قضى علاء عبد الفتاح وقتاً في السجن في زمن مبارك، وبعد الثورة أيام المجلس العسكري، ثم بعد انقلاب 3 يوليو 2013. لكن بينما لم تزد أيامه معتقلاً في عهد مبارك على 45 يوماً، وأقل من شهرين في زمن المجلس العسكري، فإن علاء لم يكد يقضي وقتاً خارج السجن في عهد السيسي المتمادي. المُدوِّن والمُبرمج والناشط الحقوقي والسياسي الذي شارك في أنشطة حركة كفاية المضادة للتوريث، اعتقل في أيار (مايو) 2006 أثناء مشاركته في تجمع احتجاجي صامت نظّمه نحو ألف من قضاة مصر دفاعاً عن استقلال القضاء. كان بين «خمسين زميلاً من حركة كفاية ومئات من الإخوان المسلمين» على ما يذكر في هذا الكتاب، وقضى وقتها شهراً ونصف شهر في السجن. وفي السنة التي دانت السلطة فيها للمجلس العسكري، اعتقل علاء لنحو شهرين إثر مذبحة ماسبيرو الذي سقط فيها على يد الجيش 26 شهيداً من أقباط مصر، ممن كانوا يحتجون على هدم كنيسة في محافظة أسوان وتصريحات مسيئة من المحافظ. وحتى في عهد الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي أوقف علاء ليوم واحد ومُنع من السفر. ومنذ 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، أي قبل انقضاء خمسة أشهر على الانقلاب، اعتُقل علاء مع هواتفه المحمولة وحواسيبه، وضُرب هو وزوجته، ونال حكماً بالسجن لخمس سنوات. لكن إطلاق سراحه إثر انتهاء المدة كان مشروطاً بأن يقضي نصف كل يوم من أيامه، ولخمس سنوات، في أحد أقسام الشرطة في القاهرة. إلا أنه بالكاد انقضت ستة شهور على هذا الترتيب الكيدي حين وقع اعتقال في الاعتقال لعلاء في أيلول (سبتمبر) 2019، وفي 20 كانون الأول (ديسمبر) 2021 نال حكماً جديداً بالسجن لمدة خمس سنوات، يفترض أن تنتهي في أيلول (سبتمبر) 2024، هذا إن لم يقع اعتقال جديد في الاعتقال.
كسوري سبق أن خبر سجون الحكم الأسدي، يُذكِّر تعامل نظام السيسي مع علاء وأسرته، ومع عموم المصريين، بقانون الأسوأ: أياً تكن توقعاتك كمعتقل سياسي سيئة، فما سيتحقق في الواقع هو أسوأ. ثمة تجاوز للحدود، يميز بنيوياً الأنظمة الفاشية والفاشية الجديدة التي تراهن على تحطيم أي انتظامات اجتماعية مستقلة، وتحول حتى دون تشكل سلطات اجتماعية مستندة إلى أنشطة نوعية: الأدب، الفن، النشاط الحقوقي، الاقتصاد، الرياضة…، في مسعى محموم لاستتباع الجميع لزعيم تجتمع فيه التفاهة والدموية. السيسي، وليس مبارك أو السادات قبله، هو حافظ الأسد المصري. هناك في سورية نضال وطني تحرري فشل وانهزم، ونظام حافظ الأسد، وزير الدفاع في 5 حزيران (يونيو) 1967 هو نتاج الفشل والهزيمة، وهنا في مصر ثورة شعبية تعثرت وهُزمت ونظام عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع في 3 تموز (يوليو) 2013 هو نتاج التعثر والهزيمة كذلك. ما يعاديه النظامان ليس الحريات الديمقراطية، ولا حكم القانون، ولا استقلال الثقافة والإعلام، بل حياة السكان كحق مضمون مصون. كان هذا واضحاً جداً لعلاء في شهور حريته القليلة بين انقلاب 3 تموز (يوليو) واعتقاله في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013: «اللي ف خطر مقومات الحياة في البلد دي. الهجوم مش على [حركة] 6 أبريل، الهجوم على أنه يبقى فيه حياة لولادكم (…) نحن في معركة على مقومات الحياة». كان واضحاً له كذلك أن مصر في ظل نظام كهذا هي بلد بلا وعود، أي بلا مستقبل. قال في الاجتماع نفسه: «ده لو تْمكِّن مش بس 6 أبريل اللي حتبقى محظورة، ده لو تمكن مش حنعرف نعمل حفلة ف وسط البلد (…)، ده لو تمكن مش حيبقى فيه هوامش، إحنا مش في خطر العودة لنظام مبارك، إحنا حنيجي يوم وإحنا نقول متأسفين يا ريس، ده لو تمكن، ده وقت ندافع عن نفسنا، ندافع عن أنو يبقى فيه مستقبل».
