أمسك فاتورة المطعم وقرأ الرقم بعينيه: 350 ألف ليرة. أخرج من جيبه ورقات من فئة الـ500 ليرة، فوجد أنها شكلت حزمةً ضخمة، فطلب من زوجته مساعدته بالعد، وأعطى للنادل 1000 ليرة إضافية. كان قد وصل حديثاً إلى سوريا من السعودية بعد غيابٍ طال أكثر من عشر سنوات. في اليوم التالي على قدومه دعا إخوته إلى مطعم يسمى «بيتي»، وكانوا ستة أشخاص: هو وزوجته وأخواه وزوجاتهما. كانت تتصارع في صدره مشاعر كثيرة لم يعبّر عنها سوى بابتسامته وأسئلته التي لا تنتهي عن أحوال إخوته وأحوال البلد وأحوال مَنْ ظلّ على قيد الحياة أو من توفي من الأقارب والأصدقاء.

لكنّ غصته على ابنه لم تكن تفارق قلبه رغم كل الابتسامات، ورغم كل الاشتياق لأهله، والغياب الذي طال لمدة سنوات.

في عام 2012 كان قد فقد ابنه الوحيد برصاصة قناصٍ في حمص القديمة. كان يومها مسافراً إلى السعودية، أما ابنه فقد أصرّ على عدم السفر معه، والتحق بالثوار هناك. حين استشهد ابنه،  تلقّى التبريكات على استشهاده. كان الناس يحاولون أن يشدّوا عزيمته، وأن يواسوه بالتبريك بدلاً من التعزية. في البداية كان متماسكاً صابراً، وملأ صفحته على الفيسبوك بمنشوراتٍ لاهبة، وأقسم أمام الملأ أنه سيدعم الثورة من مكانه لآخر يومٍ في حياته. زوجته كانت كذلك في البداية، لكن بعد سنوات، وبعد أن تملّك الحزن منهما نتيجة إدراكهما حجم الفاجعة، ونتيجة كل ما حدث خلال السنوات اللاحقة، تغيّر كثيرٌ مما سبق. قبل أن يزور سوريا نصحوه أن «يفيّش» اسمه في سجلات المطلوبين لدى أجهزة الأمن، وحين تأكد أنّ اسمه «نظيف»، قرّر الزيارة.

خلال الشهور القليلة الماضية وابتداءً من منتصف شهر أيار (مايو)، كانت أعداد كبيرة من «المغتربين» القادمين من دول الخليج ومصر وتركيا وألمانيا والسويد وهولندا وغيرها، يملؤون مطاري دمشق وبيروت، تسبقهم لهفتهم لملاقاة أهلهم وأقاربهم ولهفة بعضهم للاطمئنان على أرزاقٍ آثروا تركها والاستقرار في دولٍ تضمن لهم ولأولادهم الأمان والاستقرار. مع ملاحظة أنّ استخدام كلمة «مغتربين» هنا تشمل جميع السوريين القادمين إلى سوريا للزيارة، واستخدمناها اختصاراً، في حين يسميهم المقيمون «الزايرين». 

ويمكن للناظر إلى شوارع حمص في الشهور القليلة الماضية أن يرى امتلاء المطاعم بالمغتربين مع أهلهم، يتميّزهم المرء من طريقة لباسهم ومن طريقة نظراتهم إلى الطرقات والمشاة وإلى كل ما حولهم، إذ يحدث أن ترى امرأةً من المغتربات ترتدي ثياباً تختلف عن المعروض في المحلات  المعروفة، أو ترتدي «توربان» غريب الشكل  والألوان مع حلقٍ يتدلى من شحمتي أذنَيها الظاهرتين، وهو أمرٌ ليس شائعاً بعد بين نساء المدينة، أو امراةً مغتربةً ترتدي عباءاتٍ ملوّنةً وهفهافةً ومطرّزة وتمسك في يديها بشكلٍ ظاهر مفاتيح سيارة جيب حديثة مع نمرة خليجية ظاهرة، أو يحدث أن ترى رجلاً من المغتربين سعيداً بمنظر الازدحام في الشوارع وهو يصوّر المطاعم والمقاهي الجديدة التي فتحت خلال السنوات الأخيرة، أو حتى نظرات النساء والرجال  المغتربين إلى فتيات وشبان المدينة الذين أصبحوا يرتدون ملابس لم تكن مألوفة من قبل، مثل مظهر بعض شبان المدينة بالشورتات القصيرة، أو مظهر بعض فتيات المدينة اللواتي يظهرن جزءاً من بطونهن أو يضعن الخلخال ولو كنّ محجبات. كل ذلك ينظر إليه المغتربون كنمطٍ جديدٍ لم يعتادوا رؤيته في شوارع المدينة من قبل. يسع المرء أن يرى المغتربين لأنّ الشوارع التي تمتلئ بالمطاعم محدودة، وتتمثّل في الشارع الرئيسي في حيّ الملعب البلدي، وفي شارع الحضارة.

