مرثية مكوّنة من كلمتين، تحوّلت إلى أغنيةٍ خيّمت على أرتال طويلة من سيارات النازحين السوريين الهاربين من جحيم القصف الجوي الروسي والتقدم السريع لقوّات النظام السوري في أرياف حلب وحماة وإدلب في عام ألفين وتسعة عشر.
«بخاطرك يا دار»
كان هذا عنوان العديد من مقاطع الفيديو التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي في تلك الفترة الزمنيّة، وربّما كان أشهرها فيديو حبيب التعتاع وهو يودع منزله باكياً في بلدة كفرنبل جنوبي إدلب، لحقته مقاطع لآخرين يودعون منازلهم بالكلمات ذاتها التي التقطها المنشد أبو ماهر الصالح لتصبح ثيمةً مصاحبةً لمشاهد النزوح التي حصلت في تلك الفترة، والتي وصفتها الأمم المتحدة بأنها «أكبر موجة نزوح للمدنيين منذ بدء الصراع في 2011».
وضعت هذه الموجة من النزوح الشمالَ الغربي السوري أمام أزمةٍ سكنيّة لم تشهدها المنطقة من قبل، فوفق أحدث إحصاءات منسقو الإستجابة في الشمال السوري، فإنّ «أعداد النازحين السوريين بلغت في تلك الأثناء نحو 2.1 مليون نازح، من أصل أكثر من أربعة ملايين سوري يسكنون مناطق المعارضة السورية، في حين يبلغ عدد سكان المخيمات مليوناً و43 ألفاً و869 نازحاً، يعيشون ضمن 1293 مخيماً، من بينها 282 مخيماً عشوائياً أقيمت في أراض زراعيّة، ولا تحصل على أيّ دعم أو مساعدة إنسانيّة أمميّة».
الوجهة الأساسيّة لهؤلاء النازحين-ات كانت الحدود السوريّة التركيّة، حيث شهدت القرى والبلدات هناك انفجاراً عمرانياً غير منظم، وحركة بناء عشوائيّة في أماكن غير مجهزة ببنية تحتيّة تُمكّنها من احتواء أعداد كبيرة من البشر. ارتفعت أسعار البيوت بشكلٍ كبير في تلك المناطق، ووصلت إيجارات بعضها إلى أكثر من مئتي دولار أميركي للشهر الواحد. وفي ظل ازدياد أعداد النازحين-ات جراء سقوط الكثير من مواقع المعارضة بأيدي قوّات النظام، إضافةً للأوضاع الاقتصادية المتردية ووصول كثير من النازحين-ات السوريين-ات إلى العيش تحت مستوى خط الفقر، باتت الوجهة الأولى للأغلبيّة هي المخيمات، التي ما لبثت أيضاً أن توسعت بشكلٍ كبيرٍ جدًا، خاصةً تلك الواقعة في مجرى السيل في منطقة أطمة القريبة من الشريط الحدودي، هناك حيث نُصبت أولى المخيّمات التي شهدتها سوريا بعد اندلاع الثورة وبدأت تُخرج للعالم صورًا ومقاطع فيديو لسوريين يعانون في مواجهة ظروف قاسية، لعلّ أشهرها مقطع فيديو للشاعر نادر شلاش النازح من قرية كفرنبودة في عام 2012، والذي افتتح -ربما- نافذةً لنمطٍ جديد من الشعر في مسيرة الشتات السوريّة، وكتب ديواناً شعرياً أسماه الأطميات؛ نسبةً إلى المخيم الذي يقطنه. الديوان الذي كتب بخط يد الشاعر حمل بين دفتيه أشهر قصائده، والتي أنشدها باكياً أمام كاميرا موبايل في العام 2012:
أرسلتُ روحي إلى داري تطوف بها
لمّا خطانا إلـيها مـا لها سُبلُ
أن تسأل الـدار إن كانت تذَكَّرُنا
أم أنّها نسـيت إذ أهلها رحلوا
لكنّ روحي ستبقـى فيك سـاكنةً
ما لي بأطمة لا شاةٌ ولا جَـملُ
مات نادر شلاش في الثاني عشر من أيلول 2021 في مخيمات أطمة، ودُفن هناك.
