يأكل اللاجئون السوريون خبز اللبنانيين. يستهلك السوريون الكهرباء اللبنانية المقطوعة، والمياه أيضاً. يتحمل اللاجئون، لا رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان، مسؤولية انهيار الليرة اللبنانية، ويتحملون أيضاً مسألة انهيار الأمن الاجتماعي والغذائي، ومسؤولية التغيّر المناخي، ومسؤولية الغش في ألواح الطاقة الشمسية التي يبيعها التجار للبنانيين الذين يسعون جاهدين لتأمين طاقتهم الكهربائية البديلة.
هذا المقطع ليس ساخراً، بل هو خطاب «اليمين» اللبناني إذا ما أردنا استعمال هذه التسمية لعدم تعميم العنصرية على جميع التيارات السياسية اللبنانية، أو على الشعب اللبناني بأكمله. لكنه خطاب دولة ورئيس حكومة، وإعلام، وتيارات سياسية كبيرة في البلاد.
الشهر الماضي، هدد رئيس الوزراء اللبناني في حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، المجتمع الدولي بإعادة اللاجئين السوريين في لبنان إلى سوريا. وغالباً ما يلجأ المسؤولون اللبنانيون لهذا الابتزاز لتحصيل أموال ومساعدات من الدول المانحة والمنظمات الإنسانية.
«لم يعد لدينا مازوت للقوارب لمراقبة البحر، وعلى الأمم المتحدة أن تتحمل مسؤوليتها»، هكذا كان موقف وزير العمل اللبناني التابع لحزب الله، مصطفى بيرم، في أيار (مايو) الماضي، في المؤتمر الصحافي الذي تم عُقِد مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي للبحث في موضوع اللاجئين السوريين، وكانت هذه الجملة واضحة من ناحية استغلال بعبع الهجرة غير الشرعية لإخبار للمجتمع الدولي أن الدولة اللبنانية غير قادرة على ضبطها.
طالب وزير الشؤون الاجتماعية، هيكتور حجار، بمبلغ 3.5 مليار دولار خلال مؤتمر المانحين في بروكسل، وهذه هي الخطة التي اتبعتها الحكومات اللبنانية منذ سنوات عدة. بحسب تقرير للأمم المتحدة صادر عام 2020، تلقى لبنان منذ عام 2015 مساعدات بقيمة 5.64 مليار دولار أميركي، ولذلك تسعى الحكومة اليوم، في ظل الانهيار الذي يعاني منه البلد، لتصعيد التخويف من اللاجئين وهجرتهم المحتملة عبر البحر، بهدف تلقي المزيد من المساعدات.
منذ عام 2019، وقع لبنان في أزمة اقتصادية خانقة، وانهيار مالي هو من أكبر الانهيارات في التاريخ بحسب تقديرات البنك الدولي، ورافق هذا الانهيار شح وانقطاع في مواد أساسية كالمازوت والبنزين والخبز والدواء، و-بطبيعة الحال- الكهرباء، المشكلة المستعصية في النظام اللبناني منذ أكثر من ثلاثة عقود. لم تتحمل الدولة مسؤولياتها بطبيعة الحال، بل عززت التقاتل بين لبنانيين يسعون للحصول على ما بقي من مواد أولية، إذ سُجِّلت إشكالات فردية عديدة نتيجة التدافع أمام المتاجر على علب الحليب وعلى البنزين على مختلف الأراضي اللبنانية، بين لبنانيين «أصيلين» وليس بين لبناني ولاجئ. الإشكالات طاولت ربطات الخبز أيضاً، إذ وقعت إشكالات راح ضحيتها جرحى. وكلما حُلَّت مشكلة شحّ في مادة، تُخلَق مشكلة في مواد أخرى، هكذا طوال السنوات الثلاث من الانهيار. لكن، ما دور اللاجئين السوريين في كل هذا؟ وما علاقتهم بالانهيار اللبناني؟ وكيف وقع عليهم ثقل الأزمة الاقتصادية؟ ومن سعى لتصويب خطاب كراهية في وجههم لتحميلهم ما لا ذنب لهم فيه؟
أزمة الخبز وأسبابها
منذ تشرين الأول من العام 2019، تكرر انقطاع الخبز بشكل دوري لأسباب عديدة، منها نقص الدولارات لاستيراد القمح، أو معارضة الأفران لسياسات الدعم ومطالبتهم الدائمة برفع سعر ربطة الخبز، التي تجاوز سعرها 16 ألف ليرة، في حين لم يتعد سعرها 1500 ليرة قبل عام 2019.
