يغلب على النقاش العام في ألمانيا طابع التهنئة الذاتية على ترتيب جيد للعلاقة مع ماضي البلد. غير أن المقارنات بين معاداة السامية والعنصريات الأخرى تتعرض للأبلسة أكثر وأكثر، وهو ما يخنق النقاش حول جرائم ألمانيا الاستعمارية.
ثمة جدال جديد بين المؤرخين حول الهولوكوست يهز ألمانيا اليوم. كان أول جدال في هذا الشأن قد وقع قبل خمسة وثلاثين عاماً، أي أثناء الحرب الباردة، حين كان البلد منقسماً إلى ألمانيتين، ووقتها كان لا يزال هناك أحياء من أصحاب التجربة المباشرة مع النازية والحرب العالمية الثانية. كان المؤرخ المحافظ الجديد أرنست نولته قد ندد بكون ألمانيا حبيسة «ماضٍ لا يمضي»، وضده أكد يورغن هابرماس، المنظر النقدي، الهولوكوست بوصفه ركناً من أركان الوعي الذاتي الألماني.
كان تأويل نولته لأوشفيتز يرى معسكر الإبادة ذاك كمجرد «نسخة» من الغولاغ، والجرائم البلشفية هي «الفاتحة المنطقية والواقعية» للشمولية الحديثة، فيما الجرائم النازية رد فعل عليها من قبل بلد معرض للخطر. أدى هذا التأويل الاعتذاري وظيفة سياسية أثناء الحرب الباردة. إلا أن نفعه انعدم في القرن الحادي والعشرين، حتى عند المحافظين. ألمانيا لم تعد اليوم من الغرب كثغر جيوسياسي في عالم ثنائي القطب، بل كلاعب رئيس، وكمحرك للاتحاد الأوروبي.
لقد كانت إقامة النصب التذكاري للهولوكست في قلب برلين نتاج عملية طويلة، ملتوية، ومعذِّبة من «العمل على الماضي وعبره»، والنُّصب يصلح دونما ريب شاهداً مادياً على إدراج النازية في تمثيل ألمانيا الذاتي لتاريخها. بيد أن النصب يحقق غايات أخرى. فبفضل نجاح هذا «الترتيب للعلاقة بالماضي»، صارت ألمانيا مؤهلة لأن تتولى قيادة الاتحاد الأوروبي. وفيما يتجاوز هيمنتها الاقتصادية، صارت أوراق ألمانيا مرتبة جيداً من زاوية حقوق الإنسان كذلك. ولم يعد نصب الهولوكست مثلما كان في أيام نولته، عمل حداد مستحيل ودائم من قبل بلد يوجه ماضيه السيئ. إنه اليوم علامة سواء سياسي جديد: اقتصاد سوق، ديمقراطية ليبرالية، ودفاع عن حقوق الإنسان (وإن يكن انتقائياً).
جدال المؤرخين الجديد يسائل هذا المشهد الثقافي والسياسي. وفي عصر معولم، يتجاوز جدال «المؤرخين» الثاني هذا الحدود الألمانية. مُدشن الجدال الجديد، ديرك موسز، هو باحث أسترالي نال سمعة عالمية في باللغة الألمانية وفي مجال الدراسة ما بعد الكولونيالية، بخاصة بفضل تقصيه لتاريخ الجينوسايد الجينوسايد كلمة مستحدثة أثناء الحرب العالمية الثانية، مكونة من جينوس اليونانية التي تعني العرق أو السلالة أو الجماعة، وبين سايد التي تعني القتل في اللاتينية، وبهذا التكوين الكلمة غريبة على كل اللغات، لذلك أقترح أن تؤدى بهذا الشكل في العربية كذلك. تجري ترجمتها إلى لغتنا أحياناً بعبارة الإبادة الجماعية، وهذا أقرب إلى الحشو، فليس هناك إبادة فردية. (الهوامش كلها من المترجم). ونظريته. ويحوز هذا الأستاذ في جامعة نورث كارولاينا موقعاً مهيباً في الولايات المتحدة لا يمكن تجاهله على نحو ما يجري عموماً مع الباحثين القادمين من الجنوب العالمي.
موسز لا يتردد في الكلام على «عقيدة» ألمانية جديدة، مؤسسة على فكرة «فرادة» الهولوكوست، ضرب من دوغما مقدسة، يجري الدفاع عنها بوصم من يقارنون الهولوكست بالإبادات الكولونيالية بمعاداة السامية (وبذلك يجري تتفيه الإبادات الكولونيالية بوصفها «اعتيادية»، جينوسايدات من الدرجة الثانية). ومما يثير السخرية أن فرانكفورتر ألجيماين تسايتونغ، الصحيفة اليومية التي حامت عن نولته في ثمانينات القرن الماضي غدت المنبر الأعند في هجاء موسز والمدافعين عنه، يوصفون بأنهم مُنكرون «تحريفيون» لفرادة الهولوكوست.
