مقدمة
انطبعت علاقة روسيا، في القرون الوسطى وفي العصر الحديث، بالعالم الإسلامي، منهجياً، بالإسلاموفوبيا.لا أستخدم اصطلاح «إسلاموفوبيا» في هذه المقالة بالمعنى الحرفيّ، وهو «الخوف من الإسلام»، بل أشيرُ به إلى منظومة من العداء للمسلمين والإسلام. بأوسع معنى لهذا التعريف، يمكن استخدام اصطلاح «إسلاموفوبيا» لتحليل المسار التاريخي الذي أدى إلى وضع المسلمين في خانة «الآخر» ضمن منظومة تمييز وهيمنة وحكم قائمة على أسس دينية عرقية. بدأ ذلك، إلى حد كبير، في القرون الوسطى واستمر إلى العصر الحديث، وعمّت هذه المنظومة في المقام الأول، وإن لم يكن الوحيد، في الغرب. يتناول الاصطلاح النظر إلى «الآخر» من النواحي البيولوجية والثقافية والسياسية وغيرها من الجوانب الوجودية التي تضع مجموعات بشرية كاملة في فئة أدنى. للتوسع في معاني هذه التعريفات للإسلاموفوبيا، انظر كتاب التفكير عبر الإسلاموفوبيا لسيد ووكيل (2010). رغم ذلك، قلائل هم الباحثون الذين كتبوا عن الإسلاموفوبيا الروسية المستمرة منذ زمن بعيد. في هذه المقالة، أتقصّى أصول الإسلاموفوبيا الروسية، من العهد القيصري في القرون الوسطى إلى روسيا السوفييتية وما بعد السوفييتية. لطالما استُثنِيت روسيا من دراسة وتحليل الإسلاموفوبيا في العالم، حيث لا تشملها الدراسات التي تتناول الإسلاموفوبيا في الغرب. تُعتَبر روسيا، منذ زمن، شريكة في الحضارة الغربية. فباعتبارها منطقة خضعت تاريخياً لقيادة البيض المسيحيين، يُرى في روسيا، وهي ترى في نفسها، ما يشبه إسبانيا شرقية، وتعد نفسها الوريث الشرعي لبيزنطة المسيحية الأورثوذوكسية. فكما تتصل إسبانيا وجنوب أوروبا مع العالم الإسلامي عبر البحر المتوسط، تتشارك روسيا الحدود في آسيا مع مناطق توسّع الحضارة الإسلامية في أوروبا الشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى. وتعود أولى العداوات بين روسيا وجيرانها المسلمين إلى القرون الوسطى. امتدّ هذا الشكل المبكر من الإسلاموفوبيا إلى الفترة السوفييتية وما بعدها، وازداد حدة. ترافقت تجليات الإسلاموفوبيا مع منطق جديد مرتبط بمنظومة الحكم العلمانية التي تطورت ضمن الدولة الوطنية الحديثة. تركز هذه المقالة على هذه الفترات، وتخلص إلى أنها تُشير إلى إسلاموفوبيا مستمرة تتقاطع في الكثير من ملامحها مع الإسلاموفوبيا المنتشرة في الغرب.
الإسلاموفوبيا الروسية في العصور الوسطى
بدأت قصة الإسلام في الأراضي التي نسميها اليوم روسيا على ضفاف نهر الفولغا، فيما يعرف بالفولغا الأدنى والفولغا الأوسط، عام 922م، حين أرسل الخليفة العبّاسي، المقتدر بالله، الرحّالة ابن فضلان (توفي 960)، العالم المسلم من أصول عربية (أو يونانية) إلى ملك بلغار الفولغا، الذين سماهم العربُ بالصقالبة، وهم قوم بدو من الأقوام التركية التي كانت تدين بالديانة التنغرية. اعتنق بلغار الفولغا الإسلام جماعياً عام 922، وشهدت المنطقة بعد ذلك نمواً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً أقام صِلةً بين سهول أوراسيا والكيانات السياسية الإسلامية في غرب آسيا خلال قرنين أو ثلاثة قرون تالية، وتحكمت المنطقة بالتبادل التجاري بين أوروبا وآسيا، الذي تم عبر نهر الفولغا. بدأت المسيحية الأرثورذوكسية بالانتشار في المناطق التي سكنتها الأقوام السلافية، شرق الفولغا، بعد أن اعتنقت أولغا، أميرة كييف (توفيت 925) وحفيدها فلاديمير الكبير (توفي 1015) المسيحية الأرثوذوكسية الشرقية، ونشطا في دعوة السلافيين وغيرهم من الأقوام المحلية من سكان المنطقة التابعة لدولة روس كييف، التي ستنشأ منها روسيا لاحقاً. أدى ذلك بِروس كييف، وهم من أبرز أصول الحضارة الروسية، إلى الاندماج في الإمبراطورية البيزنطية وحياتها السياسية والاقتصادية والثقافية. اتّسم معظم هذا التاريخ بين المسيحية الأرثوذوكسية والدول الإسلامية في سهول أوراسيا الشرقية بالسلام النسبي، حيث لم ينشأ عداء مقيم بين الطرفين. وكان التفاعل، بين القرن الثامن والقرن العاشر، بين روس كييف والأقوام المسلمة (مثل خانية الخزر وبلغار الفولغا، وبدرجة أقل خوارزم وبلاد الصغد وبخارى وسمرقند وإيران الساسانية والخلافة العربية) من العوامل المساهمة في تشكيل الإثنية الروسية لاحقاً، إلى جانب الممارسات السياسية والقانونية والاقتصادية التي كانت شائعة بين «الوثنيين» ما قبل تَشكُّل روسيا.