وعن قانون الأسوأ عبّرت السيدة ليلى سويف، والدة علاء، في ندوة نقاش بالإنكليزية أعقبت صدور النسخة الإنكليزية من هذا الكتاب، بالقول عن انتقامية سياسات النظام في التعامل مع المعتقلين:(there is no rock bottom) أي ليس هناك قعر أو حد للانحدار.
ومثلما في سورية في سنوات اندلاع الفاشية في ثمانينيات القرن العشرين، لا يقتصر الأمر في مصر اليوم على صراع مع الإسلاميين، بل هذا جانب من عملية أوسع للتصحير السياسي للمجتمع المصري، بحيث يحصن النظام نفسه بتحطيم أي منظمات جماهيرية أو مستقلة، أي بالإرهاب والاستتباع الشامل، وبالتالي امتناع نشوء أي بدائل. كان هذا مما سهّل لحافظ الأسد الذي اعتقل نظامه عشرات الألوف السوريين وقتل عشرات الألوف في ثمانينيات القرن الماضي أن يورث الحكم لابنه الركيك بشار، التجسيد السوري للتفاهة والدموية. ثورة يناير أنقذت مصر من هذا المسار السلطاني المُحدث، لكن مؤسسة اعتقال سياسي تعيش على تجميد عنيف لحياة 60 ألفاً من المصريين وأسرهم، ويعامل المعتقلون فيها بحقد وتشفٍّ، هي بمثابة سور حماية لحكم يدوم إلى الأبد. الأبد هو نتاج إرهاب الدولة هذا، نتاج الإبادة السياسية للسكان، ليس شيئاً موجوداً منذ البداية، بل هو يُصنع كل يوم عبر إنتاج الخوف وتوزيعه. وهو ما قد ينتج التوريث كحل لمشكلة الموت. فإذا صح أن الأبد هو أبو التوريث، فليس هناك ما يسوغ الاعتقاد بأن هذا لا يمكن أن يحدث في مصر. كاد يحدث من قبل. وفرصه في الحدوث أكبر مع نظام إرهابي، أشد قسوة بما لا يقاس من نظام مبارك، ودشن حكمه بمذبحة لم تعرف لها مصر مثيلاً في تاريخها الحديث. ما هو جارٍ في مصر من توريث عسكري لم يكد ينقطع طوال سبعين عاماً، لا يمتنع أن يتحول إلى توريث عائلي، بخاصة إذا طال الأمد بحكم السيسي.
علاء كان معارضاً لحكم مبارك، ومدافعاً عن نظام ديمقراطي في مصر، مع حساسية اجتماعية، بل اشتراكية، قوية. وبعد الثورة انحاز لمرشح الإخوان محمد مرسي ضد مرشح «الفلول» أحمد شفيق، وهو الموقف المتوافق مع الحساسية الثورية أكثر من غيره، أو قُل الأقل تعارضاً. لكن حين صار الإخوان في السلطة، وأضاعوا «بدل الفرصة مليون لاحتواء الغضب» على سياساتهم، وبالعكس «استحقروا الناس وقرروا أن الحل هو الحسم بالقوة»، وجد علاء موقعه الطبيعي بين معارضيهم. وحين سقط حكم الإخوان بانقلاب عسكري أعقبته مذبحة رهيبة في رابعة، سمى علاء الأشياء بأسمائها: «السيسي سفاح، وفض [اعتصام] رابعة من أبشع المجازر في تاريخنا». يبني علاء موقفاً مركباً بعد الانتقال السياسي الانقلابي: «عندي كلام كتير أقوله يدين الإخوان كتنظيم والإسلام السياسي كفكرة رغم المذبحة، لكن رافض أني أقوله في نفس الوقت كأني محتاج أثبت عدائي للإخوان أو ولائي للوطن أو للثورة». في أوقات تغيّر سياسي سريعة وعاصفة كهذه، ومع حدة الاستقطاب السياسي والاجتماعي، وثورة الانفعالات المواكبة، يصعب على أي كان أن يحافظ على صفاء الذهن والاتساق السياسي المطلوب. علاء ليس استثناء من ذلك، لكنه حافظ على اتساق أخلاقي، على استمرارية أخلاقية، هي التي دفع حريته طوال السنوات الثمانية الماضية ثمناً لها.