لقد مضى زمن الذنب وانقضى، ومحل الحداد حل تصيد وسواسي للمؤامرات [المزعومة] المعادية للسامية. وقد أصابت فتاوى الكلمة العربية بحرف لاتيني وجمع إنكليزي، والأرجح أنها دخلت الكلمة الإنكليزية وربما غيرها بعد فتوى الخميني ضد سلمان رشدي عام 1989. هذه الامتثالية الألمانية الجديدة قائمة طويلة من الشخصيات، من الفيلسوفين جوديث بتلر وأشيل ممبه (وهو باحث مقيم في جنوب أفريقيا تجاسر على مقارنة [معاملة إسرائيل لـ] غزة والضفة الغربية بنظام الفصل العنصري)، إلى مؤرخين مثل مايكل روثبرغ ويورغن تسيمرر. ولم توفر تلك الفتاوى مديري مؤسسات عامة كبرى مثل المدير السابق للمتحف اليهودي في برلين، وقد أجبر على الاستقالة بسبب دعوته شخصيات لا تدعم إسرائيل بلا قيد أو شرط. ومن جديد، تشغل المقارنة بين وقائع التاريخ واستخداماتها السياسية موقع القلب من هذا النقاش.
في شأن المقارنات التاريخية
المقارنة ممارسة معتادة من قبل المؤرخين. إلا أن الباحثين لا يقارنون بين الأفكار والحوادث والتجارب بغرض إثبات التماثلات، بل هم يظهرون تشابهات وتماثلات بغرض الوصول إلى معرفة أفضل بالفوارق التاريخية. الجينوسايدات، مثل الحروب ومثل الثورات تكرر أشياء وتبتكر أشياء، فتمزج ميولاً متوقعة بمتحققات غير متوقعة. ولكل جينوسايد «فرادة»ـه التي تساعد المقارنات في إظهارها. والأمر باختصار أن المقارنة بعد إبستمولوجي ضروري من أبعاد البحث التاريخي، والغرض منها هو الفهم النقدي.
على أن المقارنة التاريخية ليست إجراءاً فكرياً «محايداً» وبريئاً بالنظر إلى أنها تسهم في بناء ذاكرات جميعة. فمن شأن القول إن أوشفيتز «نسخة» من الغولاغ (باستثناء الإجراء التقني الخاص بقتل بالغاز السام [وقد غاب من الغولاغ]، مثلما يبرز نولته) أن يوحي بأن «السيئين» في القصة هم البلاشفة، وبالتالي يكون النازيون تابعين بسطاء، أفسدهم المخترعون الأصليون والحقيقيون للشر الشمولي.
يحب الإيطاليون فكرة «فرادة» جرائم النازية، فهذا يعني أن الفاشية لم تكن بالغة السوء، وتفضل إيطاليا أن تستذكر ضحايا الهولوكوست وليس ضحايا إبادتها في إثيوبيا. وللأوكرانيين والتوتسي [في رواندا] لا تعني مقارنة الهولودومور المجاعة في أوكرانيا عام 1933-1934، وقد قضت على ما يقترب من 4 ملايين أوكراني، بسبب مصادرة القمح من الأرياف لمصلحة المدن و”نزع الكولاك” ومواسم سيئة. ينظر من أجل الهولودومور كتاب Anne Applebaum: Red Famine, Stalin’s War on Ukraine. New York, 2017. أو الكلام على «نازية استوائية»، التقليل من شأن الهولوكوست، بل التماس الاعتراف بضحاياهم هم. ويتكلم أولئك الذين يستخرجون جثث الجمهوريين الأسبان من قبورها عن هولوكوست فرانكوي، بينما يفضل الباحثون المحافظون الجدد و«التحريفيون» تصوير الجمهورية في إسبانيا كحصان طروادة للبلشفية، وعلى هذا النحو يصير فرانكو وطنيا أنقذ إسبانيا من الشمولية، حتى وإن كان محتقراً للديمقراطية.
تعريف الفتح الفرنسي للجزائر في القرن التاسع عشر هو موضوع نزاع دائم بين البلدين. في عام 2005 أصدر البرلمان الفرنسي قانونين يعترف واحد منهما بالإبادة الأرمنية التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، فيما يخص الثاني «الأفعال الخيرة» للاستعمار الفرنسي في أفريقيا وآسيا والأنتيل. ولا يستطيع أشد المراقبين سذاجة أن ينكر البعد السياسي لسياسات الذاكرة، البعد الذي يمكن أن يثقل كاهل الوعي التاريخي أو يخفف عن الجماعات الجريحة، وفي كل حال الدول مسؤولة عن ماضيها الخاص. فلنأخذ مثالين معروفين: ويلي براندت وهو يركع أمام النصب التذكاري لغيتو وارسو، وإقرار جاك شيراك بذنب فرنسا فيما يخص مصير اليهود في الحرب العالمية الثانية. أعان هذان المثالان في إرساء أسس مسؤولية سياسية جديدة عن تمثيل الماضي.
