«المسرح فن العابر» كذلك تصف أمل عمران هذا الفن بعد أن قضت فيه حياتها، وعمّرت على خشبته تجربتها المسرحية الطويلة. ترفض عمران وسمها بنجمة المسرح السوري، إلا أن هذا الوسم لا خيار لها فيه، إذ كُرست عبر أعمالها المختلفة وأدوارها المتنوعة كعلامة مسرحية فارقة، ستبقى حاضرة في تاريخ هذا المسرح برفقة ممثلات وممثلين معدودين آثروا الأداء الحي على باقي فنون الفرجة. عن المسرح والتمثيل ومدارس الأداء، وعن سوريا وأوروبا والحكاية السورية كان للجمهورية هذا اللقاء مع أمل عمران في مختبرها المسرحي الذي لا يُحدد بمكان أو مسرح.
أوروبا، البدايات والنهايات
في هذا المحور سنناقش حضورك في أوروبا، سواء في البدايات في براغ، أو لاحقاً في عروض مسرحية مختلفة، وصولا إلى الآن واستقرارك في ألمانيا، وعملك المسرحي هناك. لديك مرحلتان رئيسيتان في أوروبا، الأولى في التسعينات في براغ، والثانية بعد الثورة السورية ، ما الفرق بينهما؟
كثيرة هي الاختلافات، أولها العمر، وثانيها التجربة، واختلاف سبب الخروج بالطبع. في بداياتي تخرجت وسافرت إلى أميركا، بعد أن حصلت على منحة خاصة بنساء العالم الثالث. في تلك الأيام، نهاية الثمانينات، لم أكن أتوقع أن أحصل على فيزا إلى أميركا، حتى أن مقابلتي مع موظف السفارة كانت طريفة، وحصلت على فيزا لثلاثة أشهر. كانت مفاجأتي كبيرة عند الوصول إلى أميركا، لم تكن المنحة عند توقعاتي، شعرت أنه لا قيمة لسنوات دراستي الأربع في سورية، بالإضافة إلى مشاكل اللغة وتعلمها. لذلك وجدتني أترك المنحة وأذهب إلى العمل في أعمال مختلفة لأتمكن من العيش والاستمرار. ومن وقتها لم يعد الفن مصدر رزقي الوحيد. يمكنني أن أعيش من أي مهنة أخرى.
عدتِ إلى سوريا وقتها؟
أبداً، بل بقيت في أميركا سنتين بعد ذلك. بقيت في عملي الحر كبائعة في محل حلوى، وابتعدت قليلاً عن المسرح إلى أن شاركت عام 1992 في دورة للرقص، بالصدفة أيضاً. كنت حينها أود المشاركة بورشة مع المخرج المسرحي الشهير غروتسكي لكنني تفاجأت أن صاحب «المسرح الفقير» يريد ثلاثين ألف دولار ثمن الدورة! كان ذلك مبلغاً فاحشاً حينها، وما زال. على أي حال، التقيت حينها براقصة أفريقية، وشاركت معها في ورشة رقص استمتعت فيها واستفدت كثيراً.
هل خذلتك مطالب غروتسكي المادية، لاسيما أنه كان واحدا من المخرجين الجذابين للمسرحيين الجدد؟ بمعنى آخر، هل شعرت بالتباين بين مبادئه النظرية المسرحية وممارسته العملية؟
صراحة، شعرت بهذا التباين مع كل الأسماء الكبيرة والرنانة في عالم المسرح. أما غروتسكي فقد تكلمت معه حينها بشكل شخصي، ورفضني. ولا أقصد هنا الإساءة الشخصية لتلك الأسماء، لكن فعلاً لماذا كل ذلك الخطاب والتنظير تجاه الإنسان والإنسانية، وفي الجانب العملي الحياتي تراهم براغماتيين. مشكلتي هي مع الادعاء، الكذب في هذا المجتمع الاستهلاكي الكبير. لذلك تجدني أفضّل العمل مع مجموعات مسرحية صغيرة ودون مردود مادي كبير. خاصة وأنه لا تعنيني النتيجة في العمل المسرحي بقدر ما تعنيني العملية المسرحية ككل.
