تعتبر سيرة أيوب تراثاً عالمياً عابراً لكل الحواجز التاريخية، ليس فقط لارتباطها بالديانات الإبراهيمية الثلاث، وإنما لمركزية الموضوع الذي تتناوله في الفكر الإنساني قديماً وحديثاً: مسألة «عدالة الإله» أو بتعبير أدق «تبرير الإله». شغلت هذه المسألة كثيراً من الفلاسفة والمفكرين، منذ إبيقور ومروراً بالقديس أوغسطين وتوما الإكويني والفلاسفة الألمان لايبنتس – أول من صاغ مصطلح «ثيوديسيا» الدالّ على المعضلة – وكانط وهيغل، وغيرهم الكثيرين حتى يومنا هذا Theodizee – von Gott reden angesichts des Leids: in Religion, Unterrichtsmaterialien Sek I. Nr 3/2007. Seite 32. Bergmoser Höller Verlag. ولعل الفكر البشري سيظل مشغولاً بهذه المسألة في المستقبل على الأرجح.

سأحاول في الجزء الأول من مقالتي هذه أن أتتبع سرديات أيوب العهد القديم وأيوب القرآن، بينما أحاول في الجزء الثاني أن أتقصى مساءَلة الشباب العربي للإله في عصر ما بعد الربيع العربي في ضوء قراءتي لسرديات أيوب العهد القديم وأيوب القرآن.

أيوب العهد القديم وأيوب القرآن

على إسهابه في التفاصيل، فإن سِفر أيوب من السرديات التي لا يمكن قراءتها قراءةً موضوعية يتفق فيها اثنان أو أكثر على نظرة واحدة متطابقة تماماً. لذلك لا مفر من قراءة النص، غير المحدود التأويلات، قراءةً ذاتية، فهو ينتمي إلى تلك النصوص التي تطرح الأسئلة أكثر مما تقدم الأجوبة، بل إنني أَخْلُص من قراءتي – الذاتية بالطبع – لهذا السِّفر إلى أن السِّفر برمّته سلسلة من الأسئلة تسحق كل محاولة للإجابة، ولا سيما تلك الإجابات المبتسرة التي تُغفِل تعقيدات العالم وتسعى إلى تقديم إجابة نهائية تفك الاشتباك وتقطع سلسلة الأسئلة تلك، فنرى الشيطان يمسك بالخيط الأول لسلسلة الأسئلة ويطرح سؤالاً منطقياً – بغض النظر عن دوافعه الشخصية – عن ماهية العلاقة بين صلاح أيوب وبين إجزال الله له في العطاء: هل هي علاقة سببية؟ «هَلْ مَجَّانًا يَتَّقِي أَيُّوبُ اللهَ؟» الآية 10 – الإصحاح 1، سفر أيوب، ترجمة الآباء اليسوعيين.. وهل لو انتفى السبب (إجزال الله لأيوب في العطاء) انتفت النتيجة (صلاح أيوب)؟

يقتنع الله بمنطقية سؤال الشيطان، ويتركه يختبر فرضيته بأن يُزيل السبب ويَسلِب أيوب كل ما أُعطي، ويرى كيف تكون النتيجة. يصبر أيوب ويتحمل السَّلب في المال والولد والجسد، لكنه يواصل سلسلة الأسئلة ويطرح هو الآن سؤالاً منطقياً آخر، لماذا أنا؟ بل إنه، بقطع النظر عما ابتلاه الله به مؤخراً، يضع التجربة الحياتية كلها – بحلوها ومرها – محل تساؤل: «لِمَ لَمْ أَمُتْ مِنَ الرَّحِمِ؟ عِنْدَ خُرُوْجِيْ مِنَ الْبَطْنِ [..] إِذَنْ لَكُنْتُ الْآنَ أَضَجَعُ فَأَسْكُنُ، وَلَكُنْتُ أَنَامُ فَأَستَرِيحُ».، هنا يتجلى سؤال أيوب الأكبر عن عدالة الحياة وكيف يتحمل الإنسان أعباء التجربة الحياتية، التي لم يختر أصلاً خوضها طواعيةً، ثم يأتي أصدقاء أيوب ويحاولون قطع سلسلة الأسئلة بجواب مُبتسَر يختزل كل التعقيدات ويُلقي باللوم على أيوب، فهو المخطئ لا محالة، وإلا لما ناله بطش الله. هنا ينفجر أيوب ويصب جام غضبه على أصدقائه الذين يطلبون منه هو أن يبرر موقفه، بينما هو من يطلب من الله أن يبرر موقفه ويعلن رغبته في أن يجادله مباشرة؛ إذ لم تعد كلمات محامي الله ترضيه، ولم يعد يتحمل خطبهم الكاذبة: «لكني إنما أخاطب القدير، وأود أن أجادل الله، أما أنتم فإنما تطلون بالكذب، وطبكم لا قيمة له» الآيات 4-5 – الإصحاح 13، سفر أيوب.. 