يغلب أن تظهر المقارنة تشابكات تاريخية. وهذا صحيح فيما يخص حوادث متزامنة، مثلاً استخدام جرائم ستالين لتتفيه جرائم هتلر أو العكس بالعكس، ولكن النازية والستالينية تفاعلتا بعمق دون شك، وأثرت واحدتهما على الأخرى بأن أطلقتا مسار تطرف متصاعد، وتمخضت عن النزاع القيامي الذي هو الحرب العالمية الثانية. وثمة تشابك آخر، وإن دون تزامن هذه المرة، يربط العنف النازي بتاريخ الكولونيالية الألمانية والأوربية. ويغلب أن تتجاهل دراسات الهولوكوست هذا الرابط الجنيالوجي، فالكولونيالية ليست موجودة فعلياً في أعمال مؤرخين بارزين عن النازية مثل جورج ل. موس، راؤول هلبرغ، هانز مومسن، مارتن بروسزات، وسول فريدلاندر، أو حتى أعمال باحثين مميزين من جيل أصغر مثل غوتز ألي، أومير بارتوف، كرستيان غرلاخ وبيتر لونغريش. بالنسبة لمعظمهم، الكولونيالية هي «استعارة» عابرة (فريدلاندر)، ظهرت لوقت قصير عام 1940 قبل الهولوكوست وعقب استسلام فرنسا، وذلك حين ناقش النازيون خطة لنقل اليهود الأوروبيين إلى مدغشقر.
ومع ذلك فقد دُرس التشابك بين النازية والاستعمار من قبل العديد من المؤرخين المعاصرين من أرنو ج. ماير إلى مارك مازوير، ممن شددوا على البعد الامبريالي في سياسة النازيين. كان باحثون متنوعون قد أوحوا بمثل هذا البعد. لقد لاحظ كارل كورش، وكان يكتب عام 1942، أن ألمانيا هتلر قد شملت أوربيين «متحضرين» بمناهج كانت مخصوصة لـ«الأصليين» أو «الهمج»، ممن يعيشون خارج ما يسمى الحضارة. وفي أصول التوتاليتارية (الشمولية) التقطت حنة آرنت تمهيداً للنازية يتمثل في «المجازر الإدارية» التي ابتدعها الحكام البريطانيون في أفريقيا والهند. وبحسب آرنت فإنه ما إن يجري إرساء الصلة بين عنف الدولة والعقلانية الإدارية في العالم المستعمر حتى تكون «خشبة المسرح قد أعدت لكل ضروب الفظاعة».
أثناء الحرب صاغ كل من فرانتز نويمان، وهو عالم سياسية يهودي ألماني منفي في الولايات المتحدة، ورافائيل لمكين، وهو باحث يهودي بولوني في القانون، صاغا مفهوم الجينوسايد، مشددين على التقاربات بين المعاداة الحديثة للسامية وبين العنصرية الاستعمارية. وقد أكدا على أن العنصرية الاستعمارية كانت مصدر إلهام لفلهلم مار الذي صاغ مفهوم معاداة السامية في أواخر سبعينات القرن التاسع عشر. كما أبرز عدة مؤرخين إعجاب هتلر بالامبراطورية البريطانية، وقبل حين قدم جيمس ك. ويتمان، وهو باحث في القانون في جامعة هارفرد، دراسة مدققة تتناول تأثير العنصرية الأميركية على الأيديولوجية والسياسة النازيتين.
فقد ألهمت قوانين جيم كراو تشريعات عنصرية في الجنوب الأميركي وضعت بعد الحرب الأهلية الأميركية وتميز ضد المواطنين السود وتفرض الفصل بين السود والبيض. في الجنوب الأميركي بعد الحرب الأهلية قوانين نورمبرغ 1935، الخاصة بتعريف العرق والمواطن، وبالتمييز بين مواطني «العرق الصافي» (بيض، آريون)، والمجموعات من عرق أدنى (السود)، ثم «الهجناء»، وبمنع ومعاقبة العلاقات الجنسية بين أفراد من مختلفين عرقياً. شجب النازيون عدم تعميم قوانين جيم كراو على اليهود، لكن هذا لم ينتقص من إعجابهم بالولايات المتحدة التي نسبوا عداءها لألمانيا النازية إلى تأثير النخب اليهودية الضار على إدارة روزفلت. لقد ثمنوا النظام القضائي الأميركي المرن لقدرته على مزج ميلين متناقضين: ترتيب يضمن التفوق البيض، وترتيب آخر مساواتي تحويلي، «واقعية» قوانين الفصل و«رسمية» المساواة الدستورية. عنى هذا للنازيين أن التراتب العرقي يجب أن يُركّب مع «المساواة» ضمن الجماعة القومية الألمانية (Volksgemeinschaft).
جذور استعمارية
يمتنع فهم العنف النازي دون النظر في ميراث الاستعمار المادي والثقافي. لقد جرى تصور الحروب الاستعمارية في القرن التاسع عشر كحروب فتح واستئصال، حروب لا تخاض ضد دول بل ضد السكان بالذات. انطوت النازية على بيوسياسة مفهوم البيوسياسة استحدثه ميشال فوكو في سبعينات القرن العشرين، ليمثل نموذج حكم يقوم على إدارة الحياة وتنظيم وضبط الأجساد، مقابل النموذج السيادي الذي يقوم على الحق في القتل. يستخدم المفهوم أحياناً بتوسع ليدل على سياسة تتمحور حول الأجساد. استعمارية استخدمت التجويع أداة للضبط على السكان المحكومين (بخاصة في الهند على ما شدد مايك ديفيز في كتابه: الهولوكوستات الفكتورية المتأخرة). ومن شأن تحليل سطحي للمعجم النازي أن يظهر بنوّته للاستعمار. مثلاً «مجال عيش» (Lebensraum)، شعوب «منحطة» و«محتضرة» (Untergehender, sterbender Völker)، «ما دون البشر» (Untermenschentum)، «عرق سيد» (Herren Rasse)، وأخيراً «الإفناء» (Vernichtung)؛ تلك العبرات النازية تنحدر من معجم الاستعمار الألماني.
