ملحوظة: «التكرار» هو كتاب للفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد، وقد نشر في عام 1843. اعتاد كيركجارد على نشر كتبه مستعيناً بأسماء مستعارة تكون بمنزلة قناع يخفي وراءه صوت سلطة التوجيه والتشريع الفلسفية. قصد كيركجارد تحرير الاختيار الشخصي للقارىء ليصبح فرداً واعياً بحريته. في كتاب التكرار Kierkegaard, Soren (2009 [1843]). Repetition and Philosophical Crumbles. Tr. M.G. Piety. Oxford University Press. Oxford, UK. يستخدم كيركجارد اسم «كونستانتين كونستانتنيوس»، وهو الاسم الذي سأشير له هنا التزاماً مني بأسلوب كيركجارد الحسي والفلسفي. كذلك، يشكل «التكرار» مجموعة من الرسائل المهداة لصديق كونستانتين الحائر المكتئب، ولذلك أحاكي الصيغة الأدبية نفسها كإشارة لأسلوب كيركجارد الأشبه بالتهكم (irony). لا يمكن اعتبار النص هنا تلخيصاً موجزاً مخلصاً للنص الأصلي، ولكن هدفي هنا تسليط الضوء على قراءة كيركجارد لأيوب باعتباره بطلاً حديثاً. لذلك، أدعو القارئ المهتم بالاطلاع على «التكرار» ليجد فيه نصاً أدبياً فريداً من نوعه عن طبيعة الزمن المحيرة. 

صديقي العزيز،

قرأت رسالتك بتأنٍ وتأملت عناءك غير الهيّن. 

وسألت نفسي ذات الأسئلة: ماذا يفعل شاب مثلك في ظل تبعات فشل الثورة؟ فهمت منك أنك غير قادر على اختيار مسارٍ سليم لمستقبلك، هل تسافر هارباً لاجئاً أم تظل مقيماً في موطنك؟ قد تجذبك الحياة الطبيعية ومشاغلها العادية من زواج وعمل واستقرار. لقد حُرمتَ من تلك «الرفاهيات»، إن جاز التعبير، في أثناء انشغالك بالنضال والمقاومة، ولكنك الآن تقف في منتصف طريق شبابك غير عالِمٍ أين تتجه. ولكني أشعر أيضاً أنك غير مرتاح بخصوص تلك الحياة النمطية، التي تهدد بخطر الضجر والكآبة وفقدان الغاية. هل يمكن للمرء أن يتمسك بإيمانه المخلص بالثورة بعد أن تقود الثورة إلى كارثة؟ إذا تخليت عن مبادئك المثالية، في ذلك ندمٌ. وإن تشبثت بذات المثاليات، ففي ذلك ندمٌ كذلك. كلا الخيارين يُذهبان راحة البال عندك، أدركُ ذلك جيداً. وربما يمكن قول إن الخيارين يشبهان بعضهما حدّ التطابق، الأول يؤدي إلى تشبّث مَرَضي بماضٍ تصنعه الأوهام ورغبة قهرية في تكرار ذلك الماضي، والخيار الثاني يهدّد بفقدان جزء عزيز من نفسك المتمردة الساعية لكل ما هو مثالي وغير مألوف. في كلا الحالتين تصبح فريسة اليأس، ذلك اليأس الجائع لاستدعاء الماضي ولكنه غير قادر على تكراره فعلياً. 

