في أواخر شهر نيسان (أبريل) الماضي، وعلى إثر انعقاد إفطار الأسرة المصري، دعا رئيس الجمهورية المصرية عبد الفتاح السيسي إلى إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسي، وكذلك تشكيل لجنة الحوار الوطني، واللتين بدورهما ستُعيدان النظر مع الأجهزة الأمنية في ملفات عدّة، سياسية واقتصادية واجتماعية، من ضمنها ملف المعتقلين السياسيين بهدف الإفراج عنهم. وبالفعل، منذ ذلك الوقت تم تشكيل لجنة الحوار الوطني وعُقدتْ عدة جلسات، واستُضيف أعضاؤها وأعضاء الأحزاب في البرامج التلفزيونية والمُقابلات الصحافية، ليرووا أشياء كثيرة من الكواليس بشأن مدى جدّية هذا الحوار الوطني.

أيضاً خلال هذه الفترة، أفرج النظام المصري عن العشرات من المُعتقلين السياسيين، مُعظمهم من أحزاب تنتمي إلى تحالف التيار المدني الديمقراطي، فضلاً عن عشرات الصحافيين والباحثين والحقوقيين المُستقلين. وتمَّ ذلك كُلّه عن طريق إخلاءات سبيل النيابة العامة أو «غُرف المَشورة»، عدا بضعة أسماء قليلة نالت عفواً رئاسياً، مثل حسام مؤنس وأحمد سمير سنطاوي وهشام فؤاد وآخرين.

لم تشمل تلك الإفراجات أي مُعتقل سياسي من التيار الإسلامي، ما ولّدَ تفاعلاً استنكارياً لدى كثيرين، إذ بدا أنّه لا مفرَّ للإسلاميين من السجون المصرية. يدفع هذا تالياً إلى محاولة استشراف «مُستقبل الإسلاميين في السجون المصرية»، ومحاولة الإجابة بإيجاز، مُستخدمينَ مُعطيات الواقع الذي ربما تتغير رؤيته مع الوقت، على سؤال: هل سيخرج الإسلاميون المصريون من السجن؟ ولماذا؟ تحديداً طيلة عهد نظام عبد الفتاح السيسي. والإجابة هُنا تأتي على قسمين: أولهما معرفة انتماءات المُعتقلين الإسلاميين بما أنّه تيار مُتعدد ومُتداخل، وذلك لنفهم كيف يتعامل معهم النظام الحالي. وثانيهما، معرفة ما وراء رفض النظام السياسي لإخراجهم من السجون رغم علمه أن كثيرين منهم لا يمكن أن يشكلوا خطراً عليه في الظروف الراهنة، وذلك نتيجة ما نراه من توبة عامة عن السياسة والفكر والتنظيم كُلّيةً.

إسلاميون مُختلفون، وسجن واحد

تختلف مرجعيات وأفكار المُعتقلين السياسيين في مصر، بل إن اختلافهم هذا يُصاحبه ديناميكية فكرية وتنظيمية مُستمرة، ولا سيما بين التيارات الإسلامية. خلفيات إيديولوجية وحركية مُختلفة، ليبرالية، ناصرية تقدّمية (حزب الكرامة)، وسطية مُحافظة (مصر القوية، حزب الوسط)، يسارية بمُختلف أفكار اليساريين وتنظيماتهم، وباحثون وحقوقيون وصحافيون مُستقلّون، ولا مُنتمون، أو ما كان يُعرف عنهم إبان ثورة يناير «حزب الكنبة»، لكنّهم شاركوا في حدثٍ سياسي أدى إلى اعتقالهم (مظاهرات 20 أيلول (سبتمبر) 2019 كمثال، أهالي جزيرة الوراق في مثال آخر)، وعُمّال مُطالبون بحقوقهم، وإسلاميون.