ومثلما اقترح ماير في لماذا لم تظلم السماء؟(1988)، كانت النظرة النازية إلى العالم توفيقية، وتركز على ثلاثة أهداف مترابطة: معاداة الشيوعية، والاستعمار، ومعاداة السامية. الهدف الأول إيديولوجي وفلسفي: يجب تحطيم الماركسية بوصفها الشكل الأشد جذرية للتنوير. والهدف الثاني جيوسياسي، فقد كان فتح مجال حيوي ألماني تنويعة للرابطة الجرمانية الجامعة الموروثة من القومية العرقية. مَوضَع هتلر المجال الحيوي الألماني في شرق أوربا، في عالم سلافي تنظمه دولة شيوعية. الهدف الثالث ثقافي، ويتمثل في التخلص من اليهود بوصفهم العدو الداخلي للجرمانية و«عقل» الاتحاد السوفييتي.
تمازجت أثناء الحرب هذه الأبعاد الثلاثة للنازية في عملية فريدة: تدمير الاتحاد السوفييتي، استعمار أوروبا الوسطى والشرقية، وصار استئصال اليهود هدفاً لا ينفصل عن سابقيه. في نظر الإيديولوجية النازية، جمع الاتحاد السوفييتي بين شكلين من الآخرية شكلا التاريخ الغربي طوال قرنين: اليهود والتابع الاستعماري. وقد كانت سياسة هتلر تركيباً من ثنائيات ثقافية وجيوسياسة وإيديولوجية: الألمان ضد اليهود، أوروبا ضد «آسيا» (أي روسيا)، والنازية ضد البلشفية.
في تصور وتنفيذ سياسة الفتح والاستئصال هذه لم ينظر النازيون إلى الاستعمار البريطاني والأوربي وحدهما كنماذج تحتذى، بل كذلك إلى التاريخ الألماني. لقد تسبب قمع تمرد الهيريرو في ناميبيا التي كانت مستعمرة ألمانية في 1904 في جينوسايد. كان الجنرال لوثار فون تروثا قد أصدر أمر إفناء، والدعاية الألمانية قدمت هذه الحملة الاستئصالية باعتبارها حرباً عرقية. وبعد الحرب العالمية الأولى خسرت ألمانيا مستعمراتها جردت معاهدة فرساي ألمانيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى من مستعمراتها من ضمن إملاءات أخرى فرضها المنتصرون. فنقلت مطامحها التوسعية من وسط أفريقيا إلى وسط أوروبا. لقد قدم عدد من القادة النازيين من التجربة الأفريقية.
بحسب المؤرخ تيموثي شنايدر، صار الهولوكوست ضرباً من بديل عن المطامح الاستعمارية الألمانية الفاشلة. في صيف 1941 كان لدى النازيين «أربع يوتوبيات: انتصار خاطف على الاتحاد السوفييتي يدمره خلال أسابيع؛ خطة تجويع تقضي على الملايين [في المناطق المحتلة] خلال شهور؛ حل نهائي يقضي على اليهود الأوروبيين بعد الحرب؛ ثم خطة الشرق العامة (Generalplan Ost) التي تجعل من غرب الاتحاد السوفييتي مستعمرة ألمانية. وبعد ستة أشهر من بدء عملية باربروسا [الغزو النازي للاتحاد السوفييتي في حزيران 1941]، أعاد هتلر صوغ أهداف الحرب على نحو يمنح الأولوية لاستئصال اليهود». يتعين إفناء اليهود ما دام تهجيرهم من أوربا قد صار مستحيلاً.
لم يكن إيميه سيزار وفرانز فانون مؤرخين، إلا أن نظرتهما إلى الجرائم النازية باعتبارها «ضربة مرتدة» [إلى أوروبا] كانت تحذيراً مفيداً ومبرراً في زمن النساوة [أمنيزيا] الجمعية. سيزار يرى أن النازية «طبقت في أوروبا الإجراءات الاستعمارية التي خص بها حتى ذلك الوقت عرب الجزائر وفَعَلة coolies جمع فاعل. و«فَعَلة» كلمة مستخدمة في سورية لمتواضعي المهارة من العاملين بأجر. الهند وسود أفريقيا». أما بالنسبة لفانون، مؤلف معذبو الأرض (1961) أثناء حرب الجزائر، فإن الفاشية لا يمكن أن تفصل عن الاستعمار: «ما الفاشية إن لم تكن الاستعمار وقد مد جذوره في بلد هو استعماري تقليدياً؟» يمكن المجادلة في مقاربتهما التي تجازف بأن تساوي بين الهولوكوست والاستعمار، لكنها تنطوي على حدس مثمر. إلا أن تعاليمهما وقعت ضحية تجاهل مؤسف من قبل معظم المؤرخين الذين لم يلتقطوا الرابط الجينيالوجي بين جرائم النازية وماضي أوروبا الاستعماري.