لكن حتى لو عملنا داخل مجموعات مسرحية صغيرة، ومستقلة قدر الإمكان، فنحن سنبقى في ظل النظام والمنظومة البيروقراطية في بلد كألمانيا؟
حديث النظام طويل ومعقد. بالطبع، نظام الإدارة هنا قاسٍ. في سوريا لم نكن نشعر به، لأنه لم يكن لدينا أي نظام بمعنى الـ(System)، لا نظام اشتراكي ولا نظام رأسمالي. فوضى عارمة. كان هناك عصابة حاكمة تهوى القبح وتسعى إليه. لم تكن معنية ببناء أي نظام إداري، بقدر ما كانت معنية بالتخريب وتقبيح المدن الجميلة كدمشق وحلب وغيرها. أما هنا فهناك نظام واضح، قاسٍ نعم، لكنه واضح إلى حدٍ ما.
هل لنا أن نتكلم عن أمثلة من عملك هنا في أوروبا لإيضاح ذلك؟
على سبيل المثال، دخلت أوروبا مرتين بعد قيام الثورة السورية، الأولى عام 2012 حينما أتينا إلى ألمانيا لتقديم مسرحية حدث ذلك غداً من إخراج أسامة غنم. وكان التوجه حينها إلى سماع الحكاية السورية، والاهتمام بتفاصيلها ووقائعها. كان العرض حينها بمسرح الرور، وهو مسرح تمكن خلال سنوات سابقة من تقديم نفسه كمنبر لمسرحيين متنوعين ومختلفين ومن جنسيات مختلفة. في المسرح ذاته، أقمنا عام 2017عبر تجمع مقلوبة شراكة فنية مع المسرح، لم يتدخل المسرح بخياراتنا الفنية أو مقولات أعمالنا، لكن خلقت هذه الشراكة أسئلة إدارية معقدة جداً.
لماذا اخترت أوروبا كمكان للاستقرار مرة أخرى؟
لم يكن خياري أوروبا، وجدت نفسي عالقة فيها جراء تعقيدات إدارية بعد أن أتينا إلى هنا بعمل مسرحي، وحاولت أن أتأقلم مع هذا الخيار الذي فُرض علي، لا بل حولته إلى جذوة للانطلاق في كتابة عرض إجراء شكلي، الذي أعدتُ فيه النظر بكل تجربتي، وبقيمة أعمالي التي قدمتها، وبمكاني على خارطة العالم والإنسانية.
سوريا، وما حدث هناك غداً
سنناقش هنا حضورك الفني في سوريا، أمثلة مختلفة، وحديث مفتوح عن الحالة السورية وعن الحضور النسوي السوري. لكن بداية أود الانطلاق من مسرحية حدث ذلك غداً التي قدمت في دمشق عام 2010. حينها أديتِ شخصية رشا وقدمت من خلالها دور امرأة أربعينية صامتة تعمل في سيريتل، تقوم بأفعال يومية وتنتحر في نهايتها، في دلالة على أفول الحال سورياً قبيل الثورة والانفجار الكبير. فيما لو تخيلنا أن تلك الشخصية لم تنتحر ماذا كان ليحصل معها بعد كل ما جرى في سوريا؟ أين تتخيلينها اليوم كامرأة سورية؟
أتخيلها وقد انتهى عقدها، سيريتل أقالتها، وهي لا تملك شيئاً، لا تدفئة ولا غذاء، وآلامها أصبحت مضاعفة، وربما قد عادت إلى قريتها. ولا تسأل نفسها الأسئلة الكبرى، بل أنها بالكاد تستطيع أن تكمل حياتها.