عن الإسلاميين، فهم ينقسمون تنظيمياً: إخوان مُسلمون، جماعة إسلامية، سلفيون، ومنهم المُنشقون عن حزب النور، والجبهة السلفية، حزب الأصالة وحزب الراية، وآخرون لا ينتمون إلى جماعات أو أحزاب، ومنضمّون إلى تنظيم ولاية سيناء التابع لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتنظيم القاعدة، وأشخاص تابعون لحركات ليس لها باع ولا تاريخٌ إيديولوجي لكن لها ممارسات عُنفية، مثل حركة حسم والعقاب الثوري.

كُلّ هؤلاء تجمّعوا في سجون النظام المصري، على اختلاف الرُتب والأسماء القيادية والكاريزماتيّة، فبينهم القيادي والفرد العَامِل والمُنتسب والمُحبّ والمُؤيد إلى آخره. أيضاً، توجد فئة ليست قليلة مُسجونة بسبب علاقتها مع أشخاص ينتمون إلى هذه الجماعات، مثل أولاد/أقارب/أصدقاء قيادات الإسلاميين. (أنس البلتاجي مثالاً). إلى الآن، لا توجد أي إحصائيات لأعداد السجناء حسب انتماءاتهم الفكرية/التنظيمية/العُمرية، لكن الأمن المصري يعرف انتماءات المُعتقلين جيداً، بل ويحاول رصد تحول أفكارهم، وهذا من خلال مُقابلات تتم بشكلٍ دوري بين سجناء سياسيين وضباط من الأمن الوطني.

الإسلاميون في فلك الشخصاني/السُلطوي

منذ الإطاحة بالإسلاميين من الحكم، أسَّسَ النظام المصري بنيَته السياسية على الخصومة معهم، ولم يمنحهم أي فرصة لإعادة الاندماج، كما اختاروا هم أيضاً الطريق الصفري في الصراع لرفضهم التنازل عن شرعية مُحمد مرسي، الرئيسي المُعتقل وقتها قبل أن يموت داخل سجنه في حزيران (يونيو) 2019. ساعدت هذه الصفريّة على مأسسة بنية سُلطويّة ترفض كل ما هو إسلامي سياسي/حركي (حركي بمفهومه الشامل، أي الدعوي والثقافي وليس السياسي فقط).

تجلّى هذا الرفض المُترسِّخ في مأسستّه عبر سنواتٍ، على المستوى الشخصاني والمؤسساتي للسُلطة (نقصد هنا بالشخصاني، أي الرئيس والدوائر العُليا المُقرّبة منه)، في تمظهراتٍ عدة وعلى أصعدة مُختلفة، منها أمنّية قمعية من خلال قتل المئات في فضاءات مُختلفة، ميدانيّة (فض الاعتصام) وشارعيّة (المُظاهرات) وسجنّية (مقرّات الاحتجاز الفورية والدائمة)، كما إعلامية وصحافية حيث سَلَّط النظام مُذيعي ومُقدمي البرامج وضيوفهم على شتمِّ وذمِّ الإخوان دائماً، ورفض أي مُصالحة سياسيّة منهم وتجريدهم من هويّتهم المصرية، بل وأحياناً الدينيّة.

أيضاً، شمل التجلّي مساحاتٍ فنّية، إذ أُنتجت عدة أعمال سينمائية ودراميّة تضع الإخوان في موقع أصل الإرهاب والدمار والفساد في مصر، مسلسل الاختيار بأجزائه الثلاثة مثالاً على ذلك، لا سيما الجزء الثاني والثالث. كلّ ذلك فضلاً عن إجراءاتٍ تشريعية حظرت الجماعة وأنشطتها، وصادرت أموال أفرادها والمَحسوبين عليها، وفصلت المُنتمين لها من وظائفهم. ومؤخراً، جاءت أيضاً في أحاديث أعضاء من لجنة الحوار ولجنة العفو عن استبعاد الإخوان لأنها جماعة إرهابية، منهم ضياء رشوان وطارق العوضي وعمرو حمزاوي مثالاً. وغير ذلك من تمظهراتٍ شيطنتْ الإسلاميين وفي قلبهم الإخوان، اجتاحت فضاءات عامة وخاصة طيلة السنوات الماضية.