وأتى انفجار الرابع من آب (أغسطس) من عام 2020 ليقضي على أهراءات القمح، وهي المخازن الوحيدة الموجودة في لبنان. جعل هذا الانفجار البلد غير قادر على تخزين القمح بكميات كبيرة، وكانت كميات القمح التي تصل من الخارج تذهب مباشرةً للمطاحن ومستودعاتها، وذلك بحسب وزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام.
لم تكن هذه الأسباب وحيدة، فما فاقم الأزمة مؤخراً هو اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، لأن لبنان يستورد أكثر من 70 بالمئة من احتياجاته من القمح من أوكرانيا.
ليس لأيّ من هذه الأسباب علاقة بمسألة اللجوء، لكن السلطات اللبنانية عرفت كيف تلعب على الحساسية من اللجوء لإبعاد نفسها عن المسؤولية عن الأزمات الاقتصادية، إذ قال وزير الاقتصاد نفسه إن السوريين يستهلكون 400 ألف ربطة خبز يومياً (لا ندري كم أن هذا الرقم دقيق). وقد اشتعلت من بعد هذا التصريح مواقع التواصل الاجتماعي بخطاب التحريض على اللاجئين، استُخدِم هذا الرقم ليحمّل البعضُ مسؤولية انقطاع الخبز للاجئين، متناسين كل الأزمات السابقة التي أدت إلى هذه النتيجة.
اللاجئون تحت سيف التحريض الإعلامي
«رقم لا يصدق»، «رقم هائل»، «يا إلهي ما هذا»، كلها عناوين استعملتها مواقع إعلامية لبنانية وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن الدهشة من استهلاك اللاجئين السوريين للخبز يومياً، بعد أزمة الطحين المدعوم التي يمر بها لبنان منذ أكثر من شهر، وهي أزمة ليست جديدة على كل حال. لم يقتصر التحريض على اللاجئين عبر المواقع الالكترونية والسوشل ميديا، بل امتد إلى محطات التلفزيون أيضاً. عندما يقول مقدم برنامج «أنا لست عنصري ولكن…»، فاعلم أن هذا مدخل لخطاب عنصري تمييزي، وغالباً ما وقع الإعلام اللبناني في هذا «الفخ»، الذي يبدو أنه ليس فخاً بقدر ما هو شعبوية إسماع الجماهير ما تريد سماعه، وهذا التحريض سابق لموضوع الأزمة الاقتصادية، وكان قد بدأ منذ بداية أزمة اللجوء عام 2011.
يعتمد التحريض الإعلامي بشكل أساسي على الأرقام التي تصدرها الحكومة اللبنانية. سابقاً، كان جبران باسيل يُحمّل أزمة انقطاع الكهرباء للاجئين السوريين، تماماً مثلما تُحمّل الحكومة اليوم أزمة الرغيف للّاجئ السوري. ويمكن مجابهة هذه الخطابات بكل سهولة، ذلك أن أزمة الكهرباء في لبنان هي سابقة للجوء السوري، وتعود للتسعينيات، أما أزمة الخبز أو البنزين، فسببها الأول والأهم هي الأزمة الاقتصادية التي وقع فيها لبنان.
السياسيون وتحريف الواقع: تبرير الفشل من بوابة اللاجئين
بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011 بأشهر بدأ تهجير السوريين من مدنهم وقراهم، وشرعت موجات النزوح تصل إلى لبنان. تصاعدت الدعوات لإقفال الحدود بوجه الهاربين من جحيم قصف النظام السوري، وكان أبرزهم حينها النائب الذي أصبح رئيساً ميشال عون، وجبران باسيل. ولكن إن كانت العنصرية مقتصرة على فريق واحد في أول الأزمة عام 2011، فقد امتدت لتيارات سياسية عدة بعد سنوات، فصرنا نرى خطاباً تحريضياً من سمير جعجع ونديم الجميل اللذين كانا يُعتبران حلفاء للمعارضة السورية. هذا عدا أشرف ريفي وسعد الحريري، وأغلب التابعين لما كان يُعرف بفريق 14 آذار.
أحد أهم أسباب توسّع الخطاب العنصري لدى الأحزاب السياسية هو أن هذا الخطاب أصبح له قاعدة شعبية أكبر نتيجة لعدة عوامل، أولها أن فشل الثورة السورية في تحقيق أهدافها أدى إلى تراجع الأمل لدى اللبنانيين المناصرين لها بأنها ستنجح بإزالة النظام السوري، وبالتالي تراجع الاهتمام بالشأن السوري. أثّرَ هذا العامل السياسي على تراجع الاهتمام باللجوء ومساعدة اللاجئين من قبل المجتمعات المضيفة. كما أن أزمة اللجوء طالت كثيراً، ودخلت في عامها الحادي عشر. ومع ازدياد الضغوطات الاقتصادية على اللبنانيين، ومع تزايد الإشاعات حول مدى تقاضي السوريين لمساعدات مالية وعينية، أصبح الخطاب التمييزي ينتشر أكثر في المجتمع، وعزَّزت مواقع التواصل الاجتماعي، بطبيعة الحال، هذه الأخبار الزائفة، واستعمل السياسيون هذه الأخبار للاستفادة منها في الانتخابات النيابية الأخيرة التي أجريت في أيار (مايو) الماضي.