وفي حين أن سمات الهولوكوست هذه تثبت ارتباطه الجينيالوجي بالإمبريالية والاستعمار، فإنها لا تقيم أي مساواة بينها. العنف الجماعي ليس مقولة موحدة، تتماهى فيها تجارب قارات مختلفة في أزمنة مختلفة. وإذا حاز الهولوكوست بعداً استعمارياً، فإن هذا لا يشرح نقل يهود فرنسيين وإيطاليين وبلجيك وهولنديين وهنغاريين ويونانيين إلى أوشفيتز. ولم يكن قتلهم المنهجي ذا جدوى خاصة من أجل المجال الحيوي، لقد كان بالأحرى متصلاً بتاريخ مخصوص لإيديولوجية ومعاداة للسامية بمحتوى شعبي عرقي.
هل يعني ذلك أن الهولوكست هو استئصال «أنطولوجي» بحسب عبارة جورج شتاينر، خلافاً للجينوسايدات الأخرى؟ كل الجينوسايدات «أنطولوجية»، وهذا حتى لو لم يجر التخطيط لفتح قارة ما مثل يجري التخطيط لتدمير أقلية. وإلا يتعين على المرء أن يستنتج أن استعمار الإسبان لأميركا كان جينوسايداً صغيراً لأن الفاتحين الأسبان لم يستأصلوا جميع السكان هناك. إنه لمن المؤلم تكرار البديهية القائلة بأن إفناء اليهود على يد النازيين لا يستحق من العطف والتذكر أكثر ولا أقل من تدمير الأرمن على يد الامبراطورية العثمانية وقت كانت موشكة على السقوط، أو المواطنين السوفييت الذين ماتوا في معسكرات الغولاغ، أو الفلاحين الأوكرانيين الذين قضوا في الهولودومور، أو الكونغوليين الذي قتلوا في مزارع المطاط المملوكة لليوبولد الثاني، أو الجزائريين الذين أُحرقوا في قراهم على يد الجيوش الفرنسية، أو الإثيوبيين الذي قصفتهم الطائرات الإيطالية بالغازات السامة، أو المغيبون (desaparecidos) على يد الدكتاتوريتين العسكريتين في الأرجنتين وتشيلي، أو غيرهم وغيرهم من قائمة لا تنتهي من الفظائع الحديثة.
العنف الجماعي هو تجميعة من الحوادث المتصلة، المتشابهة، المتقارنة، لكن المنفردة كذلك. هذا لا ينطوي على تراتب للضحايا، لكنه يبقى ضرورياً لفهم نقدي. كل الجينوسايدات هي «انقطاعات حضارية»، حتى وإن نجمت عن كوامن تدميرية في الحضارة ذاتها، أو عن ظروف تاريخية مختلفة، وحتى لو لم يكن تصورها وميراثها هو نفسه في كل مكان.
ثمة فرادة مطلقة في الجينوسايدات، والهولوكست واحد منها، لكنها فرادة تتجسد في ضحاياها. إذ ما من جهد لتمثلهم والتبصر في معاناتهم يمكن أن يستوعبها بالكامل. ويقع على المؤرخين أن يحترموا التفرد غير القابل للنقل لهذه التجارب من وجهة نظر من عاشوها، ولكن ليس لهم أن يسلموا به. فالفرادة شأن ذاتي، والفهم التاريخي يتولد من تسييق [الوضع في سياق] الفرادة وتجاوزها، بما في ذلك عبر المقارنة بأشكال أخرى من العنف، وليس من تقديس الفرادة.
ليست ذاكرة الضحايا غير كِسرة من حادثة متعددة الأشكال والأسباب، وهذا ما عناه بريمو ليفي بعدم وجود «شاهد كامل». للهولوكوست على الأقل أربعة أشكال ظهور رئيسية: الغيتوات، القتل الجماعي بالرصاص، معسكرات الاستئصال، ومسيرات الموت في أواخر 1944 وبواكير 1945. لا يسع التذكرات الفردية أن تحيط بهذا التعقيد، فالتاريخ مصنوع من تفردات نسبية، ما هي بالمطلقة ولا غير المتقارنة.
وبالعودة إلى موسز وجدال المؤرخين الجديد، فإنه (موسز) يصر على أن مفتاح فهم الجينوسايد يكمن في استحواذ مبدأ «الأمن الدائم» على الدول، وهذا مفهوم جديد، ينازع الأولية المعتادة للشرط الإثني أو العرقي، ولا يفرق في المحصلة بين الهولوكوست والجينوسايدات الاستعمارية. النقاش التأريخي الذي أثاره مفهوم الأمن الدائم شرعي تماماً. وشرعية بالقدر نفسه مراجعة موسز لجنيالوجيا فكرة الجينوسايد، بالنظر إلى ما تكشف مؤخراً بخصوص الماضي الصهيوني لرافائيل لمكين، مبتكر المفهوم.