في حي كرم الشامي الشهير، كانت مأدبةٌ عامرةٌ أُقيمت على مستوى الضيوف القادمين من ألمانيا، هم أولاد عم أصحاب المنزل، المستأجَر بطبيعة الحال. ورغم أن بيت الأسرة الصغير مؤلفٌ من غرفتين فقط، إلا أن أصحاب البيت أصرّوا أن يحتفوا بالقادمين. يكفي أنهم يرسلون لهم حوالةً ماليةً شهريةً تمنحهم الكفاف وتحوْل دون أن يمدّوا أيديهم للآخرين في آخر كل شهر. سأل الأب  أحد أبناء ضيوفه عن الفرق الذي وجده بين هنا وبين ألمانيا، وأجاب الطفل بأنّ نظافة الشوارع ووجود الأشجار والبحيرات أفضل هناك. كان الطفل يتكلم بعربيةٍ مخلوطة بمصطلحات ألمانية، فطلب منه الأب مازحاً ألا يتحدث أمام أحدٍ غريبٍ بلغته المكسّرة تلك، وخصوصاً أصحاب المحلات التجارية؛ كي لا يستغلوه ويأخذوا منه المزيد من المال.

يخطر في البال أحياناً أنّ ثمة جيل جديد من الأطفال الذين ينشؤون في الغربة بعيداً عن بلادهم المفترضة سوريا، ويدور في الذهن تساؤل حول كيف ينظرون إلى بلدهم الأصلي، إن كانوا يعتبرونه كذلك، وما هي الصورة التي يرسمها أهلهم عنها، وكيف يرون أقرانهم من المقيمين ممن لم يعيشوا ظروف الاغتراب. ولا بدّ من القول أن اجتماعات المقيمين بالغائبين تفرض على أطفال الطرفين بناء مودّةٍ ذات طبعٍ خاص، تتدرّج من الاستغراب والتحفّز وصولاً إلى الفضول والتعرّف والاقتراب. غالباً ما يُجري الأطفال المقيمون في سوريا مقارناتٍ افتراضية بينهم وبين زملائهم في بلاد الاغتراب، ويختلف ذلك بحسب أعمار الأطفال من الطرفين. يسهل التقارب كلما كان الأطفال أصغر سنّاً، بينما يجمع الفضول أولئك الأكبر سناً. وبحسب وعي كلٍّ من الطرفين، يدركان أنهما يعيشان في عالمين متباينين. مثلاً، بعض الأطفال المقيمين في المدينة يدركون إلى حدٍّ ما أن أقاربهم من الأطفال المغتربين يعيشون حياةً مختلفةً  تماماً عنهم، ويضعون فرضياتٍ وتصورات مبنية على ما يسمعونه من الأهل والأصدقاء، لا سيما حول نظام المدارس المختلف تماماً عن هنا، حيث هناك في دول الاغتراب لا توجد امتحانات ولا وظائف ولا صراخ ولا تهديد ولاضرب من قبل المدرسين والمدرسات، وهناك يلعبون أكثر ويذهبون في رحلات أكثر، ويتناولون وجباتٍ شهيةً أثناء الدوام، وهم يحملون جوالاتٍ حديثةً من الصغر وربما لديهم لابتوبات محمولة يدرسون بواسطتها، وهم يستطيعون التحدث بلغةٍ أجنبيةٍ لا يعرف المقيمون عنها شيئاً. أما الأطفال المقيمون الأكبر سناً مثل الذين فوق 15 عاماً، فبعضهم يفكر بأن هناك الأهل لا يجرؤون على رفض طلب لأطفالهم، وهناك يتمتعون بالحرية التي يريدونها، ويمكن الاتصال بالشرطة والشكوى على أهلهم عندما يغضبون منهم، وعندما يصلون لعمر الـ18 عاماً يمكنهم ترك أهلهم والذهاب أينما يشاؤون. كل تلك الافتراضات لديهم تكون تحت منظار البحث والتدقيق حين يتمّ اللقاء، ولكم تبدو دهشتهم واضحة حين يرون أنّ فتاةً عمرها 15 عاماً وتسكن دولة أجنبية محجبة، أو طفلاً عمره 14 سنة ويصلي.  لكنّ الأطفال الأصغر سناً، مثل الأطفال في الرابعة والخامسة والسادسة، فهم لا يكترثون لكل ذلك ولا يعونه. هم فقط ينظرون إلى ما قد يحمله أقرانهم من ألعاب لا يوجد منها هنا، وهم فقط يلعبون مع أقرانهم من المغتربين دون وعيٍ مسبق بكمّ الاختلافات التي قد يعيشها أقرانهم.