التكرار يا صديقي.. التكرار.. هل ممكن؟ 

هل يمكن تكرار تجربة الحب الأول؟ 

أليست تلك نفس مشكلة صديق كونستانتين كونستانتيوس؟ 

تلك هي الحكاية. الصديق أغوى فتاة في مقتبل العمر أثارت فيه سحر الإعجاب اللطيف. ولكن سرعان ما تبّدل حال الصديق واستسلم للقلق المزعج حيال تلك العلاقة. أصبح الشاب مرتاباً عند الوقوف أمام واجبه المسؤول في طلب يد الفتاة للزواج، حيث عدّ أن تكلفة ذلك تكون التضحية برغبته في أن يكون كاتباً شاعراً، حُرّ قراره. هل يهجر حبيبتهُ أم يهمل موهبته المتأججة؟ يعذبه ذلك القرار المتأزم. إن تركها، يستبدل الحب بذكراه الحزين النادم، إلى أن يأخذ مفهوم الحب المثالي في ذاكرته مكان الفعل الواقعي المعاش. في كلا الحالتين، صديقنا مستاء. أليست الثورة أيضاً حباً خاطفاً معلقاً بين المثاليات غير المحققة والحقيقة الحزينة؟  

أعتقد أن جوهرَي التراجيديا والكوميديا متطابقان. فقط تختلف نهايتهما. يعتمد الاثنان على التكرار والفشل. تخيل معي مشهداً بطله كوميديان مسرحي، جرّه واحد من الجمهور إلى شجار حتى ألقي على الكوميديان دلوٌ من الماء فجأة. إنه مجروح ومهان. ما زالت حركاته تثير ضحك الجمهور الذي ينظر إليه نظرة تمزج بين الشفقة والسخرية. ولكن هذا الممثل الهزلي ليس بالمهزوم بعد. يشد نفسه واقفاً، ولكن يفوته السطح المبلل فينزلق ويتزلج عبر المسرح، ويصعد ضجيج الضحك المهين الساخر. 

يمكن قراءة نفس المشهد وكأنه تراجيديا أيضاً. بل ويمكن اعتبار مصير الكوميديان مطابقاً لمصير الحاكم، بطل المسرحية التراجيدية. الحاكم والكوميديان يبدأن القصة جاهلين بواقع ظروفهما، والاثنان يقعان في فخ تكرار الأخطاء. يكمن الفرق في أن الكوميديان يحافظ على نوع من الدهشة الطفولية عند الوقوع في الأخطاء المتكررة، حيث يتعامل مع ذلك التكرار وكأنه عادي وعجيب في آنٍ واحد. إنما ينهزم الحاكم تحت قوى التدمير والخطأ وهول الصدمة (بدلاً من الدهشة). هنا تكمن القوة الفلسفية للتكرار والفشل في تشكل خبرة الإنسان للزمن. 

أعني بـ «التكرار والفشل» التجربة المألوفة لأي إنسان يسعى لتحقيق هدفٍ ما ثم يواجه خيبة الأمل والإحباط والنتائج غير المقصودة، وكذلك السؤال الحاسم عن إمكانية تكرار التجربة الأولية. أليست كل موجة نضالية تكراراً للنضالات السابقة، وبذلك تتضمن فشل التجارب السابقة وعواقبها أيضاً؟ لماذا نرى في الثورة زمانية المعجزة بدل من أن نراها زمناً مكرراً؟ يواجه كل جيل أسئلة مشابهة للأسئلة التي واجهت الأجيال السابقة، عن كيفية تكرار تجربة التمرد مرة أخرى، عن تجنب أخطاء الأهل والأجداد، بل وربما التكفير عن أخطاء الأهل والأجداد. يبقى السؤال الجوهري، إذاً، عن إمكانية ممارسة تكرار فعلاً بدلاً من مجرد استدعاء. يطرح ذلك السؤال نفسه ليس فقط لكل جيل إنما لكل فرد أيضاً: هل يمكن لي أن أكرر التجربة المتفردة النادرة الحرة ضد (أو عبر) الإيقاع التقليدي للحياة الملتزمة بالقواعد والواجبات والوفاء؟ ومن ثم، هل يمكن تحويل الفعل الذي يعتمد على التكرار (مثل الزواج أو العمل أو العبادة.. إلخ) إلى تكرارٍ واعٍ بنفسه، وليس مجرد تقليد أو تعويد إجباري؟ 

