نشرت وكالة الأنباء السعودية مؤخراً فيديو عن «مدينة المستقبل» المعروفة بـ «ذا لاين»، معطية من خلاله لمحة نادرة عن فكر أوتوقراطي طامح يملك موارد غير محدودة وطموحات سياسية عظيمة، وبدون أصوات معارضة.
يبدأ الفيديو التشويقي بوصف مساوئ وأهوال المدن «المُعطلة» أو «المختلة وظيفياً» التي لطالما «تجاهلت» الطبيعة لقرون مضت، قبل الكشف عن «ثورة في الحضارة» متجسدة في بناء عملاق مستمر بطول 170 كم، محدود بين مرآتين ضخمتين في قلب الصحراء. تقوم الراوية في الفيديو بسرد مفصّل لمجموعة من المصطلحات الرنانة لوصف المشروع، في حين تظهر مركبات طائرة حول أشكال هندسية غير مفهومة في الفيديو، الذي يبدو أحياناً كمونتاج خيال علمي ساخر أكثر مما هو رؤية لخطة تنمية. المدينة المتصوَّر أن تتسع لتسعة ملايين ساكن ستُبنى في شمال شرق صحراء شبه الجزيرة العربية، المعروفة بمناخ لا يرحم ودرجات حرارة وصلت مؤخراً إلى 49 درجة مئوية. اكتشفتُ شخصياً إلى أي حدّ يمكن لحرّ تلك المنطقة من الكوكب أن يصل، عندما أُصبتُ بحروق من الدرجة الأولى بمجرد أني حاولتُ غسل يدي مباشرة من مياه الصنبور في صيف سيناء الحارق. لكن رغم ذلك، ذا لاين ستكون مستدامة، ذات مناخ بيئي معتدل، و لن تُولِّدَ أي انبعاثات كربونية. هذا ما أكدته الراوية تكراراً بينما يُظهِر الفيديو لقطاتٍ طائرةً معدة بدقة وبتقنيات إخراج متقنة. المدينة ستُدارُ بشكل ذاتي وبدعم من تقنيات الذكاء الصنعي، وباستخدام مصادر طاقة متجددة بنسبة مئة بالمئة (تفصيل مذهل عند الأخذ بعين الاعتبار أن السعودية ثاني أكبر مُخزِّن ومُصدِّر للنفط في العالم).
ذا لاين جزء من مشروع مدينة نيوم المستقبلية التي تُعَدُّ أحد أكبر مشاريع المملكة لبناء ما يعرف بالميغا سيتي (Megacity) أو المدينة العملاقة، وهو مصطلح يطلق على المدن التي يزيد عدد ساكنيها عن عشرة ملايين. تتوخى الرؤية المقترحة أن يتجاوز عدد سكان ذا لاين عدد سكان مدينة نيويورك البالغ ثمانية ملايين، وبمساحة أقل من نصف مساحة جزيرة مانهاتن (أصغر مقاطعات مدينة نيويورك الخمس). بناء ذا لاين سيكون بعرض لا يزيد عن 200 متر (للمقارنة فإن عرض ملعب برشلونة الشهير 220 متر)، ومن المفترض أن تعطي الكثافة السكانية المتصوَّرة فرصة للسكان للوصول إلى احتياجاتهم اليومية في أقل من خمس دقائق سيراً على الأقدام بحسب الفيديو. لكن بكثافة سكانية 25 ضعف كثافة نيويورك، وست أضعاف كثافة مانيلا عاصمة الفيليبين وهي أكثر مدن العالم كثافة اليوم، سيتحتم على سكان ذا لاين التسلّق فوق بعضهم بعضاً للوصول إلى المخبز أو صالون الحلاقة.
لا شك أن النموذج الحالي لتخطيط وعمران المدن فشل في تلبية احتياجات الإنسان الأساسية، سواء كان ذلك في التمدد أو الزحف العمراني (Sprawl) والسكن منخفض الكثافة بكل ما يحمله من هدر للموارد والعزلة الإجتماعية في الضواحي السكنية المُطوَّقة بالطرق السريعة، أو كان ذلك في نموذج التخطيط المتمحور حول السيارات والقيادة كنمط حياة (car-centric planning) الذي يتسبب بملايين الوفيات سنوياً، ما بين حوادث طرقية وأمراض تنفسية ناتجة عن تلوث الهواء. تُخاطِب الرؤية السعودية هاتين المسألتين من خلال نموذج للسكن عالي الكثافة، مبني حول نظام مواصلات مركزي سريع يمثل عصب النقل والتنقل في المدينة المستقبلية. لكن الرؤية تبقى كذلك، مجرد رؤية و حلم، ما لم تُدعَم بالتفاصيل عن كيفية عمل وآليات هذه المنظومة العملاقة التي لم يبنَ مثيلٌ لها في تاريخ البشرية العمراني.