في عام 2018 كان أحد الشبان متشوقاً لزيارة أهله في سوريا بعد غياب سبع سنين عنها، لكن أهله نصحوه ألا يزور سوريا قبل أن يصبح عمره أربعين عاماً؛ لأنه كان مطلوباً للاحتياط. وبالفعل حين بلغ الأربعين هذا العام، قدم إلى سوريا لزيارة أهله، وكان من بين الأشياء التي أحضرها لأسرته جوال آيفون 13 برو لأخته ذات الثلاثين عاماً. ورغم أنه يعلم التكلفة العالية لـ«جمركة» الجوال، والتي وصلت مؤخراً لسعر الجوال ذاته  تقريباً لا سيما مع رفع أجور الجمركة أخيراً بحدود أربعين بالمئة من دون الإفصاح عن ذلك بقرار رسمي، إلا أنه اتفق وأخته أن تستخدمه فقط لتصفّح للإنترنت، وألا تضع شريحةً سوريةً فيه.
وبالحديث عن هدية الشاب، فإنه يمكن القول أنّ حقائب المغتربين غالباً ما تمتلئ بالهدايا المتنوعة لأهلهم، ورغم أنّ كثيراً من الأهالي المقيمين يخجلون من طلب شيءٍ محددٍ من الزائرين كي لا يثقلوا عليهم، إلا أنّ الغالبية العظمى من المغتربين تجلب لهم هدايا متنوعة ذات أسعار مرتفعة هنا، مثل الجوالات واللابتوبات والأدوات الكهربائية البسيطة والألبسة والعطور والمكياجات والبهارات والشوكولا الأجنبية والأحذية والحقائب وغيرها. وبالعموم، فإنّ أي شيء قد يجلبه الناس المغتربون معهم هو غنيمة لا تقدّر بالنسبة للأهالي المقيمين، إذ أن ارتفاع الأسعار الجنوني هنا يجعل أي قطعةٍ من الخارج تمثّل كنزاً حقيقياً. لكن، بالإضافة لذلك، فإنّ بعض المغتربين، لا سيما الأبناء والأقارب، يتركون لأهلهم أو أقاربهم مبالغ مالية بالعملة الصعبة لشراء برّاد مثلاً أو غسالة أو بطارية سيارة أو مولّدة كهربائية، أو ببساطة يتركون لهم هذه المبالغ لصرفها حين تضيق بهم الأحوال. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ المغتربين يتسوقون أيضاً بعض الأشياء التي تهمهم، مثل الذهب والقطنيات الداخلية والحجابات بالنسبة للنساء، والتذكارات البسيطة التي تحمل رموز المدينة، والتي انتشرت محلاتها هنا مؤخراً.

يقول أحد التجار: «لا بدّ وأن ملايين الليرات والدولارات قد دخلت خزينة الدولة خلال شهور الصيف، لاسيّما أنّ الكثيرين من أهالي المدينة استضافوا القادمين من الخارج في بيوتهم، وبذلوا لهم قدر ما يستطيعونه من المال أثناء استضافتهم كحالة من ‘تبييض الوجه’، لأنّ كثيرين ممن يزورون سوريا في الصيف هم من الذين يرسلون مساعداتٍ ماليةً لأقاربهم، بل حتى هم ممن أعاروا بيوتهم الخالية لأخٍ أو قريب».