تلك هي نوع الأسئلة التي يطرحها كونستانتين كونستانتيانوس عند مواجهة أزمة صديقه العاطفية. يرسل كونستانتين لصديقه المكتئب مجموعة من الاقتراحات والتجارب لاختبار مفهوم التكرار بأشكاله، والتكرار في تلك الحالة يعني تكرار تجربة الحب مرة أخرى بعد أزمة المرة الأولى، وفقط عندما ينجح الصديق في تحقيق تكرار لمشاعره الأولية (بدلاً من مجرد استدعاء أو تذكر)، يمكن الإجابة على سؤال إذا كان يمكن اعتبار الزواج أيضاً تكراراً يومياً لفعل الحب الأول، أم أنه بالضرورة يعني فقدان شغف الفرد لصالح التقاليد والأعراف. وفي النصف الثاني من الكتاب يطرح الكاتب أيوب كنموذج مثالي وأوحد لتكرار ناجح وملهم. 

التكرار كتاب كوميدي، ليس بمعنى أنه كتاب هزلي مثير للضحك، إنما لأنه يتضمن مفارقة بين المشكلة المطروحة وطريقة التعبير عنها، فكيف لأزمة عاطفية، لا تختلف عن أي أزمة عاطفية يمر بها كل شاب أو فتاة، أن توازي الكارثة الملحمية التي يواجهها أيوب؟ وهنا يكمن عمق قراءة الكاتب لقصة أيوب، إذ يسعى لأن يرسم أيوب كشخصية حداثية أقرب لنا، ولكنها ما زالت أيضاً غامضة وصعبة القراءة والمنال. فمثل أيوب عند حديثه مع رفاقه، صديق كونستانتين (أو كل قارئ للكتاب) على حافة اختيار متطرف بين إرضاء المجتمع وقبول المفاهيم التقليدية للوفاء، أو رفض التقاليد والمجتمع ومحاولة تكرار علاقة أصيلة وحرة بالحياة. 

وأيضاً مثل أيوب، هناك مخاطرة أو خسارة محتملة في كلا الحالتين. إذا استسلم أيوب لضغط الأعراف والمتعارف عليه، يكون قد فقد جزءاً من يقينه بأنه صالحٌ أمام الله، وإذا رفض أيوب مشورة الأصدقاء فإنه يضع نفسه في مواجهة مباشرة متمردة ضد الله ويفقد حجته بأنه صالح. كذلك الإنسان الحديث في شكل صديق كونستانتين، إذا استسلم الصديق للزواج يكون قد فقد جزءاً من شغفه في الكتابة والشعر (وهو جزء لا يتجزأ من حبه للفتاة)، وإن رفض الزواج يفقد الصديق حبيبته وربما إيمانه بالحب. هنا تكمن ضرورة «تجربة» التكرار ووضع الإنسان نفسه في مرمى الخسارة بل والمغامرة غير المضمونة. تكمن هنا أيضاً حدود سيادة الإنسان على قراره، بل ووعيه الكامل بحدود تلك السيادة. وبالحفاظ على ذلك الوعي باحتمالية الفشل وحده يمكن السعي لاسترداد الإنسان لذاته ووعيه ودهشته بالحياة بل وعلاقته بالآخر. لذلك يرى كونستانتين أن أيوب هو الوحيد الذي يمثل النموذج الأول والأمثل لتلك المفارقة، لأن أيوب استردَّ نفسه وإيمانه بالله وخيراته ورحمته فقط بعد إدراكه لحدود سيادته مقارنة بالسيادة الكُلْيَة لله. 