بداية الحكاية
بالعودة إلى جذور نشأة المخيمات ستبرزُ أسباب التعقيدات الحالية والأزمة التي تراكمت عبر سنوات تاركةً خلفها مئات الآلاف من البشر في خيام لا تكاد تتفوق على المبيت في العراء في شيء، ففي عام 2012، ومع بداية هروب السوريين-ات من الأماكن الساخنة التي تتعرض للقصف ومحاولات الاقتحام من قبل قوّات النظام السوري أو من الأماكن التي تشهد حرباً ضاريةً بين قوات المعارضة وقوات النظام، بدأت رحلة تشكّل المخيّمات في سوريا بشكلٍ مضطربٍ يتماشى تماماً مع الظروف المأساويّة للنازحين في تلك الفترة. الميزة الوحيدة في المكان الصالح لإنشاء المخيم كانت البعد النسبي عن الخطوط الساخنة للاشتباكات وقصف طائرات النظام السوري ومدفعيته العشوائية.
لم تترك الظروف القهريّة المحيطة بالنازحين-ات لهم المجال لتبيّن مدى صلاحية مكان إنشاء المخيم، فضلاً عن أن المناطق الخارجة عن سيطرة قوات النظام السوري المباشرة في تلك الفترة لم تكن تحوي بعد على منظمات إنسانيّة أو جهات لديها الاختصاص اللازم لتنظيم هكذا عمل، واقتصر الأمر على جهود فرديّة من متطوعين لم تراعي طبوغرافيّة الأرض، بحيث لا تكون المنطقة المزمع إنشاء المخيم داخلها قريبة من سواقي الماء أو منخفضة بحيث تتعرض خيامها للغرق في كلّ شتاء.
لاحقًا وجدت المنظمات الإنسانيّة في المنطقة نفسها أمام معضلةٍ صعبة الحل، فقد استقر مئات الآلاف من النازحين في أماكن غير صالحة للسكن، وتصعب أمامها عمليات الاستجابة الإنسانيّة على كافة الصعد، وخاصةً عمليات الإنقاذ في فصل الشتاء، سواء كان السبب تعرّض المخيم لحادث أمني أو قصف أو حتى حريق، عدا وجود عدد كبير من المخيمات على مجرى سيلٍ يعرّضها للغرق كلّ شتاء. وبعد أن بات هذا الوضع أمراً واقعاً، بدأت المنظمات العاملة في المنطقة بدق ناقوس الخطر مع بداية كلّ شتاء.
تشكّل الخيمة السورية وتعدّد أنماطها لاحقاً
بطانيات وبعض الأعمدة الخشبيّة والمعدنيّة، وشوادر بلاستيكيّة بدائيّة شُكّلت على عجل، كانت مواد صناعة الخيمة السورية الأولى، والتي كانت تحوي بداخلها حقائب صغيرة حملها معهم النازحون-ات خلال ترحالهم، وفرشاً بسيطاً أتى به متطوعون، لم يكن كافيا بأيّ حال من الأحوال لتغطية احتياجات العائلات النازحة.
لاحقاً، ونتيجةً لطول فترة النزوح، أصبح لزاماً على النازحين والفرق التطوعية في أماكن النزوح إيجادَ خياراتٍ أكثر نجاعةً من هذه الخيمة البدائية. بعض النازحين والفرق التطوعيّة بدأوا بصناعة الخيم محلياً، بينما استطاعت بعض الفرق الأخرى الحصول على خيم جاهزة جرى توزيعها على أعداد قليلة من النازحين-ات.
