قبل أربعين يوماً رحل نبيل كمير فجأة وهو في السادسة والستين. قبل الرحيل تسنّى لنبيل مع زوجته وابنتيه أن يلتقي في كردستان العراق لأول مرة في سبع سنوات الابنة الكبرى سارة المقيمة في كندا. مثل عائلات سورية كثيرة، احتاجت الأسرة إلى بلد وسيط للقاء بعد أن تطاول لمّ الشمل المأمول سنوات، تُسرق من أعمار الآباء والأمهات. بعد العودة إلى اللاذقية بشهور قليلة مات نبيل بأزمة قلبية. كان آخر ما قاله لإيمان: يا عمري! يا عمري!

كنا طالبَين في جامعة حلب في أواخر سبعينات القرن الماضي، وعضوين في الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي المعارض للنظام، ثم معتقلَين في الشهر الأخير من عام 1980، بين 26 من رفاقنا في ذلك الوقت. نبيل الذي كان يدرس الهندسة المدنية وُضِع على «بساط الريح» فور وصوله إلى فرع الأمن السياسي في حلب، لكنهم فكّوه بعد دقائق لأنه كان ثملاً والضربات لم تكن تؤثر فيه. استأنف الجلادون العمل على جسده صباح اليوم التالي، ولم يظفروا من نبيل بشيء. بعد الاعتقال والتعذيب كنا نُحال إلى السجن لآماد غير معلومة. كان نظام حافظ الأسد لا يعتقل أفراداً من التنظيمات المجاهرة بمعارضته، بل يعتقل التنظيم كله، يبيده سياسياً. 

نبيل الذي ولد في دير الزور عام 1956 كان من جيل من الشباب السوري المتعلّم الذي يناضل من أجل الحرية والعدالة في بلده. كنا شيوعيين وقت كانت الشيوعية تبدو مطابقة للتقدّم الذي تمتزج فيه مصالح الطبقات المحرومة بالحريات العامة وبالاتجاه الصحيح للتاريخ. وكنا مستقلين ونقديين، فلا ندين لسلطة تعلو على ما كنا نؤمن أنها مصلحة بلدنا وشعبنا. كان ثمة شيء دونكيشوتي في معارضتنا لنظام يتغول، لكن هل هناك معارضة لأوضاع متوحشة ليس فيها شيء حالم وغير واقعي؟ سورية وقت اعتقالنا كانت تنتقل من بلد متخلف، وراءه حياة سياسية مضطربة، إلى العيش في حاضر مؤبد، محرومة من المستقبل.    

جمع نبيل، الذي كان له كل النصيب من اسمه، بين شيئين ليس اجتماعهما شائعاً، بين الجدّية والعدالة الشخصية والكرم وطيب المعشر من جهة، وبين الظرف وخفة دم استثنائية، فكان بذلك بطلاً من أبطال السجن. في سنوات السجن الطويلة، أهم أوجه البطولة هو العمل على جعل حياة شركاء السجن رخية بقدر المستطاع. قد لا أكون ضحكت مرة في حياتي أكثر من تلك الأمسية في المهجع التاسع في «جناح السياسية»، بينما نبيل يعزف على «السلّاتة» التي نشطف بها الماء عند تنظيف المهجع، متمايلاً على طريقة المغنين الغربيين في تلك الأيام، ومخترعاً كلمات تبدو أجنبية لتعطي دلالة بذيئة في العربية. ويختم وصلته بهتاف شيطاني: جيسمي تي بادره منجاتو كاني ماني…، من المحتمل أني نسيت شيئاً من هذه الصيغة السحرية التي سمعتها قبل 41 عاماً، لكن يفترض لتمامها أن يعني بالإيطالية: «لقد قتلت أبي، وأكلت لحم إنسان، وإني أرتعش لذة!» وأظن أنها جملة وردت في فيلم لبيير باولو بازوليني. 

