقابل نقدي. وتعمل منظمات اليونيسيف و(save the children) على توفير وجبات مجانية للطلاب، وهذه الوجبات ليست متوفرة بصورة دائمة (فضّل المصدر حجب اسمه واسم المدرسة). في ظل بيئة دراسية كهذه، من المؤكد أن نسبة الاستيعاب للمناهج ستكون متدنية جداً، ويظهر هذا في القائمة السنوية لأوائل امتحانات شهادة الأساس/الابتدائي، إذ إن غالبية هذه القائمة على المستوى القومي تكون من نصيب طلبة المدارس الخاصة.
نفي التباينات
عقود من صناعة الجهل في دولة عانت منذ عهد الاستعمار البريطاني في مسألة توفير التعليم والقدرة على الوصول إليه، دولة مليئة بالتباينات الطبقية والريف-مدينية، مع سياسات مستمرة على مر السنين جعلت من التعليم سلعة. والمفارقة هنا هي وفرته في مناطق الاستهلاك وندرته في مناطق الإنتاج، والتباين النسبي كذلك في جودة البيئة المدرسية وكفاءة المعلمين/المعلمات، إذ كلما ابتعدنا عن مناطق المستهلكين في الوسط والشمال قلّت كفاءة التعليم وجودته.
«حددت وزارة التربية والتعليم أن هناك 3692 معلم ومعلمة غير مؤهلين في جنوب وشرق دارفور من أصل 7317 معلم ومعلمة معيّنين»، أي أن أكثر من نصف المعلمين/ات في جنوب وشرق دارفور غير مؤهلين،برنامج التعليم 2018/2021 يونيسيف السودان. وعلى ضوء هذه المعلومة الأخيرة وما سبقها من معلومات في المقال يمكننا أن نصيغ هذه الخلاصة: أن التعليم الحكومي بصورة عامة جودته أقل من التعليم الخاص، وأن التعليم الحكومي خارج مناطق الوسط والشمال جودته أقل من التعليم الحكومي في هذه المناطق.
في الموجة الثورية المضادة لانقلاب 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021؛ طرح الثوار شعار مجانية التعليم في مواثيقهم السياسية المطروحة للقوى السياسية للتوقيع، وفي هتافاتهم أثناء التظاهرات، ويشكل هذا الشعار اختراقاً سياسياً غفلت عنه كل القوى الفاعلة في المشهد السوداني، كما تجاهله بعضها عمداً. ما يزال هذا الشعار بحاجة إلى مزيد من التطوير والبحث، وذلك لتقديم برامج علمية وعملية تخدم هذا المطلب. نفيُ التباينات يأتي عبر ديمقراطية التعليم وإتاحته مجاناً للجميع، الأمر الذي قد يكون مدخلاً نحو ديمقراطية الدولة ككل.