خلال السنوات العشرة الأخيرة، شهدت النشاطات الفكرية والإبداعية السوريّة انتقالات متعددة المستويات والشدة وبرز للفن دورٌ جديد، ألا وهو الفن بوصفه وثيقة. إزاء الدمار والخراب كان لابدّ لكلّ من أن يتخذّ من موقعه وتخصصه وسيلةَ للحفاظ على الهويّة والذاكرة وقيم الوطنية والمواطنة. تأثّرت التحركات الثقافية في هذا السياق بالإشكاليات السياسية مثل ضعف الوعي السياسي بصورة أساسية ووجود فجوات متأصّلة فيما يتعلّق بالتمثيل، وارتباط الفضاءات الفنيّة في الداخل السوري إداريّاً وتنظيميّاً بالتوجهات السياسية. وهنا برز دور المؤسسات المستقلة والداعمة للثقافة والفن وكانت مؤسسة أتاسي واحدة منها.
منذ العام 1993، أسست منى أتاسي «غاليري أتاسي» في دمشق، ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام 2010، أقامت ما يقارب المئة معرض لفنانين سوريين وعرب وأجانب. خلال نشاطها، احتفظت الغاليري بوثائق تحت تصنيفات: صور فوتوغرافية، بروشورات المعارض، كتالوكات فنية، قصاصات صحفية حول الفنانين ومعارضهم، فيديوهات وتسجيلات صوتية. شكّلت هذه الوثائق القيّمة بمجموعها أرشيف غاليري أتاسي، والذي اعتمدت عليه مؤسسة أتاسي عند تأسيسها عام 2016، ونشأ عن تلك المحفوظات طموح المؤسسة للمساهمة في تعزيز مكانة الفن السوري عبر إطلاق مبادرة أرشيف الفن السوري الحديث (MASA).
تكتب هنا كل من شيرين أتاسي، مديرة المؤسسة؛ ونور عسليّة، المسؤولة عن المجلّة والباحثة الرئيسية في مشروع أرشيف الفن السوري الحديث.
البدايات
شيرين: بدأت نواة مشروع أرشيف الفن السوري المعاصر بالتشكّل عندما وجدت مؤسسة أتاسي ضرورة لإتاحة الوثائق التاريخية التي تمتلكها المؤسسة، والتي ورثتها عن غاليري أتاسي دمشق. على الفور، أدركنا الحاجة إلى التعمّق والتوسّع في الأعمال على أرشيف الفن السوري الحديث وحفظ الوثائق المتوفّرة اليوم، خصوصاً في ظلّ خطر اندثارها في خضم الأحداث الأمنية، ولكون الوثائق جزءاً من الذاكرة التاريخية ولارتباطها بالهوية الثقافية. في عام 2019 تم الإعلان عن المشروع والاتفاق مع اللجنة الاستشارية العلمية المؤلفة من الأساتذة: سيلفيا نايف، الأستاذة في وحدة الدراسات العربية بجامعة جنيف؛ و أنيكا لينسن، أستاذة تاريخ الفن العالمي الحديث في جامعة كاليفورنيا؛ وعبد الرزاق معاذ، مدير عام الآثار والمتاحف في سوريا سابقاً وباحث أوّل في مؤسسة هنكل شتيفتونغ في ألمانيا. قمنا بالتواصل مع عاملين على أرشيفات عالمية وعربية من أجل الاستنارة بمنهجياتها مثل أرشيف الفن الآسيوي (Asia Art Archive)، مؤسسة المورد -جامعة نيويورك أبو ظبي (al Mawrid Arab Center for the Study of Art – NYU Abu Dhabi) وأرشيف الفن العراقي بإشراف الأستاذة ندى شبوط (Modern Art Iraq Archive). انطلقت إذاً المؤسسة بنموذج للأرشيف من خلال مجموعة «أرشيف غاليري أتاسي» والذي تم نشره على موقع المؤسسة. لكن، منذ البداية، وضعنا نصب أعيننا هدفاً أساسيّاً أوسع، و هو نشر مجموعات أرشيفية أخرى متعددة وإنشاء موقع متخصص قابل لإنشاء هذه الهيكلية الأرشيفية ولإتاحة عمليات البحث من أجل تحقيق الفائدة الجوهرية المرجوّة.