تتعاطفين معها؟
مطلقاً، لست شخصاً متعاطفاً، لا أحب الضحايا وسردياتهم. وأكره لعبة الضحية والمظلومية. الثورة خيار، لا تحتاج إلى تعاطف، تحتاج إلى قوة. لم أتعاطف مع نفسي حينما نزلت إلى الشارع. ذاك كان خياري، وأحمل مسؤوليته. بالإضافة إلى أن شعور الشفقة الناتج عن التعاطف هو شعور دنيء. ويمكن للمرء أن يستثمر فيه استثماراً انتهازياً ووصولياً. خذ مثالا وضع اللاجئ هنا في أوروبا، هناك لاجئ قابل للاستثمار وهناك لاجئ لا يُستثمر. وأنا، بهذه الطريقة الأوروبية الكولونيالية، أعتبر استثماراً فاشلاً.
يأخذنا الحديث عن رشا إلى النسوية السورية. لا يمكنني أن أسألك اليوم عن رأيك بالنسوية السورية، لأنك جزء منها، ولأن تجربتك كامرأة سورية هي تجربة نسوية، فعلك الفني هو فعل نسوي بامتياز. لكن أود سماع قولك في هذا الحديث وفي مصطلح النسوية السورية وحراكها النظري/العملي؟
لا أحب تسمية نسوية، ولدي عليها تعليقات كثيرة. كانت السبعينات هي بداية وعي النفسي لذاتي، وعلاقتي مع هذا النوع الاجتماعي. وحينها لم يكن هناك لغة تحرش، كان المجتمع أكثر أمناً، كنا نلعب في الشارع ذكوراً وبنات. ولم أتعرض حينها لكثير من الممنوعات والمشكلات التي تتعرض لها النساء اليوم. في الثمانينيات اختلف الحال، بدأ الخوف يظهر بشكل أكبر. الخوف من الكلام، الخوف من الرأي. لكن لم يكن هناك خوفاً من الاختلاط. ولم يكن الموضوع الجنسي وارداً أو يشكل خطراً، أو منعاً من طرف الأب والأم. وربما ذلك ساهم في جعل علاقتي مع جسدي حرة قبل أن أخوض تجربة المعهد العالي للفنون المسرحية. لم يكن لدي أسئلة عن جسدي، ولم يكن لدي تجربة حادة قبل الدراسة. على العكس، التجارب الحادة التي مررت بها كامرأة كانت بعد دخولي إلى المعهد.
هل هناك تجربة عالقة في الذاكرة من تلك الأيام؟
طبعا، أذكر أحد طلاب صفي في المعهد – وهو من مخرجي التلفزيون المشهورين اليوم – كان قد حاول التحرش بي بحجة التمثيل. كان ردي عنيفاً جداً، خرجَ الشارعُ الذي تربيت به. لم أخف أبداً، على العكس، فضحته، وكان حل الأستاذ المشرف وقتها أن نتدرب أمامه. أعاد الطالب الكرة، وعاد لتهديدي ونحن على خشبة المسرح، في أدوارنا، وما كان مني إلا أن صفعته جراء ذلك، صفعته على الخشبة، لم يكن لدي خيار إلا العنف مع هذا النوع من التحرش.
هل ذكرت هذه الحادثة قبلاً؟ أو أديتها في مشهد؟
للعلن لا، لكن دونتها في يومياتي، لا يمر يوم دون أن أكتب. أكتب في يومياتي كل شيء، منذ تلك الأيام إلى اليوم. وبالنسبة لي، كل تلك التجارب، والتي كانت غنية جداً في فترة دراستي، هي التي ساهمت في بناء كينونتي، وتعمير تجربتي. لكني ذكرت حادثة تحرش أخرى، كانت من قبل مخرج مسرحي مشهور، وكنت مازلت طالبة، لكن لاحقا أعدت رويها أمامه كممثلة محترفة، وشعرت حينها بقوة عظيمة.
أكانت مثل هذه التجارب سبباً في سفرك إلى أميركا بعيد التخرج بدلاً من الدخول في الوسط الفني السوري؟
ربما، لأنني بعد التخرج اكتشفت أنني غير قادرة على الدخول في وسط كهذا، وكنت صغيرة السن حينها، وغير قادرة على المواجهة. زد على ذلك، الخوف الأمني والسياسي في بلاد لا يمكنك فيها التعبير عن رأيك بحرية. لذلك وجدتني آثرت السفر، واكتشاف العالم. لأنه لا يمكنك أن تقدم فناً وأنت مليء بالخوف والمنع.
