«حذرته مجدداً: الصور قاسية جدّاً. لكن لم يكن باليد حيلة، فقد كنتُ أبحث فيها عن أصدقاء ومعارف مفقودين لعلّي أجدهم، وكان يجب أن تُطبع تلك الصور كي تصل إلى الناس أو لنجد طريقةً أخرى للتعرف على الضحايا. أنا لم أكن أمتلك القدرة على فعل ذلك بنفسي بعد أيام طويلة من عدم النوم». يتذكّر أسامة نصّار كيف أرسل صوراً لقرابة مئتي ضحية لم يتم التعرف على هوياتهم إلى صديقه معتصم أبو الشامات، طالباً منه تصنيف تلك الصور ووضعها في ملفٍّ قابل للطباعة، وذلك حتى يتم توزيع تلك الصور بين الأهالي الذين يبحثون عن أحد المفقودين.
عندما قرر معتصم العمل على الصور أصابه الهلع لهول المشهد: «بقيتُ مريضاً ليومين. لم أستطع النوم أو التحرك من الفراش. في اليوم الثالث استطعتُ النهوض والبدء بتحضير الملف. كان لدي الخيار بأن أعتذر من أسامة، لكنني قرّرت إنجاز الملف لتكون طباعته ممكنةً على طابعة A3 كانت تنسيقية داريا تمتلكها. أنجزتُ مجلد الصور وأرسلته. بعد تلك اللحظة لم يعد نومي طبيعياً لفترةٍ طويلة؛ فقدتُ شيئاً من نفسي، هناك شيءٌ قد كسر، ولم أعد كما كنت» يقول معتصم.
يتابع أسامة: «عندما وصلني الملف من معتصم، قمنا بطباعة عدة نسخٍ وجلّدناها للحفاظ عليها، وبعثنا بنسخةٍ إلى الشخص المسؤول عن حفر القبور في المقبرة، فيما حصل فادي دبّاس على نسخةٍ أخرى. دبّاس هو أحد أعضاء تنسيقية داريا، والذي عمل على رصد الأحداث خلال أيام المجزرة لنتمكن من نقل أخبار داريا والذي يحصل فيها. كذلك كان من مهام فادي التواصل مع الأهالي الذين فقدوا أحد أفراد أسرتهم ولم يتم التعرف عليه بين الجثامين التي تمّ دفنها؛ علّهم يتعرفون على ولدهم أو ابنتهم بين الصور».
جرت تلك الحوادث بعد أيامٍ من انتهاء مجزرة داريا، والتي استمرت بدورها أياماً، وهذا بعد أن انسحبت قوات النظام من داخل المدينة، ما سمح للأهالي بالدخول إلى البيوت والأقبية والنزول إلى الشوارع لدفن جثامين أبنائهم وبناتهم وأطفالهم. كانت حصيلة المجزرة أكثر من سبعمئة شهيدة وشهيد. يقول أسامة: «بينما كنا نرصد أحداث المجزرة بشكلٍ يومي، كان يمكن أن ترتفع حصيلة الشهداء أكثر من مئة خلال نصف ساعة، لأنّ أحد الراصدين دخل إلى قبوٍ واكتشف سبعين جثة». كما بلغ عدد المفقودين أكثر من 197 شخصاً حسب ما يتذكر أسامة، فيما وثّقت التنسيقية من خلال التصوير الدقيق أكثر من مئتي شهيد لم يتم التعرف عليهم، وقد جرى تصويرهم قبل دفنهم لتظل صورهم دليلاً على وجودهم يوماً ما بيننا. تلك الصور هي التي تمّ تنسيقها وطباعتها من أجل التعرف لاحقاً على الموجودين فيها.
أسامة نصّار شريك في تأسيس لجان التنسيق المحلية في سوريا وتنسيقية داريا، ومن ثم المجلس المحلي لمدينة داريا، كما أدار وعمل ضمن مركز توثيق الانتهاكات ومكتب التنمية والمشاريع الصغيرة. انتقل إلى الغوطة الشرقية بسبب الملاحقة الأمنية، وظلّ فيها حتى التهجير عام 2018، ويعيش اليوم في بريطانيا، وهو مؤسس وناشر مجلة طلعنا عالحرية.