تلك هي نصيحة كونستانتين لصديقه.. أن «يسعى» و«يغامر» بتكرار الخسارة مرة أخرى حتى يجعل نفسه قادراً على استرداد ذاته وحبيبته في النهاية. طبقاً لتلك النصيحة، عندما يهجر الصديق حبيبته دون مقدمات أو تفسيرات، وفي تلك الحالة فقط، يمكن له أن يستعيد شغف الحب الأول مرة أخرى أو أن يصنع الفرصة لاستعادة العلاقة مرة أخرى مصحوباً بوعي أكبر بقيمة ذلك الحب له. ليس سوى الذي يمكن خسارته قادر على كشف قيمته الحقيقية، وكأنما الحب هو سوق للأسهم أو طاولة قمار. ويا لها من نصيحة! أليست تلك مجرد حجة فارغة لتجنب الشاب للمسؤولية تجعل منه «دون جوان» زمانه، غويّ خداع؟ بل وأكثر، يتم تطويع نبي صالح مثل أيوب لمثل تلك المغامرات الصبيانية. 

على كل حال، يدرك كونستانتين في النهاية ضعف تلك الخطة. ويبدأ الشك في مفهوم التكرار ككل. «لقد أدركت أنه ليس هناك تكرار، وتغلبت نظرتي الأولى للحياة» (صـ39). تلك هي المفارقة: الكل يتغير، لا شيء يتغير، وفي كلتا المقولتين يستمر الشك المأزوم بالقدرة على تكرار أي شيء. إذا «نجح» التكرار بالكامل وأصبح لنا نسخة متطابقة مخلصة لحدث سابق، يفقد التكرار وجاهته بحيث تصبح الأحداث مجرد سلسلة متكررة ومملة من الأحداث المتماثلة. وإذا فشل التكرار في نَسخ الحدث لا يمكن استعادة المشاعر الأولية. لا يستثنى من خطر التكرار أي شيء، حتى الثورة مهددة بالكبح داخل بيروقراطيات الأحزاب، التي تسعى لتكرار لا نهائي لتمرد يفرغ معناه مع الوقت، حتى يصبح الثائرون رهينة الهمود والفتور والنسيان والحنين. لا تختلف تلك الأحزاب الرديئة عن الزواج التقليدي الخانق كثيراً. وماذا بعد؟ صديقنا المكتئب اليائس عاد لنقطة الصفر. لا يمكنه الوصول مجدداً لتجربة الحب الفريدة، ولا أن يُكرر الحب مرة أخرى في صورة زواج هنيء هادئ.

هنا يدخل بطلنا الحديث-القديم، أيوب. أيوب نموذج التكرار الناجح الفعلي. أيوب الذي وهبه الله أضعاف أضعاف. «أيوب! أيوب! يا أيوب! هل حقاً لم تنطق أكثر من تلك الكلمات: الرب أخذ، الرب أعطى، مبارك اسم الرب؟» (صـ58). «ليس هناك شخص آخر مثل أيوب يمكن التقرب منه بكل شجاعة وثقة ورجاء، لأن أيوب يمثل كل ما هو إنساني، لأنه يقع على حدود الشعر» (صـ63). 

«هل كان أيوب مخطئاً؟ نعم، للأبد، لأنه ليس هناك محكمة أعلى تقبل التماسه. هل كان أيوب محقاً؟ نعم، للأبد، بنفس قدر ذنبه أمام الله» (صـ69).  

يقترح كونستانتين أن الاختبار الحقيقي في قصة أيوب ليس مجرد كونه قد تعرَّضَ لخسارة فادحة، إنما أيضاً يكمن الاختبار في مواجهة أصدقاء أيوب له، ورد فعل أيوب لتلك المواجهات. ثانياً، أن رد فعل أيوب أيضاً يمكن اعتباره امتحاناً يضعه أيوب أمام نفسه وأمام الله. ثالثاً، أنه مع تلك الخطوة، لا يمكن لأيوب أن يحل وحده تحدي هذا الاختبار الذي صنعه بنفسه، وأنه استدعى الله ليحل العقدة التي تسبب بها أيوب – ويأتي ذلك الحل في شكل «العاصفة». وأخيراً، يكشف لنا الكاتب أننا نخطئ في فهمنا لحبكة القصة إذا اعتبرنا أن أيوب قد استعاد فعلاً ضِعف كل ما فقده سابقاً، لأن الله لم يُحيي أولاده من الموت ولا يمكن إعادتهم للحياة من جديد، مما يعني أنه لا يمكن أن نرى في التعويض الأخير إبطالاً كلّياً لتجربة أيوب في فقدان أولاده. ولكن هنا أيضاً رسالة ماهيتها أن بالرغم من اللارجعة في الحكم بموت الأولاد، يكون وعد الله بالرحمة مرتبطاً ببقاء واستمرار الأبوة والميراث. 