كما هو حال الحملات الصليبية (1100-1400م) بالنسبة للغرب، والعهد الحديث/الاستعماري (من أواخر القرن السادس عشر إلى الزمن الحالي)، فإن للقرنين العاشر والسادس عشر أهمية في العلاقة بين العالم الروسي والعالم الإسلامي. في القرن العاشر، تأسست الحدود الجيوسياسية والحضارية بين الأقوام الروسية والأقوام المسلمة، وما زالت هذه الحدود مؤثرة حتى اليوم. في أوائل القرن العاشر، كان الخط الفاصل بين «المتحضرين» و«البرابرة» على عكس ما هو اليوم، حيث كانت الدول الإسلامية المتطورة في آسيا الوسطى (على ضفاف الفولغا وجبال القوقاز الشمالية وديربنت وسير دانيا، إلخ) ترى في الأقوام السلافية التي انحدر منها الروس شعباً متخلفاً بدائياً وغير مُتحضّر. وشهد تاريخ العلاقات بين أسلاف الروس والمسلمين، من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر، تفاعلات معقدة بين عدة أقوام مستقرّة وبدوية اعتنقت المسيحية والإسلام واليهودية (مثل مملكة الخزر) أو ديانات أخرى في المناطق الواقعة على حدود أوراسيا. حتى ذلك الحين، لم تكن هذه التفاعلات قد شكّلت علاقة «سلبية» بعد. تغيَّرَ ذلك من القرن الثالث عشر حتى القرن الخامس عشر، حيث ترك الغزو المغولي للأراضي «الروسية»لم تصبح «روسيا» الدولة التي نعرفها حتى بداية القرن الخامس عشر، تحت حكم إيفان الثالث (توفي 1505). وعندما أَذكُر روسيا قبل هذا التاريخ، فإنما أقصد الكيانات والمجموعات التي أدى مسارها التاريخي إلى تأسيس روسيا، مثل دولة روس كييف ودوقية روسيا الكبرى وغيرها من الكيانات السياسية التي أسستها شعوب الروس في شمال شرق أوروبا وقسم من سهول أوراسيا الغربية، والتي مهّدت لنشوء النظام القيصري في بدايات العصر الحديث. في القرون الوسطى أثراً عميقاً في الوعي الجمعي الروسي. طيلة ثلاثة قرون، لم تكن لروسيا سيطرة على الاقتصاد السياسي الذي عمّ نحو قرن من الزمان في ظل «السلام المغولي»باللاتينية Pax Manglica، وترجمتها الحرفية «السلام المغولي»، وهي الفترة الممتدة بين القرن الثالث عشر والقرن الرابع عشر، التي حكم خلالها المغول أراضي شاسعة من أوراسيا وطريق الحرير، من أوروبا الشرقية إلى جنوب شرق آسيا.، وهي الفترة التي سيطر فيها المغول على المناطق الواقعة بين البحر الأسود والمحيط الهادئ، والذي ضمّ طرقاً تجارية تربط أوروبا بالصين (طريق الحرير) وبالهند (طريق التوابل). تعرضت المناطق الجنوبية من روسيا لدمار كبير، وأَجبرت القوات المغولية سكانها على الهجرة، في حين لم يشمل التبادل الاقتصادي بين الشرق والغرب المناطقَ الشمالية من روسيا.
اعتنقَ حكّام «القبيلة الذهبية»«القبيلة الذهبية» هي التسمية الروسية لما عُرِف بالتترية باسم «أولوس جوجي»، أي الجزء الغربي من الإمبراطورية المغولية. ازدهرت هذه الدولة من أواسط القرن الثالث عشر إلى نهاية القرن الرابع عشر، وضمّت مزيجاً من الشعوب التركية والمغولية بالدرجة الأولى. تمّ تتريك وأَسلَمة المنطقة مع مرور الزمن، ولا سيما تحت حكم أوزبك خان (توفي 1341)، الذي اعتنق الإسلام وجعل منه الدين الرسمي للدولة (القبيلة الذهبية وأوز بيك). في هذه المناطق من آسيا الوسطى الإسلام، ولكنهم حافظوا على «التسامح الديني» المُعقّد الذي اشتهر به جنكيز خان. أدى تصاعد قوة ما عُرِف بالقيد المغولي التتري إلى شرذمة توسّع الحضارة الروسية والحد منه، ووصفه مؤرّخون روس معاصرون بأنه «عصر ظلام» لروسيا. علاوة على ذلك، تناولَ مؤرخون مستشرقون روس وسوفييت الفترات التي خاض فيها الروس صراعات مع الدول المسلمة ووصفوها بأنها «حملات صليبية»، رغم أنها لم تكن مطروحةً على أنها كذلك في زمنها. يصور المؤرخون الروس الحديثون فترة هيمنة المسلمين التتر على المنطقة على أنها حقبة مَلَكيّةٍ مطلقة وإقطاع وحكم مغرور، وهي النتيجة المباشرة لسيطرة حُكّام القبيلة الذهبية. ليس النقاش هنا ما إذا كان هذا الوصف دقيقاً من الناحية التاريخية أم لا، ولكن المُلفِتَ أن هذه السردية التاريخية، التي تصف انحلالاً حضارياً وحملات صليبية وعصر ظلام، لا تندرج ضمن الذاكرة التاريخية لدول المنطقة الأخرى التي غزاها المغول، مثل الصين وإيران وتركستان وجورجيا وأرمينيا. في الوقت نفسه، زرعت هذه المرحلة عقدة نقص طويلة الأمد لدى الروس تجاه حُكّامهم المسلمين السابقين، ما زالت قائمة حتى الآن لتطبع بطابعها الفريد العلاقات الروسية الإسلامية حتى اليوم. يقول بينغسن:
«هذه العلاقة الغريبة بين “أخ أكبر” (روسيا) يشعر بعقدة نقص تجاه “الأخ الأصغر” (المسلمون) متجذرة في الكراهية التاريخية لدى الروس تجاه المسلمين عموماً، وتجاه المسلمين التُّرك والتتر خصوصاً. استمرّت هذه العقدة لقرون، وحوّلت الاندماج الثقافي والحيوي بين الجنسيات التي خضعت لحكم الاتحاد السوفييتي حلماً مستحيل التحقيق». إضافة إلى ذلك، ثمة تشابهات ملفتة بين التصوّر الروسي لهذه المرحلة على أنها «عصر ظلام» للمسيحية، والتصوّر الأوروبي للمرحلة نفسها على أنها «عصر ظلام» أيضاً. يبدو أن عصور الظلام لا توجد في المخيّلة الأوروبية إلا عندما تكون الحضارة الإسلامية في موقع القوة.في كتابه فلاسفة الرب: كيف وضع العالم القروسطي أسس العلم الحديث (2010)، يدافع جميس هنام عن الحاجة إلى تغيير النظرة إلى القرون الوسطى على أنها «عصر ظلام»، فهي لم تكن فترة تَرَاجُع وانحلال، بل عصراً مقعداً من من النمو والتطور في العلم والتكنولوجيا ومختلف جوانب الحياة البشرية في المسيحية الغربية، أدّت إلى وضع أسس مراحل تاريخية لاحقة مثل مرحلة الإصلاح والتنوير. وليست فكرة «عصر الظلام» إلا مفهوماً اجتماعياً خلقه الأوروبيون لتبرير دفاعهم عن العلمانية باعتبارها انفصالاً كاملاً عن الماضي. بذلك، تصبح فكرة عصر الظلام أداة علمانية «لصناعة تاريخ» ينسجم مع رغبات التأريخ الأوروبي الحديث. وفي ظل المشاريع الأوروبية والروسية المعادية للمسلمين على المدى البعيد، يبدو واضحاً أن إحدى الوظائف الحداثية/الاستعمارية هو صياغة مفهوم التاريخ نفسه بحيث يكون مضاداً للمسلمين. ويتّضح هذا بشكل أكبر عندما يؤخذ في الاعتبار النظر إلى روسيا، بما في ذلك نظرتها إلى نفسها، على أنها «روما الثالثة» أو «القدس الثانية»، ووريثة بيزنطة المسيحية الأرثوذوكسية، وما يشبه إسبانيا شرقية شكّلت حماية لأوروبا من الهمج الآسيويين، لا سيما المسلمين منهم.
