يُخرِج التعذيب طرفي علاقة التعذيب من الإنسانية، أحدهما بخفضه إلى ما دون الإنسان، وفي المآل الأقصى إلى شيء، جسد ميت، جثة؛ والآخر برفعه فوق المرتبة البشرية، ليصير سيداً يقرر الحياة والموت، إلهاً ناقشت علاقة التعذيب بالاستناد إلى السياق السوري في: علاقات التعذيب السياسية، التعذيب ونمط إنتاج السلطة في «سورية الأسد». المقالة منشورة كفصل في كتاب الفظيع وتمثيله، المتاح هنا.. التعذيب منذ الآن مزيج من العنف الجسدي والسيادة، وهو منذ الآن كذلك إلغاء للسياسة في حدها الأدنى، أي الاجتماع وتبادل الكلام، كمنهج لمعالجة الصراعات بين الناس.
وبقدر ما يتكرس التعذيب كنموذج سياسي كلمة سياسة العربية يمكن أن تحيل في آن إلى مجال الأفعال والتفاعلات البشرية المتميزة عن الحرب والعنف عموماً من جهة وعن الحب من جهة ثانية، أي نطاق الفاعلية البشرية الذي تعمل فيه «الحلول السياسية»؛ ثم إلى ما يتصل بالدولة والسلطة من شؤون، أياً تكن هذه الدولة. مرة نتكلم على السياسة كقيمة ومرة كواقع. لذلك يمكن أن نتكلم على التعذيب كإلغاء للسياسة دون أن يكون ذلك متناقضاً مع الكلام على التعذيب كنموذج سياسي. فإنه ينتج الواحد الذي لا يدخل في علاقة، إلا أن تكون علاقة ألوهية وعبدية. على هذا النحو أُنتجت أُلوهة حافظ الأسد، في النصف الثاني من عقد الثمانينات، بعد التوسع في الاعتقال والتعذيب منذ مطلع العقد، وبعد مذابح متعددة توّجتها مذبحة حماة في شباط 1982. نُصبت له التماثيل في كل مكان من سورية، وثبتت صوره في الصفوف وعلى الدفاتر المدرسية والعملة والأبنية العامة، وصار أكبر من سورية بكل من فيها، «سيد الوطن». لم يوصف رسمياً بأنه إله، لكن كان من شأن شتمه أن يورد إلى المهالك أكثر من الشتم العلني لله وأنبيائه. التعذيب أساسي في هذا الشأن. إنه منتج لسيادة عليا لم تعد علائقية. حافظ لم يبق في علاقة مع أحد في سورية، ولم يكن الرجل الأول في نظامه، كان النظام. الآخرون أتباع، عبيد بامتيازات، لكنهم عبيد يرهبون سيدهم بقدر لا يقل عن رهبة خصومه. وتكونت الأسرة الأسدة كأسرة سيدة عبر هذه العملية، وورث بشار حكم أبيه لأنه يحوز قبساً سيادياً- إلهياً.
كان هذا الوضع الإلهي قد شق طريقه إلى الوعي عبر أهازيج في مهرجانات «تجديد البيعة»، من نوع: يا ألله حلّك حلّك أي «حان لك»./ حافظ يقعد محلك! وإثر موته، دخل التداول هتاف يقول: «يا ألله تهنّى تهنى/ حافظ عندك مو عنّا». تنظر مقالة علاء ملص في عنب بلدي بتاريخ 23/5/2021: تأليه الأسد، سوريون يعبدون خوفهم. وفي زمن بشار وصل الأمر إلى تأليهه المباشر في أوضاع عينية تعذيبية بجلاء، وفي سياق عام تميّز بالمجابهة والصراع العنيف، الثورة السورية. الشهادة أن لا إله إلا بشار (ومعه أخوه ماهر)، هي من الطقوس المرافقة للتعذيب، المشحونة بالتالي بمنطق الغلبة وروح الكراهية ونازع الإبادة. لاهوت التعذيب هو المفهوم الذي يحاول النظر في حضور التأليه في مواقف التعذيب، دون حضوره في مواقف أخرى أو مع بقائه مضمراً فيها.