الهدف البعيد للأرشيف ثقافياً ومعرفياً
يهدف موقع «أرشيف الفن السوري الحديث» لأن يكون منصة توثيق فعّالة. في ظلّ النقص الواضح في المراجع المكتوبة المتعلقة بالفن السوري، وعدم وجود أرشيفات رسمية منهجية ومتاحة، نحاول العمل على الأرشيفات الفنية من أجل الحفاظ على الإرث البصري والتاريخي. واقع الحال أن العديد من الفنانين السوريين المؤسسين، «جيل التأسيس»، قد اتجهوا إلى الدراسة خارج سوريا، في مصر على وجه الخصوص، وكذلك في كل من روما وباريس وبرلين والاتحاد السوفيتي، وقد عاصروا نشأة كلية الفنون الجميلة وعملوا كأساتذة فيها، فضلاً عن مساعيهم المستقلة لتنشيط الفن السوري ومساهماتهم أحياناً في المعارض الدولية. ولذا، تشكّل أرشيفاتهم مواداً قيّمة بوصفها مرجعيات للحقائق التاريخية. بعد نشر مجموعة أرشيف غاليري أتاسي للسنوات 1993-2010، حصلنا على موافقة قانونية من السيدة لبنى حمّاد من أجل نشر أرشيف والدها الفنان محمود حمّاد (1923 – 1988) وهو، بالإضافة لكونه فناناً مؤثراً في المشهد، يعدّ من أبرز الفاعلين في تأسيس الكلية ووضع مناهجها وعميدها بين عامي 1970 و1980، وكان قد أولى عناية كبيرة لحفظ الوثائق والمراسلات والصور.
عن علاقة الأرشيف بالمجموعة الفنية لمؤسسة أتاسي
منذ تأسيسها، طمحت مؤسسة أتاسي لأن تكون مساهمة في تعميق المعرفة والتوثيق حول الفن السوري، وتعزيز مكانته على كل الأصعدة الممكنة: سورياً وعربياً وعالمياً، وذلك عن طريق مبادراتها مثل المعارض والإصدارات والكتابات، وتوفير مجموعتها الخاصة للباحثين وللإعارات الفنيّة. ولذلك فإن العمل على الأرشيفات يتكامل في مبتغاه مع كافة أعمالنا. بالنسبة إلى المجموعة التي تمتلكها المؤسسة فقد تم جمع معظمها خلال نشاط غاليري أتاسي برؤية طمحت منى لتحقيقها، وهي اقتناء الأعمال بنسق يتتبع خريطة تاريخ الفن السوري، وقد تابعت المؤسسة عند تأسيسها الاقتناء بمنهجية مشابهة، بمعنى أن الهمّ الأساسي كان محاولة إنشاء مجموعة شاهدة على حركة الفن التشكيلي في سوريا بمعزل عن التقييم النقدي. على هذا النحو، تتقاطع المجموعة بهدفها الجوهري مع هدف مشروع الأرشيف: توثيق لتاريخ الفن السوري.
الفريق والتحديات
نحن فريق صغير، أعمل أنا ونور وإداري-تقني، ونستند باستمرار إلى مرجعيتنا المؤلفة من اللجنة الاستشارية العلمية. نقوم بإطلاعهم على التحديثات والاستنارة بملاحظاتهم. في الواقع، تواجهنا تحديّات عديدة في العمل على الأرشيفات الفنيّة. بداية من كون معظم المواد الأرشيفية للفنانين السوريين من جيل التأسيس لا تزال موجودة في الداخل السوري. والتحدي الآخر هو أنه لم يسبق تأسيس قاعدة أرشفة متخصصة بالفنانين على النحو الذي نأمل نحن اتباعه، أي أعمال الحفظ من ثم التوثيق والنشر والتفعيل، لكلّ فنان بشكل منفرد، بوصفه جزئية من المشهد. بالإضافة إلى أننا لا نمتلك حتى اليوم أرقاماً محددة -تعداد الوثائق حسب نوعها- للأرشيفات التي نعتزم العمل عليها، فهي أرشيفات لا تزال ذات قيمة توثيقية فقط ولم تتم معالجتها بعد، باستثناء أرشيف محمود حمّاد المخطط نشره تالياً. وأضيف: بينما نهدف نحن لإثراء ثقافتنا عبر إتاحة هذه المواد وإخراجها إلى العامّ، نحن محكومون بحقيقة كونها، كما هي الحال في جميع أنحاء العالم، تقع تحت ملكية الورثة. ولذا فهي خاضعة لصفتها إرثاً عائلياً في الدرجة الأولى، مما قد يطيل علينا إجراءات العقود. لا شكّ أن هناك مساعٍ أخرى جيدة للتوثيق سنكون منفتحين على التعاون معها بكل الصيغ الممكنة. التحدي الآخر هو أن بلوغ أهداف مشروع كهذا هو أمر بعيد الأمد، ويصعب علينا تقدير الجدوى قبل العمل على تفعيل الأرشيفات، والسعي إلى مراكمتها وتعزيز أواصر الارتباط فيما بينها في ظل الصعوبات المرتبطة بالظروف الراهنة من تاريخ سوريا.