يُغفِل الفيديو التسويقي للرؤية أحد أهم ثروات المملكة العربية السعودية: السعوديين أنفسهم. معدل أعمار الشعب السعودي يعد بين الأصغر في العالم بوسطي 30.8 سنوات (مقارنة بمتوسط 48.6 سنين لليابان و40+ لأكبر اقتصادات أوروبا)، وعليه فقد قامت المملكة بتكثيف استثماراتها في الشباب في قطاع التعليم والتنمية في السنوات الأخيرة، رغبةً في استثمار هذه الثروة البشرية. بحسب آخر تصنيف لـ QS للجامعات العالمية، فإن 3 من أفضل 10 جامعات في العالم عربي هي جامعات سعودية. لكن الفيديو لم يأتِ على ذكر من سيسكنون في ذا لاين، وما نوع العمل أو الوظائف أو السكن أو التكاليف المتوقعة. كيف ستكون أشكال العلاقات الاجتماعية؟ والأهم من كل ذلك: كم عاملاً سيموت (كما يحصل دائماً في المشاريع العملاقة) بسبب ظروف العمل القاسية ودرجات حرارة تُقارب الخمسين في صحراء شبه الجزيرة العربية.
لكن لعلّ أكثر ما يثير الذهول في هذه الرؤية هو تصوير المدينة المستقبلية على أنها نعيم للمساواة: «مكان للمجتمعات لتزدهر كما لم يُرَ على سطح الأرض من قبل» كما تقول لنا الراوية. السعودية، مثلها مثل ممالك الخليج العربي المجاورة، صنفت في المرتبة 138 من أصل 167 في مؤشر العبودية العالمي لعام 2018، وكانت ومازالت موضوع تحقيقات منظمة هيومن رايتس ووتش، المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان، نتيجة انتهاكات ضد عمال مهاجرين، خصوصاً العمال القادمين من جنوب شرق آسيا وإفريقيا، الذين يتعرضون لإعتداءات جسدية وجنسية وأنظمة عمل استغلالية وغيرها من تجاوزات حقوق الإنسان. من الصعب التفكير في مجتمع ونموذج مساواة «لم يُرَ له مثيل على كوكب الأرض» عند أخذ هذه الحقائق بعين الاعتبار.
لن يكون هناك سيارات في ذا لاين، وهو أمر أجده شخصياً رائعاً وضرورياً لتحقيق أي تقدم حَضَري، وبالتالي لن تستطيع النساء ممارسة حقوقهن بالقيادة التي انتزعنها مؤخراً بأثمان باهظة. إنما من غير الواضح ما إذا كان نموذج المساواة إياه يشمل المساواة الكاملة بين الرجل و المرأة، في مجتمع حلّ في المرتبة 147 من أصل 156 في مؤشر الفجوة بين الجنسين العالمي (للأسف بلدي سوريا حلت بمركز أسوأ في التصنيف ذاته).
لكي نستطيع أخذ رسالة ذا لاين البيئية على محمل الجد، لا بدّ للقائمين على المشروع من مشاركة حساباتهم للأثر البيئي لبناء مدينة عملاقة (megacity) في قلب الصحراء، دون أدنى بنى تحتية. لا يوجد حالياً أي ذِكر للأثر الكارثي على الحياة البرية، الموارد الشحيحة أصلاً، والطيور التي ستنجذب حتماً إلى المرآتين العملاقتين على طرفي البناء العملاق وتصطدم بهما. يُظهرُ الفيديو أيضاً غطاءً أخضرَ من الشجر دائم الخضرة على امتداد سطح البناء، بمساحة تعادل خمس مرات مساحة سنترال بارك الشهير في نيويورك، أحد أكبر الحدائق المدنية في العالم. الفارق الأهم في هذه المقارنة يكمن في الهطول المطري السنوي لنيويورك البالغ 1200 مم، مقارنة بمعدل الهطول المطري الشحيح البالغ 150 مم لشمال السعودية. من المتوقع أن تعمل المملكة لسد فجوة الري العملاقة من خلال عملية ضخمة ومُكلِفة لتحلية مياه البحر، بهدف إبقاء الغطاء الأخضر على قيد الحياة. يتحدث المشروع أيضاً عن وصول سهلٍ وعادلٍ إلى الطبيعة، إنما يصعب تَخيُّلُ أن ساكناً أو عائلة من سكّان ذا لاين قد تختار مغادرة البناء العملاق المكيف والمحمي من الطبيعة القاسية للاستمتاع بالصحراء المحيطة. المرآتان العملاقتين ستجعلان السير أو التواجد بالقرب من البناء خلال ساعات النهار أمراً شبه مستحيل حتماً، وبالتالي لن يكون من الممكن مغادرة ذا لاين سيراً على الأقدام، على الأقل ليس خلال النهار، ما يجعل الغطاء الأخضر على سطح البناء العملاق الملجأ الوحيد للراغبين بالهروب من ضجيج 9 ملايين من الجيران.