غير المناضل، علاء خبير في تكنولوجيا المعلومات، وصاحب نظرات ثاقبة في شأن التكنولوجيا والمجتمع والتاريخ. في تعليقه على خدمة شركة أوبر يقارن مع موقف اللوديين، محطمي الآلات، من الصناعة في القرن التاسع عشر لتسببها ببطالتهم. وبعبارات تذكر بفالتر بنيامين الذي رأى التاريخانية عقيدة منتصرين، يقول علاء: «اختزال العملية التاريخية المصاحبة للثورة الصناعية في آلام مخاض مؤقتة تسبق الرخاء، لا يخفي فقط تفاصيل الصراع الطبقي داخل الدول الصناعية الكبرى، وإنما يخفي تباين خبرات الشعوب مع هذه الآلام الانتقالية». وهو لا يرى «أغبى من الواقفين ضد التاريخ إلا المنبطحين تماماً أمامه». ومن سجنه في مطلع عامه الرابع خاطب علاء مؤتمر التكنولوجيا الرقمية في بروكسل، رايتس كن، داعياً المشاركين إلى إصلاح الديمقراطية في بلدانهم، وإلى أن لا يلعبوا لعبة الأمم التي ضيّعت الثورات العربية، وإلى الدفاع عن التشابك والتنوع، معبراً عن ذلك بلغة تشبه لغة التقاطعية لدى المناضلات النسويات، وأخيراً يدعو علاء المشاركين في المؤتمر إلى التأكيد على حقهم في أن يكونوا مبدعين وليس مستهلكين. قال لهم إنهم، خلافاً له، لم يُهزموا بعد. ومن هذه العبارة جاء عنوان النسخة الإنكليزية لهذا الكتاب.
لكن علاء الذي كان يجمع «حواديت عن ثورات فاشلة» في سجنه، على ما قال في مقابلة مطولة مع مدى مصر، في الشهور التي قضى نصف أيامها حراً ونصفها حبيساً، كان يتعامل مع الهزيمة كلحظة في صراع أطول، نُهزَم فيه، لكن نعمل من أجل أن ننتصر في جولة قادمة. المهم أن نكون إلى جانب الحق في كل جولة. تعليقاته النافذة على اضطراب ما بعد الصدمة، وعلى الفكرة المتكررة عن غياب القيادة في الثورة المصرية (والثورات العربية)، وعلى السرديات والأبطال، وعلى فكرة المقاومة، وعلى أزمة الخيال، تظهره مثقفاً مطلعاً ومرهفاً. في المقابلة نفسها، وفي غير موقع من الكتاب، يقول علاء شيئاً عن «الكابوس السوري والليبي واليمني» بوصفه يوفر على نظام السيسي صعوبات بناء شرعية إيجابية تخصه عبر التخويف من الأسوأ. العكس صحيح أيضاً: نظام السيسي شد من أزر نظام بشار الأسد الإبادي، وكذلك المنازع الأشد تسلطية في ليبيا والمجال العربي كله. إدراك ذلك مهم من أجل بناء شبكات ديمقراطية وغير تراتبية للتعاون بين مناضلين من البلدان العربية. نحن شركاء في «التشريفة»، وهي حفلة التعذيب التي يستقبل بها المعتقلون في مصر، وحظي بها علاء في مطلع اعتقاله في أيلول (سبتمبر) 2019، وحظيتُ بمثلها في سجن تدمر بعد أكثر من خمسة عشر عاماً من السجن في «سورية الأسد»، وهذه الشراكة تدعونا إلى التفكير في حفلة وداع مشتركة يوماً للتعذيب في عالمنا. كان «الربيع العربي» هو تلك الحفلة المأمولة، لكن ثوراتنا أُجهِضت، ونظم «التشريفة» مستمرة.