يمكن التساؤل عما إذا لم يكن التعذيب أصل الألوهة في كل حال، أو أصلاً من أصولها. دول التعذيب هي الدول التي شهدت «عبادة الشخصية» عالمياً، وفي مجالنا. كان ستالين الذي قتل معظم مُجايليه من رفاقه والملايين من محكوميه رباً معبوداً، وكذلك الفوهرر (أي القائد) هتلر. ولدينا في المجال العربي صدام حسين ومعمر القذافي حاكمان إلهيان، إلى جانب حافظ الأسد. والعلاقة الاستعمارية أقرب إلى تأله من طرف المستعمرين، بقدر ما كانت علاقة سيطرة مباشرة، دون أن تكون الحال كذلك في المتروبولات نفسها. المستعمَرون بالمقابل مخفوضو القيمة البشرية، أعراق خاضعة. العنصرية وجه أساسي للعلاقة الاستعمارية.
لكن ماذا يكون حال آلهة الدين، الله الإسلامي بخاصة، في هذا السياق؟ هل يمكن اشتقاق حافظ وصدام ومعمر من الله، أو بالعكس، نشتق الله من عمليات التأليه التي شهدناها مباشرة؟
في سنوات ما بعد الثورة السورية رأينا صيغاً أخرى من لاهوت التعذيب: داعش وهي تقطع أيادٍ أو رؤوساً في مشاهد عامة، يتمازج فيها الدين والعنف بقوة، ويعلو الصوت بالتكبير في لحظات الذروة. التكبير شوهد كثيراً من غير داعش في مواقف الاستيلاء على ملكيات، حتى صارت عبارة «كبّر عليه» تتداول في الحياة اليومية كمجاز للاستيلاء على شيء، وهو ما يذكر برفع صور حافظ الأسد لتمرير مخالفات البناء أو غيرها. ومثل كل شيء فعله الدواعش لم يكن اغتصاب النساء والفتيات الإيزيديات منفصلاً عن لاهوت اغتصاب، تأصيل ديني لاستباحة الإيزيديات واستعبادهن جنسياً. استحضر الدواعش سوابق دينية تشرع العبودية الجنسية، مثلما تشرع قتل الرجال الإيزيديين. كان زهران علوش، مؤسس جيش الإسلام، أقل شجاعة من الدواعش، فمارس الاغتصاب لاثنتين على الأقل من أسيرات «عدرا العمالية» الشابات دون أن يسوغه لاهوتياً، أقله ليس علانية.
لا يتعلق الأمر بحكام إلهيين هنا، بل بالنيابة عن الله أو الحاكم الإلهي. النظرية التي تشرع هذه النيابة هي الحاكمية الإلهية، وهي تأسيس لحكم مطلق، قائم جوهرياً على الغفلة عن حقيقة سياسية بسيطة: إن من يطبقون الحاكمية الإلهية المزعومة بشر، وأن من الخطر جداً أن توضع سيادة الله في أيديهم لأنهم سيُعاملون البشر كأنهم آلهة، أي في المحصلة مثل حافظ وصدام والقذافي. هذا ليس احتمالاً قد يتحقق أو لا يتحقق، بل هو دون غيره ما سيتحقق دوماً بحكم السلطة المهولة التي تضعها النظرية بيد أمثال أبو بكر البغدادي. هذا بالمناسبة ما يمكن أن يكون منطلق تفكير دستوري إسلامي، يجيب على سؤال: كيف يمكن ضبط السلطة النزّاعة في كل حال إلى المزيد، وبخاصة إن مورست باسم مبدأ مطلق، الله أو غيره وائل حلاق غير مقنع حين يتكلم في كتابه: القرآن والشريعة، نحو دستورية إسلامية جديدة، على أن انعدام وساطة أي مخلوق بين الله وعباده «له دلالة دستورية وسياسية» أهدرتها «الدراسات الغربية التي افترضت استحالة وجود نظام دستوري قوي في الحكم الإسلامي» (ص 92-93). ليس مقنعاً لأن الحاكمية الإلهية هي العقيدة القائمة على نفي الوساطة، وقد كانت جميع تطبيقات هذه النظرية المعتمدة من قبل السلفيين الجهاديين متوحشة، في صلة مباشرة بتقرير حكم الله في الناس، أي النيابة عنه. السؤال الذي لا بد للدستورية الإسلامية من الاشتباك معه هو: كيف يمكن منع حكم باسم الله من أن يكون مطلقاً؟ ويبدو أن حضور ضرب من الوساطة، وليس غيابها، هو ما يمكن أن يدستر الحكم في بلدان ذات ميراث إسلامي. كتاب حلاق صادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ترجمة أحمد محمود إبراهيم ومحمد المراكبي، ومراجعة وتقديم هبة رؤوف عزت، بيروت، 2019.؟ من يضبط الحاكمين باسم الله، ممن يجعلون من عقيدتهم مبدأ فوق دستوري، أي عملياً فوق سياسي وفوق اجتماعي؟ لدينا من التجارب التاريخية الأحدث ما يدعو إلى ضبطهم مثل غيرهم.