تحدثتُ وأسامة مطولاً، وكنتُ عزمتُ في البداية أن أسأله عدداً من الأسئلة المختصرة حول التقرير الصادر عن المجلس السوري البريطاني، والذي أُنجز على مدى عامين لتوثيق تفاصيل تلك الجريمة التي حصلت منذ عشرة أعوام. إلّا أننا -انا وأسامة- وجدنا أنفسنا وقد علقنا في زمن المجزرة. استعادت عيون أسامة التي أراها عبر شاشة اللابتوب الخوف والتعب الشديد والصدمة الذين رافقوه خلال أيام اقتحام قوات النظام لمدينة داريا بعد عيد الفطر في عام 2012، تحديداً في الأيام التي تلت يوم 24 آب (أغسطس) من ذلك العام، وارتُكبت خلالها واحدةٌ من أفظع المجازر التي شهدتها سوريا حتى اليوم. استسلمتُ لحديث أسامة؛ إذ يجب توثيق تلك الأيام العصيبة وتوثيق كل التفاصيل التي قد لا تكون متوفرةً للجميع. فجأةً قال أسامة جملةً اعتراضيةً خلال حديثه: «لاحظتُ أن التقرير الصادر مؤخراً، وهو يوثّق بطريقة جيدةٍ جداً للجريمة المرتكبة، قد حفّز العديد من الشهود على المجزرة على ذكر تفاصيل وحوادث من الواضح أنّها أثّرت فيهم طوال سنوات؛ تفاصيل لم يكن أحد يعرفها، لا أنا ولا حتى معدو التقرير. بقيت تلك الأحداث طي الكتمان حتى استطاع شهودها الوصولَ إلى بلدٍ يشعرون فيه بالأمان، وبالتالي القدرة على رواية ما شهدوه».
تقع مدينة داريا على بعد ثمانية كيلومتراتٍ جنوب غرب العاصمة دمشق، وهي كبرى مدن الغوطة الغربية. كانت المدينة خلال العقود الأخيرة بمثابة امتدادٍ لأحياء العاصمة، نتيجة اتصالها بحي المزة من جهة وبحي كفرسوسة من جهةٍ أخرى. وتشير تقديراتٌ إلى أنّ عدد سكانها قد بلغ حوالي مئتي ألف نسمة قبيل عام 2011. وقد عُرِفت المدينة بنشاطٍ سياسي سلمي استمد أفكارَ الشيخ جودت سعيد من خلال تلامذةٍ له في المدينة. كما شهدت داريا، بداية هذه الألفية، عدداً من الأنشطة ضمن المجتمع المحلي، أودت بالقائمين عليها لاحقاً -الذين كان من بينهم أسامة نصار وغياث مطر- إلى الاعتقال من قبل أفرع الأمن والتحقيق معهم وسجن بعضهم لأشهر، فقد اعتُبرت تلك الأنشطة معاديةً للنظام السوري.
شهدت المدينة منذ ربيع عام 2011 تظاهراتٍ واسعة، واعتُبرت أحد أبرز معاقل النشاط السلمي بعد انطلاق الثورة السورية. ولم تشهد داريا ،عملياً، وجوداً واسعاً لمقاتلي الجيش الحر حتى بداية عام 2012، ورغم ذلك استمرت الأنشطة السلمية للاحتجاج باعتبارها الخيار الرئيسي لمواجهة نظام الأسد. في شهر رمضان من عام 2012، ونتيجة انسحاب دوريات النظام الأمنية وإغلاق المكاتب الإدارية التابعة للحكومة في المدينة، شهدت المدينة مظاهراتٍ حاشدةً بعد أن كانت التظاهرات قد تعرّضت لحملات قمعٍ شديدة استُخدم فيها الرصاص الحي فضلاً عن عمليات اعتقالٍ واسعة طالت ناشطين بارزين من المدينة ثم عادوا لأهاليهم قتلى تحت التعذيب. كانت مظاهرات شهر رمضان استعادةً للمظاهرات الحاشدة التي بدأت الحراك في المدينة، إلّا أنّ ذاك العام لم ينتهِ من دون أن تشهد داريا واحدةً من أفظع المجازر المرتكبة في سوريا، نهاية شهر آب (أغسطس) عام 2012.