قرب نهاية هذا الكتاب، ومما كتبه في «سجن طره شديد الحراسة»، يعمل علاء على إدخال شيء من النظام في التفكير في الشأن العام في مصر، وربما في تفكيره الشخصي، فيميز بين سبعة مسارات محتملة للتغيير في مصر: التدخل الإلهي (موت الحاكم)، التدخل الأجنبي، التغيير الطوعي (من داخل النظام)، الانقلاب العسكري، تمرد عسكري، الانتفاضة الشعبية، التحرك الثوري المنظم (ومثاله النضال الناجح ضد نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا)؛ وست جرائم كبرى تعطل التغيير: المذبحة، معسكرات الاحتجاز، تخلي الدولة عن القانون، معركة سيناء، الشيطنة، الاستسهال والتساهل؛ وخمسة محاور للاستقطاب: الحريات، الاقتصاد، نظرية التغيير، العالمية، الحداثة؛ وأربعة أركان للبوصلة السياسية: التيار الإسلامي، التيار القومي (العربي)، التيار الليبرالي، والتيار الاشتراكي؛ وثلاث تضحيات مطلوبة من الأجيال الكبيرة (التضحية بالدور والقيادة)، فالأجيال الوسطية (التضحية بالنقاء والبطولة مقابل شجاعة الحوار مع الخصم والبحث عن حلول وسط)، ثم الأجيال الشابة (بالأحلام مقابل مستقبل آمن، من أجل أن يستطيع جيل أصغر أن يحلم بلا سقوف)؛ ويميز بين سرديتين عن الماضي من أجل المستقبل: السردية الأساسية، متمركزة حول الدولة الحديثة، لكنها ملتبسة ومرتبكة، وتفتعل وحدة صف غير حقيقية، ثم السردية البديلة، التي تجمع خبرات المهمشين والمعارضين وجماعات الأقلية. يمكن لقراء متنوعين الاشتباك مع نواظم التفكير هذه، نقداً واعتراضاً وإغناءً ومزيد ضبط، لكنها تظهر وجهاً إضافياً لعلاء: المثقف العام وقائد الرأي.
* * * * *
باسم «أبو خالد» وقّع علاء مقالته المكتوبة في سجن طره تحقيق، يوم 19 كانون الأول (ديسمبر) 2011، المضمنة في هذا الكتاب والمنشورة في جريدة الشروق. خالد، ابن علاء ومنال، زوجته، زار أباه في السجن وهو ابن ثلاثة أيام. «في نصف ساعة أعطاني فرحة تملأ السجن أسبوعاً كاملاً»، قال علاء في المقالة نفسها. أحمد سيف الإسلام، شيوعي مصري فكر في حمل السلاح ضد نظام السادات، وزار معسكرات المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، ثم اعتقل في نهاية 1983 إثر عودته إلى مصر، حيث سيقضي سنوات في سجون مبارك ويتعرض للتعذيب، لكنه سيخرج منها بشهادة جامعية في الحقوق، ويصير مدافعاً عن الحق في العدالة للجميع. هذا الرجل هو والد علاء. في كلمة مؤثرة في مطلع 2014 يعتذر الأب لابنه السجين ولجيل ابنه على أنه وجيله لم يورثاهما مجتمعاً ديمقراطياً، يقول إنه ورّث ابنه السجن بالأحرى: فهو كان في سجنين، سجن الاستئناف وليمان طره، وقد جرّبهما علاء لاحقاً، وجاءت منى شقيقة علاء إلى العالم بينما كان الأب في السجن مثلما سيحدث لخالد، ابن علاء. رحل أحمد سيف في عام 2014 نفسه، وهو بالكاد في الثالثة والستين. كان علاء في السجن منذ شهور وقتها.
سناء سيف، أخت علاء ومنى، والبنت الصغرى لأحمد سيف وليلى سويف، كانت في السابعة عشرة عندما بدأت ثورة يناير. سناء اعتقلت ثلاث مرات: عام 2014، وقضت أكثر من عام في السجن، ثم لستة أشهر في عام 2016، ثم من جديد في أكتوبر عام 2020، حيث حكم عليها بعام ونصف. يوم 23 كانون الأول (ديسمبر) 2021 انتهت محكومية سناء، وصارت «على الأسفلت» بحسب التعبير المصري الطريف عمن خرجوا من السجن. تهم سناء عجيبة، أشياء يتعذر التعبير عنها بلغة قانونية، ومؤداها السياسي هو البطش الذي يجعل بعض المصريين عبرة لجميع المصريين. مثل علاء، سناء اعتقلت بالنيابة عن المصريين كلهم.