ومن بين ما يجمع بين الحكام المتألهين ونواب الله من الحاكميين الإلهيين، غير اللادستورية، ممارسة التعذيب، الوجه الأظهر للسلطة المطلقة.
فكيف نفكر في لاهوت التعذيب؟ أو في العلاقة بين اللاهوت والتعذيب؟ أو والعنف عموماً؟ هل التعذيب والعنف في أساس الدين، أم العكس، الدين في أساس التعذيب والعنف؟
ثمة إجابة أولى تقول إن أمثال حافظ وصدام والقذافي هم آلهة صغار، مُتشكلون على غرار الإله الكبير، المنتقم الجبار، الذي يضع الكافرين في النار «خالدين فيها أبداً». وهنا يكون المتخيل الإسلامي عن السلطان الإلهي هو النموذج البدئي للطغيان الدوْلتي المعاصر. لكن يمكن تصور إجابة ثانية ترى أن التأليه أولاً، وأن الله ذاته نتاج له، أي أن عمليات التأليه التي تجري في الزمن الحاضر تدفع إلى تصور الله نفسه كحافظ أسد هائل، سيد، عنيف، يحابي جماعته ويدير في السماء عالماً طائفياً، يعاقب جميع غير المسلمين، ومعظم المسلمين من غير «الملة الناجية».
والواقع أن الجحيم الذي يجري فيه تعذيب الفجار راسخ في المتخيل الإسلامي، قبل حافظ الأسد وأشباهه، وللهوية الإسلامية بُعد أخروي يحيل إلى الجنة التي وُعِدت للمتقين بقدر ما يحيل إلى النار التي أعدت للمنكرين. وإذا كنا نعلم أن الله الإسلامي لم يتولد من علاقات تعذيب، فإنه يبدو أن تجارب النبي والمسلمين الأوائل القاسية أفعمت إله المسلمين بالغضب والوعيد بالعذاب الأبدي.
على أنه يبدو أن السلطات التعذيبية التي أقامها إسلاميون في السنوات المنقضية من هذا القرن، ورأينا ثلاثة أمثلة لها على الأقل في سوريا: داعش وجيش الإسلام وهيئة تحرير الشام، ليست تماهياً مباشراً مع الله الذي لا يحول ولا يزول، بل هي تماهٍ متوسط بالدلالة الهيغلية للكلمة، يتوسط فيه نموذج الدولة السيدة، المزودة بسيادة مشخصة ومُؤلّهة تقوم سلطتها على التعذيب، وعبر تصور «الشريعة» كقانون دولة، لا كشبكة علاقات أخلاقية ميتافيزيقية (وائل حلاق) تسنده صبغة إسلامية عامة للكيان السياسي، مثلما كان في سلطنات المسلمين التاريخية. وجود المتخيل الإسلامي يسهل العملية، دون شك. فهل تنشأ عنه؟
لعل لاهوت التعذيب من أوجه مساحة لا تمايز دينية سياسية، يظهر فيها الله كحاكم والحاكم كإله، الدين كسياسة والسياسة كدين مما يصر عليه الإسلاميون، وما تتشكل وفقه دولنا المعاصرة. وفي مساحة اللاتمايز هذه تتلاقى وتتشابك وتختلط معطيات الدين والحكم الموروثة مع معطيات الدولة والسياسة والإيديولوجيا في عالم اليوم. وهذه، مساحة توتر وانفعال، أساساً تعكس وضع مجتمعاتنا التابع والمنفعل في العالم الحديث، مع ما يَسِم الانفعالات عموماً من قلة تمييز أو وضوح. ويشهد على مساحة اللاتمايز هذه مفهوم لاهوتي سياسي بامتياز هو السيادة حيث يندغم الحاكم بالله إلى درجة التشارك في الإحياء والإماتة. كان ميشيل فوكو جعل من تقرير من يقتل ومن يترك ليعيش أساس نموذج السيادة الذي حلت محله إدارة الحياة أو السلطة الحيوية (بيوباور) في مجتمعات انضباطية بدءاً من القرن الثامن عشر المحاضرة 11 في كتابه Society must be defended،Translated by David Macey, Picador, New York, P238- 272.، ونعلم أن من يُحيي ويميت في الإسلام هو الله. ما حدث لدينا في نصف القرن الأخير هو إغلاق تام للحقل السياسي على نحو نقل الصراعات إلى نطاق السيادة، فصارت صراعات سيادية ولا سياسية، أي صراعات عنيفة ومطلقة ووجودية، وبالتالي عدمية، وليست صراعات سلمية ونسبية وقابلة للتسويات. صراعات إلهية. أو بلغة علمانية، صراعات حول الدولة ذاتها وليست ضمن الدولة. ولأنها كذلك لا يبقي ثمة مكان لمن قد يعرفون أنفسهم بالسياسة على ما تشهد حال المعارضين التقليديين في سورية وغيرها، يَبيدون بينما يسود من يعرفون أنفسهم بالسيادة، بالولاية العامة باسم الله أو الأمة، وبالعنف دفاعاً عن الدين أو الوطن، وبتعريف الوطني والخائن أو المؤمن والكافر. ومنذ أن نتكلم على عنف، فإننا نتكلم على حرب وتعذيب وإرهاب وغير ذلك تنظر مقالتي في العنف..