هذه البنية السياسية وتجلّياتها، مع النظر إلى السياق التاريخي والتدقيق في الممارسة الحاضريّة، تستشرف أن لا تصالح للنظام المصري الحالي مع الإسلاميين، طيلة عهده. وأمّا فيما يخص الإفراج المُستمر عن بعض ناشطي ومُنتسبي التيار المدني، فإن هذا لا يعني بأي شكلٍ من الأشكال نيّة أو توجّه النظام نحو انفتاح سياسي حقيقي. ويتضّح ذلك جلّياً في شواهد عدّة، منها أن النظام يأبى أن يفرج دفعة واحدة عن مُنتسبي التيار المدني، ويعمل باستراتيجيّة «التنقيط»، بل ويستمر في إخفاء واعتقال وتجديد وتدوير سجن الكثيرين منهم، مثل هيثم محمدين وزياد العليمي وغيرهما المئات.

كما يتضح ذلك أيضاً من أمثلة أخرى، منها حظر شركة المُتحدة للخدمات الإعلامية ظهور شخصيات سياسية، مثل حمدين صباحي وأحمد الطنطاوي ومحمد أنور السادات وأكمل قرطام، على الصحف أو القنوات المملوكة لها، وذلك منعاً لتداول وجهات نظرهم فيما يخصّ قضايا عدة أمام الجمهور المصري. تَبِعَ هذا استقالة أحمد طنطاوي من حزب الكرامة، والتي قيل إنّها جاءت إثرَ خلافه مع قيادات الحزب حول المشاركة في لجنة الحوار الوطني الحالي، إذ يُفضل الجيل القديم داخل الحزب مُهادنة السُلطة عكس ما يراه طنطاوي من كوّنها لجنة نظامية تُدير حواراً غير حقيقي يتلاعب بالحركة المدنية الديمقراطية. هذه اللجنة، التي استنكر رئيس حزب الإصلاح والتنمية استبعاده منها، بالرغم من تقاربه من السُلطة في أوقاتٍ ما، خاصة في ملف المُعتقليين السياسيين.

هذا بالإضافة إلى استمرار حجب مواقع صحافية عدّة (موقع المنصة حُجب للمرة الثالثة عشر) في الوقت الحالي، وقت الحوار الوطني والانفتاح السياسي، وذلك لمجرّد كتابة ما تراه السُلطة مزعجاً لها، ما استوجب إعلان الطنطاوي توقفّه عن الكتابة في الموقع. كذلك، كتب أستاذ العلوم السياسية حسن نافعة أنّه سيُوقّف مُضطراً الكتابة على حسابه الشخصي على تويتر.

ثمة شواهد أُخرى تجعلنا نصف الحوار الوطني بأنه حوار نظامي يتلاعب بوجوهٍ مُعارِضة، مُستغلاً مَساعيهِم لتقليل القمع. أما فيما يخصّ جلساته، فهي جلسات حوارية تناقش قضايا في غير مكانها، جلسات بعيدة عن أروقة السُلطة التشريعية والتنفيذية، حوار وطني يُديره النظام في غُرف مُغلقة «في جدواها»، بعدما أبَعد بقمعه وجود هذه المُعارضة في أروقة الوزارات والبرلمانات. وعلى أساس هذا، تظل ّالحياة السياسية في مصر حياة مزيّفة جامدة، بلا حوار أو إصلاح حقيقي، بل ربما مع الوقت يُعاد اعتقال أو استبعاد هؤلاء مرةً أُخرى، خالد داوود وغيره مثالاً، في حالة تقدير النظام أن صوت بعضهم بدأ يأخذ مجرى غير الذي يُريده.