مع ازدياد حركة النزوح وعدم وجود أفقٍ واضحٍ لحلٍّ ينهي معاناتهم، بدأ عمل الفرق التطوعيّة يتحول إلى عملٍ مُمأسَس، وبدأت حقبةٌ جديدةٌ شهدت تشكّلَ العديد من المنظمات المحلية المعنية بتقديم المساعدات الإنسانية للنازحين، كما اتسعت رقعة الأماكن التي باتت تغطيها المنظمات الدولية، وبات عملها مرتبطاً بمنظماتٍ محلية.
كان تأمين السكن للنازحين-ات على رأس أولويات تلك المنظمات، وبذلك بدأت صورة المخيم السوري في الشمال بالتشكّل بسرعةٍ كبيرة، مع توسّع غير مسبوق لأعداد الخيم، وانتشار أشكال و ألوان متعدّدة من الخيام، كلّ منها كانت تدل على الجهة المانحة.
سفينة غارقة في بحر من الطين
مشهدٌ مأساويٌّ يتكرر كلّ شتاء، تلتقطه كاميرات الصحفيين وتتناقله صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة: صورٌ ملتقطة من الأعلى محيّرة للوهلة الأولى، فيها بحيرةٌ طينيةٌ كبيرةٌ حمراء اللون تحاصر سفينةً تبدو عائمةً بثبات في وجه العاصفة. يتبدّد المشهد سريعاً، لتظهر للعيان خيمة الأمم المتحدة أو خيمة السفينة التي تنتشر في الكثير من مخيمات الشمال السوري، وخاصةً في تجمع مخيّمات أطمة بريف إدلب الشمالي.
«لا أستطيع وصف الجحيم الذي كنت أعيشه في خيمة السفينة»، يقول جهاد المحمد (32 عاماً) الذي يقيم في مخيم مرام في ريف إدلب، حيث تمّ استبدال الخيام القديمة بـ«مساكن RHU» التي باتت تُطرح من قبل المنظمات المحليّة والدوليّة على أنّها الحل المؤقت لمأساة النازحين.
معاناة المحمد في خيمة السفينة انتهت، لكن عشرات الآلاف من النازحين-ات ما زالوا يعيشون في الخيمة التي لا تكاد تصلح حتى لرحلة تخييم سريعة، فهي تفتقر لأيّ نوعٍ من أنواع الخصوصية، وجدرانها المكونة من الشوادر البلاستيكيّة الشفافة تجعل حياة النازحين في داخلها مقيّدةً وغير مريحة. إشعال الأضواء مساءً في الخيمة يعني وضوح أيّ حركةٍ تتم داخلها لأيّ مارٍّ في الطريق.
يتحايل النازحون على هذه المشكلة بتغطية الخيمة بالبطانيات التي تكتم الضوء، لكنهم يقفون عاجزين أمام مشاكل أخرى، على رأسها الهلاك السريع للخيمة وعدم تحمّلها للعوامل الجويّة، وخاصةً الأمطار والثلوج، إضافةً إلى سقفها الواطئ الذي يجعل الوقوف داخلها أمراً مزعجاً. وبحسب موقع الشركة المصنعة لهذه الخيمة، فإنّها مخصصة لإيواء خمسة أشخاصٍ فقط ،ولمدة عامٍ واحدٍ فقط في أفضل الأحوال.
«خلال السنوات الإحدى عشرة السابقة من الأزمة السوريّة، صُرف أكثر من مليار دولار على الخيم، وذلك عندما تأخذ كل الناس الذين يعيشون في الخيم بعين الاعتبار؛ الذين تركوا البلاد ووصلوا إلى الأردن أو لبنان أو تركيا، وملايين النازحين في سوريا. «كانت المنظمات الإنسانيّة تقول أعطوا الناس الخيام منذ بداية الحرب وحتى الآن، وهذا يعني الكثير من الخيام. هذه الخيام لا تعيش طويلًا، بسبب الظروف المناخيّة المتغيرة. هذه الخيام تعيش فقط لستة أشهر في أحسن الأحوال، ويجب استبدالها، ومن المكلف جداً أن يتم استبدال الخيم كلّ سنة. ليست فقط غالية الثمن، ولكن أيضاً من غير المقبول أن تعيش أيّ عائلة في خيمةٍ لأكثر من سنة»، يقول نائب منسق الشؤون الإنسانية الإقليمي للأزمة السوريّة في الأمم المتحدة، مارك كاتس.