في مقابلة مع ليلى سويف، أستاذة الرياضيات، ووالدة علاء (وشقيقة الروائية والقاصة المصرية أهداف سويف)، بُعيْد صدور النسخة الإنكليزية من كتابه، تروي شيئاً مؤثراً بقدر ما هو سيزيفي، عن كيفية «تهريب» أفكار علاء من السجن. تقول إنه قبل جائحة كوفيد-19 كانت الزيارة لنحو ساعة أسبوعياً، وأنها كانت تتفق مع ابنتيها منى وسناء على أن تطرح كل واحدة منهن ثلاثة أسئلة على علاء، تحفظها جيداً قبل الزيارة، ثم تبذل الأم والأختان الجهد اللازم لحفظ إجابات علاء. وما إن يخرجن من السجن حتى يسارعن إلى تفريغ الأفكار المهربة من الذاكرة. المقالين عن أوبر والاقتصاد الجديد في هذا الكتاب هما نتاج هذا التهريب العظيم. نتاج جهد مشترك، تقول الأم الشجاعة الملتاعة. على سؤال: «كيف تتمكنين من الاستمرار؟»، تجيب ليلى مبتسمة: «لا أستطيع التوقف. أولادي في السجن وعلىّ أن أستمر، يجب أن أبقى معهم، وأن أحكي للناس عنهم». ليلى لا تكتفي بالحكي عن أولادها، وإنما تجدها تحكي عن المظاليم في السجون على اختلافهم. تأخذ الطبلية لعلاء كل أسبوع، وكذلك لسناء قبل إخلاء سبيلها قبيل نهاية 2021. ليلى تصر على أن معاناة عائلتها ليست الأسوأ، وأن هناك معتقلين كثيرين، من الإسلاميين بخاصة، يلقون معاملة أسوأ بعد. هذا ما يصر علاء كذلك على تكراره، على ما سيلحظ قارئ هذا الكتاب.
مثل هذا هو الواجب الذي يُعرِّفنا كأناس مسؤولين أخلاقياً، ومثله هو ما اضطلعت به عائلة سيف، فكان لها إسهام مأثور في صون كرامة مصر وشعبها. هذه العائلة رمز من رموز الكفاح المصري، كفاح يقول إن مصر أخرى ممكنة، وحرب نظام السيسي عليها هي حرب على هذه الرمزية المشرفة. لقد بلغ من دناءة هذه الحرب أن نشرت جريدة الجمهورية المصرية مانشيتاً «شديد البلاغة»، بحسب ما وصفته منى، شقيقة علاء، في حسابها على تويتر، يقول: «اقلب القِدرة على فُمّها تطلع البتِّ لأمها، منى وسناء وعلاء ثلاثي الإجرام»! يتعذر هجاء هذه السفاهة، لكن يجب عدم نسيانها يوماً.
* * * * *
جندي مشاة في الثورة، بهذه الكلمات وصف علاء نفسه في الكتاب الذي بين يديك. هذا الجندي غير المسلح بغير كلماته وضميره، محروم اليوم من القراءة، ولو في صحف النظام، ومن التريُّض، في ما وصفته السيدة ليلى سويف بحق بأنه تعذيب. الجندي المعتقل خبر في سجنه «قهرة النفس»، ورفض منطق «أخي أنت حر وراء السدود» (القصيدة لسيد قطب، بالمناسبة) أو «قد إيه السجن عظيم ومش حيقدر يكسرنا». وردت هذه الكلمات في «جواب إلى منى وسناء»، أختَي علاء، يوم 24 كانون الأول (ديسمبر) 2013، وهو متاح هنا بدوره. في مكان آخر يقول علاء: «بَغْضب جداً من أي مقارنات تطلع الحياة خارج السجون زي أو أوحش من الحياة جوه السجون، حتى ولو من باب التهريج». كصاحب خبرة في هذا الشأن، أشارك علاء الموقف. رغم أن بلداننا سجون كبيرة بالفعل، إلا أن السجون الصغيرة أقسى بما لا يقاس من السجون الكبيرة التي اسمها مصر وسورية وغيرها.
على أن الاعتراف بقهرة النفس هو كلام من يقاوم مقاومة بصيرة، من يفاوض ألمه وربما يتصالح معه كي لا ينكسر به. ولعله من باب مقاومة الانكسار، عمل علاء على تحرير نفسه من الأمل الذي أخذ عليه بأنه «غدار مخادع»، فيما «يصارحنا اليأس بحقيقته». في نص جميل كتبه مع رفيقه أحمد دومة، وتتوالى فيه مقاطع شعرية وفقرات نثرية، يرفض الكاتبان الإصغاء لترنيمة الأمل، لكن الأكيد هو أن هذه ليست الكلمة الأخيرة. فالأمل يقع بعد اليأس، وليس في النهاية الأخرى من الطريق. في بلداننا المستحيلة، وفي عالم اليوم المستحيل بدوره، لا نصل إلى الأمل دون المرور باليأس وأخذه معنا. بل لعلنا لا نستمر بالقتال إلا حين نصير وراء اليأس والأمل معاً، ونستأنف المشي. هذا يقيناً ما يفعله «جندي المشاة» علاء عبد الفتاح حيثما تسنّت له أي فرصة للفعل. وهو حيثما أحيل إلى المحكمة يقول أشياء متروى فيها، بدائل عن مقالات وأفكار كان يود لو ينشرها أو يتداول في شأنها معنا.