هكذا نرى أن النظام المصري يُعامل الإسلاميين كَخصوم سُلطة يرفض وجودهم من الأساس، ويُعامل الحركات المدنية بمُختلف أحزابها وأفكارها كمُعارضة يقمعها، لكنه لا يسعى إلى استئصالها كما يسعى إلى استئصال الإسلاميين، بل يرفض مُشاركتها معه صناعة القرار وإدارة الحُكم، ويحظر أي نشاط سياسي حقيقي لها. يفرَّق النظام في القمع إذاً بين من هو خصمُ سلطة ومن هُو مُعارض، وهذا ما نراه استراتيجيّة عامة تشمل الحركات الإسلامية (خصوم) والمدنية (مُعارضة)، كَكياناتٍ جمعانية وليست فردانيّة، ما يعني أن السُلطة لا تتقاعس عن استئصال أي مُعارض حقيقي ولو كان غير إسلامي، بل تشَمله الخصومة كما تشمل الكيان الإسلامي الحركي الجامع للسياسة والعنّف معاً.

أمّا عند مُقاربتنا لسردية تُفسّر تعامل النظام مع بعض المُعتقلين غير الإسلاميين معاملة استئصالية، علاء عبد الفتاح مثالاً بما أن النظام الحالي منذ تولّيه السلطة لم يترك علاء خارج السجن سوى أشهر قليلة، فإننا نستطيع ذلك من منظورين: الأول هو نمط الحياة السّجنّية، إذ أن الحياة السّجنّية في مصر جحيميّة للسجناء، السياسيين وغير السياسيين، حيث تلغي السُلطة القانون المُنظِّم لحياة السُجناء بما يتضمن من حقوق وواجبات، وتعتمد في إدارتها على مرئيات حياتيّة تُهندس بها حياة السجين، وتُحرمه من أقل حقوقه الإنسانية (الجسديّة). وهذا ما حدث تحديداً مع علاء عبد الفتاح باستقصادٍ زائدٍ من السُلطة، ما دفعه للدخول في إضراب جزئي نضالي عن الطعام احتجاجاً على استمرار حياته على هذا المرئى. نظام الحياة المرئي هو الفضاء الواسع الذي تعيش داخله السلطة والسجناء معاً، ويكون له تأثيرٌ مباشر على العلاقة بينهُما، وقد استَـخدمناه للفصل بينه وبين النظام المَلـفوظ المُتبع قانونـيّاً. للمزيد انظر: أركيولوجيا المعرفة؛ ميشيل فوكو. كذلك انظر: محمد علي الكردي؛ نظرية المعرفة والسلطة عند ميشيل فوكو، دار المعرفة الجامعية، ط1 الإسكندرية، 1992، ص 11.

أما فيما يخص المنظور الآخر، فهو خاص بتعامل النظام القمعي خارج الحياة السِّجنِّية وداخلها مع نشطاء غير إسلاميين، منهم أيضاً علاء الذي كان قد قضى حكماً بخمس سنوات منذ 2013 إلى 2019، ومن ثم اُعيدَ اعتقاله مرةً أُخرى في العام نفسه وحُكِمَ عليه بخَمس سنوات أُخرى. على الرغم من وجود حالة قصوى كحالة علاء، إلا أن التعامل مع الإسلاميين مختلف، خاصة القيادات مُنهم، إذ لا يسمح النظام المصري لهم بزياراتٍ من الأساس، يعَزلهم عن العالم كُلّه، وظروفهم السِّجنّية هي الأسوأ منذ اليوم الأول لدخولهم السجن، وصدرت بحقهم أحكام بعشرات السنوات من السجن، وكذلك أحكام إعدام استنفذتْ كل درجات التقاضي. وحتى في حال قضاء بعضهم مدّة الحكم، يُعاد تدويرهم في قضايا أُخرى دون الخروج ولو لحظة إلى الشارع، وهذا عكس ما يحدث حتى مع السياسيين غير الإسلاميين، إذ يسمح لهم النظام بالخروج من السجن، ومن ثُم يُعاد سجنّهم مرةً أُخرى، إذ تتباين درجات قمع النظام لهم حسب نشاطهم السياسي في الخارج، وحسب الظرف السياسي/الاجتماعي/الاقتصادي، وتعاطي السُلطة معه وفقَ رؤيتها الخاصة.