يجادل موسز بأن المفهوم لم يتولد في إطار عملية بحث ومعرفة تراكمية في تاريخ العنف الجماعي. لقد كان بالأحرى نتاج «العارض» التاريخي الذي هو الحرب العالمية الثانية، فهو أداة نافعة للاعتراف باستئصال اليهود في نظر ثقافة قانونية اعتادت على تقييم الجرائم المرتكبة بحق الأمم (أي بحق جماعات يعترف بها القانون الدولي). وأياً تكن أصوله، فقد غذى المفهوم عقوداً من دراسة التاريخ وبحثه. وعلاوة على ذلك، ليس موسز أول دارس يثير الشكوك بجدوى هذه المقولة القانونية في التحليل التاريخي، حيث الغاية هنا ليست التسييق والشرح، بل تحديد المذنب والبريء.
المناقشة ذاتها سياسية علاوة على كونها تأريخية. «فرادة» الهولوكوست هي شعار يلوح به باحثون مختلفون اختلاف غوتز ألي الذي كتب أعمالاً عدة للبرهنة على العقلانية الاقتصادية لاستئصال اليهود عن إيهودا باور الذي يتمثل اختلاف الهولوكوست لديه عن أي جينوسايد آخر في التاريخ في غياب دوافعه الاقتصادية بالأحرى.
وموضع الرهان خلف حججهما التاريخية هو الذاكرة، فأطروحة «فرادة» الهولوكوست تقرب بين جيل من الباحثين الألمان ممن حاولوا «ترتيب علاقة طيبة مع الماضي» وبين مثقفين صهيونيين دافعوا لوقت طويل عن مركزية يهودية في النظر إلى التاريخ. تلهم نظرة مركزية يهودية كهذه أومير بارتوف الذي يساوي بين نولته وموسز كممثلين لشكلين متناظرين من «التحريفية» التاريخية: يبرئ أولهما الألمان باعتبارهم ضحية للبلشفية، والثاني بالاعتراف بمكانة الضحايا من الشعوب المستعمرة إلى جانب اليهود. كلاهما يسائل المكانة الحصرية للمظلومية اليهودية.
ومن بعض الأوجه صار تعريف «الفرادة»، وما ينطوي عليه من تراتب للضحايا، الموقف الرسمي للدولة الألمانية. بالتفاوض مع ناميبيا على اعتذار [عن الجينوسايد عام 1904] دون النظر في تقديم تعويضات مستقلة لجماعتي الهيريرو والناما، تقلل ألمانيا من شأن ماضيها الاستعماري بالنظر إليه في إطار منطق الدولة، وليس في إطار الذاكرة الجمعية (فتقلل من شأن الضحايا بالتالي). الهولوكوست «فريد» ويستحق تعويضأ تكفيرياً عنه، أما استئصال الهيريرو والناما فهو جينوسايد استعماري «اعتيادي»، تكفي لطي صفحته اعتذارات وتعويض وحيد شامل.
الذاكرة المضادة للاستعمار
لم تكن الحكومات قد بنت متاحف ونصب تذكارية للهولوكوست لثلاثة عقود بعد 1945، وقت كان ثمة العديد من الناجين الناشطين من الهولوكوست ومن المرتكبين أحياء. وخلال تلك العقود لم تكن الجهود الموجهة لتذكر استئصال اليهود الأوربيين تشدد على «الفرادة». لم يكد تذكر الهولوكوست وقتها يتميز بشيء عن تذكر المقاومة [ضد النازية]، كما كان يُفعِم بالطاقة النضال ضد الاستعمار. كانت المعرفة بالهولوكوست وقتها تقريبية وغير كاملة، وما كان المؤرخون يميزون بين معسكرات الاعتقال ومعسكرات الإبادة، إلا أن إرث الهولوكوست ومعناه كانا واضحين، بخاصة في أوساط اليسار.
أثناء الحرب الجزائرية، اعتبر مقاومون كثيرون للنازية في فرنسا، والعديد منهم من اليهود، أن دعم جبهة التحرير الوطنية هو استمرار لالتزامهم السباق في النضال ضد الفاشية. وبالتأكيد ما كانوا ليعترضوا على إدراج سيزير وفانون للنازية ضمن الاستعمار. لقد لعب جاكوب مونيتا، وهو يهودي ألماني خبر كطفل مذابح اليهود في بولندا في نهاية الحرب العالمية الأولى، ونجا من الهولوكوست بالهجرة إلى فلسطين، لعب دوراً مهماً بتقديم دعم مادي ومالي لجبهة التحرير الجزائرية، مستفيداً من حصانته الدبلوماسية كعامل في القنصلية الألمانية في باريس. كذلك كان الاستمرار بين النضال ضد الفاشية وضد معاداة السامية وضد الاستعمار جلياً في نظر وولفغانغ أبندروث وغونتر أندرز وليليو باسو وسيمون دوبوفوار وإسحاق دويتشر وجان بول سارتر ورالف شونمان وجيزيل حليمي ومثقفين آخرين شاركوا في محكمة [برتراند] رسل لحرب فيتنام.