على سبيل المثال، قالت وزيرة الطاقة السابقة والنائبة الحالية ندى البستاني، قبل الانتخابات بأيام، إنه بحسب دراسة أجرتها UNDP، يأخذ النازحون السوريين من درب اللبنانيين 5 ساعات كهرباء تقريباً في اليوم. تحققت مؤسسة مهارات من هذه المعلومة، وتبيّنت من أن التقرير لم يذكر أي شيء بهذا الخصوص. كما رصدت مهارات 37 شائعة قبيل الانتخابات النيابية ذكرها مسؤولون لبنانيون ينشرون معلومات مغلوطة حول اللجوء لتحصيل مكاسب شعبية. وكانت الشبكة العربية لمدققي المعلومات قد نشرت تقريراً مهماً الشهر الماضي، عن كيف هددت المعلومات المغلوطة سلامة اللاجئين في لبنان.
خلال تلك السنوات، لاحقت تُهمٌ كثيرة السوريين. فقبل اتهام اللاجئين بأكل خبز اللبنانيين، اتُّهِمَ اللاجئون بالاستحواذ على أعمال ووظائف اللبنانيين، وفق ما روجت له أحزاب سياسية مثل التيار الوطني الحر، الحزب الأشهر في نشر خطاب الكراهية تجاههم، والذي وصل به الأمر في حزيران من العام 2019، لأن يقوم «قطاع الشباب في التيار الوطني الحر» بالدعوة لمظاهرة بوجه العمالة الأجنبية. حينها اقتحم مناصرو التيار أفران ومتاجر برفقة قناة OTV التابعة للتيار نفسه، وقاموا بتصوير أصحاب المتاجر والموظفين غير اللبنانيين، بطريقة مخابراتية، بهدف الوشاية بهم أمام السلطات.
العنصرية تتوَّج بخطة الترحيل القسري
بعد مرور عشر سنوات على وصول اللجوء السوري، أصبح اللاجئون عرضة للاستهداف أكثر، وأصبح السياسيون يستغلونهم لابتزاز المجتمع الدولي. كما أن الحاضنة الشعبية للاجئين تدنت، إذ ساهمت الأزمة الاقتصادية بشكل أساسي بتشكيل قاعدة شعبية للخطاب المعادي للاجئين، وبرز ذلك بشكل واضح في برامج المرشحين لانتخابات 2022 النيابية؛ إذ أصر معظمهم على ذكر أزمة اللجوء وضرورة «عودة النازحين» لعلم المرشحين بأن لهذا الخطاب صدى جماهيري كبير في معظم المناطق.
اليوم يبدو تصاعد وتيرة استهدافات اللاجئين جلياً. هنا إحراق مخيم لاجئين بسبب جريمة قتل، وهناك قتل ولد سوري على خلفية إشكال مع أطفال لبنانيين، هذا عدا عن البلديات التي تمنع تجول السوريين ليلاً، والخلافات الطبقية التي نشبت مؤخراً، وذلك بسبب شيوع أن اللاجئين السوريين المسجلين لدى الأمم المتحدة يتقاضون مبلغاً شهرياً يُقال إنه 200 دولار. ولكن الرقم غير دقيق، فهو أقل من ذلك بكثير؛ وعدم دقة الأرقام هو ما يساعد في انتشار الشائعات حول أن اللاجئين يعيشون في بحبوحة اقتصادية، على عكس اللبنانيين، وهي شائعات يروج لها إعلام النظام.
كل هذه الأسباب، مجتمعة، دهورت وضع اللاجئين في لبنان وجعلته يزداد صعوبةً يوماً بعد يوم. وقد استفاد النظام اللبناني من الأمر ليعبر عن نيته بدء إعادة قسرية للاجئين بالتعاون مع النظام السوري، طبعاً. وربما تُنفَّذ خطة إعادة اللاجئين هذه إن لم تستجب الدول المانحة لابتزازات الحكومة اللبنانية ومطالبها. إلى ذلك الحين، سيبقى اللاجئون عرضة للكثير من خطاب التمييز والكراهية، وستكون ربطة الخبز اللبنانية «المدعومة» ثقيلة على معدتهم، ومعجونة بالعنصرية والفوقية.