أما عن تعنّت النظام الحالي بالإفراج عن علاء عبد الفتاح بالذات، فلعلّنا نجد تفسيره في كواليس أُخرى متعلّقة بسياسات نظامية ودبلوماسية، إذ ربما يرى النظام أن الإفراج عنه في الوقت الحالي يعني رضوخاً -لايُفضّله- حيال الضغط الدبلوماسي والحقوقي عليه، أو ربما يتوجس من خروج علاء مُتجهاً إلى بريطانيا ليفضح النظام المصري كما فعل الناشط السياسي رامي شعث مؤخراً فور خروجه من السجن مُتجهاً إلى فرنسا، وهو ما أزعج النظام بشدّة، وسلط أبواقه الإعلامية والصحافية لشتم شعث في كُل القنوات والصُحف.

ما أريد قوله أن غضب النظام وإصراره على اعتقال معارضين غير إسلاميين، هيثم محمدين وأحمد دومة وعلاء عبد الفتاح على سبيل المثال، لا ينفي من قريب أو من بعيد رؤية النظام للإسلاميين كخصوم وغيرهم كمُعارضة، ولا ينفي حقيقة تعامله بشكل استئصالي أكثر عنفاً وقطعاً مع الإسلاميين. أما من يُعاقبهم كأفرادٍ بالسجن المُستمر والدوري، فإن الأرجح أنه لا يفعل ذلك من باب أن خروجهم يعني خروج منافسين مباشرين له على السُلطة التي صعد إليها، بقدر ما أنه يرى فيهم أشخاصاً مُعارضين يفضحون مفاسده فيهددون بذلك استمراره.

بالعودة لمحاولة لإجابة على سؤال: لماذا لن يخرج الإسلاميون من السجن؟ فإنه يمكننا تعداد نقاط واضحة وموجزة، نكتبها إثر رصد ومتابعة وتحليل رؤية السُلطة السياسية في مصر طالما هي باقيّة وتترسّخ. وهي نقاط تستند إلى رؤية أو وجهة نظر تحاول أن تكون واقعية، وليس إلى وجهة النظر التي تروِّجُ لمَقولة «كُل من تورّط في العُنف لن يخرج من السجن»، التي يُردّدها بعض الأبواق من لجنة العفو والحوار على أساس أنها وجهة نظرهم المُستقلّة، لكن هي في الحقيقة وُجهة نظر مَنسوخة مِن النظام، خاصة بعد أن أعلنها الرئيس صراحة (ولا يظهر حديثٌ مُخالفٌ لرؤية الرئيس)، يوم 4 تموز (يوليو) الماضي في اجتماعه مع عدد من المثقفين والصحافيين، عندما قال إن «الحوار للجميع باستثناء فصيل واحد» في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين:

– بدايةً، النظام يرى الإسلاميين خُصوم سُلطة وليسوا مُعارضين كَالتيارات المدنية الأخرى (هذا منطقي بما أن النظام الحالي انقلب عليهم)، ولذلك فإن الإفراج عنهم، وبالأخص عن قيادات الإخوان، يُفسد سردية النظام، أي سردية الاستثناء، القائمة على تَخيُّلِ عدوٍ/أهلِ شرٍّ هم الإسلاميون، وفي مقابلهم نظامه الذي يحمي البلاد والعباد منهم، وهى سردية تمأسستْ طيلة سنواته الماضية عبر أدوات مُتعددة، وساعدته كَحُجَّة لتمرير أمور إشكالية كثيرة تشريعية وحقوقية وسياسية.