في الذكرى العاشرة لمجزرة داريا، نشر المجلس السوري البريطاني تقريراً بعنوان «داريا بعد عقدٍ من الزمن: توثيق مجزرة». واعتمد معدّوه على مقابلاتٍ مع 23 شاهداً وشاهدة على التفاصيل المروعة للكارثة التي حلّت على مدينتهم، بالإضافة إلى تحليل وثائق بصرية وأدلة للوصول إلى السرد الأكثر موثوقيّةً حول أحداث تلك الأيام. واستغرق عمل فريق الباحثات والباحثين أكثر من عامين، وكانت نتيجته التقرير الذي وصل خلال أيامٍ قليلة إلى صفحات وسائل الإعلام العربية والدولية.
ويقول مازن غريبة، المدير التنفيذي للمجلس السوري البريطاني، في حديثه للجمهورية: «استطاع التقرير الكشف عن القطعات العسكرية التابعة لجيش النظام التي كانت مسؤولةً عن التخطيط والتنفيذ، بالإضافة لكشفه عن المشاركة المباشرة لميليشيات إيرانية وعناصر تابعة لحزب الله في اقتحام المدينة وتنفيذ عمليات الإعدام الميدانيّة. كما كشف عن خرائط تفصيلية لأماكن المقابر الجماعية في المدينة، والطرق نقل عبرها عددٍ كبيرٍ من جثث الضحايا من وإلى داريا».
يبدأ زمن التقرير مع أول يومٍ من أيام عيد الفطر عام 2012، تحديداً يوم 19 آب (أغسطس)، حيث بدأت قوات النظام بإغلاق طرق المدينة وتعطيل شبكات الكهرباء والهاتف المحمول، ليبدأ القصف العنيف بعدها بيوم، ولتبدأ معه فصول المجزرة التي استمرت حتى يوم 26 آب. راح ضحية المجزرة، بحسب التقرير، قرابة 700 شخصٍ تمّ توثيق أسماء 514 منهم، بينهم 36 امرأة وأكثر من ستين طفلاً. ويقدم التقرير سرداً مدعّماً بالدلائل والشهادات، وموضحاً على الخرائط، للجرائم المرتكبة خلال تلك الأيام، ومن بينها جرائم الإعدام الجماعي للمدنيين.
عبد الرحمن الدباس هو ناشطٌ حقوقي وناجٍ من مجزرة داريا، قدّم بدوره مساعدةً لفريق التحقيق من خلال وصلهم مع شهودٍ على المجزرة، باعتبار أنّه أحد أبناء المدينة ومن العاملين في المجال الحقوقي. تردّد عبد الرحمن عندما سألته عن رأيه في التقرير: «لم أقرأه بعد». لم اسأله حينها عن سبب امتناعه عن القراءة، واتّفقنا على أن نسجل معاً شهادته عن المجزرة والتقرير. لم أستطع مقاومة السؤال رغم معرفتي أنّ ذلك قد يكون سبباً في استعادة عبد الرحمن للصدمة: «كلما تأتي ذكرى المجزرة أتذكر ما كتبتُه في الذكرى الأولى للمجزرة على صفحتي على فيسبوك: ‘سبحان من كتب لنا عمراً جديداً، بعد أن كان بيننا وبين الموت شعرة. سبحان من نجانا من قومٍ ظالمين’. رحم الله شهداء المجزرة. في يوم المجزرة كنتُ في السادسة عشرة من عمري، وكنتُ في غرفتي عندما اقتحم الجنود منزلنا فأغلقت أمي الباب ووقفت قبالته. أعمى الله أبصارهم عني ونجوت. جيرانٌ لي في البناء ذاته لم يُكتب لهم هذا الحظ. بالنسبة لي، فإن تذكّر المجزرة فوق احتمالي». وعلى الرغم من تعامل عبد الرحمن بشكلٍ يومي خلال عمله في السنوات الماضية مع التفاصيل المروعة للجرائم المُرتكبة في سوريا، والخبرة التي كونّها للتعامل مع مثل هذه الأوضاع، إلا أنّه وعلى الرغم من المساعدة التي يقدمها دوماً في الكثير مما يتعلّق بالتحقيقات أو التقارير المرتبطة بمجزرة داريا وما حصل في داريا عموماً، لم يستطع يوماً أن يقرأ المنجز النهائي لتلك التقارير. كانت صدمة تلك الأيام أصعب بكثير من أن يتعامل معها.
