عن دار ميسلون للنشر والتوزيع صدرت الرواية الأولى للصحفية والرسامة السُّورية يارا إسعاف وهبي وشمسٌ أطلَّت على ديارنا الغريبة في شهر شباط من عام 2022. يمكننا تصنيف الرواية ضمن روايات أدب الحروب، وإن لم تتحدَّث مباشرةً عن الحرب الدائرة في سوريا، إلَّا أنَّها تقف على تخوم الحرب لتروي قصص لجوء السوريين إلى ألمانيا، ونتساءل: لماذا كتبت يارا هذه الرواية الآن بعد أن مضى على بدء الثورة أكثر من عشر سنوات؟ تقدم الكاتبة إشارات يمكن أن تدلنا على الإجابة التي نبحث عنها، حيث تقول كما هو مكتوب على الغلاف: الرواية «رغبة حقيقية في إعادة الحق إلى الكلمة بدلاً من صوت الرصاص وقذائف المدفعية»، يمكن أن نستشفُّ إذاً أنَّه في وقت الحرب يتمُّ تغييب المشهد الثقافي أو أنّه يتراجع قليلاً ريثما يعيش تحولاته التي ستؤدي إلى نضوجه وتكامله من حيث الرؤية، وربَّما وجدت الكاتبة أنه قد آن الأوان لكي نرى من مسافة جمالية مناسبة سمح بها الوقت الأمور بشكلٍ أكثر وعياً ودقَّةً.

اختارت الكاتبة أن تحكي قصص الآخرين ولم تحكِ حكايتها كما اعتدنا في روايات أدب الحروب، وفوق ذلك نراها تتعمَّق بالتفاصيل التي قد لا تثير الانتباه، ليس لأنَّها تافهة وصغيرة، بل لكونها تفقد وجودها أمام الأحداث الكبرى التي تمرُّ بها سوريا، إنَّها تبحث عن الوتر الأكثر حساسية لتلعب عليه بكلماتها، الإحساس بالغربة، الانعزال، الرغبة بتحقيق الذات من جديد في بلد الاغتراب، وهي قضايا قلَّ من تحدَّث عنها كموضوع مستقلٍّ ومتكامل.

تتوالى الحكاياتُ في الرواية على لسان الشَّخصيات لتصبح حكاية السوريين أرضيةً للوحةٍ تشكيليةٍ تنتمي للفنِّ السوريالي؛ لأنَّها تحكي على معطيات الواقع المتشظِّي التي عبَّر عنها السرد من خلال الحكايا، ثمَّ تغوص عميقاً في العقل الباطن حيث منطقة اللاشعور التي تنطوي على الكثير من الإشارات والدِّلالات المعبِّرة عن رؤيةٍ للعالم تتخطَّى الواقع القائم وتؤسِّس للممكن الآتي.

تحاول الكاتبة المتخفّية وراء بطلة الرواية شمس، والتي تعمل في معهد اللغات لتعليم اللغة الألمانية للاجئين الجدد، أن تجمع تحت مظلةٍ واحدةٍ السوريين الذين غادروا وطنهم بعد أن لاقوا من عذابات الحرب ما لاقوا، بدءاً من الجوع والخوف، ومروراً بالتشرُّد والضياع، وانتهاءاً بالفَقْد والموت، فالأسباب التي تركوا سورية من أجلها كانت كما كان البحر قاسماً مشتركاً لكل الحكايات التي حكتها الشخصيات لشمس، لذلك فقد كانت الكاتبة حريصة على التعامل مع الجانب الإنساني للقصص من دون أن تؤثِّر التفاصيل الهامشية على التسامي الشعوريِّ الذي تودُّ الكاتبة طرحه في روايتها، ويبرِّر تلك المحاولة أنَّ معظم الشخصيات التي عبرت البحر أصبحت تعاني من التأرجح النفسي بين الهزيمة والانتصار، بين انطلاقهم في أوائل الثورة رافضين الاستبداد ومطالبين بالحرية وبين هزيمتهم حين خرجوا خائبين من وطنهم، لذلك بقي سؤالهم من دون جواب: هل يعدُّ وصول السوريين سالمين إلى ألمانيا انتصاراً؟ أم هو وجهٌ من وجوه الهزائم التي لم تتوقف عن ملاحقتهم؟ ولترسيخ هذه الفكرة استخدمت الكاتبة رمز السمكة للتعبير عن حالة انتزاع السوريِّ من وطنه بشكلٍ قهريٍّ، فالسمكة التي سمَّاها أبو جابر ثورة اختارت الموت على أن تخرج من موطنها، وذلك يحيل على الهزيمة التي مُني بها السوريون النازحون بعد أن حادت ثورتهم عن هدفها ومسارها، ففي أكثر من موضع تشير الكاتبة إلى أنَّ الأجساد هاجرت فعلاً، ولكن الأرواح رفضت أن تغادر أرض وطنها فماتت حزناً وكمداً.