هل وجدت الحرية في رحلتك تلك؟ سواء إلى أميركا أو إلى براغ لاحقاً في التسعينات؟
يمكنني أن أصف نفسي بأني إنسان حر. وللدقة أكثر، إنسان في طريقه للتحرر على نحوٍ دائم. الحرية سؤال دائم، وبدون حرية لا يمكنك أن تتقدم خطوة في سلم الإنسانية. حريتك تكمن في قدرتك على احترام نفسك وتثمين تجربتك، وإذا لم تكن قادراً على احترام نفسك، فمن المستحيل أن تحترم الآخرين، وإن كنت عاجزاً عن احترام جسدك، ومتطلباته، فأنت عاجز عن احترام جسد الآخر. سواء في الفن أو بغيره.
يعيدني ذلك للحديث عن المرأة السورية ووضعها اليوم، في الوقت الذي نجد فيه تصاعد للخطاب الأدبي والجهد التنظيري للحديث النسوي السوري والعربي، نجد في ذات الوقت هناك جمعية تعدد الزوجات في إدلب! الحديث طويل ومعقد، فقط أريد أن أعرف منك ما رأيك في هذا الخطاب النظري ومدى ارتباطه بوضع المرأة على الأرض؟
أنا أنفر من اللائي يكذبن على أنفسهن. مثلا هناك الكثير من النساء اللواتي تعرفت إليهن معنفات ويعملن في الشأن النسوي! لا يمكنهن أخذ موقف حقيقي من هذا التعنيف رغم كل الغلاف النظري النسوي الذي يتلفحن به. كيف لي أن أقبل هذا النوع! وأصدق خطابهن التحرري في الوقت الذي لا يحترمها صديقها أو زوجها. أعرف كاتبات وممثلات «نسويات» لكنهن يخشين الحديث عن الجسد والمعرفة الجنسية. كيف يمكن ذلك؟ معرفة الجسد وعرفان حوائجه هي اللبنة الأساسية للحديث عن تحرر المرأة. لا يمكن أن ترتبط العفة بالتحرر النسوي! لا يمكنكِ أن تكوني عفيفة ونسوية في الآن ذاته. هذا يدفعني إلى المطالبة بإعادة النظر بالنسوية ومن يمثل النسوية في هذه الأيام. وبذات السياق، سياق المعرفة بالجسد، هناك نساء تطرفن في موضوعة الجسد، حتى بتن لا يختلفن عن الرجال في تحرشهن ببنات نوعهن. وهن في ذات الوقت نسويات! وبالطبع يبقى هناك نساء حرات، ويدركن الحرية ــ حريتهن بمعناها الأصيل.
أداء وتلقي
هذا المحور خاص بمستويات الأداء المختلفة التي قدمتها على خشبة المسرح، منها ما هو تمثيل وتجسيد مناهج تمثيلية مختلفة، ومنها ما هو أقرب إلى الأداء اليومي. كذلك سنتطرق فيه إلى الإخراج، لاسيما أنك كنت خلال تجربتك الطويلة على علاقة مع مخرجين مختلفين في أماكن ومسارح مختلفة من العالم. من بين كل هذه الأنواع المختلفة من الأداء، ما هو الأداء الذي تشعرين أنه النوع الأقرب لإنعاش لروحك وجسدك وكينونتك؟
لا أفضّل الأعمال الجاهزة مسبقاً، حيث المخرج يعرف كل شيء ويريد فقط تنفيذ فكرته بدون أي مساحة لباقي فريق العمل. أنا شخص مشارك بالعمل الإبداعي ولست تابعاً. إذا لم أكن شريكاً في العمل، ولدي صوت ورأي يسمع ويحترم، لا أعمل مطلقاً. في السمع يغتني الإنسان. والشخص الذكي هو الذي يتعامل مع جميع البشر بقيمة. أذكر مثلا أنه حينما عملت مع سليمان البسام شعرت بالغنى لأنه كان منفتحا على كل تجاربي في الأداء وأحلامي وأفكاري، وذلك ما جعلنا نبني شبكة جمالية وبحثاً مسرحياً كبيراً نتبادل فيه التجارب والخبرات، في سبيل الوصول إلى عرض مسرحي محكم القول والفعل والشكل. باختصار، العلاقة مع المخرج مسألة حساسة، عليه دائما أن يسعى إلى إعطاء الممثل مساحته، ووقته، ليستفيد منه أكثر، أما دون ذلك، فهو تخريب، وأحيانا أشعر أن هناك بعض المخرجين الذين يكرهون الممثل، ولا يفهمون مهنة التمثيل ومهام الممثل وكينونته. أولئك يفضل أن يقوموا بأعمالهم، وأفكارهم، لوحدهم وحسب. ولا يمكنهم أن يكونوا في دور إخراج عمل مسرحي جماعي.