الحفظ كضرورة أولى
نور: دخلتُ في العمل مع المؤسسة على مشروع الأرشيف منذ بداية العام 2022. خلال دراستي المتخصصة في جماليات وعلوم وتقنيات الفنون التشكيلية، درست نماذج أرشيفية متعددة، وهو ما يمرّ به العديد من طلاب الدراسات العليا من أجل تحقيق الأُطر النظرية وإسناد أطروحاتهم. لكن قبيل البدء بالعمل على أرشيف غاليري أتاسي، قمت بدراسة مقالات علمية وطروحات نظرية مختلفة حول علم الأرشيف ومناهجه. وأعتقد أننا اليوم في السياق السوري لا نستطيع بلوغ نظريات الأرشيف على الفور، فنحن بحاجة ماسّة، حسب الباحثة دنيا الدهان المتخصصة بالتاريخ والأرشيف، إلى التمسّك بالخطوة الأولى من عمليات الأرشفة، ألا وهي الحفظ من أجل مجابهة الدمار الذي يستنزف ذاكرتنا الثقافية بسبب الحرب.
بقول أوضح، تهتم الأوساط الأكاديمية الغربية اليوم بالكشف عن الأرشفة كمفهوم، وعلاقة هذا المفهوم بنظريات المعرفة أو النظر إليه بوصفه مادة فكريّة أو فنيّة أو أداة للتعمق في مسار القضايا الكبرى مثل المطالب النسوية والعلوم مثل الأنثروبولوجيا، في حين لا يزال لدينا، نحن السوريون، طموح بأن نحقق مبادئ حفظ/جمع أكبر ما يمكن من محفوظات وصونها، والإتاحة/عدم الحجب، والعدالة/عدم الانتقائية أو التزوير. وهذه المبادئ تندرج مبدئياً تحت مناظير تاريخية وسياسية. لذا، نضغ في المؤسسة هذه الحقائق في حسباننا، آملين الانتقال بأرشيفات الفنانين إلى أعماق معرفيّة جديدة.
المنهجية
للعمل على الأرشيف، نعتمد، كما ذكرت شيرين، على نصائح اللجنة المتخصصة، ونعتمد اتباع خطوات الأرشفة المتعارف عليها عالمياً، من خلال : جمع الوثائق، وفرزها و ترتيبها مع الحفاظ على العلاقات المادية والمعنوية القائمة فيما بينها، القيام بالمسح الضوئي، معالجة النسخ الرقمية من الملفات وتحليلها وترقيمها وإعطاء كل منها وصفاً من خلال جدولتها مع توخي الفاعلية، بحيث يكون وصف الوثيقة هو ذاته البيانات التي سيتم توظيفها للالتقاط في البحث الإلكتروني، ومن ثم توزيع الوثائق/المحفوظات ضمن التصنيفات التالية : الصور وتتضمن مذكّرات الفنانين وصورهم الشخصية وغيرها، المخطوطات وتتضمن دفاتر اليوميات والملاحظات الفنية والمراسلات، المطبوعات وتتضمن كاتلوكات وكروت دعوات المعارض وقوائم أسعار الأعمال، المقالات والمقابلات المتعلقة بالفنان ، الوثائق الإدارية كالشهادات الجامعية وطلبات إنجاز أعمال والوثائق الشخصية. ستظهر هذه التقسيمات على الموقع بحيث تكون التصنيفات هي ذاتها أدوات البحث الرئيسة، مع تعريف بكل تصنيف من خلال تقرير بحثي يستند على المعالجة التي يقوم بها الباحث الرئيسي.
سنضع من أساسياتنا أثناء العمل توخي إتاحة البحث التفصيلي، والحرص على حماية المواد من الاستنساخ العشوائي من خلال تطبيق شروط الاستعمال وحقوق الصور والمنشورات. كما أننا لا نعتزم نشر صور الأعمال الفنية، بل توثيقها وإتاحتها للباحثين عند الطلب وذلك بهدف حمايتها،أيضاً، بناءً على رغبة مالكي الأرشيفات. في المقابل سنوفّر على الموقع قائمة بالأعمال الموجودة التي سنتيحها عند الطلب وبعد موافقة صاحب الطلب على شروط حقوق الملكية الفكرية.
