البيداغوجيا (طرائق التدريس) بوصفها ممارسةً للحرّية هي طريقة تعليمٍ يستطيع أيّ شخصٍ تَعلُّمها. وهي أسهل لدى أولئك الذين يؤمنون أيضاً بأنّه يوجد جانبٌ مقدّسٌ في مهنتنا؛ يؤمنون بأنّ عملنا لا يقتصر على مشاركة المعلومات، بل يتمثّل أيضاً في المشاركة في ترعرع طلّابنا فكرياً وروحياً. التعليم بأسلوبٍ يحترم أرواح طلابنا ويحرص عليها أساسيٌّ إن كنّا نريد تأمين الشروط اللازمة التي تتيح للتعليم أن يبدأ بعمقٍ وحميمية.

في السنوات التي أمضيتها في الدراسة والتدريس، تأثّرتُ أشدّ التأثّر بأولئك الأساتذة الذين تمتّعوا بالشجاعة الكافية لكسر الحدود التي تحتبس الطلاب في مقاربةٍ للتعليم أساسها الحفظ عن ظهر قلب والتعلّم التسلسلي، وقد كانوا منبعاً للإلهام بالنسبة لي. يتعامل مثل أولئك الأساتذة مع الطلاب وهم يريدون ويرغبون في الاستجابة لكينوناتنا الفريدة، حتّى لو لم يسمح الوضع بظهورٍ كاملٍ لعلاقةٍ تستند إلى اعترافنا المتبادل. غير أنّ اعترافاً كهذا موجودٌ دائماً.

باولو فريري والراهب الفيتنامي البوذي ثيك نات هان هما اثنان من «المعلّمين» الذين مسّتني أعمالهم مسّاً عميقاً. عندما بدأتُ دراستي في الجامعة، قدّم لي فكر فريري الدعم الذي كنت أحتاجه لمواجهة «نظام» التربية «المصرفي»، هذه المقاربة للتعليم المستندة إلى مفهومٍ يرى أنّ الطلّاب جميعاً لا يحتاجون إلّا إلى استهلاك المعلومات التي يقدّمها إليهم أستاذٌ ما، حفظاً وتخزيناً. منذ البداية، شجّعني تأكيد فريري أنّ التربية يمكن أن تكون ممارسةً للحرّية على وضع استراتيجياتٍ لما أُطلِقُ عليه تسمية «الإدراك» في قاعة الدراسة. فقد فسّرتُه على ضوء الوعي النقدي والالتزام، ودخلتُ قاعات الدراسة وأنا مقتنعةٌ بأنّه لا بدّ لي ولكلّ طالبٍ آخر من أن نكون مشاركين فاعلين، لا مستهلكين منفعلين. وكانت التربية كممارسةٍ للحرّية تتعرّض باستمرارٍ للتقويض على يد أساتذةٍ ممتعضين من فكرة مشاركة الطالب. وقد أكّدت أعمال فريري على أنّ التربية لا يمكن أن تكون تحرّريةً إلا إذا نظرنا إلى المعرفة بوصفها حقلاً نحرثه مجتمعين. وأكّدت فلسفةُ ثيك نات هان بصدد البوذية الملتزمة على هذا المفهوم عن الحراثة المشتركة، أي ضرورة الجمع بين الممارسة والتأمّل. وكانت فلسفته مشابهةً لفلسفة فريري في تأكيدها على البراكسيس ـ بوصفه الفعل والتأمّل في العالم بهدف تغييره.

يتحدّث ثيك نات هان دائماً في أعماله عن المعلّم والشافي. ومثله مثل فريري، يدعو في مقاربته للمعرفة الطلابَ إلى أن يكونوا مشاركين فاعلين وإلى ربط الوعي بالممارسة. وبينما انصبَّ اهتمامُ فريري الرئيس على العقل، فقد قدّم ثيكنات هان مقاربةً في نظريّته التربوية، تركّز على الكلّيانية، على وحدة العقل والجسد والروح. وقد سمحت لي مقاربته الكلّيانية للتعليم والممارسة الروحية بالتخلّص من سنواتٍ طويلةٍ من التطويع، تعلّمتُ فيها أن أؤمن بأنّ أهمّية قاعة الدراسة تتضاءل في حال نظر الطلاب والأساتذة إلى بعضهم بعضاً بوصفهم كائناتٍ بشريةً «كاملة»، لا تطمح للحصول على المعرفة من الكتب فحسب، بل لمعرفة كيف يعيشون حياتهم.