حلُّ مساكن RHU المؤقت يبدو -في المدى المنظور- مقبولاً لكثيرٍ من النازحين، لكن هذا الأمر سيبقى رهنا بالمدة الزمنية التي سيضطرون فيها للعيش في هذه الخيمة، ومدى تحملها لعوامل الزمن.
«لا يوجد مقارنة بين الحياة هنا وحياتنا السابقة في بيوتنا، لكن بالنسبة لأحوالنا السابقة كنازحين فإن هذه الخيمة (هذا المسكن) أفضل بمراحل. مقارنةً بأوضاع النازحين الآخرين الذين يقطنون في المخيمات العشوائية، أعتبرُ أن وضعنا هنا أفضل بكثير». هذا ما يقوله جهاد المحمد عن الفرق بين الخيمة ومسكن RHU.
أنواع أخرى من الخيام
خيمة آفاد تلي خيمة السفينة من حيث السوء، وقد سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى المنظمة التي تقدمها للنازحين، كما تُسمى أيضاً خيمة الجملون. ما يجعل هذه الخيمة أقل سوءاً هو جودة المواد المصنوعة منها، لكنّ جدرانها التي ترتكز على الأرض بشكلٍ قائم تجعلها مهددةً دائماً بأن تقتلعها العواصف والرياح العاتية.
من بين كل أنواع الخيام المختلفة تتصدر خيمة القوس الترتيبَ لدى النازحين-ات، وهي مصنوعةٌ محلياً في الغالب. شكل الخيمة الهندسي المنحني على شكل قوسٍ حديدي تغلّفه الأغطيّة البلاستيكيّة يمنحُه ميزةَ مقاومة الرياح، كما أنها تبقى منيعةً بعض الشيء أمام تراكم الثلوج والأمطار الغزيرة.
كلّ هذه الخيام تشكّل خياراتٍ غير صالحةٍ للعيش الكريم، أو بمعنى أصح لا توفّرُ أدنى مقومات العيش الكريم. مشكلتها لا تبدأ عند انعدام الخصوصيّة والراحة داخل الخيمة، بل تتعدى ذلك إلى خارجها، فالخيام الملتصقة ببعضها البعض في كثيرٍ من المخيمات العشوائية تزيد المخاطر في حال حدوث أيّ طارئ، وخاصةً الحرائق التي تحصل في الشتاء، والتي تحدث بسبب أشكال التدفئة البدائية، ممّا يهدّد بانتشار الحريق بشكلٍ سريعٍ جداً إلى الخيم المجاورة، عدا عن مشاكل المرافق الصحيّة التي تجبر الساكنين على الخروج من الخيمة للوصول إلى الحمامات، حيث لا خصوصيّة ولا أعداد كافية منها.
حسب نائب منسق الشؤون الإنسانية الإقليمي للأزمة السورية في الأمم المتحدة، مارك كاتس، فإنه في الشهور الستة الأولى من عام 2022 كان هناك «275 حادثة حريق مختلفة، ممّا تسبّب بمقتل خمسة أشخاص وإصابة 81 آخرين، معظمهم من الأطفال».
دفع هذا الأمر المنظمات المعنيّة بالقضيّة السوريّة، وخاصةً قضية سكّان الخيام، إلى البحث عن خيارات بديلة تجعل من حياة الناس في الخيام أقل سوءاً. م.ح العامل في الأمم المتحدة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه الصريح بسبب القيود المتعلقة بالتصريحات الصحفيّة للموظفين، يقول: «المشكلة الأساسية التي تُطرح على الطاولة دائماً في ما يتعلق باستبدال الخيام بكتل عمرانية تضمن العيش الكريم للنازحين هو القرار السياسي للدول الداعمة للملف الإنساني، والتي تعتبر بناء مسكنٍ دائم بدءاً في عملية الإعمار وإسهاماً في عملية التغيير الديموغرافي في المنطقة».