ذلك السياق يذكرنا أيضاً بالمفارقة الضرورية في فكرة العدالة الإلهية. القصة تؤكد حق أيوب في الغضب والشكوى من قسوة حكم الله، وأيضاً تدرك حق الله الكامل في السيادة على حياة الأفراد (أو في قول أكثر علمانية، في ضرورة الموت كواقع إنساني). لا يوجد هنا توازنٌ أو معادلة أو «حلّ» بين حق أيوب وحق الله (أو لا يوجد حلٌّ فلسفيٌ لمشكلة الموت)، إنما يوجد فقط تغييرٌ في الوعي من جانب أيوب يسمح له باستعادة نوعٍ من الدهشة أو التعجب عند النظر إلى سيادة الله الكاملة، أو حرية الله الكاملة في الخلق والرحمة. تلك الصيغة ليست «حلاً» للمشكلة، إنما هي مجرد دعوة للنظر إليها والتعبير عنها بصيغة أكثر صدقاً للمفارقة الضرورية بين سيادة الإنسان المحدودة (حدود يحتمها الموت وتبعاته) وأيضاً دور الإنسان في التحرر من الخوف من الموت واشتراكه الواعي في خِطَّة الله للبشرية (إعمار الأرض). من الضروري التأكيد هنا أن تلك القراءة تبتعد إلى حد ما عن فكرة «الثيدوسيا» أو «مشكلة الشر». 

تلك قراءة أكثر راديكالية من ذلك، لأنها لا ترضى بمجرد حلٍّ «توافقي» أو توازنٍ بين سيادة الله ورحمته، بل هي تُعيد ترتيب تلك المفاهيم (السيادة، الموت، الرحمة، الشر) بحيث تبقى المشكلة كما هي فلسفياً ونظرياً، ولكن من ناحية أخرى تؤكد أن المشكلة الفلسفية تستدعي تحولاً واعياً شخصياً بالكامل يتيح للإنسان – مثل أيوب – استعادة نوعٍ من الدهشة والحرية والمسؤولية كسياقٍ أوسع لتلك المفارقة. أو بمعنى آخر، ترفض تلك الصياغة أي منهج أو سؤال قانوني أو أخلاقي لتصرفات الله، بينما تسمح بتبني رؤية أكثر شمولاً لمكانة الإنسان ودوره وحريته واعياً بحرية الله الكاملة في تمكين تلك الحرية البشرية، بدون أي محاولة لمحو أو «تبرير» (بالمعنى الأخلاقي الضيق) قسوة الموت.  