الدين والدولة في مجالنا عالقان في مساحة اللاتمايز والانفعال والسيادة هذه التي لم تنشأ عن خيار ديني أو سياسي. ما يخطئ الطرح العلماني الرائج فيه هو تصور اللاتمايز الديني السياسي خيار الإسلاميين المفضل الذي ينبع من عقيدتهم ذاتها. الإسلاميون، بالعكس، هم نتاج اللاتمايز والانفعال المتصل بوضعية تاريخية غير مسيطر عليها، ولا يحوزون هم ولا الحاكمون السياسيون أي درجة من الوضوح في شأنها. ولذلك فإن ما يزكيه الطرح المتمركز حول العلمانية من فصل بين الدين والسياسة لا يمكن أن يتحقق بغير العنف، مما نحن غارزون فيه أصلاً، وما هو جذر المشكلة. ما نحصل عليه من العنف هو تعميق أوضاع اللاتمايز، والانفعالات الحادة المواكبة لها، والحرب الدينية الدولتية المستمرة (والتعذيب وجه أساسي لها)، وتخليق الآلهة وأشباههم. يبدو الطرح العلماني في المحصلة انعكاساً لوضعية العلوق واللاتمايز والانفعال ذاتها. بالمقابل يخطئ الإسلاميون في رؤية ما يجري تحت الأعين كإدارة الظهر للإسلام أو كانفصال للدين عن الدولة، بدل رؤيته كحكم مولد لسيادة غير علائقية، لتألّه لا يواجهونه هم بغير عنفهم وتألههم الخاص باسم استمرارية لا تستأنف بغير عنف لأنها منصرمة بالفعل؛ ويخطئون أكثر حين يجعلون من الاختلاط واللاتمايز الديني السياسي أصالة إسلامية، إن في صيغة أن الإسلام دين ودولة أو الحاكمية الإلهية (الإسلام دولة من حيث هو دين) أو غيرها. الربط بين اللاهوتي والسياسي هو وضعية عذاب وكوارث بالأحرى، جرائم دينية وسياسية من كل نوع، وليس حلاً أو «الحل». بل هو ما يحول دون تشكل الإسلام ذاته كدين يتدبر حل مشكلاته الكثيرة. ولا يستطيع الإسلاميون نفي الصفة الدينية لجرائمهم السياسية لأن تكوينهم ذاته يحول دون التمييز. هنا مفارقة مستحقة للتوقف: على أرضية تفكير الإسلاميين بالذات، جرائمهم هي جرائم دينية، دينهم شريك في ارتكابها، ما داموا ينفون تمايز الديني عن السياسي. يمكن نفي دينية جرائم الإسلاميين فقط على أرضية غير أرضيتهم، وبالضبط على أرضية التمايز بين الديني والسياسي مما يقاومونه هم. على أن ما يطابق تفكير الإسلاميين هو نفي صفة الجريمة عن أفعالهم أصلاً مهما بلغت من الوحشية. لكن هل هذا ممكن بخصوص داعش؟ وإن كان غير ممكن بخصوص داعش، فلماذا يكون ممكناً بخصوص الآخرين الذي يشاركون داعش اللاهوت السياسي ذاته؟ الواقع أن عموم الإسلاميين فضلوا منطق اللاتمايز أواللابيان في هذا الشأن، فلا هم نفوا صفة الجرائم عن أفعال داعش بالذات، ولا هم بنوا على تأكيد أنها جرائم مقتضاه فيما يخص النموذج اللاهوتي السياسي الذي صدر عنه داعش. «المغمغة»، أو قول الشيء وعكسه، هي لغة اللاتمايز. وطوال سنوات كانت المغمغة هي اللغة المعتمدة بخصوص جيش الإسلام الذي يختلف عن داعش والقاعدة بأنه محلي، لكنه يصدر عن الباراديغم الديني السياسي ذاته عملت على صوغ تصور لهذا الباراديغم في كتابي الامبرياليون المقهورون: في المسألة الإسلامية وظهور طوائف الإسلاميين، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2019، ص 259-279..