عبر الرهان الطويل مع المسرح، هل تشعرين بعد تجربتك الطويلة، أنك كنت قادرة على قول ما تريدين قوله عن طريق المسرح؟
نعم، إلى حدٍ ما، مثلا في إجراء شكلي تمكنت من قول الكثير مما أود قوله. سرد تاريخ ممثلة سورية بالربط مع السياق السياسي والاجتماعي الذي شكل وعي هذه الممثلة، دخلت فيه إلى مساحة جديدة بالعلاقة مع التمثيل.
ما هي هذه المسافة؟ وما هي أسئلة التمثيل الجديدة التي طرحتها على نفسك، لاسيما أن عمل الممثل دائم السؤال.
كان من حسن حظي أني بدأت في المدرسة الروسية للأداء. ومنها انطلقت إلى باقي مناهج ومدارس التمثيل. الرابط الأساسي بين كل هذه المدارس هو قدرة الممثل على عدم التمثيل، وتلك هي المسألة. هي أن تعيش الآن وهنا. وهو سؤال بحثي لا ينتهي. تتطور الأدوات لكن السؤال لا ينتهي، لا بل أن الأسئلة تتعاظم مع تقدم التجربة وتطورها.
إجراء شكلي. هد حدود الذاتي والفني
قدمت في عرض إجراء شكلي قصتك، كما هي، أو كما أردتِ أن تكون. بعبارة أخرى، قصة عن ممثلة سورية وممثل سوري. سنقرأ في هذا المحور عرضك الأخير إجراء شكلي ونسأل فيه عن حدود الذاتي والفني والعلاقة بينهما.
لم نتكلم تماماً عن أمل عمران في تلك التجربة، في بداية العمل على المشروع بدأنا بالبحث عن ممثلة سورية تخرجت في الثمانينات وبدأت عمل في المسرح واستمرت إلى الآن، وللأمانة كان ذلك بالغ الصعوبة، وكن نادرات جداً، لأن هناك من توقفن في التسعينات، ومنهن من توقف في الألفينات.
هل هذا الانقطاع متعلق بالظرف السياسي لسورية؟
ليس السبب السياسي وحده، بل المسرح نفسه قد يكون السبب. بمعنى الاستمرارية بالعمل المسرحي ليست بسهلة على العاملين فيه، وعلى الممثل تحديدا. المسرح مثل الرياضة، إن لم تكن باحتكاك دائم مع جسدك وعقلك وذاكرتك فأنت ستخسر الرهان مع المسرح. إذا توقفت لسنة أو سنتين ستفقدها. بالعودة إلى إجراء شكلي، هو قصة ممثلة سورية، اسمها أمل عمران. في البداية كان اسمها شهرزاد، لأنها كثيرة الكلام، لاحقاً بالعمل الإخراجي، تقاربت المسافة بين الممثلة وبين أمل عمران. وبالنسبة لي، أنا حكّاءة، وليس لدي أسرار، سري يكمن بي، غير ذلك فهو قابل للكلام، وأي حدث صار معي هو هبة من الحياة، وهو فكرة يمكن تحويلها إلى نص فعرض مسرحي.