نظرياً، كان يمكن لأيوب أن يقبل ادعاءات أصدقائه ويقبل أيضاً بضرورة التوبة. فهناك جزءٌ من الحقيقة في حجج أصدقائه. فلا يمكن لأي إنسان أن يدعي أنه بريء كلياً من أي لوم أو عيب أمام الله. وإن أعلن أيوب توبته، نتيجة القصة كانت ستكون كما هي – يستعيد أيوب أهليته أمام الله، كان سيدرك قدرة الله واجتناب غضبه، بل وكان سيتلقى تفسيراً منطقياً مقبولاً لما جرى له. حل التوبة له وجاهته نظرياً و«درامياً»، لأنه يسترد النظام الذي بدأت عليه القصة: أيوب يعود لصلاحه، ويثبت الله سيادته التي لم تمس. أليس ذلك «تكراراً» أيضا؟ ربما. لكن هذا هو الجواب الذي يرفضه أيوب بكل الطرق وتحت أي ظرف، ويختار بديلاً أكثر تعقيداً وهو رفض المواساة أو التبرير أو الحلول «القانونية» التي قد تخفف من فجاعة الموقف، وعلى هذا فهو أيضاً يقاوم تأثير الحلول المقبولة اجتماعياً للتعامل مع المأساة. وبدلاً من قَبُول الحل المجتمعي، يجد أيوب نفسه يقف وحيداً في اختبارا أكثر شدة من مجرد الخسارة الأولية، وهو الوقوف وحيداً متحدياً مُسائِلاً سيادة الله. عبر ذلك، يختبر أيوب محبّة الله له، بل ويختبر أيوب قدرة تحمله أمام تلك المحبة التي لا يمكن لإنسان أن يواجهها منفرداً. بذلك يضع أيوب نفسه والله في مواجهة مباشرة تحت نفس الاختبار، كنوع من المنافسة أو «المزايدة» إن جاز التعبير. عند رفض حلّ مواساة الآخرين، يرفض أيوب أيضاً أي سياق قانوني أو تعاقدي للمشكلة، أي أنه يرفض اتفاقاً يمكن قبوله غصباً، دون أن يختبر أولاً قوة الله ورحمته الكلية كشرط أساسي يأتي قبل أي اتفاق.

بمعنى آخر، يعلّق أيوب التعاقد بينه وبين الله، وأي وساطة بينه وبين الله من خلال الآخرين، لكي يتحقق من أساسيات ذلك التعاقد أي حرية وقوة ورحمة الله ومن ثم حرية وقوة أيوب نفسه. المشكلة حقّاً أن تلك خطوة في غاية الخطورة، لأنها تعلّق العالم وقوانينه بالكامل بحيث لا يبقى أي ضمانة موضوعية لأيوب أنه يمكن أن ينجو في مواجهة الله وحده، وتبقى الضمانة الوحيدة هي إيمان أيوب الكامل في الله. هنا تظهر مفارقة أخرى، إن موقف أيوب يتضمن تحدياً أو تمرداً على الله، مع إيمانٍ كاملٍ برحمته. عند تلك النقطة، يعطّل أيوب النظام الطبيعي للتعامل بين الله والبشر، ويستدعي الله نفسه ليوضح أساسيات ذلك النظام (الذي بدأ يفقد معناه ويظهر كفوضى). الآن المشكلة كالآتي: إن قبلَ الله التحدي في صيغته الحالية، قد يظهر الله وكأنه تحت التزامٍ ما بالرد على أيوب، وان رفض الله التحدي، يستوجب عليه أن يعاقب أيوب على تمرده، والعقاب هنا يكون تدمير أيوب، ويُعَدّ ذلك انتصاراً للشيطان. بذلك صنع أيوب بكامل إرادته معضلة تسبب حرجاً له ولله معاً. مفارقات تتبعها مفارقات أصعب! 

ولكن تنجح الخطَّة، في صورة العاصفة. ولكنه ليس نجاحاً بمعايير أيوب، ولذلك يمكن اعتبارها فشلاً أيضاً. يفشل أيوب في الوصول لإجابة مقنعة لشكواه، ويرفض الله أن يجيب عن أي من الاتهامات الموجهة له. وبذلك يبطل الله «الاختبار» أو صياغة أيوب لمعايير الاختبار ذاك. ولكن في الوقت نفسه، يكافئ الله أيوب على شجاعته في المواجهة، حتى بالرغم من الخطر الحقيقي في ذلك التمرد وتلك المُساءلة غير المشروعة. يكافئ الله أيوب بالكشف عن رحمته وسيادتها الكاملة، التي لا يمكن أن تحتويها لغة أيوب ومفاهيمه أو مفاهيم أصدقاؤه، وهو بذلك يكشف لأيوب أن هناك قدراً كبيراً من «التفضل» و«المصادفة» (contingency) في الخلق والحفاظ على نظام الكون، وأنه يجب على أيوب التذكر دائماً بأن الله غير مُلزَم بمشاركة خلقه مع الإنسان (وغير ملزم بالخلق من الأصل، ولنا أن نتخيل أن الوجود هو في نفس احتمالية العدم عند الله، وأن مصادفة الوجود نفسها تعبيرٌ عن إرادة إلهية حرّة في الخلق) وهو بذلك يؤكد أن في الخلق وحركة الكون دليلاً دائمًا على تلك الحرية الفائضة التي ينعم بها الله على خلقه. 