لذلك، ومع تفاقم أوضاع النازحين كل سنة، يبدأ البحث عن خيارات بديلة للخيمة، والكلام حسب م.ح: «الخيارات المطروحة على الطاولة كانت الكرفانات والبيوت الإسمنتيّة المسقوفة بألواح معدنيّة ومسكن RHU. تمّ استبعاد الخيارين الأول والثاني بسبب ارتفاع التكاليف بشكلٍ كبير، لكنهما سيبقيان على القائمة في حال توفر دعمٍ كافٍ لتنفيذهما»، لكن بناء المخيمات بمساكن بيتر شليتر بدأ بالفعل في عدّة نقاط كالمخيمات التي بنتها منظمتا مرام ووطن.
مساكن RHU
تسمية مربكة، للوهلة الأولى اعتقدتُ أنّني متواجدٌ في المكان الخطأ. من المفترض أنّي في جولة على «مساكن» تمّ تسليمها للنازحين لتكون خياراً أفضل من الخيام السابقة.
بالفعل، المكان مُنظم ونظيف ومحاط بسور. أعمدة الإنارة تنشتر في كلّ مكان، لكن المنظر العام يشعرك بالضيق؛ مكان مليء بالبشر لا تنبض فيه الحياة. حين تجول بنظرك لن ترى لوناً سوى الأبيض الجارح للعين في عزّ الظهيرة. ستقول في نفسك ربّما بعض الأشجار ستكون خياراً جيداً لكسر هذه الرتابة الرهيبة. في هذا المكان يجب عليك أن تقرأ رقم المسكن الذي تريد أن تدخله، وإلّا لا يوجد شيءٌ آخر يجعلك تميز بين مسكنٍ وآخر. صفوفٌ طويلةٌ من المساكن المُحاطة بالحصى البيضاء، لكنها ليست أكثر من خيمة بميزات إضافيّة. هناك حمام ومرحاض مخصّص للمسكن الذي يبدو من الخارج أكثر أناقةً من الأنواع الأخرى من الخيام.
بعد أن تفتح الباب البلاستيكي وتدلف إلى المسكن ستشعر بالهواء الساخن يلفحك. في قيظ الصيف لن يكون الجلوس داخل المسكن أحسن حالاً بكثير من الجلوس خارجه. المحظوظون استطاعوا تلييس أرضية خيمتهم بالأسمنت بدلاً من الحصى، أما الأكثر حظاً فقد أضافوا صفّين من الطوب الأسمنتي ليشكّل مسنداً صغيراً داخل المسكن.
«RHU ليست بديلاً للوحدات السكنية، هي بديل للخيمة في حالات الطوارئ وفي الحالات التي لا يمكن فيها استخدام نموذج الوحدات السكنيّة»، يقول السيد عبد العزيز مدير البرامج في منظمة عطاء. ويضيف: «بالنسبة لتحسين وضع المأوى في شمال غرب سوريا، نحن نؤمن أنّ هذا الأمر يتم بحسب كلّ منطقةٍ بشكل مختلف. RHU من الممكن أن يكون خياراً جيداً جداً في بعض الأماكن، وفي الوقت نفسه يمكن أن يكون خياراً غير مقبول إذا ما تمّ اعتباره بديلاً للوحدات السكنية الدائمة أو الأسمنتية».