وأخيراً يستجيب الله لنداء أيوب له بأن يجادله دونما وسيط، فيظهر الله في المشهد ويتعاطى مع تساؤلات أيوب، لكنه لا يقدم أجوبةً لها بل يرد عليها بتساؤلات أخرى لتستمر سلسلة التساؤلات في التطور حلقة بعد حلقة، يبادر الله أيوب بسؤال تلو الآخر «إني سائلك فأخبرني، أين كنت حين أسست الأرض؟ تكلم إن كنت عالماً بالفطنة، من وضع مقاديرها إن كنت تعلم [..]؟». الآيات 3-5 – الإصحاح 38، سفر أيوب.هكذا يسرد الله لأيوب مظاهر تعقيدات الكون وكيف أنه يتجاوز نظرة أيوب وأصحابه المركزية له. 

هكذا أقرأ سفر أيوب على أنه حزمة من التساؤلات التي تنتج عنها تساؤلات أخرى أكبر وأعمق وتغض الطرف عن تقديم إجابات قاطعة، تلك الديناميكية الفكرية التي وضعت البذرة الأولى للمنهج الديالكتيكي في التراث الفكري.

على الجانب الآخر نرى أن سردية أيوب وردت في القرآن مقتضبة جداً في موضعين فقط، الأول في سورة ص، والثاني في سورة الأنبياء، في كلا الموضعين تدور السردية حول معنى واحد جليٌ واضح، ألا وهو معنى ابتلاء الله لأيوب بأن أطلق يد الشيطان عليه فناله من العذاب والألم ما ناله «وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ» (الآية 41، سورة ص)، ومقابلة أيوب هذا الابتلاء بالصبر واليقين في الله «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» (الآية 44، سورة ص)، ثم الخاتمة بأن يجزيه الله خير الجزاء على صبره وحسن يقينه بالله وعدله «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ» (الآية 84، سورة الأنبياء).

لكن الفكر الإسلامي لم يكن بالطبع بمعزل عن الفكر الإنساني السابق عليه فكان لابد له عند التعاطي مع سردية أيوب من أن يتعرض لما وصلت إليه يداه من سرديات أكثر تفصيلاً، لاسيما في القرون الأولى حيث لم تكن فزاعة ما يعرف بالإسرائيليات قد ترسخت وأحدثت قطيعة فكرية وأيديولوجية مع سرديات أهل الكتاب وغيرهم من الأمم السابقة، فقد روى بعض من المفسرين للقرآن على رأسهم الطبري انظر سورة الأنبياء، الآيات 83-83، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، طبعة دار المعارف، الجزء 18، ص 483، النسخة متوفرة الكترونيا على موقع إسلام ويب. عن وهب ابن منبه – التابعي المؤرخ وصاحب الدراية الواسعة بكتب الأولين – وغيره سردية أيوب التي تكاد تتطابق معها في العهد القديم.

من يتأمل إذن تلك السرديات المختلفة عن أيوب وتجربته يجد نفسه أمام شخصية مركبة تركيباً يصل إلى حد التناقض، فأيوب هو ذلك الشخص الذي يحيى باليقين ويتنفسه مع كل شهيق، وهو أيضاً من تدور داخل رأسه الأسئلة الوجودية الكبرى وتنتظر فقط من يشعل فتيلها حتى تنفجر مدوية خارجه، هو ذلك الشخص الراضي الصبور حتى أن الصبر ذاته يمله، وهو أيضاً الثائر على الجميع ومن فوق الجميع، هو الموسِع ذو الصحة والمال والولد، وهو المقتر المعدم، هو المقرب المجتبى وهو المنسي المجتنَب، هو العابد الناسك وهو الغوي الهالك، وكأن الطبيعة البشرية على تناقضاتها وتعقيداتها قد تقولبت في ذات بشرية واحدة فصارت مرآةً لجميع أفرادها يستطيع كل منهم أن يرى نفسه فيها لاسيما عند الشدائد والنزلات.