بالإضافة إلى ما سبق، ننوي العمل مع فرق من المشتغلين في الداخل، بحيث نقوم بتدريبهم والإشراف على سلامة الخطوات وتمكينهم من معالجة المواد وتقديم التقارير.
الجمهور المستهدف
يستهدف أرشيف الفن السوري المعاصر الباحثين والدارسين من مختلف التخصصات والحقول المعرفية. في الواقع، ينوّه الباحثون مراراً إلى نقص المرجعيات المتعلقة بالفن السوري، فلقد أشارت المؤرخة الفنية أنيكا لنسن المتعمّقة بتاريخ الفن السوري في بحث سابق لها بعنوان «خريطة الأرشيف، سوريا» إلى وجود الكثير من النقص وعدم المنهجية وعدم الإتاحة فيما يتعلق بالوثائق الفنية في سوريا. تطمح مؤسسة أتاسي، عبر نشر الأرشيفات وتفعيلها، المساهمة في سد هذه الثغرة. سيكون هذا الموقع أيضاً مفيداً للشباب من الدارسين أو الفنانين الراغبين بالاطلاع على مسيرة الفنانين المؤسسين وتاريخ الحركة الفنية في سوريا، ومتاحاً أيضاً للمهتمّين بالفن لإثراء ثقافتهم أو حتى التحقق من المجريات التاريخية التي يتم تبليغها عبر الأرشيف.
تفعيل الأرشيف
سيكون أرشيف الفن السوري الحديث بنية أساسية تنبثق عنه نشاطات غايتها تفعيل الأرشيف، متل الدراسات والحوارات والأبحاث والمعارض والإصدارات. سبق لغاليري أتاسي أن أصدرت كتاب الفن التشكيلي المعاصر في سوريا 1898 – 1998، وكتاب حوار ، فاتح أدونيس، وهما كتابان توثيقيّان، حاول الأول توثيق المشهد الفني، ووثّق الكتاب الثاني للحوار الذي تم تنظيمه من قبل مديرة الغاليري عام 1998 بين الفنان والشاعر. يكمن سعينا اليوم في التوجّه إلى التعاون، بمعنى أن نشجع ونستحضر عيون بحثية مغايرة من أجل إثراء عملنا وتوخي الموضوعيّة. إن الأرشيف بقدر ما هو مرتبط بالماديّ، من ناحية كونه يعتمد على الجسم الفيزيائي للوثائق، هو حيّ وحيوي ومعبّر عن الوجه الأقرب للحقيقة، وهذا ما نأمل تحقيقه. نحن مستعدون لمد يد التعاون على مستويات مختلفة من استقبال أرشيفات لفنانين من جيل التأسيس من أجل الاشتغال عليها، أو استقبال مواد أرشيفية متمّمة لما سيتم نشره من أرشيفات، ودعوة باحثين ودارسين للتفكير في الأرشيفات من أجل هدف بعيد، وهو تأسيس محاور معرفية قابلة لأن تكون حرّة ومستمرّة.
التعاون بين مؤسسة أتاسي والجمهورية.نت وأثره على مسار الأرشيف
نؤمن بأن كل تعاون في المجالات الفكرية لابدّ أن يفضي إلى فائدة داخلية، أي بين الأطراف المتعاونة، وخارجية، أي ما يمكن أن يقدّمه هذا التعاون للمهتمّين. نعتقد أن المؤسستين تتكاملان فيما يتعلّق بالفن السوري. ذلك أننا متخصصون في حقل ما زال يفتقر إلى المشتغلين، وأن الجمهورية.نت هي منبر للسوريين، كما تحب أن تقدم نفسها، فهي بذلك صلة لنا إلى جمهور قرّاء واسع ومهتمّ بالشأن الثقافي. والواقع أننا لطالما افتقرنا إلى الأرشفة والتوثيق في سوريا، أو على الأقل إلى الإتاحة، ونحن نطرح مبدأ مشاركة الأرشيف اليوم كحق من حقوق المهتمين، من سوريين أو غير سوريين، بهذا الجزء من تاريخ سوريا، ألا وهو تاريخ الفن التشكيلي في فترة التأسيس الممتدة على النصف الأول من القرن العشرين.
على هذا النحو سيكون موقع الجمهورية.نت شريكاً لنا في تعزيز القيمة المعرفية للأرشيف وتبليغها إلى الجمهور. سيتجلى هذا التعاون من خلال أشكال متعددة يتم طرحها تباعاً في مقالات السلسلة التي ستتنوع مواضيعها حسب المحاور المطروحة في «المجلة» على موقع أتاسي ومواد أخرى يتم تخصيصها لقرّاء الجمهورية.نت.