للتحديد أكثر، ما هو سؤال إجراء شكلي الأساسي؟
أمل: هو الوثيقة، والسؤال هو: هل يمكن أن أكونَ ــ أنا ــ وثيقة أم لا؟ هل يمكنني أن أدخل هذا الرهان؟ وذلك ما كان. لا تتكلم المسرحية عن أمل عمران فقط، بل عن نظام سياسي ومنظومة اجتماعية ونظام عسكري، عن سوريا الثمانينات والتسعينات. هي ترصد مرحلة بناء السجون والخوف والاستبداد، وكيف تمكنت هذه الممثلة من عيش تجربتها الفنية والشخصية في هذا المناخ السياسي.
وكيف تم العمل على ربط الفردي والشخصي بالحيز العام؟
بداية كان العمل مع الكاتب، مضر الحجي، جلسات متتالية وبوح كبير ونبش في الذاكرة الفردية والعامة. بعد ذلك تم العمل مع المخرج وائل علي على نقل هذه التجربة بأبسط ما يكون، بدون تفسيرها وتحميلها أبعاداً مختلفة. بدأنا بمجموعة تمارين في سبيل الوصول إلى صيغة النص النهائي.
لعبت شخصية الضابط دوراً في تحفيز الروي في العرض، من أين جاءت تلك الشخصية؟
من ذات المكان الذي انطلقتُ منه، الشخصي وربطه بالسياسي، انطلق مؤيد رومية في رسم شخصية الممثل الذي يلعب دور ضابط. مثَّلَ في تلك الشخصية أسئلة الثورة والهزيمة والتيه. وكان الرهان أنه يحفز، عبر التحقيق، ذاكرة الممثلة، وذاكرة الممثل الضابط أيضاً. كنا نحفر سوياً، كل تلك الأسئلة المتعلقة بممثلين وجدا نفسيهما لاجئين في أوروبا وهما لا يريدان ذلك.
إذاً، هي أسئلة أي ممثلين وجدا نفسيهما في هذا الوضع، وليس سؤال أمل عمران ومؤيد رومية؟
بالطبع، هو ليس سؤالنا فقط، بل هو سؤال أي ممثل تورط في مسألة اللجوء، وراهن بكل مسيرته الفنية بعدما وجد نفسه وحيدا في بلاد غريبة. لا بل هو سؤال كل لاجئ وجد نفسه وحيدا، وسأل نفسه الأسئلة الأولى، ماذا سنفعل الآن ومن أين نبدأ في حياتنا الجديدة.
وقفة أخيرة مع إجراء شكلي. توفي والدك قبل أيام معدودة من أحد العروض، وفي العرض هناك وقفة طويلة مع الأب، مفهوماً وعلاقة، كيف كان تأثير ذلك على الأداء؟ وما هي آلياتك كممثلة محترفة للفصل، أو للوصل ربما؟
عند علمي بخبر وفاة والدي في سورية، شعرت بأن علاقتي مع الوطن انتهت، وقطعت صلة الوصل الأخيرة. بموت الأب مات الوطن. بعبارة أخرى، شعرت بأنهما مفهوم واحد. الأب والوطن. في اللاتينية على سبيل المثال، تقع الكلمتان في الجذر نفسه، وهناك أبحاث حول ارتباط المفهومين. وباختصار، تلك كانت ردة فعلي الشعورية، أنني فقدت الاثنين سوياً. بيتي هو وطني، عائلتي هي وطني، والحرية التي كنت أعيشها في ذلك البيت لم ألمسها لا في المعهد ولا في المسرح ولا في غيره. بداية ظن الجميع أنه لا يمكنني الحديث عن والدي، لكن للعلم، لم يكن من أتحدث عنه والدي بالمعنى الحرفي للكلمة، كان بمثابة الشخصية التي تحمل معها أسئلتها وهواجسها، وأسئلتي وهواجسي، وذلك ما خرج للجمهور، مناقشة هذه الأسئلة ومحاولة البحث عن إجابات لها.