ذا لاين جزءٌ من مشروع رؤية السعودية 2030 (Vision 2030)، الذي يتضمن عدداً من المشاريع العملاقة، والذي يسعى لتغيير شكل المملكة معمارياً واقتصادياً واجتماعياً. إنما لم يتم الإعلان عن أي تفاصيل بخصوص متى سينتهي بناء ذا لاين، ومتى ولمن سيُتاح أول سكن فيها. هل ستستقطب ذا لاين الخبرات والمواهب الرائدة من حول العالم؟ أم يهاجر إلى ذا لاين سكّان المدن السعودية الأخرى التي تعاني بشكل غير مسبوق من عواقب التغيّر المناخي، من درجات حرارة خطيرة وسيول جارفة جعلت المعيشة في بعض المدن السعودية أشبه بالكابوس، خصوصاً لذوي الدخل المحدود والبعيدين عن الأبراج السكنية في قلب المدن الكبرى.
نادراً ما تتم إساءة استعمال مصطلح «مجتمع» بهذا الشكل الفج لخلق مساحة مجتمعية مغلقة وخاضعة للرقابة المطلقة كما هو الحال في ذا لاين. المراقبة الدائمة والشاملة في المدن المستقبلية تُصوَّر على أنها من متطلبات الراحة والفعالية العالية لهذه المدن، لكنها في الحقيقة تتطلب، لا بل تخلق، فئة اجتماعية خاضعة يسهل التحكم بها. تحويل الخدمات اليومية إلى خاصية غير مرئية تتم إدارتها بالكامل بقدرة الذكاء الصنعي لن تُخفي طبقة العاملين في الخدمات فحسب، بل ستمحو من الوعي المجتمعي تقدير دور هذه الطبقة في المجتمع، والمساواة أو انعدامها في فرص العمل، والإساءة التي يتعرض لها أولئك الواقعون في أسفل الهرم الاقتصادي.
لستُ خبير تنمية اقتصادي، ولا أستطيع البتّ في تفاصيل تقنيات الذكاء الصنعي والمنتوج الاقتصادي لنموذج العمران المُقترَح، لكنني مهندس معماري وحاصل على ماجستير تصميم المدن، وأعرف من دراستي وخبرتي العملية، ومن التاريخ، أن رؤيةً بهذه السطحية التي تصل حدّ الإهانة لعقول المتلقين هي ضربٌ من الخيال وعرضٌ للقوة والهيبة على الساحة الدولية. وللأسف، فإن هذه الرؤية قد تُبنى بالفعل، وبالتالي يجب علينا أن نسأل عن التكلفة المجتمعية والبشرية التي من شبه المؤكد أنها ستبقى خارج سياق الحديث عن مشاريع تنمية عملاقة كهذه. لا يمكن أن نضع في أنبوب مخبري واحد خليطاً من البشر والطبيعة والثقافة والفن والحريات العامة، والعلاقات البشرية بحلوها ومرّها، للحصول على منتوج جاهز للطباعة والتوزيع. نماذج الحياة والمعيشة المحددة مسبقاً في مختبر، وبقرارات تقنية وسياسية، تُنتِجُ صيغة تبسيطية وقمعية للاستقرار والتنمية.
حاجتنا الماسة لمدن ذكية تُخَدَّم بالتكنولوجيا لتحسين مستوى المعيشة لا يمكن أن تطغى على، أو تستبدل، حاجتنا الأساسية للعدالة والحرية والعيش الكريم. رؤية السعودية لتسريع بناء وتفعيل مدينة مُراقَبة بشكل كلّي ليست حلماً تنموياً، بل هي بعيدةٌ كل البعد عن ذلك. إن الطريقة التي يتم من خلالها التفكير بهذا الحلم تجعل الرؤية المطروحة أقربَ إلى مشروعِ بروباغاندا إعلامي، مدفوعٍ بالحسابات المالية والجيوسياسية، وبمجهود جيش من المهندسين والمخططين والمستشارين الإداريين العاملين للتغطية على فكر تسلّطي، وتصوير مشروع سياسي على أنه رؤية بيئية تَقدُّمية.