إضافة لحجم القتل والأذى الذي تسببت به، ونوع سلاح الدمار الشامل الذي ارتُكبت به، تميّزت مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية في آب 2013 بأنها المجزرة التي لم يمضِ اليوم الذي تلاها: بدأ عند شروق الشمس بعد ساعات قليلة من المجزرة، ولم ينتهِ بعد. 

يومٌ من تسع سنوات.

عَلِقنا في ذلك اليوم وما زلنا. يومُ لمِّ الجثث، وإخطار الأهالي والتأبين والحِداد والغضب والذهول. يومٌ من تسع سنوات هرم فيه البالغون والبالغات، ووُلِدَ خلاله أطفال وكأنهم في عمر الشيوخ، وكثيرون وكثيرات ماتوا رهن الانتظار. يوم من تسع سنوات سيزيفيّة القوام: يملّ كثيرون من تكرار أنفسهم وهم يعيدون شرح السفالة الدولية التي ارتُكبت بُعيد المجزرة بتوافق أميركي-روسي، وفي الوقت ذاته يعجزون عن عدم التكرار هذا؛ يفكر كثيرون آخرون أن إحياء ذكرى المجزرة هو ألمٌ صافٍ دون جدوى، وفي الوقت ذاته لا يُطاق عدم إحيائها. دوامة دارت آلاف المرات في يوم واحد.

يوم من تسع سنوات.

يكاد المرء يشعر أنه حتى الطبيعة أوقفت دوريتها بُعيد المجزرة. تَثبّتَ كل شيء في مكانه ولم تَعُد أي قوانين تُجدي أمام هذا الجمود، لا قوانين الترموديناميك ولا القانون الإنساني الدولي. لَعينٌ تلاطمُ الأزمنة هذا الذي يبدو وكأنه من الصنف الذي نقرأ عنه في كتب الخيال العلمي: لم يُسمَح له بأن يكون ماضياً بعد. العالم انقلب ألف انقلاب منذ الحادي والعشرين من آب (أغسطس) 2013 ولكن المجزرة ما زالت في لحظة يومها التالي. كيف تتعامل حتى لغوياً مع هذا الزمن؟ ليس ماضياً، هو بالأحرى أشبه بمضارع يابس، عفن، متقيّح ومنتفخ، نازف، كريه. أي مستقبل يمكن أن يَنتُجَ عن هكذا زمن؟ جُلّ ما يتمناه المرء هو أن يصير هذا اليوم الذي لا ينتهي ماضياً، مع قبول مسبق بكل ارتباكات وتساؤلات وصراعات التعامل مع الماضي. هذا، بالنظر إلى أوضاعنا، ليس أبداً بقليل. 

يوم من تسع سنوات. حتى الآن.. 

لا شيء يدعو لتوقُّعِ أن اليوم التالي للمجزرة سينتهي قريباً، بل إن كل المؤشرات، السورية والإقليمية والدولية، تُرينا أن هذا «اليوم السوري» الذي لا ينتهي يزداد عمقاً. يُضاف هذا إلى «يوم عالمي» بات هو الآخر رهينة نفسه، سياسياً واقتصادياً وبيئياً، وقيمياً قبل كل شيء. هل من نجاةٍ دون خلاص؟ كيف الحياة دون وعد؟ قد يكون المدخل إزاء هذه الأسئلة هو التفكير بأن انسداد العناوين الأساسية العامة للقضية السورية لا يعني أن كل هوامش العمل من أجل حياة أسهل، ولو قليلاً، مسحوقةٌ بالكامل. نحن بحاجة للتفكير أكثر بالمُعاش اليومي كفضاء عمل سياسي، بدل أن يكون فقط مجالاً للعمل الخيري. نحتاج للتركيز أكثر على كيفية العمل من أجل أن تكون أيام السوريات والسوريين، لا سيما الأضعف منهنّ ومنهم، أرحمَ عليهم ولو قليلاً، دون أن نضع ذلك رهن إنجاز حلول خلاصية كبرى: كيف نُحصِّلُ رشفات ماء وسط العطش القيامي الراهن؟ 

كل يومٍ أقل قسوة من الذي سبقه على أي سورية وسوري هو صنو اقتحام الباستيل. وبطبيعة الحال يحتل الجانب الاقتصادي المعيشي والصحة والتعليم الهمّ الأكبر، وهو أكبر بكثير من أن يُفكَّرَ به فقط كعمل خيري يُحمَل على عاتق التبرعات، أو أن يقوم به أفراد أو جماعات صغيرة. الحياة اليومية ميدانُ عملٍ سياسي لا يُخاض في أستانة ولا في جنيف، بل في كل شارع فيه سوريّة أو سوري، داخل وخارج البلد. عمل سياسي مضنٍ وطويل الأمد، مدخلُ جيد له هو أن نكون لطفاء

اليوم الذي أصبح عمره تسع سنواتٍ مستمر، ولا نعلم إلى متى. سيبقى لا يُطاق، لكن عسى أن يرتخي خناقه ولو قليلاً.