الأيوبيون الجدد 

وها أنا الآن أنظر في مرآة أيوب فأرى فيها انعكاس واقعنا أثناء وبعد أحداث ما يسمى بالربيع العربي، فيها أرى الأيوبيين الجدد، الأيوبيين الثائرين، والأيوبيين الكنبيين نسبة إلى ما يسمى ب «حزب الكنبة»، وهي المجموعات التي لم تنخرط بشكل مباشر خلال التعبئة السياسية التي سادت 2011.، الأيوبيين الموقنين، والأيوبيين المتسائلين، فلكل أزمة أيوبوها مهما اختلفت الشخوص والأزمنة والأمكنة، وكأنها سنة الله في كونه الباقية ما بقي الكون، ذلك الكون الذي تتعاقب عليه الأزمات الكبرى كما يتعاقب الليل والنهار، ومن رحم الأزمات يولد الأيوبيون ويتجدد معهم السؤال الأبدي عن «عدالة الله» أو «عدالة الكون»، هكذا هو الحال أيضاً في زمن «الربيع العربي» حيث دار التاريخ دورته وطفى إلى السطح مجدداً السؤال عن «العدالة المفقودة»، صحيح أن هذا السؤال لا يغيب أبداً، لكن الأزمات والنوازل الكبرى تحوله من سؤال فردي إلى سؤال جماعي، من شأن خاص إلى شأن عام يرتبط بجيل بأكمله، فكما ارتبط هذا السؤال على سبيل المثال بجيل ما بعد حروب الثلاثين عام أو بجيل الناجين من المحرقة ها هو الآن يرتبط عندنا بجيل الربيع العربي وما بعده.

كان هذا التساؤل هو محرك الوثائقي «في سبع سنين» الذي شاركنا رحلته مع مجموعة من الشباب الباحثين عن «العدالة المفقودة» كلٌ على طريقته، ورغم صعوبة هذه الرحلة والمصير المأساوي لبعض أبطالها إلا أنها تضع يدنا على السؤال الأول والأهم لهذا الجيل ولكل أجيال ما بعد الأزمات «أين الله/العدالة من كل ما يحدث؟©، بل إن إحدى بطلات هذا الوثائقي قد صاغت ذلك السؤال صراحةً «أنا اتخذلت [..] دورت عليه في كل حاجة ما لقيتوش [..] في الناس، في العالم، في الحروب، في الأطفال اللي بتموت ومشردة في كل حتة، في الناس الفقرا اللي مش لاقين ياكلوا، في الناس اللي في السجون عشان ما عملوش حاجة»، كان هذا سؤالاً تأسيسياً لكثير من أبناء هذا الجيل، ساعدنا الوثائقي على التعرف عن كثب على أنماط مختلفة لمحاولة الإجابة على هذا السؤال التأسيسي، فمنهم من اتخذ موقف «اللاأدري» حتى يعود إلى المربع الأول ويعيد تقيم كل شيء من جديد، ومنهم فقد الأمل في وجود من يدير هذا الكون على نحوٍ يتسق ومبدأ «العدالة»، ومنهم من تقمص دور الإله فَراح يحقق «عدالته» بالقوة، وأظن أن معظمهم لا يزال يعيش السؤال ولم يصل إلى جواب، حتى وإن ادعى هو أنه وصل إليه.