عودة دانتون. الدراماتورج والعملية المسرحية
انطلاقاً من عرض عودة دانتون، سنناقش سؤال العملية المسرحية السورية في أوروبا اليوم، ما هي أسئلتها وهواجسها، سواء على مستوى الأداء كممثلة، أو على مستوى الشخصية التي لعبتها في العمل أي الدراماتورج.
منذ النقاشات الأولى لشخصية رهف الدراماتورج، بدأت بالبحث عن الدراماتورجيا، واستشفيت، من تجارب أصدقائي الدراماتورجيين، الألمان أو السوريين، أن الدراماتورجيا هي الأساس في العمل المسرحي، قد يجوز أن يكون الممثل دراماتورج والمخرج دراماتورج، المهم أن تكون العملية الدراماتورجية حاضرة في العمل. الدراماتورج معني بأسئلة الآن وهنا، لماذا بوشنر اليوم؟ وما هي الأسئلة المترتبة على هذا التقديم؟ هذا البحث الكبير الذي يقوده الدراماتورج هو روح العملية الفنية المسرحية. وهذا كان واحدا من أسئلة عودة دانتون، من هو الدراماتورج وما هو موقعه في العملية المسرحية السورية.
وهل أجاب العرض عنه؟ أو هل أجابت شخصية رهف عن ذلك؟
رهف هي القوة الناعمة، هي الصوت المكتوم الذي يفجر الحقائق أخيراً. هي امرأة أولاً؛ محاطة بحالة ذكورية فجة، ودرامتورج ثانياً، مع مُخرج لا يفقه دور الدرامتورج. لكن بالنسبة لي، إلى الآن، ما زال دور الدرامتورج رهف سؤال، ومع كل عرض جديد سيتطور هذا السؤال، ولا أظن أني وصلت إلى حل بعد ولم ارتكن إلى جواب.
قدمتم في عودة دانتون مثالا على البروفا المسرحية السورية في أوروبا، هل هذا ما يحصل فعلا داخل المطبخ المسرحي السوري؟
كل شخصيات عودة دانتون مستوحاة من نماذج مسرحية سورية. لا يدعي العرض أن هذه البروفا المسرحية الوحيدة، لا بل هذا نوع من أنواع البروفات والأعمال المسرحية التي يكون فيها المخرج متعنتا لآرائه ولا يريد من باقي أعضاء العمل إلا التنفيذ. هنا تظهر أسئلة الدرامتورجيا والتمثيل، وهنا تظهر أسئلة الحرية في العمل المسرحي. أليست المسرحية – مسرحية بوشنر – عن الثورة والحرية، أين هي في العمل مع مخرج من شاكلة إياس؟ وكيف تتجلى هذه الأسئلة داخل العملية المسرحية السورية من هذا النوع.
بذات الوقت، كنتم كفريق عمل مسرحية عودة دانتون جزءاً من بروفا مسرحية سورية في أوروبا. هل كشف موت دانتون عن نفسه، أي عن ما حصل في بروفات العرض المسرحي الحقيقي؟
لا، لم يكشف بعد، ولو أن المشهد الأخير في العرض هو جزء من هذا الكشف، حيث من يتكلم هي أمل عمران نفسها. لكن العمل ككل ما زال قيد التطوير، وأظنه لم ينتهِ بعد.
كأمل عمران، هل مررت بتجارب كثيرة مع مخرجين سوريين على شاكلة إياس؟
لا، قليلون من كانوا على شاكلة إياس، كانت أغلب تجاربي مع مخرجين محترفين، ومن كانوا على شاكلة إياس، المخرجون ذوي الأنا المتضخمة، لم أكرر تجاربي معهم. كنت دائما أستمتع بالعمل مع المخرجين الذين يستفزونني، يدفعوني تجاه البحث والمعرفة والأسئلة، ونحو تطوير نفسي كإنسان وكممثل. أنا أنمو على خشبة المسرح، وأتطور مع كل مشهد أقدمه.
لدينا في سوريا عشرات النجمات في التلفزيون بينما في المسرح لا يتجاوز عددهن أصابع اليد الواحدة، ومنهن، أمل عمران.