أثناء السنوات العشرين التي درّستُ فيها، شهدتُ قدراً مخيفاً من عدم الارتياح بين الأساتذة (بصرف النظر عن توجّههم السياسي) عندما يريد الطلاب منّا أن ننظر إليهم بوصفهم كائناتٍ بشريةً كاملة، لها حياةٌ ولديها تجارب معقّدة، بدل أن ننظر إليهم كما لو أنّهم لا يسعون إلا للحصول على شذراتٍ مجزّأة من المعرفة. عندما كنتُ لا أزال في بداية دراستي الجامعية، كانت الدراسات الخاصّة بالمرأة تشقّ طريقها في الهيئة الأكاديمية. وكانت قاعات الدراسة تلك هي المكان الوحيد الذي لا يمانع فيها المعلّمون من الاعتراف بوجود صِلةٍ بين الأفكار التي يُعلّمونها بموجب قواعد الجامعة وتلك التي يُعلّمونها في الممارسات الحياتية. وعلى الرغم من تلك الأوقات التي أساء فيها الطلاب استخدام الحرّية التي تتيحها تلك التجربة عندما رغبوا بالاقتصار على التوقّف عند التجربة الشخصية، كانت الصفوف الدراسية النسوية ككلٍّ مكاناً شَهدتُ فيه أساتذةً يتوقون لخلق فضاءاتٍ تشاركية يمكن فيها تشارك المعرفة. لم يعد الأساتذة في حقل الدراسات الخاصّة بالمرأة في أيّامنا هذه ملتزمين بالقدر عينه باستكشاف استراتيجياتٍ تربويةٍ جديدة. لكن على الرغم من هذا التحوّل، لا يزال عددٌ كبيرٌ من الطلاب يسعون لدخول صفوف الدراسات الخاصّة بالنسوية لأنّهم يؤمنون بأنّهم سيحصلون هناك، أكثر ممّا في أيّ مكانٍ آخر في الهيئة الأكاديمية، على فرصة اختبار التربية بوصفها ممارسةً للحرّية.

التعليم التقدّمي، الكلّياني، أي «التربية الملتزمة»، أكثر تَطلُّباً من التربية النقدية التقليدية أو من التربية النسوية. فهو يشدّد على الرفاه، خلافاً لتلكما الممارستَين التعليميتين. وهذا يعني وجوب أن ينخرط المعلّمون بنشاطٍ في سيرورة تحقيقٍ للذات تُسهم في رفاههم إذا كانوا يريدون أن يسمح تعليمهم بتمكين الطلاب. يؤكّد ثيك نات هان أنّ «ممارسة معلّمٍ شافٍ، معالِجٍ، أو أيّ اختصاصيٍّ تتمحور مهنته على مساعدة الغير ينبغي أن تتوجّه نحو نفسه أولاً. فعندما يكون المساعِد حزيناً، لا يستطيع أن يساعد أناساً كثيرين». نادراً ما يوصَف الأساتذة الجامعيون في الولايات المتّحدة بأنّهم معالِجون. والأندر أن نسمع أحداً يقترح وجود أيّ مسؤوليةٍ لدى المعلّمين في أن يكونوا أفراداً يحقّقون ذاتهم.

اطّلعتُ قبل انتسابي للجامعة على أعمال المثقّفين والأكاديميين عن طريق الأعمال الروائية وغير الروائية في القرن التاسع عشر، وكنتُ على يقينٍ من أنّ مهمّة من يختارون منّا هذه المهنة تتمثّل في السعي الكلّيانيّ لتحقيق الذات. لكنّ تجربة الدراسة الجامعية الفعلية هي التي زعزعت هذه الصورة. هناك أدركتُ مقدار سذاجتي بخصوص «المهنة». تعلّمتُ أنّ الجامعة ليست أبداً مكاناً لتحقيق الذات، بل يُنظر إليها بوصفها فردوساً للبارعين في تحصيل المعرفة من الكتب، لكنّهم قد لا يكونون مستعدّين للتفاعل الاجتماعي. لحسن الحظ، بدأتُ أثناء السنوات السابقة لتخرّجي في التمييز بين أداء المرء دورَه بوصفه مثقّفاً/ مُعلِّماً وبين دوره بوصفه عضواً في هيئةٍ أكاديمية.