بصيغة مشابهة، أصبح القرن السادس عشر، وهو حقبة الغزو الروسي للأراضي الخاضعة لدول إسلامية (1552-1900)، أساساً لعلاقات روسية جديدة مع المسلمين. كثّفت روسيا، مثل أوروبا، من نشاطها التوسعي الاستعماري من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين، فخلال هذه القرون الخمسة، أخضعت روسيا شعوباً غير روسية، والعديد منها من المسلمين، إلى هيمنتها الاستعمارية. عام 1552، أقدم إيفان الرهيب (توفي 1584)، ومعه قيصرية موسكو، على غزو قازان، وبدأ عملية بناء الإمبراطورية الروسية التي حاولت ضبط أو تدمير الوجود الإسلامي في المناطق التي سيطرت عليها. ومثّلت خسارة الأراضي التي كان التتر المسلمون يسيطرون عليها في آسيا الوسطى (الفولغا الأوسط والفولغا الأدنى وغرب سيبيريا)، بعد زمن قصير من خسارة الأندلس، الانتكاسة الثانية للحضارة الإسلامية في القرون الوسطى، كما كانت علامة فارقة في امتداد هيمنة الغرب على العالم الإسلامي. وترافقَ صعود القيصرية، خلال القرون الأربعة التالية حتى تأسيس الاتحاد السوفييتي، مع أشكال متنوعة، بعضها محافظ وبعضها ليبرالي، للإسلاموفوبيا. وأدى الدمج بين الدولة والدين، أي القيصرية والكنيسة الروسية الأرثوذوكسية، إلى مُركَّب حضاري رأى في المسلمين عدواً بربرياً يجب إبادته أو ترويضه. أظهر بعض الحكّام قسوة شديدة، مثل القيصر ميخائيل (1596-1623)، في حين كان البعض الآخر أكثر تقبلاً وتعددية، مثل كاثرين الثانية (1726-1796)، إلا أن المسلمين ظلّوا «مشكلة قومية»«المشكلة القومية» في روسيا، قديمة كانت أم حديثة، هي في جوهرها مشكلة وجود استعماري. مثّلَ اليهود والمسلمون وغيرهم من «السكان الأصليين»، في العهد القيصري والعهد السوفييتي والعهد الروسي الحديث، مشكلة قومية للوجود السياسي الروسي لأنهم اعتُبِروا شعوباً خارجةً عن الكيان السياسي الروسي، سواء ضمن النظام الديني أم العلماني. للإمبراطورية الروسية، لأنهم لم يندرجوا ضمن المنطق الديني العرقي للإمبراطورية.
لم تنجح الامبراطورية الروسية، من الناحية الكمية، كما نجح الإسبان لدى استرجاع الأندلس في تصفية المسلمين أو طردهم بالكامل من الأراضي التي احتلوها، ولكن المسلمين تعرضوا لعنصرية مماثلة، ونظرت إليهم روسيا بعدائية، حيث اعتبرتهم وجوداً أجنبياً غريباً وجَب ضبطه أو تدميره. طبّقت الامبراطورية سياسات منها تدمير الاقتصاد السياسي للأقوام المسلمة، وإجبار المسلمين على اعتناق المسيحية الأرثوذوكسية الروسية، وإغلاق المساجد، وإعادة توطين مسيحيين روس قسرياً في مناطق سكن المسلمين، ومصادرة الأوقاف، والتهجير الجماعي والتطهير العرقي، ومحو المعرفة والثقافة الإسلامية عبر حرق الكتب، واستبدال المؤسسات التعليمية والمعرفية الإسلامية بمنظومة التعليم القيصرية، وقُتِل المسلمون أو اعتنقوا المسيحية والهوية الروسية تحت التهديد. تخللت هذه السياسات المعادية للمسلمين لحظات استثنائية من التعاون بين الروس والمسلمين. في أواخر القرن الثامن عشر قرب نهاية عهد كاثرين الكبيرة، تمت مقاربة مسألة المسلمين بشكل أقل حدة من الإسلاموفوبيا، باصطلاحات مثل «إدارة» مشكلة الإسلام.يقول كروز: «عوضاً عن محاولة فرض دين واحد على رعاياها المتنوعين، وضعت الإمبراطورة [كاثرين] وخلفاؤها سياسة تسامح ديني بحيث تصبح أديان مثل الإسلام من أسس الإمبراطورية، وذلك عبر تحويل السلطة الدينية لكل مجموعة إلى أداة من أدوات الحكم الإمبريالي. وبالنسبة للملايين من الرعايا، لم تكتفِ الإمبراطورية القيصرية بالتسامح مع الأديان الأخرى، بل قدّمت نفسها كمُدافِعة عن أشكال معينة من الإسلام واليهودية والبوذية والبروتستانتية وأديان أخرى». أعلن الزعيم السياسي الفرنسي نابليون بونابرت (توفي 1821) نفسه، أيضاً، «صديقاً» للمسلمين، خلال محاولته لاستعمار مصر وإرساء حكم يُروِّض الإسلام والمسلمين عوض عن محاولة إبادتهم مباشرة. يبدو هذا النهج في التعامل مع الإسلام متسامحاً ومسالماً على السطح، وقد تكون له ميزات عملية على المدى القصير، ولكن، بنظرة أعمق، نجد أن هذه الأشكال من الحكم تنطوي على عنصرية متأصلة تطمح إلى حرمان «الصديق» الآخر من الاستقلال السياسي. كثيراً ما يفشل الباحثون في شؤون الإسلام في روسيا الذين يركزون على البعد «الإيجابي» في علاقة الدولة الروسية مع الإسلام والمسلمين، مثل كروز، في إدراك العمق السلبي وراء السطح الإيجابي. تذكر يميليانوفا أن كاثرين الكبيرة غيرت سياسة الدولة من إبادة الإسلام إلى إدارته وترويضه، ولكنها، في الوقت نفسه، واصلت سياسة غزو الأراضي الخاضعة للمسلمين في القرم وشمال القوقاز خلال حكمها. وبدا أن الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بِدَوره حاول «إدارة وترويض» الإسلام بشكل ودي خلال رئاسته عبر تعيين بعض المسلمين في إدارته أو إقامة حفلات إفطار رمضان في البيت الأبيض، ولكنه في الوقت نفسه كان يعزز السياسات المعادية للإسلام ويشن حروباً خارجية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. وكان ظهور نوع من «المقاومة التترية»، المتمثلة في حركة «جديد» الإسلامية الحداثية الإصلاحية،حركة الجديد، أو جديديسن، هي حركة إسلامية إصلاحية تحديثية في آسيا الوسطى، انتشرت بالدرجة الأولى بين الأوزبكيين والطاجيكيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. حاولت الحركة التوفيق بين تعاليم الإسلام من جهة والعلوم الاجتماعية الحديثة والفكر الغربي من جهة أخرى. وصف مؤسسو الحركة أنفسهم بأنهم مصلحون جُدُد مقارنة بالقدماء الذين رأت الحركة أنهم اتّبعوا التقاليد بشكل أعمى، ما أدى إلى ركود في إنتاج المعرفة في العالم الإسلامي. من نتائج تلك الفترة. بلا ريب، كان تَعامُل الامبراطورية الروسية مع المسلمين معقداً، حيث ظهرت شخصيات ودول وحركات إسلامية عديدة تعاونت مع الامبراطورية أو قاومتها. ولكن، بنظرة عامة على المدى البعيد، يتضح أن المسلمين كانوا مشكلة مستمرة للروس، سواء تجلى ذلك بالخوف من الإسلام أم بالافتتان به، ولا سيما عندما عبّر المسلمون عن رغبتهم في الاستقلال السياسي.