يساعد طرح الأمور بهذه الصورة في الإجابة على السؤال الأصلي في هذه المناقشة: لا الله نموذج الطاغية الذي يحكم بالتعذيب ولا الطاغية نموذج الله، لكنهما معاً متمازجا الملامح في مساحة اختلاط ولا تمايز لاهوتية سياسية يكون الدين فيها أكثر من دين: دين ودولة، وتكون الدولة فيها أكثر من دولة: دولة ودين. وكلاهما سيد، رب. هذا مبعث صدام وتفجر دائم. ثم إن هذا الطرح يساعد في تصور أن أمثال بشار الأسد وأخيه ماهر ورجالهما، وكذلك أمثال زهران علوش وسمير كعكة وأحمد الشرع الجولاني وزعماء داعش هم ناشطون لاهوتيون سياسيون، يشغلون مواقع مختلفة في مستمرٍ لاهوتي سياسي، لا مجال فيه للدولة مستقلة أو للدين مستقلاً. لا يتعلق الأمر بتشارك هؤلاء النشطاء اللاهوتيين السياسيين في أساليب التوحش والقتل فقط، ولا في عنصرية الطرفين واللاتكافؤ في المكانة البشرية مما لم يكد يناقش في سياق صراعنا، وإنما يتعداهما إلى ما يؤسس لهذا التشارك من سيادة يتمازج فيها الديني والسياسي.
نبدو اليوم في وضع أزمة قربانية بتعبير رينيه جيرار العنف والمقدس، ترجمة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2009.، أزمة جذرية في النظام الثقافي بفعل تنازع الدين والدولة على الشيء نفسه، السيادة، أو الرغبة المحاكية في رغبة الآخر. الأزمة القربانية تدفع إلى التماس أكباش الفداء، القرابين، مما نحن فيه منذ عقود دون مخرج يلوح في الأفق. حلا العنف الممكنان، الدين والدولة، يبدوان منبعين للعنف اليوم بالأحرى، وهذا بقدر ضعف تمايزها وتميز منازلهما. والشرط الدولي يبدو مفاقماً لأزمتنا القربانية (أو التضحوية)، وبالتحديد ما يتصل منه بالمسألة الإسرائيلية العسيرة والمزمنة، ووراءها المسألة الغربية الأعسر والأشد إزماناً. والأساسي في هذا الشرط الدولي هو أن السيادة المشتهاة والمتنازع عليها هي في الواقع منقوصة جداً، وأن السيد الحقيقي هو إسرائيل، وهو قوى السيطرة الغربية (ومعها اليوم روسيا). يبدو النقص السيادي مسعراً للرغبة المحاكية في السيادة لا دافعاً إلى الزهد فيها. لكن هذا الشرط بالذات هو ما ينقل الأزمة القربانية إلى مستوى دولي، مما تجسد بالفعل في القاعدة وفي مقلدي مذهبها.
ما الأصل في وضعية اللاتمايز الديني السياسي؟ من أي جاءت؟ الواقع أنها لم تأتِ من أي مكان، فهي بالمعنى التاريخي أصل قديم لدينا ولدى غيرنا، والتمايز هو الذي يحتاج إلى حدوث، وهو ما يحول دونه لدينا الأصل البنيوي لللاتمايز، وهو العنف ذاته أو حكم العنف والتعذيب، وما يغذيانه من انفعال وهياج واختلاط في النفوس وفي الاجتماع وفي الثقافة، وبالتالي يحولان دون حدوث التمايز. تجاربنا الحديثة والمعاصرة غذت اللاتمايز بقدر يتناسب مع محتواها العنيف، وبالتحديد التجربة الاستعمارية، ثم تجربة الدولة اللاسياسية أو النابذة للسياسة.