كان صعباً أن أبقى مخلصةً للصورة التي تُظهِر المثقَّف بوصفه شخصاً يسعى ليكون كائناً كاملاً، لأنّني كنتُ سجينةَ سياقٍ يندر فيه التشديد على الرفاه الروحي، على الاعتناء بالروح. وبالفعل، بدا لي أنّ تشييء المعلّم في هياكل التربية البرجوازية ينكر مفاهيم الاكتمال ويُبقي على فكرة الانقسام بين الروح والجسد، وهي فكرةٌ تُروِّج للتجزئة وتدعمها.

تُعزِّز هذه التجزئة الفصل الثنائي بين العامّ والخاص، لأنّها تُشجّع المعلّمين والطلاب على عدم رؤية الصلة بين ممارسات الحياة، عادات الوجود، وبين أدوار الأساتذة. أُزيحت صورة المثقّف الساعي إلى الجمع بين الفكر والجسد والروح، لتحلّ محلّها مفاهيم تتضمّن أنّ كون المرء ذكيّاً يعني أنّه غير مستقرٍّ عاطفياً وأنّ أفضل ما لديه يظهر في عمله الأكاديمي. وعنى ذلك أنّ المسألة الوحيدة المهمّة في هويّتنا بوصفنا أساتذةً جامعيين هي أن تعمل عقولنا، أن نكون قادرين على أداء عملنا في قاعة الدراسة، بصرف النظر عمّا إذا كنّا مدمنين على المخدّرات أو كحوليين أو نمارس العنف بالضرب أو الانتهاك الجنسي. زُعِمَ بأنّ المرء يفرغ نفسه من ذاته لحظة اجتياز عتبة قاعة الدراسة، ويترك مكانها لعقلٍ موضوعيٍّ خالٍ من التجارب وضروب التحيّز. كان ثمّة خوفٌ من أن تتدخّل شروط تلك الذات في سيرورة التعليم. يستند جزءٌ من ترف وامتياز دور المعلّم/ الأستاذ اليوم إلى أنّ أحداً لا يتوقّع منك أيّ تحقيقٍ للذات. ليس هنالك ما يفاجئ في أنّ أكثر ما يهدّد الأساتذة غير المعنيّين بالرفاه الداخلي هو مطالبة الطلّاب لهم بتقديم تربية تحرّرية، سيروراتٍ تربوية ستساعدهم في نضالهم من أجل تحقيق الذات.

لقد كان سذاجةً منّي بالتأكيد أن أتخيّلَ أثناء دراستي الثانوية بأنّني سوف أتلقّى في الجامعة توجيهاً روحيّاً وفكريّاً من الكتّاب والمفكّرين والباحثين. ولو عثرتُ على ذلك، لعادل الأمر العثور على كنزٍ ثمين. لقد تعلّمتُ، مع الطلاب الآخرين، أن أعدّ نفسي محظوظةً إذا عثرتُ على أستاذٍ مثيرٍ للاهتمام، يتحدّث بأسلوبٍ مقنِع. لم يكن لدى معظم أساتذتي أدنى اهتمامٍ بتثقيفنا. لقد بدوا، أكثر من أيّ شيءٍ آخر، مفتونين بممارسة السلطة والسيطرة ضمن مملكتهم المصغّرة، قاعة الدراسة.

لا أقصد أنّهم لم يكن هنالك مستبدّون مقنِعون وخيّرون، لكن ما أتذكّره هو أنّه نادراً ـ نادراً بصورةٍ مطلقةٍ ومدهشة ـ ما كنّا نلتقي أساتذةً ملتزمين بعمقٍ بالممارسات التربوية التقدّمية. لقد أثار ذلك جزعي؛ لم يكن معظم أساتذتي أشخاصاً أرغب في الاحتذاء بأساليبهم في التدريس.

لقد جعلني التزامي بالتعليم أواصل حضور الدروس. لكنّني على الرغم من ذلك لم أمتثل ـ لم أكن طالبةً منفعلة، لا تطرح الأسئلة ـ ولذلك تعامل معي بعض الأساتذة باستخفاف. بدأتُ ببطءٍ أشعر بالغربة عن هذا النمط من التربية. وكان عثوري على فريري في وسط هذه الغربة حاسماً في استمرار دراستي في الجامعة. فقد سمح لي عمله بفهم محدودية نمط التربية التي كنت أتلقّاها من جانب، وأتاح لي من جانبٍ آخر اكتشاف استراتيجياتٍ بديلة للتعلّم والتعليم. كان من دواعي خيبة الأمل بصورةٍ خاصّة أن ألتقي بأساتذةٍ ذكورٍ بيض، يزعمون أنّهم يقتفون خطى فريري، في حين أنّ ممارساتهم التربوية كانت غارقةً في هياكل الهيمنة، وأنّهم كانوا يعيدون إنتاج الأساتذة المحافظين، حتى مع مقاربتهم للمواضيع من وجهة نظرٍ أكثر تقدّمية.