* * * * *
ينتمي علاء إلى جيل ثورات ما بعد التحرر الوطني، وما بعد تداعي الشيوعية كشكل مهيمن للروح الثورية في القرن العشرين. وقع على جيله أن يرمي عن كاهله تركة الفشل التي لام أحمد سيف الإسلام نفسه وجيله على توريثها لجيل ابنه وابنتيه، وأن يشق للنضال من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية دروباً جديدة. ما يجعل المهمة تراجيدية هو أن عالم اليوم ككل بلا بدائل، مفتوح فقط في اتجاهات ارتدادية، مزائج من القومية والحكم التسلطي والرأسمالية المطلقة، والدولة السيدة التي هي احتكار للعنف الوحيد المشروع في عالم اليوم، «الحرب ضد الإرهاب»، وقبل ذلك احتكار لتعريف الإرهاب على نحو يجعل منها خصم محكوميها وحكمهم معاً.
القرن الحادي والعشرين بدأ بالثورات العربية، وهي سلفاً تراث ننظر فيه ونراجعه ونبني عليه. ولعله يقع على جيل الثورات العربية بوصفها أحدث موجة تحررية في عالم اليوم، ومن الأكثر تعثراً، البحث عن سبل جديدة لخرق الانسداد لدينا وفي العالم. وقد لا يكون من باب التفاؤل وحده أن من عاشوا تراجيديات كالتي عشنا منذ مطلع ثوراتنا، هم في وضع مناسب لتوليد المعنى لعالم اليوم وصراعاته، وللسير قدماً نحو ثورات تحررية جديدة. رغم ما تعرضنا له من تحطيم، فنحن شهود على نضال جَسور، وأمثلة لا تحصى على الشجاعة والغيرية، وبطلات وأبطال بأعداد غير مسبوقة، وتحرر متسع النطاق من عقد النقص.
علاء الذي كان في جنوب أفريقيا وقت انطلقت الثورة المصرية، عاد إلى مصر ليشارك فيها. ونموذج النضال الجنوب- أفريقي حاضر في تفكيره، يحيل إليه كأحد مناهج التغيير الممكنة: التحرك الثوري المنظم. في الندوة التي تقدمت إشارة إليها عن النسخة الإنكليزية لكتاب علاء، تذكر روث ولسون غيلمور، الأكاديمية الأميركية والناشطة من أجل إلغاء السجون، أن الربيع العربي ألهم كفاحات في شمال أميركا وجنوب أفريقيا وغيرها، وهذا مثلما كان علاء استلهم النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، ومثلما تماهى دوماً وبحرارة بالنضال الفلسطيني. الربط بين النضالات المختلفة هو من أهم ما يمكن أن يُخرج جيل الثورات العربية من الاكتئاب السياسي المترتب على هزيمة ثوراتنا. لسنا وحدنا، ولن نكون وحدنا إلا إذا اخترنا ذلك. ولا ينبغي أن نختاره. علاء يعرف ذلك جيداً، وهو دليل يوثق به ويعتمد عليه.
علاء في سجون النظام المصري للعام التاسع على التوالي، وفي شروط أسوأ اليوم مما كانت في البدايات، بما يكثف انحدار الأوضاع العامة في مصر. وهذا الكتاب الذي هو شهادة لعلاء على وطنه مصر وعلى العالم، وعلى نفسه كذلك، هو وثيقة نضالية رفيعة، ومنذ الآن جزء من التراث الثوري في مصر والمجال العربي والعالم كله.
كل من في السجن له الحق في أن ُيسمع، أن يكون له صوت، تقول ليلى سويف في الندوة ذاتها. علاء في السجن، لكن كلماته حرة هنا بين أيدينا. كقراء وشركاء في الكفاح من أجل الحرية والعدالة والكفاية، نريد علاء حراً الآن، نريد الدليل بيننا. هناك الكثير في انتظاره، وانتظارنا.