في مساكن النازحين-ات
«لن أنتقل من هنا، حتى لو تمّ منحي منزلاً دون أجر في المدينة»، يقول محمد خير الإبراهيم (67 عاماً) الذي يقيم في مخيم منظمة مرام بريف إدلب. الظروف المأساويّة التي مرت على الإبراهيم وزوجته خلال سنوات النزوح جعلت من مسكن RHU الجديد حلاً وسطاً يُغنيه عن مشقة التنقّل من منزلٍ إلى آخر. «لقد عانيت كثيراً من أجور المنازل المرتفعة والانتقال من مكانٍ لآخر. نحن مرتاحون هنا بعد أن تم استبدال الخيام القديمة بهذه الخيمة، سأعود إلى قريتي الريان في ريف سراقب أو سأموت هنا. الخدمات جيدة، والمياه متوفرة والصرف الصحي جيد. المكان يؤمن خصوصيةً أفضل بكثير من الخيام العادية»، يقول الإبراهيم.
الشغل الشاغل لزوجته، رقية الإبراهيم (67 عاماً)، هو أبناؤها من ذوي الاحتياجات الخاصة. تقول إنها تعاني كثيراً من أجل تأمين الأدوية مرتفعة الثمن: «انقطع الدواء عن ابنتي لمدة يومين لم تستطع النوم خلالهما». تقول إنّ مسكنهم جيد، لكنّه بحاجة إلى بعض الإضافات: «لقد طالبنا مراراً بأن يتم تزويدنا بعوازل من أجل الأسقف والأرضيات».
بعض النازحين-ات يضيفون لمساتهم على خيام RHU من أجل تحسين جودة حياتهم داخل هذه المساكن، ومع أنّ هناك العديد من المساوئ للمسكن الجديد إلا أن هناك شبه إجماع في المخيمات التي تمّ استبدال خيامها القديمة بمساكن RHU على أنّها أفضل بكثير من الخيام القديمة. لكن، ولعلّ العيب الأبرز في هذا المسكن، بحسب من قابلناهم، كانت درجات الحرارة المرتفعة داخله. يقول إبراهيم الصالح البالغ من العمر (32 عاماً) النازح من قرية عقيربات والساكن في مخيم مرام في ريف حلب الشمالي: «إنّ الخيام القديمة كانت أفضل من ناحية الحرارة، فالمسكن الجديد بارد في الشتاء وفي الصيف حار جداً».
في مخيم مرام الواقع بريف حلب الشمالي، يشتكي بعضٌ ممّن قابلناهم من شحّ المياه، فبسبب بعد مكان ضخ المياه عن مساكنهم نسبيا تصلهم كميات من المياه أقل من غيرهم، لكنّ نسبةً لا بأس بها من سكان المخيم يرون أن إمدادات المياه جيدة إلى حدٍّ ما، كما أنّ شبكات الصرف الصحي جيدّة إلى حد ما، فتكاد تغيب المشاهد التي تنتشر بشكلٍ كبير في المخيمات القديمة من سواقي صرف صحي سطحيّة وروائح كريهة. الإضاءة في الليل جيدة نسبياً، فقد تمّ تزويد المخيم بوحدات طاقة شمسية مركبة على أعمدة مزودة ببطارية ولوح شمسي ووحدة إنارة، لكنّ هذه الأمور تبقى غير جوهرية بالنسبة لكثير من النازحين-ات مقارنةً بمشاكل أخرى أكثر إلحاحاً مثل رداءة التعليم.
«لدي خمسة أطفال. أنا رجل أُميّ، لكني أريد تعليم أبنائي، التعليم سيء هنا»، يقول أحمد العبد الله (40 عاماً) القاطن في مخيم مرام في ريف حلب الشمالي. ويعاني عمر حمشو (33 عاماً) النازح من مدينة حلب من هذه المشكلة كذلك: «لشهرين فقط أرسلتُ أبنائي إلى المدرسة. اضطررت إلى التوقف عن ذلك حيث بات الأطفال يعودون من المدرسة وقد تعلموا الشتائم والكلام البذيء. لجأت لاحقاً إلى إرسالهم إلى المسجد من أجل تعلّم القراءة والكتابة والقرآن الكريم».