عندما التقيت باولو فريري لأوّل مرّة، كنتُ أتشوّق لرؤية إن كان أسلوبه في التعليم يجسّد الممارسات التربوية التي وصفها في أعماله بكلّ تلك الفصاحة. أثناء الوقت القصير الذي درستُ فيه على يديه، تأثّرتُ بعمقٍ بحضوره، بأسلوب تجسيد نظريته التربوية عبر طريقته في التعليم (لم يختبر جميع طلاب فريري تجربةً مشابهة). لقد أعادت لي تجربتي معه إيماني بالتربية التحررية. لم أشأ يوماً التخلّي عن اقتناعي بأنّ المرء يستطيع التعليم من دون تعزيز أنظمة الهيمنة القائمة. احتجتُ لمعرفة أنّ الأساتذة لم يكونوا مضطرّين لأن يكونوا طغاةً في قاعات الدراسة.

عندما رغبتُ في أن يكون التعليم مهنتي، آمنتُ بأنّ النجاح الشخصي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتحقيق الذات. وقد أوصلني سعيي المحموم لتحقيق ذاتي إلى التساؤل باستمرارٍ عن الانقسام بين العقل والجسد، وهو انقسامٌ لطالما قيل بأنّه بديهي. في كثيرٍ من الأحيان، كان معظم الأساتذة يناهضون بحزم، لا بل يزدرون، أيّ مقاربةٍ للتعليم تنبع من وجهة نظرٍ فلسفية تشدّد على الوحدة بين العقل والجسد والروح، بدلاً من التشديد على الانفصال بين هذه العناصر. وعلى مثال كثيرٍ من الطلاب الذين أُعلِّمهم الآن، كثيراً ما أخبرني أكاديميون من ذوي السطوة بأنّني مخطئةٌ في بحثي عن مثل هذا المنظور في الإطار الأكاديمي. عبر سنواتي الدراسية، شعرتُ بكربٍ داخليٍّ عميق. ولا تزال ذكرى هذا الألم تعود إليّ وأنا أستمع إلى الطلاب يعبّرون عن قلقهم من ألّا ينجحوا في المهن الأكاديمية في حال أرادوا أن يشعروا بالارتياح، في حال تجنّبوا السلوك الإشكالي أو الاندماج بأشكالٍ قسريةٍ من التراتبية. كثيراً ما يكون هؤلاء الطلّاب متخوّفين، مثلما كنتُ أنا نفسي، من ألّا توجد فضاءاتٌ في الجامعة يستطيعون فيها تأكيد رغبتهم في تحقيق الذات.

هذا التخوّف موجودٌ لأنّ أساتذةً كُثُراً يعارضون بشدّةٍ رؤية التربية التحرّرية التي تربط إرادة المعرفة بإرادة الصيرورة. عندما يكون الأساتذة بين أقرانهم، كثيراً ما يشتكي بعضهم بمرارةٍ من أنّ الطلاب يريدون أن تكون قاعات الدراسة «جلساتٍ علاجية ضمن مجموعة». وفي حين أنّه من غير المنطقي أبداً أن يتوقّع الطلاب من قاعات الدراسة أن تكون مكان جلساتٍ علاجية، فالأنسب لهم أن يأملوا بأن تُثريهم المعرفة التي يتلقّونها في هذا الإطار وتجعلهم أفضل.