للاستعمار مفعول مزدوج. فمن جهة أولى جرى تصدير نموذج السيادة المتجاوز في الغرب ذاته نحو البيوسياسة إلى الخارج المستعمر الذي يقع خارج نطاق حكم القانون، أو الذي يقرر فيه الاستثناء ويعلق القانون السيد المستعمِر، بما يطابق تعريف كارل شميت للسيد في كتابه اللاهوت السياسي الكتاب من ترجمة رانيا الساحلي وياسر الساروط، صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2018، ص 23-31.. يعتمد الحكم الاستعماري بالمقابل على المراسيم والأوامر الإدارية، مما درسته حنة آرنت في أصول التوتاليتارية، ومثلت عليه باللورد كرومر Hannah Arendt: The Origins of Totalitarianism, Penguin Books, 1994, P 276-282. تقتبس آرنت عن كرومر نفسه كلامه على «شكل حكم هجين لا يمكن إعطاؤه اسماً وليس له سوابق»، تقول آرنت إنه يعتمد النفوذ الشخصي للمندوبين الاستعماريين والسرية والمراسيم، وأنه لا يجوز بحال تطبيق مبادئ الحكم في البلدان المستعمِرة على السكان المتخلفين. في موقع آخر من الكتاب تقول آرنت: «على النقيض من البنى الإمبراطورية الحقيقية حيث تدمج مؤسسات البلد الأم بطرق متنوعة في الإمبراطورية، فإن ما يميز الامبريالية هو أن المؤسسات الوطنية [في المراكز الاستعمارية] تبقى منفصلة عن الإدارة الاستعمارية…» ص 169.، حاكم مصر الإنكليزي بين 1882 و1906. الاستعمار حالة استثناء دائمة، تعليق مستمر لأي قانون، سيادة محض بلا سياسة. وعبر تصدير الماضي الأوربي إلى الخارج المستعمر، انقلبت البيو سياسية (إدارة الحياة في مجتمع انضباطي) إلى نكروسياسة (إدارة الموت في مجتمعات مستعمرة)، نظام من العبودية والقتل والتعذيب والتمييز تقصّاه أشيل مبمبه في كتابه Necropolitics. يمكن فهم كتاب مبمبه كاستدراك على مفهوم البيوسلطة والبيوسياسة لميشيل فوكو، يُظهِر استمرار النموذج السيادي القائم على الاستثناء والقتل والتعذيب في المستعمرات. من المستغرب أن فوكو الذي رأى تراجع التعذيب لمصلحة السجن في المراقبة والعقاب، لم يلحظ استمرار التعذيب الذي كان سجل فرنسا أسود فيه، وخاصة في الجزائر التي عاصر فوكو حربها وثورتها، ولا يعقل أن لا يعرف قصص التعذيب والإعدامات والمجازر فيها. يعرف دون شك ببيان المثقفين الفرنسيين في أيلول 1960، وقد ورد فيه: «هل من الضروري أن نتذكر أنه بعد خمسة عشر عاماً من تدمير النظام الهتلري استطاعت العسكرية الفرنسية، متذرعة بمقتضيات الحرب [ضد الثورة الجزائرية] أن تسترجع ممارسة التعذيب وتجعل منه من جديد مؤسسة أوربية؟» كتاب مبمبهtranslated from French by: Steven Corcorona, Duke University Press, 2019. ينظر من أجل التعذيب في سياق حرب فرنسا ضد الثورة الجزائرية كتاب مايكل روثبرغ: Multidirectional Memory, Remembering the Holocaust in the Age of Decolonialism, P 192, 216.
ومن وجه آخر دفعت التجربة الاستعمارية نحو تعزيز الاختلاط واللاتمايز في مجالنا بأن جعلت الدين سنداً للمقاومة، وخلقت استمرارية بين مقاومة الاستعمار والجهاد الديني (كان لقب بورقيبة بالذات هو المجاهد الأكبر، وكانت صحيفة جبهة التحرير الجزائرية اسمها المجاهد، وهو ما كان يطلق على الواحد من مقاومي الاستعمار الفرنسي). وهذا هو الجذر المستمر لظهور منظمات مثل حماس والجهاد الإسلامي.