لست نجمة ولا أريد أن أكون.
هل كان ذلك سببا لابتعادك عن التلفزيون؟ حيث النجومية أسهل؟
نجومية التلفزيون زائلة، وقبل ذلك، التلفزيون ليس فناً كما هو المسرح أو السينما. التلفزيون هوعمل وحسب، يحتاج إلى جهد بالطبع، لكنه يبقى في إطار الترفيه إن صح التعبير.
جرعة زائدة من الألم واللذة، من داخل العمل المسرحي الأوروبي
كان عرض جرعة زائدة من الألم واللذة، واحداً من العروض التي عملت بها مؤخراً مع مخرج أوروبي، وفريق عمل أوروبي، وداخل عملية مسرحية أوروبية. سنناقش فيه دورك ، وملاحظاتك على العمل المسرحي الأوروبي المعاصر.
كانت مسرحية جرعة زائدة تجربة ممتعة ومريحة، رغم مدة العمل الطويل التي استمرت عاما كاملاً. كانت الأسئلة فيه شخصية للغاية، من أنت؟ وما هو مونولوجك الخاص؟ وهذا واحد من ثيمات العمل المسرحي الأوروبي المعاصر، الدخول إلى الحيز الشخصي والبناء من الداخل. وتلك كانت أسئلة جرعة زائدة. كانت موضوعتي هي الألم، الألم الجسدي. وسؤال الألم عند الممثلة وكيف يمكن إيصال الألم الخاص، وهل يمكن إيصاله أو معرفته من غير صاحبته. ذات التوجه الشخصي كان في العرض الأوروبي الذي عملت به العام الماضي بعنوان كاسيا، وكان السؤال فيه هو: كيف أُرى كممثلة؟
هل هو تيار أوروبي ينبش بالشخصي للوصول إلى العام؟ أليس هناك خط رفيع بين استثارة التعاطف وبين روي الحكاية؟ كيف تضبطين هذا الخط؟ وعدم تحويل الشخصي إلى موضوعة عامة تثير التعاطف.
أظنه كما قلت، هي شعرة، بين أن تُري الجمهور، وبين أن تعيش. عندما تكون مهموما في فرجة الفعل تكون تستجدي التعاطف، أما حينما تعيش اللحظة وتتعايش مع الفعل، وتفعله، ستُرى لكن ليس من منطق استعطافي، من منطق تلقي حيادي. لست مضطرة أن أريك مقدراتي أو آلامي. أنا أعيش دوري وأنت سترى حتما، سترى وتفهم ولا تقع في فخ عاطفة أو شفقة، لأن المؤدي لم يسع إليها، بل عاش شخصيته وعايش فعله.
بالعودة للشخصي، هل كتب أحدٌ ما شخصية لأمل عمران؟
لا لم أصل يوما إلى هذا النوع، أن تكتب شخصية مسرحية لي، كان هناك تجارب لكنها لم تكتمل، وابتعدت الشخصية مع الكتابة إلى مكان قصي عني. حتى في إجراء شكلي، حيث تبدو الشخصية متقاربة جداً، إلا أنها ذهبت لمكان بعيد عني لاحقاً.
قولٌ أخير؟
سألتني بأكثر من محور ومجال، تحدثنا عن المرأة والسياسة والفن والمسرح والمجتمع. بالنسبة لي أنا لا أفصل المواضيع عن بعضها. لا أفرّق بين تطور النسوية وتطور المسرح والأسئلة الاجتماعية، كلها في مكان واحد، أن يكون الإنسان حراً، حراً بسياقه، وحقيقياً في المرحلة التي هو فيها. دون ذلك يبقى كلاماً نظرياً. حياتي ليست منفصلة عن شغلي، كل ما أعيشه داخل بعملي ومتداخل في حياتي، كل فعل، كل حركة، كل ألم، يومي أو مسرحي، هو فعلٌ أستفيد منه في عملي التمثيلي. وكل حكاية أسمعها، تُضيف لي شيئاً وتزيد من خبرتي وتجربتي.