حالياً، يبدو لي أنّ الطلاب الذين أَلتقي بهم أقلُّ يقيناً بكثيرٍ بخصوص مشروع تحقيق الذات ممّا كنّا عليه أنا وأقراني قبل عشرين عاماً. إذ يبدو لهم أنّ الأفعال غير موجّهة بخطوطٍ عريضةٍ أخلاقيةٍ واضحة. لكنّهم، على الرغم من يأسهم، مصرّون على وجوب أن تكون التربية تحرّرية. ما يريدونه من الأساتذة وما يطالبونهم به يفوق ما كان جيلي يريده منهم ويطالبهم به. ثمّة أوقاتٌ أدخل فيها إلى قاعات الدروس الممتلئة بطلابٍ يشعرون بجرحٍ عميقٍ في نفوسهم (كثيرٌ منهم يراجعون معالجين)، لكنّني لا أعتقد أنّهم يريدون منّي أنا أن أقوم بعلاجهم. ما يريدونه حقّاً هو تربيةٌ تشفي الروح غير العارفة، غير المستنيرة. ما يريدونه حقّاً هو معرفةٌ مفعمةٌ بالمعنى. وهُم على صوابٍ عندما يتوقّعون منّي ومن زملائي أن يتلازم تقديمنا المعلومات لهم مع معالجة الصلة بين ما يتعلّمونه وبين تجاربهم الحياتية عموماً.

هذه المطالبة من جانب الطلاب لا تعني أنّهم سيقبلون نصائحنا دائماً. هذه هي إحدى مسرّات التربية بوصفها ممارسةً للحرّية، لأنّها تسمح للطلاب بتحمّل المسؤولية عن خياراتهم. في مقالةHow to Run the Yard: Off-Line and into the Margins at Yale. نُشرت في صحيفة (Village Voice) كتبَ غاري دوفن، وهو أحد طلابي، عن العلاقة بيننا كأُستاذةٍ وطالِب، عن مسرّات العمل معي وكذلك عن التوتّرات التي ظهرت بيننا عندما بدأ يكرّس وقته للدفاع عن الأخويّة بدلاً من تحسين قدراته على الكتابة:

يعتقد المرء أنّ أكاديميين مثل غلوريا [اسمي الأوّل] لا يهتمّون إلا بالتباين، لكن ما تعلّمته منها كان في معظمه عن التماثل، عمّا هو مشترك بيني، أنا الرجل الأسود، وبين الملوّنين؛ بيني وبين النساء والمثليين والمثليات والفقراء وكلّ شخصٍ آخر نريد إدخاله ضمن هذه الفئة. اكتسبتُ بعضاً من هذا التعلّم بالقراءة لكنّ معظمه أتى من التمسّك بأهداب حياتها. عشتُ على هذا النحو لبعض الوقت، أراوح بين الأعلى (في الدروس) والأدنى (في الخارج). كانت غلوريا فردوساً آمناً… الانخراط في أخويةٍ بعيدٌ كلّ البعد عن دروسها، عن المطبخ الأصفر الذي اعتادت أن تتشارك فيه طعام الغداء مع الطلاب المحتاجين لمختلف أشكال الغذاء.

هذا هو غاري متحدّثاً عن المسرّة. ابتدأ التوتّر أثناء مناقشتنا لسبب رغبته في الانضمام إلى أخويةٍ واستخفافي بهذا القرار. يعلّق غاري: «[أعضاء الأخوية] مثّلوا رؤيةً للذكورة السوداء أثارت نفورها، رؤيةً يغلّف فيها العنف والشتيمة الروابطَ الاجتماعية والهويّة». ويكتب بصدد تخلّصه من تأثيري: «لكن كان عليها أيضاً أن تعلم بوجود حدودٍ حتّى لتأثيرها في حياتي، حدود الكتب والأساتذة».

في نهاية المطاف، شعرَ غاري بأنّ قراره بالانضمام إلى الأخوية لم يكن بنّاءً، وأنّني «علّمته الانفتاح» في حين كانت الأخوية تشجّع الولاء الحصري. وكان التبادل بيننا أثناء هذه التجربة وبعدها مثالاً عن التربية الملتزمة.

عبر التفكير النقدي ـ وهو عمليةٌ تَعلَّمها غاري بقراءة النظرية وتحليل النصوص بفعّالية ـ اختبرَ التربية بوصفها ممارسةً للحرّية. إليكم تعليقاته الختامية عنّي: «لم تذكر غلوريا الحادثة بأكملها إلا بعد انتهائها، وذلك لتخبرني ببساطةٍ أنّه توجد أنواعٌ كثيرةٌ من الخيارات، أنواعٌ كثيرةٌ من المنطق. كان بوسعي أن أمنح تلك المناسبات المعنى الذي أريده، طالما أنا صادق». اقتبستُ مقاطع طويلةً من نصّه هذا لأنّها شهادةٌ في التربية الملتزمة. وهي تعني أنّ صوتي ليس الأثر الوحيد لما يجري في قاعة الدراسة.