التفاصيل المُقدمة ضمن التقرير ليست مجرد سندٍ قوي لعملية مناصرة الضحايا المدنيين في سوريا والعمل على كشف حقيقة ما جرى، بل تعتبر أرضيةً مهمّةً يمكن الانطلاق منها نحو عملية التقاضي كما يقول محمد العبد الله، مدير المركز السوري للعدالة والمساءلة، والذي قدّم أدلةً بصريةً من أرشيف المركز للمساعدة على إنجاز التقرير: «نشر التقارير التفصيلية والدقيقة التي تبحثُ في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لا يدخل فقط في عملية المناصرة، ففي حالة تقرير مجزرة داريا نجد أنه قد بُني على عمليةٍ بحثيةٍ معمّقة وتحليلٍ تقنيٍّ دقيق لأحداث وانتهاكات وربَطَها ببعضها، كما يقدّم إطاراً قانونياً واضحاً يصف تلك الأحداث بكونها جرائم، مع أدلةٍ تكشف السياق العام. مثل صور أقمار صناعية على سبيل المثال. لذا فإن نشر التقارير ليس فقط سرداً عاماً، بل يستند إلى جهدٍ بحثيٍّ وأدلة. ويمكن ببساطة تحويل مثل هذه الأدلة إلى ملفاتٍ يمكن إرسالها إلى معظم مكاتب جرائم الحرب في النيابات العامة للدول التي تعطي قضاءها صلاحياتٍ عالمية في ما يخص تلك الجرائم، تحديداً في الدول الأوروبية».
ويتابع محمد العبد الله في حديثه: «كما يمكن مشاركة هذه التقارير مع اللجنة الدولية المستقلة والمحايدة الخاصة بسوريا أو لجنة التحقيق الدولية التابعة لمجلس حقوق الإنسان، أو حتى رفع دعاوى مباشرة، لذا -وبعيداً عن البيانات الإعلامية التي تستنكر وتدين الانتهاكات والتي تعتبر مناصرةً- فإنّ هذا النوع من التقارير المبنية على أدلةٍ قويةٍ للغاية، تشكل أرضيةً مناسبةً جداً لبدء عملية تقاضٍ».
المجلس السوري البريطاني كان بالفعل مهتماً بنشر نتائج تقريره ضمن أوساط حقوقية واسعة على الصعيد الدولي، ويقول مازن غريبة في حديثه للجمهورية: «قمنا بإيصال هذا التقرير، مع نتائجه وشهاداته الكاملة بالإضافة إلى منهجيّته البحثيّة والاستقصائيّة والقانونية، إلى الآلية الدوليّة المحايدة والمستقلة وإلى لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصّة بسوريا ومجلس حقوق الإنسان والخارجيّة البريطانيّة والخارجيّة الأميركيّة والاتحاد الأوروبي وفريق المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا. وننسّق مع عددٍ من الجهات االمجلس المحلي في جندريس لسورية والدولية، خصوصاً تلك العاملة في ألمانيا، من أجل حثّ المدّعين العامين على النظر بشكلٍ جدي إلى هذه المجزرة، واتخاذ الخطوات القضائية اللازمة تحت مظلّة الولاية القضائيّة العالميّة».
يضم التقرير في ختامه ملحقاً لصورٍ اعتبرها الباحثون جزءاً من الأدلة التي تمّ تحليلها ضمن العمل على التقرير. لم أستطع النظر إلى كل الصور، فقد تذكرت ما قاله لي معتصم. لكن لم تكن الصور لوحدها قاسية. كانت أيضاً التفاصيل التي سمعتها خلال الأيام الماضية، والتي كنت أعرف عدداً منها مسبقاً، فوق احتمال أي انسانٍ طبيعي: مدنيون جرى إعدامهم في القبو الذي احتموا فيه من القصف؛ قناصٌ استهدف امرأةً تحمل طفلها الرضيع وقتلهم برصاصة واحدة. صنعت هذه الأحداث في ذاكرتي ألبوماً للضحايا، بعضهم بأسماء أعرفها، وبعضهم بلا أسماء. عشر سنواتٍ ليست كافيةً للنسيان.
اقتبس معدّو التقرير من حنان لكود، إحدى الشاهدات على المجزرة، الجمل التالية: «حتى تتحقق العدالة، يجب أن تتم محاكمة كل شخصٍ شارك ولو بشكلٍ بسيط في عمليات القتل أو العنف أو التحريض عليهما. كل هؤلاء يجب أن يحاسبوا».