تسعى الكاتبة في روايتها كذلك إلى أن تدير دفة الاهتمام في روايات أدب الحروب نحو قضايا تعرَّض لها السُّوريون رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، بعد أن اجتازوا البحر في رحلة الشقاء والموت، ولعل قضية الاندماج من أهمِّ تلك القضايا التي واجهت ردَّات فعل مختلفة عند اللاجئين السوريين، ولا سيَّما أنَّهم جاؤوا محمَّلين بعاداتهم وتقاليدهم، بدينهم، بلغتهم، فكانت فكرة الاندماج نوعاً من الانتهاك لخصوصية الشُّعوب، ورفضاً للحاضر حدثاً وزماناً ومكاناً لدى البعض، بينما تقبَّل البعض الآخر فكرة الاندماج وسعوا إليها، ساعدهم على ذلك أنَّهم استطاعوا تجاوز العقبات التي تعيق الاندماج، كتعلُّم اللغة التي مدَّت لهم جسر التواصل مع الألمان، والحصول على عملٍ يضمن كرامة الإنسان ويساويه مع أهل البلد قدر الإمكان. 

الكتابة الثورية

تتجسَّد في الرواية نوستالجيا الوطن من خلال بطلتها شمس إذ لا تفتأ الذكريات والقصص التي تسمعها تجرُّها إلى الماضي حيث كان للطعام في الوطن نكهته الخاصة، ولفنجان القهوة قصة عشقٍ لا يملَّ الإنسان من سماعها، فالغربة في ليالي ألمانيا الباردة تشعل نار الشوق للتفاصيل الصغيرة في الوطن، وكأنَّ ما تعيشه الشخصيات هو ظلُّ ذلك الأصل الذي لا يمكن أن يكون خارج الوطن، وتشكِّل الجدة في الرواية صندوق الذكريات الذي تُخرِج منه شمس الكلمات والعبارات، والحركات والسكنات، فتأنس لها وتؤنسها، ولعلَّ الكاتبة استخدمت اسم البطلة في عنوان الرواية لتصبح دلالة العنوان بوصفه عتبةً نصيَّةً أكثر سعة من كونه اسماً لشخصية البطلة، إذ تحيل هذه الشمس على الحرية التي قدَّم لها السويون قرابين ما انتهت ولن تنتهي، كما تحيل على الحقيقة التي ينبغي أن يعرفها الأجيال الذين لم يدركوا معنى الوطن بعد.

تتعمَّد الكاتبة ربط النوستالجيا السورية بنوستالجيا الحروب الألمانية، وذلك من خلال ذكريات القهر والهزائم التي جرَّتها نازية هتلر على الألمان، فالحكومات الديكتاتورية تتشابه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ من حيث تطبيق أنظمتهم القامعة على الشعوب، ومن حيث تجذير الخوف في نفوسهم، لذلك فإنَّنا نسمع في هذه الرواية صدى الهزيمة التي لحقت بألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وصدى ما مارسته الحكومة النازية على الشعوب نتيجة نظرتها الاستعلائية والعرقية من جرائم انطبعت في الذاكرة ولم تُمْحَ بزوال جدار برلين وسقوط النازيين، هذه الأصداء المقيتة ستتجدَّد مع نظام الحكم الأسدي في سورية، وفي قاع البحر حيث غرق الكثير من السوريين سيلتقون جميعاً مع اليهود الألمان الذين فرَّوا من النازية الماحقة لكلِّ مختلفٍ عنها، سيحكي الألمان عن غوَّاصة هتلر التي لحقت بهم وقتلتهم ورمت بجثثهم للبحر قبل أن يصلوا أمريكا، وسيحكي السوريون عن براميل بشار الأسد المتفجرة التي دفنت أجساداً كانت تحلم يوماً ما بالحرية.

وعلى الرغم من امتداد الحكايات التي تتكلَّم عن تجربة السوريين النازحين إلى ألمانيا على مدار 332 صفحة إلَّا أنَّ الكاتبة لم تغفل عن استشراف رؤيةٍ للمستقبل من خلال الأطفال الذين كان لهم حضورٌ مميزٌ في روايتها كأمنيةٍ أن يعيشوا مستقبلاً أفضل مما عاشه الكبار، وألا تكون نوستالجيا الوطن واحدة من همومهم النفسية، حين يبدؤون دورة حياة جديدة.