تُعلي التربية الملتزمة بالضرورة من شأن تعبير الطالب. في دراسةٍ لهاInterrupting the Calls for Student Voice in Liberatory Education: A Feminist Poststructuralist Perspective.، تستخدم ميمي أونر إطاراً مستعاراً من فوكو لتقترح أنّ الوسائل والاستخدامات التي تنظُم الاعتراف وتعاقب عليه تجلب إلى الذهن الممارسات المرتبطة بالمناهج الدراسية والتربوية، وهي ممارساتٌ تدعو الطلاب لِأن يكشفوا علناً معلوماتٍ عن حياتهم وثقافاتهم، بل لِأن يعترفوا بها، وذلك بحضور شخصياتٍ لها سطوةٌ من أمثال المعلّمين.

عندما تكون التربية هي ممارسة الحرّية، لا يكون الطلاب هم وحدهم من يُطالَبون بأن يشاركوا، بأن يعترفوا. فالتربية الملتزمة لا تسعى إلى تمكين الطلاب فحسب. أيُّ قاعة دراسةٍ تستخدم نموذجاً كلّيانياً في التعلّم سوف تكون أيضاً مكاناً ينضج فيه الأساتذة، في سيرورة تمكين. لا يمكن أن يحدث هذا التمكين إذا رفضنا أن نكون ضعفاء ونحن نشجّع الطلاب على خوض المخاطر. والأساتذة الذين يتوقّعون من الطلاب أن يشاركوا سردياتٍ من التجربة الشخصية في حين أنّهم يرفضون مشاركة مثل هذه السرديات يمارسون السلطة بطريقةٍ يمكن أن تكون قسرية. في دروسي، لا أتوقّعُ من الطلاب أن يخاطروا بما لا يمكن أن أخاطر أنا نفسي به، أن يشاركوا ما لا يمكن أن أشاركه أنا نفسي. عندما يجلب الأساتذة إلى نقاشات قاعة الدراسة سردياتٍ من تجاربهم الشخصية، فإنّ ذلك يُلغي احتمال أن نعمل كأنّنا محقّقون يعرفون كلّ شيء، يكتفون بالاستجواب. إذا بادر الأساتذة إلى المخاطرة أوّلاً فربطوا سردياتٍ من تجربتهم الشخصية بالنقاشات الأكاديمية بحيث يُظهِرون كيف تستطيع التجربة أن تلقي الضوء على فهمنا للمادّة الأكاديمية وتعزّزها، فإنّ النتيجة غالباً ما تكون إيجابية. لكن يجب على معظم الأساتذة أن يتدرّبوا على أن يكونوا ضعفاء في قاعة الدراسة، بحيث يكونون حاضرين بالكامل، بفكرهم وجسدهم وروحهم.

في غالب الأحيان، يكون الأساتذة التقدّميون العاملون على تحويل المنهاج الدراسي بحيث لا يعكس ضروب التحيّز أو يعزّز نظم الهيمنة هم أنفسهم الأفراد الراغبون في خوض المخاطر الذي تتطلّبه التربية الملتزمة وفي أن يجعلوا ممارساتهم التعليمية موقعاً للمقاومة. في دراسةٍ لهاOn Race and Voice: Challenges for Liberation Education in the 1990s.، تكتب شاندرا موهانتي أنّ المقاومة تكمن في المواجهة بين وعي الذات والخطابات والتصوّرات المهيمنة المعيارية، وكذلك في الخلق الفعّال للفضاءات المعارضة التحليلية والثقافية. المقاومة العشوائية والمعزولة ليست بوضوحٍ فعّالةً بقدر فعّالية المقاومة المستخدمة عبر الممارسات المسيسة الشاملة للتعليم والتعلّم. كما أنّ كشف المعرفة المقهورة والمطالبة بها طريقةٌ لإرساء المطالبات بالقصص البديلة. لكنّ هذه الضروب من المعرفة تحتاج إلى أن تُفهَم وتُعرَّف تربوياً، بوصفها مسائل تتعلّق بالاستراتيجية والممارسة وكذلك بوصفها مسائل فكرية، وذلك بهدف تحويل المؤسسات التربوية تحويلاً جذرياً.

الأساتذة الذين يتصدّون لتحدّي تحقيق الذات هم أكثر قدرةً على خلق ممارساتٍ تربوية تجعل الطلاب يلتزمون، بحيث يقدّمون لهم سبلاً للمعرفة تُعزِّز قدرتهم على العيش بطريقةٍ أكثر كمالاً وعمقاً.