أما الأوضاع الصحيّة، فليست بأفضل حالاً. يقول حمشو إنّهم يضطرون في حالة وجود حالة طبية «إلى قطع عدّة كيلومترات إلى النقطة الطبيّة في بلدة احتيملات بسبب عدم وجود نقطة طبية في المخيم»، وبحسب تجربته، وهو يعاني من مرض قرحة المعدة، فإنه «لم يعثر على سيارة إسعاف لنقله حين تعرّض لآلام شديدة استوجبت ذهابه إلى المستشفى».
العودة إلى البيت
تختلف الأولويات بين نازحٍ وآخر في المخيّمات، فالعائلات الكبيرة التي يعاني معظم أفرادها من البطالة تبقى أولويتها نقص المساعدات الغذائية، وخاصةً الخبز، فيما يشتكي آخرون من نقصٍ في الخدمات الطبيّة، لكن الجميع يرغب في العودة إلى بيتهم الأول، يوماً ما، بَعُدَ هذا اليوم أم قَرُبَ.
تبقى الحياة في الخيام متشابهةً إلى حدٍّ كبير، سواء في المخيمات العشوائية أو في المخيمات المنظمة التي تنشؤها المنظمات المختلفة، مثل مرام وعطاء ووطن. الفروقات التنظيميّة والخدمات الإضافيّة تجعل حياة النازحين-ات في هذه الأماكن أفضل بكلّ تأكيد.
مع إسقاط حل عودة النازحين إلى ديارهم من الحسابات؛ لأنّ هذا الحل مرتبطٌ بتفاهماتٍ سياسية إقليمية ودولية ومصالح دولٍ لن يكون السوريون من أولوياتها، يبقى الحل المطروح على الطاولة حالياً هو تأمين حياة أقل بؤساً لمئات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال الذين سُلبت منهم أقل حقوقهم في عيش حياة كريمة. لذلك أطلقت الكثير من المنظمات المحلية والدولية حملاتٍ مشابهة لحملة #حتى_آخر_خيمة.
الأمر يتعلق بشكل أساسي بما تقدمه المنظمات العاملة في سوريا من حلول، إضافةً إلى تكامل هذه الحلول مع بعضها البعض لتغطية جميع نقاط الضعف في هذه التجمعات السكانيّة الطارئة. كلمات أحمد العبد الله الساكن في مخيم مرام بريف حلب الشمالي لم تكن فقط مطالبةً بتحسين وضع التعليم في مخيمه من أجل أطفاله وأطفال المخيم، بل كانت دعوةً ضمنيةً من جيل من الآباء النازحين الذين رأوا عمق المأساة وحلّلوا أسبابها، ممّا يدفعهم للمطالبة بألا يعيش الجيل اللاحق المشكلةَ نفسها؛ مشكلة التعليم.
لن يكون مسكن RHU، أو حتى الكرفانة مسبقة الصنع أو البيت الإسمنتي الصغير، نهايةَ رحلة المعاناة لهؤلاء البشر إذا لم تتضافر جهود المنظمات الدولية والمحلية معاً من أجل إيجاد حلول متكاملة أكثر ديمومة وجدوى، وتضمن عدم هدر الموارد المقدمة كمساعداتٍ للنازحين، كما تضمن توظيفها بأفضل صورةٍ لخدمتهم، وذلك من دون اعتبارهم جهةً مستفيدةً فقط، بل عن طريق إدخالهم في خضم هذه العملية؛ لأنّهم أفضل من يعرف مساوئ الحياة التي يعيشونها.
منذر المحمد، النازح من قرية العميقة والذي يسكن أحد هذه المخيمات، يتمنى أن يتم تخصيص جزءٍ من الوظائف داخل المخيم لأهل المخيم أنفسهم. يقول إنّ «أخذَ هذا الأمر بالحسبان يُمكن أن يصنع فروقاتٍ في جودة الخدمات نحو الأفضل، خاصةً إذا ما تمّ تدريب كوادر من أهالي المخيمات وصقل خبراتهم في شتى المجالات».