لا بد من النظر إلى صعود الامبراطورية الروسية، وبعدها الاتحاد السوفييتي، في سياق الحداثة/الاستعمار. على عكس بينغسن، تتقصى تلوستانوفا أصول الإسلاموفوبيا الروسية في علاقة تاريخية داخلية قائمة مسبقاً، إلى جانب التأثّر الخارجي بالمركزية الأوروبية.قد يجد الباحث تشابهات مع الإسلاموفوبيا الصينية. يرى يي أن «الثقافية الصينية» هي تيار يُقيّم مدى تحضر غير الصينيين بمدى التزامهم بقيم الهان الصينية، وعلى رأسها المنظومة الدينية الاجتماعية الكونفوشية، أو تعلّم اللغة الصينية. ويذكر كل من يي وبولك أن الصينيين اتّبعوا هذا المنطق، إلى حد ما، في علاقتهم بالمسلمين، منذ أول احتكاك للصين مع الإسلام، ولكنّ هذه الرؤية لم تتجذّر وتتخذ موقعاً مركزياً إلا في عهد نظام إمبراطورية تشينغ في مانشوريا، آخر إمبراطورية صينية (1644-1911). أصبحت صورة المسلم المتمرد أكثر حضوراً خلال هذه الفترة، الأمر الذي أدى إلى ظهور كتابات صينية، خلال القرون الثلاثة الماضية، ربطت بين المسلمين والعنف، وهو الربط الذي عبّرت عنه الدولة الصينية «الكونفوشية والقومية والشيوعية على حد سواء». في السنوات الأخيرة، نُشِرت أبحاث تركز على الإسلاموفوبيا في ظل النظام الشيوعي الصيني، وتتشابه النسخة الصينية من الإسلاموفوبيا المرتبطة بالحرب على الإرهاب والعداء للأسلمة مع الإسلاموفوبيا الروسية في العهد السوفييتي وبعده. يرى يي أن مصدر الإسلاموفوبيا الصينية هو مزيج من الثقافية الصينية ومفهومَي العلمانية والحرب على الإرهاب في صيغتهما المركزية الأوروبية. ترى تلوستانوفا أن نمط الإسلاموفوبيا «الديني» الأول نشأ مبكراً بسبب مواجهة الروس لبدو سهول أوراسيا في القرون الوسطى، ثم للمغول الذين استعمروا روسيا (1237-1480). أدت نظرة روسيا إلى نفسها بأنها وريثة بيزنطة والإمبراطورية المسيحية الأرثوذوكسية إلى قاعدة دينية للإسلاموفوبيا تشبه الشكل المبكر من الإسلاموفوبيا المسيحية الغربية. خلال هذه المرحلة المبكرة من الإسلاموفوبيا، وصف الروسُ المسلمينَ بأنهم «بوغاني» (من اللاتينية paganis، التي تعني الوثني) و«بوسورمان» (تحريف لكلمة Musulman يهدف لتحقير المسلمين). بالمقابل، ترى تلوستانوفا أن أوروبا نظرت إلى روسيا على أنها امبراطورية شبه آسيوية ومقتصرة على أعراق محددة. حملت أوروبا نظرة فوقية إلى روسيا تشبه نظرة أوروبا الغربية لدول «البيض القذرين» جنوب أوروبا مثل إسبانيا والبرتغال واليونان وإيطاليا، فهذه الدول أيضاً تلوثت بتجارب الاختلاط بالقوى الإسلامية الإفريقية والآسيوية.شهدت روسيا جدلاً كبيراً حول ما إذا كانت هويتها أوروبية أم آسيوية، غربية أم شرقية. تقع روسيا، مثل جنوب أوروبا، على الحدود بين شعوب شديدة التنوع دينياً وعرقياً، ولاسيما بين الأعراق الأوروبية، أو المسيحيين البيض، والمسلمين من أعراق أوراسية أو آسيوية إفريقية متعددة. وتأثرت روسيا تأثراً شديداً، مثل جنوب أوروبا مجدداً، بالحضارات الشرقية والإسلامية التي احتكّت بها عبر تاريخها، ولكن هويتها البيضاء والمسيحية ظلّت في المقدمة. وفي هذا الخصوص، يبقى النقاش بشأن الهوية الدينية والعرقية لروسيا ودول جنوب أوروبا ومدى «نقاء» انتمائها لأوروبا الغربية نقاشاً إمبريالياً داخلياً لا ينطوي على الفصل العنصري الحادّ والاختلاف الاستعماري بين الغرب وبقية أنحاء العالم. وهكذا فإن الاختلاف بين أوروبا وروسيا هو اختلاف بين إمبراطوريات، لا اختلاف استعماري ديني عرقي مثل ذلك الذي واجهته الامبراطوريات غير الغربية.
حاولت روسيا مواكبة صعود الحداثة الأوروبية، وبدءاً من أواخر القرن السابع عشر، بدأت روسيا عملية استعمار بمفهوم الحداثة الأوروبية. اختلطت هذه العملية مع مسار روسيا العنصري تجاه المسلمين، المرتبط بنموذجها الأرثوذوكسي الخاص للمسيحية والنموذج العلماني الأوروبي الصاعد. واستمرت هذه العلاقة بين أوروبا و«إسبانيا الشرقية» طيلة الحرب الباردة، حيث حُدِّد معنى «ديمقراطيات» الكتلة الغربية باعتباره مناقضاً للاستبداد «الآسيوي» في الكتلة الشرقية التي حكمتها «أنظمة شيوعية شمولية». أدى تبني مزيج من المفاهيم الدينية والعلمانية للاختلاف الديني العرقي مع الشعوب المُستعمَرة إلى زيادة عداء روسيا للمسلمين، الذي تَعزَّزَ بحركة الاستعمار الروسية.