https://youtube.com/watch?v=k0FpVJbx9ys

بعد شهور من ذلك الحفل البهيج، تعرضنا لحملة تأديبية، آلت بنصفنا إلى زنازين انفرادية دون أغطية في عز مربعانية الشتاء. كنا موزعين على مهجعين، نتعرض لاستفزازات مهينة من عناصر الأمن العسكري (الذين شاركوا الأمن السياسي الجناح نفسه، وكانوا أقوى وأشد عدوانية)، حتى قررنا ذات يوم الاعتصام في المهاجع، ثم إعلان إضراب عن الطعام. وعلى الفور طلبت مفرزة الأمن السياسي فريقاً قمعياً من الفرع في حلب، وتعرضت مجموعة من رفاقنا العزل في المهجع التاسع للضرب المبرح من قبل مجموعة مسلحة بالهراوات والأكبال، قبل نقلهم إلى الزنازين الانفرادية في قبو السجن. نصفنا الآخر تُرك بدون عقاب، لكن مُرتاعين، مكسوري العزيمة، ومستباحين لشهور بعدها. كان نبيل واحداً من المجموعة، ولم أكن منهم. كنت انتقلت إلى المهجع العاشر قبل ذلك أسابيع، فنجوت من هذا التأديب. لكن لعل هذه المحنة التي أتت بعد أكثر بقليل من عام واحد من اعتقالنا عززت روابطنا وأعطتنا تاريخاً.  

كان بوراكو أو بوراك هو لقب نبيل في السجن، جاءه من لعبة ورق يبدو أن اسمها الصحيح خارج عالم السجن هو موراكو. كان رفيقنا فاروجان خجادوريان هو من أطلق هذا اللقب على نبيل، ولم يكن يكف عن رواية قصة الاسم بأسلوب مسرحي. نبيل: خلونا نلعب بوراكو! فاروج: يالله، علِّمنا كيف! – لكن بدها ورقين! طيب يا نبيل تعرف إنو ما عندنا غير ورق واحد! وتقول الرواية التي قد لا تخلو من كاريكاتير أن نبيل كرر اقتراح اللعبة التي لا تُلعب بورق واحد هو كل ما لدينا وقتها حتى التصق به هذا الاسم. كان هو من سيعلمنا اللعبة التي ستصير لاحقاً أكثر ما كنا نلعب، إلى جانب التريكس.

كنا شريكين في «السُخرة»، نتناوب كل يوم اثنين على خدمة رفاقنا الآخرين، فنستقبل «القروانة»، الخبز والشاي الفاتر وعلى وجهه طبقة رقيقة من الدسم، والفطور الذي قد يكون لبنة أو بيضاً مسلوقاً أو جبنة بيضاء في موسمها… ونبسط السفرة مستخدمين صحون البلاستيك وكؤوس الميلامين، يأكل عليها الجميع، ثم نلم كل شيء وننظف، ونفعل الشيء نفسه بخصوص الغداء، أما العشاء فقد تركناه حراً، يتولى كل واحد منا أمر عشائه بنفسه. تظهر عذوبة الطبع في مواقف الخدمة. كان نبيل يقوم بالخدمة بهمة طيبة ومزاج رائق. 

نبيل لم يطل به المقام في السجن، خرج بعد أربع سنوات من اعتقال عُرفي. أكمل دراسته الجامعية وتخرج مهندساً مدنياً وعمل في مشاريع خاصة في مدينته دير الزور. تزوج إيمان التي تصغره بسنوات، لكنها صارت زميلته بفعل سنوات غيابه في السجن، وأنجبا ثلاث بنات، سارة وجودي وسام. كان عمل نبيل طيب المردود لسنوات، إلا أنه واجهته مشكلات خاصة أضاعت تعب سنوات، وتركته غاضباً مستاءاً.     

لم يعد نبيل إلى العمل العام الذي تضيّقت قاعدته بقدر كبير حتى نهاية القرن، وحين اتسعت قليلاً في مطلع القرن أخذت شكلاً مختلفاً جداً: أفراداً معنيين بالشؤون العامة، يتطلعون إلى سورية تعددية ديمقراطية، لكن لا يجمعهم تنظيم أو إيديولوجية بطاقة تعبوية قوية. 

نحو مطلع القرن تحولت الأسرة من دير الزور إلى اللاذقية، المدينة التي تنحدر منها إيمان. كنا نلتقي في الصيف على شط المتوسط، كهولاً أربعينيين نقضي بضعة أيام خلية البال مع شريكاتنا والأطفال لمن صاروا بيننا آباء وأمهات. كريماً، مضيافاً، ظل نبيل يعرف جيداً كيف يستمتع بالحياة ويجعل حياة من حوله رخية وطيبة. 

نبيل الذي رحل يوم 26 حزيران الماضي أًحَب وأُحِب، وعاش حياة كريمة بقدر المستطاع في بلد تقوم دولته على حرمان المحكومين من الكرامة. 

وداعاً يا أبو سارة!