يلزم التنويه إلى أن التجربة الاستعمارية مستمرة في مجالنا بفعل الواقعة الإسرائيلية، ووقوع الخليج حتى وقت قريب ضمن نظام الأمن القومي الأميركي، ثم عبر «الحرب ضد الإرهاب»، ودوماً عبر سيادة الدولة المنقوصة (عدم القدرة على الحرب ضد الأعداء المجاهرين).
أما فيما يخص الدول النابذة للسياسة فقد سبق القول إنها إذ أغلقت الحقل السياسي، وحرست إغلاقه بالتعذيب والقتل، تسببت بنقل الصراعات كلها إلى مجال السيادة والمطلق. وعملياً جعلتها كلها صراعات دينية. وفي واقعها المعاين تعرض دولنا وجهاً سياسياً حيال الخارج الدولي النافذ، فتُسالم وتفاوض وتتعاهد، ووجهاً واحدياً سيادياً حيال الداخل، فتحارب وتقتل وتعذب، وتحكم بالمراسيم والتوجيهات الإدارية والأوامر السرية على طريقة كرومر. تعليق القانون بهذه الصورة، أي حالة الاستثناء الدائمة من الصنف الذي خبرناه في سورية منذ أولى لحظات الحكم البعثي، يقضي على هذه الدولة بكونها استمراراً للاستعمار بوسائل أخرى. وفي هذا ما يرجح فرص الجهاد والحرب الدينية.
ولعله يمكن شرح شرط اللاتمايز بلغة المادية التاريخية كضعف للتمايز الاجتماعي بفعل شروط الإندراج الاستعماري في السوق العالمية والتبعية الاقتصادية التي تعززت بالموارد الريعية، وبالتالي تراكب أنماط إنتاج ومحدودية قدرة النمط الرأسمالي على تنظيم إنتاج الحياة المادية، وما يرتبط بذلك من ضعف التمايز الطبقي، والحوامل الاجتماعية لنظرات مختلفة إلى العالم. لكن يمكن لهذا الشرح الذي يسلم بكونية التطور الرأسمالي في أوروبا أن يوفر عناصر تحليل مكملة، دون أن يكون قادراً على احتكار الشرح الشافي للاتمايز، وبخاصة أنه ينطلق من تبعية السياسي للاقتصادي، وتمايزهما المسبق، مما يصعب التسليم به في كل حال. ما لا يقنع في نظرية الحوامل الاجتماعية هو أن ما يَسم الدول المقلوبة (سيادية داخلياً وسياسية خارجياً) من انقطاع فاعلية أي فاعلين سياسيين أو ثقافيين على البنية الاجتماعية، بفعل التعذيب وإلغاء الأدوار العامة والسياسية، يحول دون حمل أي تطلع أو مشروع قابل للهيمنة. ليست المسألة غياب حوامل اجتماعية نوعية، بل تقويض الاجتماعية ذاتها بأثر الاستثناء الدائم والتعذيب. يلزم وجود «سوق سياسية» يلتقي فيه عارضو أفكار وبرامج بقوى اجتماعية من أجل ظهور حوامل اجتماعية.
اللاتمايز الديني السياسي لا يدوم من تلقاء ذاته. فبحكم الولادة والموت، التاريخ هو مجال الحدوث أكثر من الاستمرار بحيث يحتاج الاستمرار واللاتمايز، وليس التمايز والحدوث، إلى تفسير. وكان يمكن لمساحات من التمايز أن تظهر مع الدولة السياسية، دولة بسوق سياسية، وتتسع مع استقرار منوال سياسي للصراعات الاجتماعية. وإنما هنا تقع نقطة الانفتاح والتمايز، أي في سياسية الدولة. علامة الدولة السياسية هي زوال التعذيب لكونه نواة علاقة السيادة ومضخة للعنصرية (ما فوق وما دون البشر).
كنواة أو تكثف للسيادة، علاقة التعذيب هي بمثابة مُفاعل ديني سياسي، لا يكف عن إنتاج حاكمين آلهة وآلهة حاكمين، وعموم بشري مستباح ومخفوض الإنسانية. لاهوت التعذيب هو التأمل في عمل هذا المفاعل، المنبع الفياض للاختلاط الانفجاري، العنيف والمستمر، بين الديني والسياسي.