الإسلاموفوبيا في فترة الاتحاد السوفييتي وما بعدها
لم يكن تأسيس الاتحاد السوفييتي نهاية الإسلاموفوبيا الروسية. فكما يقول بُخارييف المؤرخ التتري القازاني، لا يمكن التمييز بين روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي فيما يتعلق بالعلاقة مع الإسلام. حيث أوجدت الدولة السوفييتية المستشرقة فكرة الإنسان السوفييتي المثالي.بالنسبة للعديد من الماركسيين، كان الإنسان السوفييتي نقيض الإنسان الرأسمالي الغربي. في الواقع، كان هذا نقداً مركزياً أوروبياً للمركزية الأوروبية. مثّلَ الإنسان السوفييتي النتيجة المثالية للروح الهيغلية التي عمّت في فهم الماركسيين المادي التاريخي للتاريخ والانقسام الطبقي والكون كله. ثمة تاريخ طويل من الاستشراق الروسي والسوفييتي فيما يخص هذا المفهوم. بدأ هذا التاريخ منذ القرن التاسع عشر على الأقل. تعلم المستشرقون الروس، قبل العهد السوفييتي، اللغات الشرقية، مثل العربية والفارسية والتركية، ولكن دراساتهم كانت استشراقية ذات طبيعة استعمارية، حيث تبنّوا النهج الاستشراقي الغربي وأضافوا له مساهماتهم الروسيّة الخاصة. إلا أن الاستشراق السوفييتي بعد الثورة البلشفية اتّخذ طريقاً مختلفاً، فخلال العقدين التاليين للثورة البلشفية (عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين)، كان المستشرقون السوفييت أكثر اندفاعاً، من الناحية الإيديولوجية، لتحديد «الطبيعة الطبقية» للإسلام، وفعلوا ذلك من دون الجهد العلمي الذي بذله أسلافهم من المستشرقين الروس أو الغربيين عموماً. لم يطّلع المستشرقون الروس على أي مصادر أصلية باللغات الإسلامية، فاستندوا في أبحاثهم إلى مصادر كتبها المستشرقون الغربيون، وقرأوها من منظور الإيديولوجيا الماركسية اللينينية في محاولتهم لفهم الطبيعة الوجودية والطبقية للإسلام والمسلمين. وسيطر على المستشرقين السوفييت هوسٌ بمنح صفات للإسلام مثل الإقطاع أو التجارة أو الرأسمالية أو الاشتراكية أو البدوية أو الرعوية أو غيرها من أوصاف الاقتصاد السياسي التي انسجمت مع مشروع الدولة السوفييتية المبكر. بعد حكم ستالين، فقدت دراسات الشرق الكثير من طاقتها، وقلّ إنتاجها أو تحوَّلَ إلى مجالات أخرى مثل الأنثروبولوجيا أو التاريخ. يرى كمبر أن نتيجة ذلك كانت أن الاتحاد السوفييتي لم يلحظ صعود الإسلام السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، وافتقد إلى الأطر المعرفية والسياسية الضرورية لفهم أحداث كبرى مثل الثورة الإيرانية عام 1979 أو مقاومة المجاهدين في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. بدل أن يصنع الاستشراق السوفييتي خبراء في الدراسات الشرقية يمكن الإصغاء إليهم، وضع من وُصِفوا بالخبراء أنفسهم في خدمة الدولة الإمبريالية. من الذي كان قادراً على تجسيد هذا الإنسان السوفييتي؟ كان واضحاً عبر تاريخ الاتحاد السوفييتي أن المُسلم مستثنى من هذه الصورة، أو على الأقل، يصبح «مقبولاً بصعوبة» حسب معايير الدولة السوفييتية. خلال فترة قصيرة قبيل الثورة البلشفية (1918-1923) وبُعَيدها، تشكّلت عدة كيانات سياسية إسلامية في أجزاء مختلفة من روسيا، وحاولت هذه الكيانات أن تشكّل جبهة واحدة لحيازة استقلال أكبر «للجنسيات المسلمة»، سواء عبر الاندماج في الاتحاد السوفييتي، الذي كان تأسيسه وشيكاً، أو عبر الانفصال عنه. أسَّسَ عدداً من تلك الكيانات أحزابٌ شيوعية وطنية مسلمة دعمت البلاشفة وانضمّت إلى الحزب الشيوعي المركزي. قبل الثورة البلشفية وأثناءها، أرادت هذه الأحزاب الشيوعية الوطنية أن تكون جزءاً من الاتحاد السوفييتي، ولكنها أرادت، في الوقت نفسه، استقلالاً ثقافياً وسياسياً للمسلمين، وأن يُسمَح لها بتأصيل وتجذير الشيوعية ضمن خطابها الإسلامي الجامع.
اقتنع الشيوعيون القوميون المسلمون بضرورة توحيد جموع المسلمين الخاضعة للاستغلال الرأسمالي، واعتبروا أن مصيرهم مرتبط بالبروليتاريا في أوروبا الغربية وروسيا لمواجهة الرأسمالية العالمية والاستعمار الأوروبي. وتطلَّعَ الشيوعيون الإسلاميون السوفييت إلى احتلال موقع الطليعة التي تنقل الشيوعية إلى جموع المسلمين في آسيا وإفريقيا. لفترة قصيرة، أصبحت موسكو قِبلة الثوريين المسلمين من مختلف أنحاء إفريقيا وآسيا ممن آمنوا بأن ثورة أكتوبر شكّلت خطوة مهمة في تحرير العالم الإسلامي من الغرب الاستعماري. اجتمع المسلمون الثوريون، بمن فيهم قوميّو الخلافة الهندية والديمقراطيون الإيرانيون والراديكاليون العرب والثوار المسلحون الإندونيسيون، في موسكو خلال هذه الفترة لمناقشة دعم الثورة العالمية. إلا أن السوفييت نظروا إلى هؤلاء المسلمين بعين الشك والازدراء، لأنهم حافظوا على انتمائهم إلى العالم الإسلامي وإلى «الأمة»، ولم يتخلوا عن انتمائهم الديني الثقافي وإرثهم السياسي الإسلامي، إما لعدم القدرة على ذلك وإما لعدم الرغبة فيه. مدّ الشيوعيون القوميون المسلمون أيديهم بأغصان الزيتون للبلاشفة باقتراحهم خطة للعمل المشترك بتوحيد المسلمين السوفييت ضمن دولة واحدة، أو ضمن مِلَّة واحدة،بالعربية والتركية، تعني كلمة «مِلّة» حرفياً الديانة أو المتديّنين بها أو الشعب. يُحيل الاصطلاح هنا إلى نظام الملل في العهد العثماني، الذي كان شكلاً من أشكال قانون الأحوال الشخصية الذي أتاح للسكان من ديانات مختلفة، أي من المسلمين واليهود والمسيحيين من طوائف متعددة، الخاضعين لحكم الخلافة العثمانية بأن يحكموا أنفسهم بقوانينهم (أي الشريعة الإسلامية والقانون الكنسي المسيحي و«الهلاخا» اليهودية). لم يكتسب نظام الملل صفته الرسمية النهائية إلا في القرن التاسع عشر، في إطار الإصلاحات التي عُرفِت باسم التنظيمات، والتي سعت إلى إرساء حماية قانونية للأقليات الدينية وضمان استقلال ذاتي نسبي لها ضمن الهيكلية السياسية الأوسع للخلافة العثمانية. استخدم الشيوعيون القوميون المسلمون اصطلاح «الملة» للإشارة إلى الاستقلال الذاتي المتضمن في القانون العثماني، والذي رغبوا في حيازته ضمن المنظومة السياسية السوفييتية. ولكنهم لم يقبلوا بأن يُقسَّموا إلى جنسيات مختلفة تُنزَع عنها صفة الإسلام، وأرادوا إنشاء دولة شيوعية مسلمة مستقلّة تدعم الجمهورية السوفييتية. ووجِهت تطلعات الشيوعيين المسلمين بالرفض التام، ما أدى بسلطان غالييف (توفي 1940)، أحد أبرز القياديين الشيوعيين المسلمين في حينه، إلى القول:
«نسي القادة البلاشفة الشرقَ وسكّانه البالغ عددهم مليار ونصف المليار ممن استعبدتهم البرجوازية الأوروبية الغربية، واستمر تطور الصراع الطبقي الدولي متجاهلاً الشرق […] بسبب الجهل بالشرق والخوف منه، رُفِضت فكرة مشاركة الثوريين الشرقيين في الثورة العالمية منهجياً».