– يعادي النظام كَسُلطة سياسيّة عُليا شخصيات قيادية من الإسلاميين بعينها، مثل قيادات الإخوان وأبرزهم البلتاجي ومحمد بديع وخيرت الشاطر (ظهر كشيطان مُتحرّك في مُسلسل الاختيار الجزء الثالث). وقيادات مُستقلة أُخرى مثل حازم صلاح أبو إسماعيل تحديداً، وذلك بسبب أحاديثه الإعلامية الكثيرة التي كانت تذمّ رئيس الجمهورية وقت أن كان وزيراً للدفاع 2012-2013. وشخصيات لها وضعها السياسي القوي والعميق مثل عبد المنعم أبو الفتوح، الذي كان يُعَدّ منافساً شرساً على السُلطة لا سيما في سنوات 2014-2018، وخاصة بعد حديثه الإعلامي الأخير على قناة الجزيرة مُباشر، خلال وجوده في لندن قبل أن يرجع إلى مصر ويتم اعتقاله، عن شخص الرئيس ذاته بلهجة لاذعة الانتقاد لشخصه، ما وضعه ضمن الشخصيات المُستبعدة من الخروج من السجن، ولذلك حُكم عليه بـالسجن 15 عاماً، وهذا أثناء إدارة الحوار الوطني. عصام سُلطان أيضاً، نائب رئيس حزب الوسط، المحامي والسياسي الثوري، الذي انتقد وهاجم كُل الفاسدين، من أيام مبارك حتى الانقلاب العسكري، الذي عارضه بشدّة رغم نقده اللاذع للإخوان. حينها، أي بعد الانقلاب مباشرةً، قال نصّاً: «الآن عندنا قائد للانقلاب العسكري، وقائد للثورة المضادة، اسمه عبد الفتاح السيسي».

– توجد شخصيات إسلامية، أو محسوبة على الإسلاميين، لها صيّتها وثقلها بين فئاتٍ كثيرة، خاصة فئات شبابية، ولها تأثير في فَضائها الاجتماعي والدعوي والسياسي، اعتقلها النظام ويرفض خروجها لتجفيف أي سردية ولو في فضاء بعينه، فضاء تعليمي/تدريسي غير حكومي على سبيل المثال، لكنها سردية تعارض تلك التي يروّجها النظام، ونَقصد هُنا السردية الثقافية بشكلٍ عام، والسياسيةُ جزءٌ أصيل منها.

– النظام تعرّضَ لعنف أغلبه كان رد فعلٍ على فعل العنف الذي قام به، وقُبِضَ على كثيرين من المُتورطين في هذا العُنف فيما يُعرف شعبياً بـ«القضايا النوعيّة». ومُنفذوا هذا العنف مُتعددو الأطراف والانتماءات كما ذكرنا في بداية المقال، يرفض النظام خروجهم من السجن بالرغم من أن البعض منهم قد قضى سنوات حُكم المحكمة الصادر بحقّه. يرفض الأمن الوطني خروجهم، ويُعاد تدويرهم في قضايا أُخرى خوفاً من انخراطهم مرةً أُخرى في أي عمل راديكالي، واستكمالاً لعقابهم الأبدي.

– يعرف النظام جيداً أن كثيراً من المُعتقلين لم يتورطوا في عُنف، وأن كثيرين منهم لا ينتمون إلى الإسلاميين كتنظيم، وأنهم في الوقت الحالي لا يُعارضون النظام بل يعترفون بشرعيّته، وعند خروجهم من السجن لن ينخرطوا في أي نشاطٍ سياسي، بل سيُعوضون سنوات حياتهم المعيشية الضائعة. ورغم كُل هذا يرفض النظام إطلاق سراحهم، وحتى من يخرج منهم لانقضاء سنوات حُكمه، يبحث عنه الأمن لاعتقاله مرةً أُخرى، وهذا بسبب اتّباع النظام الأمني في مصر سياسة مُتابعة كُل من تورّط في النشاط السياسي، أو محسوب أو مُقرب من شخص/جماعة عارضت النظام، ليضعه في فلكة الأمننة للسُلطة، إما داخل السجن، أو تحت عينٍ أمنيّة تُراقبه خارج السجن. (هذا أيضاً ما رصدته تقارير حقوقية مؤخراً، إذ في الفترة الأخيرة، أي فترة الحوار الوطني، يبلغ عدد من خرجوا من السجن أقلَّ بكثير ممّن تم القبض عليهم أو تم تجديد أو تدوير حبسهم في قضايا أُخرى).