بعد مذبحة ماي لاي، اقترح أندرز، وهو يهودي ألماني، أن تعقد جلسة المحكمة في أوشفيتز، وذاك بالضبط من أجل التأكيد على الاستمرارية بين جرائم النازية وجرائم الولايات المتحدة في فيتنام، باعتبارها كلها من جرائر الامبريالية. وفي عام 1967 جمع جان آمري (هانز ماير)، وهو ناج من أوشفيتز، عدة نصوص عن الهولوكوست في كتاب: على حافة العقل، وقد تناول أحد الفصول التعذيب. كان آمري قد تعرض للتعذيب بوصفه مقاتلاً بلجيكياً ضمن المقاومة، وهذا قبل أن ينقل إلى آوشفيتز. وبعد أن قضى عاماً بقرب غرف الغاز في معسكر الإبادة ذاك، وصف التعذيب بأنه «جوهر الرايخ الثالث» وليس «خاصية عارضة له». التعذيب بحسب آمري هو «صفوة الاشتراكية القومية»، «إنه في التعذيب بالضبط يتكثف كل كيان الرايخ الثالث».
كيف يمكن شرح هذا التقييم المفارق من قبل ناج من آوشفيتز؟ لقد استخدم التعذيب من قبل مختلف الأنظمة السياسية، من الدكتاتوريات العسكرية إلى الديمقراطيات (فكر في أبو غريب)، هذا في حين أن الهولوكوست جينوسايد. يغلب أن يجري تأويل نص آمري باعتباره تأملاً عابراً للأزمنة في العنف، لكن يجب بالأحرى إدراجه في النقاش الفرنسي حول التعذيب أثناء حرب الجزائر، النقاش الذي أطلقه عمل هنري أليغ: المسألة، عام 1958. عاد آمري إلى التفكر في الهولوكوست عبر موشور الاستعمار. التأويل التاريخي المعروض في كتابه مجادل فيه، لكن غرضه السياسي واضح أتم الوضوح. لم يكن غرض آمري إقامة نصب تذكاري للناجين، بل حفز طاقة نقدية.
لقد كان واضحاً لآمري أن الشهادة على الهولوكوست تعني النضال ضد القمع في الحاضر، وليس إحاطة جرح معاش بهالة صوفية من القداسة. لم يكن ساذجاً، لقد شعر بأن ميل اليسار الألماني الجديد إلى الكلام على الفاشية لا على النازية مشبوه، وهذا وقت كان ثمة العديد من النازيين السابقين أحياء ومعششون في دولة ألمانيا الغربية. كان مشبوهاً في نظره كذلك إصرار ذلك اليسار على معاداة الصهيونية، بينما يجري تجاهل معاداة السامية.
كان الهولوكوست قد أزيح جانباً في منظور اليسار الألماني الجديد، وليس أنه هضم أو جرى تجاوزه. كتب آمري مقالة في كونكريت، أهم المجلات الثقافية لليسار الجديد، يُظهر فيها هذه الالتباسات. وحين أخذ الهولوكوست موضع الصدارة في الثمانينات، وذلك عبر مسلسل تلفزيوني أميركي متواضع في البداية، اسمه هولوكوست، ثم عبر مجادلة المؤرخين، كان اليسار الجديد هامشياً وغادره العديد من الشخصيات القيادية. ما يسميه موسز «العقيدة الألمانية»، الموسوسة بالفرادة، التي لا تثق بالمقارنات، الصهيونية المتشددة، والنازعة إلى اعتبار دراسات ما بعد الكولونيالية شكلاً من أشكال معاداة السامية، يمكن اعتبارها ضربة مرتدة: هذا التركيز المزايد على «الفرادة» هو العكس المناظر لكبت طويل يُفكّر فيه اليوم كصمت مذنب؛ إنه تعويض متأخر عن ذاك الكبت.
دين مدني
ما يسميه موسز «العقيدة الألمانية» هو من بعض وجوهه شكل منحرف من الدين المدني. يحوز الهولوكوست فضائل «الدين المدني» بلا منازع، أي تقديس قيم الديمقراطية والحرية والتعددية والتسامح واحترام الآخرية العرقية والإثنية والجنسية عبر طقوس احتفالية. على أن «العقيدة الألمانية» تقدس كلاً من المظلومية اليهودية والذنب الألماني بفصلهما معاً عن تاريخ القومية والعنصرية والفاشية والاستعمار. وبدلاً من اعتبار الهولوكوست تحذيراً من الأشكال الجارية للعنصرية وكراهية الأجانب، تحتفل هذه العقيدة بالتحالف الذي لا ينفك بين ألمانيا وإسرائيل.
وفي أوقات تنامي الإسلاموفوبيا [كراهية المسلمين] والرفض الكاره للأجانب للمهاجرين واللاجئين، يمكن لهذا الضرب القصير النظر من تذكر الهولوكوست أن يكون حجة مريحة تتذرع بها ما بعد الفاشية [أو الفاشية الجديدة]. فمن ماتيو سالفيني إلى مارين لوبان إلى إريك زمور إلى فكتور أوربان، كل قادة اليمين الشعبوي الأوروبي يستعرضون علاقتهم الممتازة بإسرائيل ليبرهنوا على سلامة سجلهم في مجال حقوق الإنسان. قبل عامين نظم سالفيني خلال أسبوع واحد حملة مداهمة مضادة للمهاجرين في ضواحي روما، ثم ندوة عن الهولوكوست في مجلس الشيوخ الإيطالي وبحضور السفير الإسرائيلي. وفي ألمانيا تجمع «العقيدة» طيفاً سياسياً واسعاً، بحسب موسز، يمتد من الـ «أنتيدويتشه» (تشكيل يساري راديكالي متشدد مرضياً في صهيونيته) إلى البديل من أجل ألمانيا ما بعد الفاشي، ومن المنددين المتشددين بالذنب الألماني إلى التابعين المشتاقين للقومية الألمانية.