في نهاية شارع الخراب، توجد مزرعةٌ شهيرةٌ يؤجّرها صاحبها من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساءً بقيمة 400 ألف ليرة، «مع غاز ولدّات وأدوات مطبخ كاملة» كما يقول الإعلان على الفيسبوك. الكثير من الشبان والفتيات استغلوا هذه الفترة لمساعدة مالكي المزارع الذين يريدون أن يؤجروا مزارعهم ليومٍ واحدٍ، أو ليلة واحدة، أو يومين متتالين. هم أشبه بسماسرة يأخذون عمولةً عن كل زبونٍ ينجحون بإقناعه باستئجار المزرعة ليومٍ واحدٍ مثلاً، وذلك عبر نشرهم إعلاناتٍ على فيسبوك. ويختلف سعر استئجار المزرعة بحسب موقعها، إن كان داخل المدينة أو على أطرافها، وكذلك بحسب الخدمات الموجودة فيها من غاز ومولدات أو ألواح طاقة شمسية أو لدّات ومسبح نظيف وأدوات مطبخ كاملة وغيرها. والتكلفة تبدأ من 200 ألف ليرة وصولاً لـ500 ألف أو أكثر. ينسحب ذلك على «شاليهات» البحر، والتي شهدت هذا العام إقبالاً كبيراً بحسب المشاهدات، بما في ذلك منطقة  شاليهات الرمال الذهبية المخدّمة بالكهرباء لأربعٍ وعشرين ساعة، وبمقابل سعرٍ يصل إلى نصف مليون  ليرة لليلة الواحدة في شاليه الرمال، وهو ما يتجاوز 200 دولار أميركي. ورغم ذلك فإن الاكتظاظ الذي كان موجوداً، وعزّزه  قدوم المغتربين من الخارج، والذين اصطافوا أياماً هنا وهناك مع أهلهم الذين لم يروهم ربما منذ سنوات، قد خدم كثيراً من أصحاب المزارع والمطاعم والشاليهات وأصحاب المنشآت السياحية في أطراف حمص؛ مثل مشتى الحلو وغيرها. 

وإذا جال في الخاطر بعد ما ذُكر أنّ السياحة هي الهدف من زيارة المغتربين إلى سوريا، فإنّ الجواب الأعم عن ذلك هو «لا»، لأنّه وإن كان يبقى بداخلهم حنين للبلد وللشوارع التي اعتادوها وتربّوا فيها، فإنّ الشوق الحقيقي والأصليّ يبقى للأهل الذين تركوهم، أو للبيوت التي هُجّروا منها أو أصبحت أثراً بعد عين، وليس الذهاب للأماكن السياحية سوى محاولة للترويح عن الأهل، ومحاولة للهروب من الواقع الصعب في سوريا. وبالنسبة للمغتربين، فإن كثيراً منهم لا يحب حتى الحديث عن ما جرى خلال السنوات السابقة  في المدينة أو حتى زيارة أحيائها المدمرة. هم يرغبون بالهرب من ذلك والتمسك بالشيء الحي الباقي من مخيلتهم عن المدينة وأهلها. هم يعرفون تماماً ما يجري في غيابهم، ويعلمون معاناة أهلهم والأثقال التي يرزحون تحتها، والتي ليسوا بحاجةٍ أحياناً للسؤال عنها، فما يرونه بأمّ أعينهم من تردٍّ في الخدمات يكفي، وما يسمعونه من شكوى الأهل يكفي كذلك. هم لا يريدون التمرّغ بكل ذلك قدر ما يريدون الهرب منه، فالنكتة -حتى النكتة- لم يعد لها مكانٌ بين أهل المدينة: من ذا الذي يضحك على نكتةٍ سمجةٍ عن انتظار رسائل الغاز والرز والسكر؟ أو نكتة عن انقطاع الماء والكهرباء أو عن الغلاء الجنوني الذي طال كل شيء؟ لم يعد في النكتة مكانٌ لعبارة «قال كان في واحد حمصي….»، لأن التتمة غدت منقوصة، ونقصانها أصبح تاماً في الفعل «كان». 