وَجَّهَ سلطان غالييف وغيره من قادة الشيوعيين القوميين المسلمين تنبيهاً للعالم الثالث بأن الاتّحاد السوفييتي ليس مختلفاً في جوهره عن روسيا القيصرية، وبأنه سيتحول إلى أداة للإمبريالية الروسية. في بقية أنحاء العالم الإسلامي، كان سياسة الاتحاد السوفييتي في دعم الأحزاب الشيوعية المحلية معقدةً، حيث أتاحت إمكاناً للتحرر، ولكنها في المُحصّلة كانت تصبّ في مصلحة السوفييت، وذلك لأنها لم تعبأ بالمظالم الداخلية للدول، بل بفرض النفوذ السوفييتي الإمبريالي. لم يفهم السوفييت تعقيد التقاليد والاحتياجات والرغبات المحلية، ولم يُبدوا استعداداً للمساومة على رؤيتهم للإنسان السوفييتي العلماني/الملحد الأبيض رُوسيّ الهوية. أُقصِي من لا ينتمون إلى الإثنية الروسية، ولا سيما المسلمين منهم، منهجياً من المناصب ذات النفوذ في الحزب الشيوعي والحكومة المركزية طيلة الفترة السوفييتية. وكان سبب فشل المدّ الشيوعي، وتناقصه في المحصلة، في المجتمعات المسلمة هو غرور السوفييت وجهلهم، ونهجهم الأوروبي المركزي في نشر ما أسموه بالثورة العالمية. منذ بداية المشروع السوفييتي، كان واضحاً أن المسلم لا يمكن أن يصبح إنساناً سوفييتياً بشروطه الخاصة ومن دون أن يتخلى عن هويته وثقافته وإرثه. بعد هذه الفترة المبكرة، أصبح الإنسان السوفييتي أكثر عدائية، وساءت عاقبة من اختلفوا مع هذه الرؤية.
عُرِفت المرحلة التالية للعقد الأول من الثورة البلشفية، على نطاق واسع، بمرحلة «الستارة الحديدية» (1928-1968)، وتحولت سياسات ستالين القمعية وفرض الهوية الروسية وتدمير المجتمعات المحلية وقوميات الأقليات إلى ممارسة رسمية للدولة. ونجم عن ذلك انقطاع صلة المسلمين السوفييت ببقية العالم الإسلامي، وتطبيق سياسات رسمية أدت إلى موت معرفي وثقافي للعديد من المنظومات والمؤسسات والجاليات الإسلامية. تَعلَّمَ السوفييت من «الإسلاموفوبيا الدينية» التي حملها أسلافهم القياصرة ليُنفِّذوا عدة سياسات «إسلاموفوبيا علمانية»أَستخدمُ كلمة «علماني» بمعنى أن منطق العنصرية السوفييتية العلمانية استند إلى آثار العنصرية الدينية الروسية بأشكال جديدة وقديمة، وإن كانت تستهدف العدو نفسه، المسلمين. للمزيد حول تصنيف الدين ضمن فئة عرقية في مسعى فكر ما بعد عصر التنوير لتصور البشر، انظر كتاب ثيودور فيال «دين حديث، عِرق حديث» وبحث كاتب هذه المقالة «الإسلام والمسلمون والاستعمار: إعادة النظر في النقاش حول العرق والدين في العصر الحديث».، منها منع الحج السنوي إلى الأماكن المقدسة لدى السنة والشيعة (مكّة لكليهما وقُم للشيعة)، وإغلاق المساجد ونشر دعاية معادية للأديان وللإسلام على نطاق واسع، ومصادرة الأوقاف الإسلامية، ومحاولات الإبادة الجماعية الناجحة والفاشلة التي استهدفت مجموعات من المسلمين (إلى جانب مجموعات غير مسلمة أخرى تشكل «تهديداً»)، ومنع استخدام اللغة العربية في بعض المناطق ومحاولة الاستعمار اللغوي لبعض الجاليات المسلمة، والترويج الكاذب للتسامح السوفييتي مع الإسلام عبر تعيين زعماء دينيين مسلمين سوفييت وإرسالهم إلى أماكن أخرى في العالم الإسلامي لنشر البروباغاندا. وتؤكد تلوستانوفا أن إسلاموفوبيا الإمبراطورية السوفييتية اخترقت كافة شرائح المجتمع:
«ظل الإسلام، حتى في طقوسه اليومية وأشكاله الرمزية، أحد أكبر مصادر القلق للإمبراطورية السوفييتية، التي سعت بشكل منهجي إلى محو أية إشارة له في إطار حملة أوسع لإزالة الانتماءات والأديان واللغات والتواريخ المحلية، واستبدالها جميعاً بعقلية العبودية وتحقير الذات، التي يصعب التخلص منها اليوم. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك، فرض الأبجدية الكريلية (الروسية) قسراً على كافة اللغات التركية، وهو ما حرم هذه اللغات من التطور ضمن تقاليدها، ومن إمكانية الحوار مع أقوام أخرى ذات تراث لغوي أو ديني مشابه. ومن الأمثلة الأخرى إغلاق المساجد في المناطق ذات الأغلبية المسلمة في الامبراطورية، وتشويه العناصر المقدسة في العمارة الإسلامية في الأبنية السوفييتية العامة».تم استقاء الأبجدية الكريلية الروسية المعاصرة من الأحرف اليونانية التي عدلها المبشرون البيزنطيون، والأخوان القديس كريل (توفي 869) وميثوديوس (توفي 885)، اللذان أوجدا الأبجدية الغلاغوليتسية المستخدمة في لغات سلافية. تُستَخدم هذه الأحداث التاريخية لدعم تصوير موسكو تاريخياً على أنها «روما ثالثة» و«قدس ثانية»، وتصوير روسيا على أنها إسبانيا شرقية، وتصوير الحضارة الروسية على أنها استمرار للمسيحية الشرقية. ويتوجب النظر إلى إجبار السوفييت المسلمين الخاضعين لحكمهم على استخدام الأبجدية الكريلية ضمن إطار هذه العملية التاريخية التي تمجّد المركزية الأوروبية مسيحيةً كانت أم علمانيةً، وهي عملية استعمار لغوي تندرج ضمن مشروع أوسع لمحو معرفة «الآخرين».