حقبة الربيع العربي هي إذن واحدة من أهم الحقب الكاشفة في تاريخ منطقتنا، هي أشبه ما يكون بالبركان الذي كان يحتجز تحته عدد لا نهائي من الأسئلة المكبوتة عبر عقود وربما قرون عديدة، تظل هذه الأسئلة تغلي وتمور ولا أحد يشعر بها طالما لم تصعد إلى السطح بعد، تنتظر فقط ثغرة ما في القشرة السطحية حتى تفصح حمم الأسئلة الملتهبة عن نفسها، كانت الثغرة هذه المرة هي الثورة على الحكام المستبدين، ولن يكون من الحكمة إذن أن ننشغل بتلك الثغرة في القشرة السطحية عن المحرك الحقيقي للبركان، أعني حممَ الأسئلة المكبوتة عبر القرون، إنها تلك الحمم المؤجلة منذ عهد أيوب وربما منذ ما هو أبعد من ذلك بكثير، يمكن رد كل هذه الأسئلة إلى السؤال الأيوبي الأزلي عن العدالة المفقودة في هذا العالم، في أغلب الأحيان يكون الهدف الأول من انفجار بركان الأسئلة هذه هو أن تفصح عن نفسها فقط قبل أي شيء آخر، هذا هدف أنطولوجي يفوق في أهميته حتى هدف الوصل إلى جواب ما، إذ هذه الأسئلة بمثابة صرخة الوجود بالنسبة لأصحابها، بها يعلنون عن وجودهم، تماماً كما أعلن من خلالها أيوب عن نفسه أمام الكون وأمام الله، ووصل من خلالها لهدفه الأسمى بأن سمع الله صرخته الوجودية وتفاعل معها، حتى وإن لم يجب في النهاية عن سؤال أيوب عن العدالة المفقودة، لكن ربما تغاضى عن هذا الهدف بعدما حقق هدفه الوجودي الأول والأهم، وكذلك حال الأيوبيون الجدد، وحال الأيوبيون في كل زمان، يصرخون صرخة وجود، ويعيدون طرح سؤال العدالة، حتى وإن أيقنوا تعذر الوصل إلى إجابة، لكن صرخة الوجود هذه تكفيهم على كل حال.

جيل الربيع العربي هو جيل من الأيوبيين الجدد، جيل لطالما عانى من محاولات مستميتة لكبت كل تساؤلاته ووأدها في مهدها، تساؤلاته الوجودية عن العدالة المفقودة، عن العيش – بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ – وعن الحرية وعن الكرامة الإنسانية، ولكن هيهات أن تتمكن سلطة من وأد الأسئلة مهما حازت من أدوات القمع، فكلما أمعنت السلطة في محاولات إجهاض التساؤلات كلما ارتفعت حرارتها واشتد غليانها تحت طبقات القمع المتراكمة، حتى تحين لحظة الانفجار، تماماً كما حانت لحظة انفجار أسئلة أيوب من قبل، وكما أن لحظة أيوب كانت حالمةً عندما كلمه ربه، كانت لحظة هذا الجيل لا تقل حلماً، أعني لحظة الثورة، عندما لمسوا بأيديهم نجوم السماء.

هكذا أرى أن سرديات أيوب تعلمنا أكثر ما تعلمنا مركزية السؤال بشكل عام، لاسيما سؤال العدالة المفقودة، وتعلمنا كذلك أن لا شيء أخطر على البشر من كبت الأسئلة أو تقديم إجابات قاصرة مطلقة عليها تلقي باللوم على صاحب السؤال وتنكر عليه تساؤلاته، وكيف أن كبت الأسئلة هذا سوف يؤدي حتماً إلى الانفجار مهما طال أمد كبتها وقمعها. تعلمنا كذلك أن الهدف من السؤال ليس دائما إيجاد إجابة عليه، إذ بعض الأسئلة العملاقة يتعذر الجواب الآني عليها، فأحياناً يكون هدف السؤال أسمى وأهم من تقديم إجابة عليه، هدفاً وجودياً يصرخ به صاحبه معلناً عن ذاته وعن ماهية وجوده في هذه الحياة.. تتجاوز سرديات أيوب على هذا النحو خصوصيتها الدينية وسياقاتها التاريخية ومن ثم يمكننا دائماً استدعاؤها كمرآة نرى فيها تساؤلات مرحلة الأزمات وما بعدها، الأمر الذي يمكّننا ليس فقط من قراءة تلك السرديات قراءة جديدة وعصرية وإنما يمكننا كذلك من قراءة واقع مرحلة (ما بعد) الأزمات قراءة أكثر عمقاً وأدق تموضعاً في المشهد التاريخي الإنساني الأشمل.