مع ذلك، شهدنا مع زيارة المغتربين الكثير من الضحكات التي كانت غائبةً طيلة شهور، حتى عندما يستمع المقيمون للفروقات بين ما يعيشه أبناؤهم في المغترب وما يعيشونه هم هنا في القاع الصدئ، فهم يحاولون أن يتناولوها بالمزاح، إذ يكفيهم الجلوس في مكانٍ بنسماتٍ باردةٍ مثلاً حتى يسأل الحمصي ممازحاً قريبه المغترب: «هل لديك من هذه النسمات هناك؟»، وقس على ذلك. وكما أن الأهل المغتربين ينصتون بأسىً وهم يسمعون عن أوضاع أهل المدينة، ترى أهل المدينة بالمقابل ينصتون بدهشةً واستغراب، وبدون أن يفهموا حينما يقال لهم: «هناك تشعر بأنك بني آدم ولك حقوق»، فالمقيمون أصلاً قد نسجوا، وبشكلٍ مسبقٍ، أساطيرهم الخاصة عمن يعيش في الغربة، وتأتي حكايات المغتربين لتكملها لهم. وحين يحكي المغترب عن آلام الغربة لا يأخذ المقيم كلامه على محمل الجدّ، بل قد يحسب سرّاً أنها خوفٌ من العين، لأنه لا يفهمها أو يشعر بها أصلاً. بالنسبة له، فإنّ الابتلاء الذي يعيشه هنا هو ذروة الابتلاءات، وما دون ذلك همٌّ بسيطٌ يسهل احتماله.

في اليوم الذي تلا منحه الجنسية الألمانية، حجز أحد الشبان الطائرة التي ستقوده إلى لبنان، ومن ثمّ عبر البرّ إلى سوريا كي يزور أهله. كان قد مضى على غيابه عن أهله سنوات، ورغم أنّ أخاه منشقٌّ عن الجيش، ورغم أنّه لم يدفع البدل بعد، إلا أنه استغل حصوله على الجنسية لكي يرى أهله لكونه قد صار أجنبياً. كانت الدموع بطبيعة الحال تنهمر من عيني والدته فرحاً، وكان هو بدوره يطمئِن أمه بأنه سيقوم بزيارتها كل عامٍ بما أنه قد تحصّل على الجنسية، أو حتى قد يدعوها لزيارته. وبالحديث عن ذلك، فإنه -وللمفارقة- فإن كثيراً من الأمهات تلقين دعواتٍ من أولادهنّ وبناتهنّ ليزوروهم في بلاد الإغتراب، لا سيما أولئك الذين لا يستطيعون المجيء لسوريا لرؤية أهلهم لأسباب كثيرة منها العسكرية أو عدم وجود جواز سفر سوري صالح أو لأنهم مطلوبون أمنياً أو مطلوبون لخدمة الاحتياط في الجيش. ومن عادة كثيرٍ من نساء حمص أن يخفين عن معارفهن أنهنّ مسافراتٍ لرؤية أولادهن خوفاً من «العين»، فلا يفصحن عن ذلك حتى عودتهن.

يعطي الحصول على جواز سفر أجنبي جرعة ثقةٍ هائلة للقدوم إلى سوريا، إذ تمرّ إجراءات سفر حامل الجواز الأجنبي بين المطارات بيسر وسهولة، ويدخل سوريا دون مشاكل طالما أنّه ليس مطلوباً -لا يحمي الجواز الأجنبي من اعتقال المطلوبين أمنياً-.

لا يمكن إخفاء أنّ جماعاتٍ من المغتربين، أكثريتهم من النساء والأطفال، قد زاروا سوريا في هذا الصيف لرؤية أهلهم أو للتصرف بأملاكهم، أو الاثنين معاً، ولا يمكن إخفاء أنّ النظام ممتنٌّ لذلك لأنهم يرفدون خزينته بأموالٍ هو بأمسّ الحاجة إليها، ولأنهم يدعمون روايته بأن سوريا باتت بلداً آمناً. وبما أنّ الآراء تختلف  بخصوص مبدأ زيارة سوريا باعتبارها تطبيعاً مع النظام، وبين من يراها كحقّ للمغتربين لرؤية أهلهم، بالإضافة إلى من يعتبرها تهديداً لوجودهم في بلاد اللجوء حيث زيارتهم توحي بأنّ سوريا بلدٌ آمن، إلاّ أن نظرة من يوجد داخل سوريا تختلف عمّن يعيش خارجها، ولكلٍّ منهم أسبابه المنطقية والمفهومة. أما بالنسبة لأهل الداخل السوري، فإنّ زيارات المغتربين أنعشت البلد وأنعشت الناس أنفسهم، وإنْ كان ما كُتب في السطور السابقة جزءاً صغيراً من الصورة الكبرى التي ليس بالإمكان الإحاطة بها، لكن يبقى أنه لا بدّ من ذكر ما يحصل حقيقةً مع جزءٍ مهم من الحماصنة خلال الصيف الذي ينصرم.