وتتابع تلوستانوفا بالقول إن «الآخر»، الذي بنت الشخصية السوفييتية ذاتها على أساسه، كان المرأة المسلمة الشرقية، حيث صوّرت القيادة السوفيتية نفسها على أنها ممثلة «الروس العظماء» الذين أنقذوا المرأة المسلمة في شرق الاتحاد السوفييتي عبر تحويلها (مع جميع من يخضع لحكم الإمبراطورية السوفييتية) إلى شخصية مطابقة لمعايير المواطن السوفييتي، وهو «ملحد من أصول عرقية مختلفة، تربى على التفوق الثقافي الروسي في الطبخ والغناء والرقص والكتابة الأدبية والمسرح وغيرها». ظل المواطنون السوفييت من أصول إسلامية، مثل الموريسكيين في إسبانيا بعد سقوط الأندلس، يحملون علامة عرقية فارقة، رغم ارتدادهم عن الإسلام واعتناقهم المسيحية الروسية الأرثوذوكسية في أجيال سابقة، الأمر الذي أبقاهم حبيسي اختلاف استعماري. استند تعامل الإمبراطورية السوفييتية مع هذه «الشعوب العدوة» لها إلى «سياسات وجودية محددة مسبقاً» قائمة على أسس دينية وعرقية. وفي هذا السياق، يجب النظر إلى الإنسان السوفييتي على أنه امتدادٌ شيوعيٌ أحمر للإنسان الغربي، بالمعنى الاستعماري العام.يرى إيان لو في كتابه العنصرية الحمراء: العنصرية في السياق الشيوعي وما بعد الشيوعي، إنه لم يكن هناك تعارض بين العنصرية والشيوعية، وأن العنصرية كانت مكوّناً من مكونات المنطق الشيوعي في الصين الماوية وروسيا السوفييتية وكوبا كاسترو. فيما يخص روسيا السوفييتية، يذكر لو أن «الأمة الاشتراكية قامت على أساس ربط الإثنية بالمناطق، والاختلافات التي اخترعتها الدولة، والولاءات الإثنية المتلازمة، ومبدأ الدم، وكان هذا في الفترة التي كان فيها النظام في أوج معالجته لمسألة الإثنيات، محاولاً القضاء على لغات وثقافات وهويات معينة ليمهّد الطريق لإرساء جنسيات جديدة. ووُضِعت في خدمة هذه العملية المعرفةُ الإثنوغرافية وتكنولوجيا الحكم الثقافية التي تضمنت، في هذه الحالة، إلغاء الاختلاف والتمايز، بدل خلقها وترسيخها كما في حالة الاستعمار الأوروبي، وذلك من خلال استخدام الإحصاء والخرائط والمتاحف». يساعد تحليل لو لهذه الظاهرة على وضع إطار نظري أوسع إلى ما يمكن تسميته «الشيوعية العنصرية» إلى جانب «الرأسمالية العنصرية» الأكثر رواجاً.
في المرحلة السوفييتية المتأخرة، انطبع نهج السوفييت في الحرب الأفغانية ومواجهة مقاومة «المجاهدين» في ثمانينيات القرن العشرين بعداء إسلاموفوبي شبيه. يقدم تحليل التيار اليساري العلماني للحرب الباردة التبريرات للاستعمار السوفييتي، وقراءةً أحادية للحرب الباردة ترى في الولايات المتحدة «الشرير الوحيد». ولا يأخذ هذا التحليل في الاعتبار إرادة القوى الفاعلة المحلية والإقليمية التي وجدت نفسها عالقةً بين كتلتين. تصرّف الاتحاد السوفييتي كقوة إمبريالية عندما فرض حكومة تابعة له في أفغانستان عبر دعم الثورة الشيوعية هناك عام 1978، التي أسقطت نظام الرئيس الأفغاني داود خان، الذي كان بِدَوره نظام حزب واحد قمعياً، ولكنه كان عضواً في حركة عدم الانحياز، التي أدّت دوراً محورياً للكتلتين، الغربية والشرقية، خلال الحرب الباردة.لتاريخ أشمل لآثار التدخل السوفييتي الحديث/الاستعماري في أفغانستان في القرن العشرين، ولاسيما خلال المراحل الأخيرة من الحرب الباردة، انظر كتاب محمد ككر أفغانستان: الغزو السوفييتي والرد الأفغاني، 1979-1982، وكتاب أمين سيكل أفغانستان الحديثة: تاريخ من الصراع والبقاء. وعندما ظهرت قوى مُنظّمة بشكل مرتجل، المتمثلة في مجموعات جهادية ومجموعات ماركسية لينينية ماوية، لمقاومة الغزو السوفييتي لأفغانستان، رأى النظام السوفييتي فيها عدواً، ووصف المنتمين إليها بأنهم «مسلمون سيئون» لأنهم لم يخضعوا لإملاءات المشروع الإمبريالي السوفييتي. تلقّت القوى الجهادية وغير الجهادية دعماً مالياً وعسكرياً كبيراً من الكتلة الغربية في ثمانينيات القرن العشرين، سواء كان ذلك بدافع الواقعية السياسية أو التحالف الإيديولوجي، الأمر الذي مكّنها من صد الهجوم السوفييتي وإنهاء الهيمنة السوفييتية على أفغانستان. وبعيداً عن أحكام القيمة على المجاهدين أو القوى التي نجمت عنهم بعد الحرب الباردة، مثل طالبان، يبدو واضحاً أن التدخل السوفييتي والأميركي في أفغانستان كان قائماً على مبادئ عنصرية. رأى الأمريكيون في المجاهدين «مسلمين جيدين» في الثمانينيات، ورأوا في القوى التي نتجت عنهم بعد الحرب الباردة «مسلمين سيئين». يكمن في أساس ثنائية «المسلم الجيد» و«المسلم السيئ»، سواء كانت آتية من الكتلة الغربية أم الشرقية في التشكيلات الجيوسياسية خلال الحرب الباردة وبعدها، إنكار تام للإرادة السياسية والثقافية الذاتية في بناء حاضر ومستقبل بشكل مستقل عن الهيمنة الخارجية.
بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، تدخلت روسيا في عدة حروب خارجية في العالم الإسلامي، من الشيشان في تسعينيات القرن الماضي إلى سوريا في عشريات القرن الحالي، وكان تَدخُّلُها ذا طبيعة إمبريالية.يمثل هذا ملمحاً شائعاً في الخطاب اليساري الإسلاموفوبي العالمي، عندما يتناول الحركات التي تقودها أو تطلقها التيارات الإسلامية في العالم الإسلامي. تعامل اليسار مع أفغانستان في الثمانينيات كما تعامل مع سوريا بعد عام 2011. في مقالتها «’أعداء الإمبريالية’ المغفّلون» تنتقد الناشطة والمفكرة البريطانية السورية، المعارضة لنظام الأسد، ليلى الشامي اليساريين الذين يقدمون الذرائع لإجرام نظام الأسد الفاشي، الذي طال الإسلاميين واليسار العلماني المعارض للاستبداد على حد سواء. كما كان الحال في أفغانستان في ثمانينيات القرن العشرين، لم يتحلَّ اليسار العالمي بالتواضع اللازم للإصغاء إلى النشطاء السوريين المنخرطين في حركات معارضة لنظام الأسد منذ عقود سابقة للثورة السورية وخلالها. عوضاً عن ذلك، يستخدم اليسار قوالبَ فكرية إسلاموفوبية، ناتجة عن الحرب على الإرهاب، واصطلاحات يمينية مثل «الفاشية الإسلامية» لإطلاق تعميمات متكررة حول المعارضة السورية، ووصفها بأنها كتلة واحدة من المتطرفين الإسلاميين المدعومين من الولايات المتحدة والممولين من دول الخليج. في مواجهة هذا الخطاب اليساري الإسلاموفوبي، الذي حوَّلَ سوريا إلى أفغانستان جديدة، بيّنَ السوريون المعارضون للأسد، مثل ليلى الشامي وروبن ياسين قصاب في كتابهما بلاد تحترق: السوريون في الثورة والحرب، الصراعات والتناقضات الاجتماعية التي واجهها الناشطون المعارضون للنظام بين الدولة الأسدية (وداعمتيها إيران وروسيا) والحركات السنية التكفيرية مثل تنظيم الدولة الإسلامية، والفصائل العديدة المنضوية تحت لواء الجيش السوري الحر. على نقيض الدقة التحليلية التي يظهرها الناشطون مثل الشامي وياسين قصاب، لا يرى اليساريون المعادون للإسلام طريقاً لتحليل القوى الفاعلة في العالم الإسلامي تحليلاً يأخذ في الاعتبار التعقيدات التاريخية من دون اللجوء إلى خطاب تاريخي طويل من العداء للمسلمين والإسلاميين. أدت الحرب في الشيشان، على وجه الخصوص، إلى العودة إلى سياسات معادية للإسلام وخطاب إسلاموفوبي لدى الدولة الروسية ووسائل الإعلام. حيث صَوّرَ السياسيون ووسائل الإعلام المقاتلين الشيشان على أنهم «قطّاع طرق وإرهابيون دوليون ومتطرفون إسلاميون». وبذلك، ربط الرأي العام الروسي بين الإسلام من جهة والعدوان العسكري والتطرف السياسي والإعدامات العامة الهمجية والإرهاب والانغلاق من جهة أخرى. واخترع جهاز الأمن الروسي (إف إس بي، الكي جي بي سابقاً) ووسائل الإعلام لغة معادية للمسلمين ولسكّان القوقاز، مستخدمةً مفردات مثل «أبناء القومية القوقازية» و«المافيا المسلمة». وبدأت الشرطة الروسية وأجهزة الأمن بالتعامل مع المسلمين، ولا سيما أبناء القوقاز منهم، على أنهم جميعاً متهمون، فتعرضوا لممارسات مُذلّة مثل التحقق من الهوية. في المقابل، تم إحياء الدولة الروسية المسيحية الأرثوذوكسية كمُكوِّن أساسي للهوية الوطنية الروسية، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ولتعزيز خطاب الصراع الحضاري بين روسيا والإسلام، ولا سيما في عهد الرئيس يلتسن، الذي اعتُبِرت خلالَهُ المسيحية الأرثوذوكسية الدينَ الرسمي للدولة، وركيزة أساسية للهوية الروسية الجديدة.