بالطبع يمكن قراءة ذلك الخطاب الإلهي على أنه تعبيرٌ عن ديكتاتورية طاغية متعسفة، والنص الكتابي يوحي بوضوح لتلك القراءة أو على الأقل يقبل وجاهتها. ولكن… تلك هي الطريقة الوحيدة للتأكيد على حرية الإنسان أيضاً (مفارقة أخرى!). إن لم يكن الله كامل السيادة، أو إن كان «ملتزماً» بأي شيء، فنتيجة ذلك فلسفياً إما أن الحرية في فعل الخلق نفسها غير ممكنة، أو تصبح الحرية مورداً محدوداً يجب تقاسمه أو الصراع من أجله بين الله وباقي الخلق (وبين الكائنات نفسها). ولكن إن كان الله كامل الحرية والسيادة، يمكن تخيل أنه يقبل مشاركة عباده وخلقه لتلك الحرية وتلك الرحمة معه دون منازعة وفي توافق تام – مع أنه غير مُلزَم بذلك أيضاً. بل وأيضاً يمكن اعتبار أن سيادة الله هي الضامن الوحيد لهذا المفهوم «التشاركي» الحر لمفهوم السلطة. ولذلك أيضاً يمكن أن نتخيل أن تمرد أيوب فعلٌ ضروري لجعله شريكاً في تلك الرحمة الفائضة، وفي ذلك تحرّرٌ، وكذلك فشلٌ في تحقيق سيادة إنسانية على سردية الوجود. فشل وتحرّر، في آن واحد. أو تحررٌ من خلال الفشل. تكراراً! 

«أنتظر عاصفةً… وتكراراً أيضاً» (صـ70) 

لا أعلم كيف قادتني كتابة الرسالة إلى تلك النقطة. لكني أودّ أن أختم بالرجوع لمشكلاتك. هل يمكن تكرار حبٍّ في صياغة جديدة أكثر حرية؟ هي يمكن تكرار فعل الثورة والتمرد؟ هل يمكن جعل الفشل نوعاً من التحرر، مثل نموذج أيوب؟ وهل يمكن العودة للحياة بعد الثورة، مثل عودة الحبيب اليائس إلى حياة الزواج النمطية العادية؟ وهل يمكن عودة الثائر للحياة اليومية والتزاماتها العادية من عمل وصداقات وولاءات؟ بشكل شخصي، لا أرى أنه من الممكن تكرار تمرد أيوب. لا تسمح الظروف الآن بفعل مثل هذا. وإن ظهرت العاصفة وهددت بفناء البشر، لا يوجد «اختبارٌ» ممكنٌ لمعرفة إن كان ذلك صوت الله أم لا. ولا أعلم ما السيناريو الأفضل، إذا تكلّمَ الله أو لو أنه صمت. ولكن يبقى أيوب ومحنته فرصة للتفكير في معاني الفشل والحرية وإفساد توقعات الحياة، وان كانت تلك الأزمات فرصة ما لتجربة التحرر وتكرار التحرر. ولكن، ربما هذا ما نحتاجه، أن تأخذ من تراجيديا أو كوميديا الفشل نقطة بداية لرسم خطوط جديدة لمفهوم الحرية والثورة ذاته.

المخلص