– في السنوات الثلاث الأخيرة، تراجعَ الضغط الدولي لا سيما القطري/التركي على النظام المصري حيال عقد مُصالحة بينه وبين جماعة الإخوان، هذا ظهر بوضوح في تقاربات وزيارات أمير قطر إلى القاهرة، وإغلاق بعض القنوات المحسوبة على الإخوان في تُركيا، ما يجعل النظام يستمر في انتهاج خصومة الإسلاميين واستبعاد خروج حتى ولو جزء بسيط منهم من السجون. يرجع هذا في جانب منه إلى فشل الجماعة في حشد مناصرة قوى دولية وإقليمية لها للتوسط مع النظام.

– فقدت الجماعة بسبب فشلها التنظيمي (الانشقاقات تحديداً)، أي مُكتسب يُمْكنها أن تُقدمه للنظام ويُمَّكنها من التفاوض معه مُقابل تخفيف القمع عنها، وهذا ما يطرحه النظام دائماً على لسان الإعلامي عمرو أديب، بمقولة: «هنتصالح معاكم ليه». أيضاً لم تُقبِل الجماعة على أي مُراجعات فكرية أو تنظيمية، كشفيعٍ لها عند النظام، كما كانت تجربة الجماعة الإسلامية في التسعينيات من القرن الماضي، لكن ليس فقط لأن الإخوان ليس لديهم عُنف إيديولوجي مثل الجماعة الإسلامية، وبالتالي ليس لديها أفكار تتنازل عنها من الأساس، بل أيضاً لاختلاف البنية السُلطوية لِنظام مُبارك عن نظام السيسي، كما اختلاف السياق التاريخي للتَجربتين وأسباب أُخرى.

– في بداية العام 2024، أي بعد عام وأشهر قليلة وهي مدة زمنية ليست طويلة، ستبدأ إجراءات الانتخابات الرئاسية التي من المُتوقَّع أن يستحوذ عليها الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي كما فعل في انتخابات عام 2018. لذا تُفضَّل السُلطة السياسية العُليا أن تبقى الحياة السياسية جامدة كما هي، لأن أي إفراجات سياسية، خاصة إن عُنيت بخروج الإسلاميين كَكُل أو كجزء من السجون، تعني قلقاً أو ريبةً لا تُحبّذها السُلطة (الرئيس ومُعاونوه)، خاصة قبل توطين حُكمه وسُلطته مرةً أُخرى. ولذلك فمن المُمكن أن تتوسع السُلطة في قمعها بدايات العام 2024 حتى لا تُتيح أي فُرصة لأي منافس، فَتُعيد اعتقال من أفرجت عنهم في الوقت الحالي، من سياسيين وحقوقيين تابعين للتيار المدني الديمقراطي.

هذا ما نَشهده ونَعيشه الآن من سياق تاريخي وواقعي، مُمنهَج بأدواته المُتعددة ومُمارَس بأفعاله الإجرائية الحاضرة. سياق تاريخي يُتَوقَّع فيه أن لا مفرَّ للإسلاميين من السجون إلّا بتغيير النظام المصري، كما أنه لا مفرَّ من القيود والقمع لغير الإسلاميين. النظام المصري الحالي، تشريعياً وفي الممارسة، يُمكنه البقاء حتى العام 2030. ربما تستمر الحياة السياسية في تجمّدها حتى ذاك العام كما هي الآن، وربما تتغير في السنوات القادمة إن جَدَّت مُعطيات في المَشهد ككُل، سواء جاءت هذه التغيّرات من السُلطة كفعل أو كردِّ فعل على فعلٍ يأتيها من خارجها.