شهدت الإسلاموفوبيا الروسية، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، تحولاً طفيفاً، ولكنها ظلّت على المستوى نفسه من العنصرية. فإذا كانت الرغبة في أن يعتنق «الآخر» غير الروسي الديانة الشيوعية السوفييتية، فإن الرغبة في الهيمنة والسيطرة عبر بناء المُواطن الروسي ما بعد السوفييتي ما زالت قائمة. وأصبحت المرأة المسلمة، في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، تهديداً داخلياً (شبيهاً بالغجر واليهود والموريسكيين في أوروبا سابقاً) يجب ترويضه وإخضاعه بأي ثمن. على سبيل المثال، تذكر تلوستانوفا أن وزارة الداخلية الروسية، التي لا تخفي كراهيتها للمسلمين، أطلقت عام 2003 عملية فاطمة، التي أُمِر بموجبها بتفتيش النساء المُحجّبات باعتبارهنّ إرهابيات محتملات. تتعرض العديد من الأقليات للتمييز من الدولة الروسية على أساس ديني أو عرقي، مثل الأرمن أو السكان الأصليين للمناطق الشمالية أو الشرقية من روسيا أو سيبريا، إلا أن تلوستانوفا ترى أن العنصرية ضد المسلمين تبقى المبدأ الناظم الأقوى. من إطلاق تسميات تحقيرية على المسلمين في عهد الإمبراطورية القيصرية (مثل بوروسمان)، وإطلاق تسميات تحقيرية على التتر وغيرهم من الأقليات المسلمة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، إلى إطلاق وصف «السود» على المسلمين في القرن الحادي والعشرين، ما زال الآخر المسلم يثير عداء الروسي. ما زالت الإسلاموفوبيا الإمبريالية الروسية حيةّ تُرزَق أيضاً. فبعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014 وضمّ القِرم، تعرّض سكّان المنطقة من التتر المسلمين للتمييز الأقسى من السلطة الروسية، حيث تعرَّضَ المئات منهم للمراقبة والاعتقال والإخفاء القسري بتهم إرهاب، لمجرد حيازتهم مصاحف في منازلهم، كما مُنِعت أحزاب سياسية مسلمة كانت قانونية في ظل الحكم الأوكراني للمنطقة. تُشكّل هذه السياسة الإمبريالية الروسية تجاه تتر القرم امتداداً طبيعياً لسياسة الإمبراطورية الروسية تجاههم خلال الحرب العالمية الثانية، حين أجرت عمليات «نقل السكّان» التتر من القرم إلى آسيا الوسطى، وبعبارة أخرى عمليات تطهير عرقي. نتيجة ذلك، أصبحت أغلبية سكان شبه جزيرة القرم من الروس والأوكرانيين، واستُبدِلت الأسماء التركية لمناطقها بأسماء روسية.
خاتمة
منذ العهد القيصري في القرون الوسطى إلى عهد ما بعد السوفييتي، خلقت الأشكال الدينية والعلمانية من الإسلاموفوبيا الروسية نظرة إلى المسلمين باعتبارهم تهديداً دائماً، فهم إما أعداء يجب القضاء عليهم أو «حلفاء» يجب ترويضهم. أدى العداء بين روسيا القيصرية والعالم الإسلامي في القرون الوسطى إلى خلق أشكال دينية من الإسلاموفوبيا. ومع مرور الزمن، عَلمَنت الإمبراطورية القيصرية ثم الدولة السوفييتية وبعدها الروسيّة أشكال الإسلاموفوبيا، وأرسَت تفرقة استعمارية قائمة على أُسس دينية عرقيّة. يُنظَر إلى روسيا، كما يُنظَر إلى دول «البيض القذِرين» جنوب أوروبا (البرتغال وإسبانيا وإيطاليا واليونان)، على أنها أقلّ انتماءً للغرب، ولكنها تظلّ، في نظر الغرب ونظر نفسها، جزءاً من العائلة الغربية ومهمتها الحضارية. وفيما يخص الإسلاموفوبيا، تطور الاقتصاد السياسي الروسي، سواء في المرحلة الإقطاعية القروسطية أم في المرحلة الشيوعية أم في المرحلة الرأسمالية، بحيث يُخضِع أراضي المسلمين الروسية ويسيطر عليها. وكما أُخرِج السود والغجر والسكان الأصليين وغيرهم من المجموعات التي وُضِعت في خانة الآخر الأجنبيّ الأدنى من العائلة الدينية العرقية الغربية، يبقى «الخطر الأخضر» الذي يمثله الإنسان المسلم قابعاً في مخيلة الإنسان الغربي في أوروبا وروسيا. لا تقترح هذه المقالة استحالة وجود إسلام أوروبي أو روسي لانعدام التوافق بين حضارات منغلقة، بل تقدم تحليلاً تاريخياً اجتماعياً يسلّط الضوء على نزعات هيمنة، ينجم معظمها عن العداء للإسلام وبعضها عن الافتتان به، تستند إلى حُكم عنصري. وتُستَنتَج هذه النزعات من النظر في العلاقة طويلة الأمد بين الإسلام وروسيا. في نهاية المطاف، تتقصى هذه المقالة صلةً واضحة بين الإسلاموفوبيا الروسية في القرون الوسطى والعصر الحديث، والتحولات التي طرأت عليها عبر جدلية الأشكال الدينية والعلمانية من الإسلاموفوبيا والحكم العنصري.