لقد نبذ معظم المحافظين الجدد المعاصرين معاداة السامية. يقولون اليوم إن اعتبار اليهود غرباء عن أوروبا كان خطأ مصيرياً لأسلافهم الذين تمسكوا بتصور شعبي عرقي للقومية. أوضحت ألمانيا أن هذا سوء مفهوم لا يغتفر وتابت عن جرائمها بأن منحت اليهود وطناً home: أرجح أن المقصود الاعتراف بأن اليهود ألمان أصلاء، وليس منحهم فلسطين، مما لم يكن لألمانيا فضل خاص فيه. واعترفت بهم كجزء مكون للحضارة الغربية. على أوروبا الآن، وقد قبلت اليهود، أن تحمي نفسها من أعدائها الحقيقيين: الإسلام والإرهاب الإسلامي. فخلافاً لليهود، يجسد المهاجرون واللاجئون ثقافة وديناً ونمط عيش غير متوافق في الأساس مع الغرب (ومع الحضارة اليهودية المسيحية). الأعداء هم، المهاجرون واللاجئون، أولئك الحملة بامتياز للأصولية والإرهاب الإسلاميين.
وتسير محبة اليهود [فيلوسميتيزم] المحافظة الجديدة ودعم إسرائيل يداً بيد مع معاداة المسلمين، غالباً تحت راية حقوق الإنسان (الدفاع عن القيم الغربية ضد الظلامية الإسلامية). السمة المشتركة بين التيارات المحافظة الجديدة وما بعد الفاشية التي هجرت معاداة السامية هو كراهية المهاجرين ورفض الإسلام. المحامون عن دوغما «فرادة» الهولوكوست وفقاً للسياسة الرسمية للدولة الألمانية لا يبالون بهذا الرفض وتلك الكراهية.
من بعض الأوجه، تعرض «العقيدة الألمانية» التباسات معركة نصب الهولوكوست التذكاري التي خاضها هابرماس وقت مجادلة المؤرخين الأولى. مدافعاً عن فكرة هوية ألمانية ما بعد قومية بعد ما لحق تراث القومية الألمانية برمته من تشوه لا برء منه على يد هتلر، يشدد هابرماس على الطابع الافتدائي لذكرى الهولوكوست. يقول إنه «بعد أوشفيتز وعبر أوشفيتز فقط انضمت ألمانيا إلى الغرب».
تتجاوز تضمينات موقف هابرماس التأكيد على «الوطنية الدستورية» المتجذرة في التقليد الليبرالي الغربي. فهو يقر بالذنب جهاراً وبوضوح كما لم يفعل أي ألماني قبله (عدا كارل جاسبرز، الذي سرعان ما عُزل وأُسكت عام 1946). ثم إنه يمحو الرابط الجينيالوجي بين الهولوكوست والاستعمار. وبهذه الطريقة صار الهولوكوست انحرافاً مرضياً عن مسار غربي خطي، وليس بحال نتاجاً للحضارة الغربية ذاتها مثلما هو الاستعمار. وبعد خمسة وثلاثين عاماً من مجادلة المؤرخين، أحلت الدولة الألمانية محبة يهود «افتدائية» محل معاداة «افتدائية» للسامية (فريدلاندر)، وهذا لا يعني النضال ضد العنصرية، بل إدراج أمن إسرائيل في قانون ملزم.
وقت ذروة أزمة اللاجئين عام 2015 أعلنت أنجيلا ميركل رسميا أنه بالنظر إلى ماضي ألمانيا فإنها لا تستطيع أن تتهرب من واجب استقبالهم. أما الآن فتنظر موجة جديدة من القومية الألمانية إلى اللاجئين غير الأوروبيين (بالتقابل مع اللاجئين الأوكرانيين) كبرابرة. موسز محق في التأكيد بأن ألمانيا لا تزال مسكونة بـ «المسألة اليهودية». كانت معاداة السامية في القرن التاسع عشر، أيام الرايخ القيصري، «رمزاً ثقافياً» من رموز عملية بناء الأمة. وبعد تسبب الإصلاح الديني بحروب دينية، وفشل الليبرالية بفشل ثورة 1848، لجأت ألمانيا المفتقرة إلى أسطورة إيجابية إلى تمثيل ذاتها عبر معاداة السامية، فكانت ألمانية المرء تعني قبل كل شيء أنه ليس يهودياً. كانت الجرمانية نقيضة اليهودية. اليوم محبة اليهود صارت «الرمز الثقافي» لألمانيا موحدة وما بعد قومية، رمزاً في ثقافة تعتبر اليهود أصدقاء خاصين، وترى الدفاع عن إسرائيل واجباً أخلاقياً. سواء كانوا موصومين في الماضي أو مقدسين اليوم، يبقى اليهود علامة رمزية تحاول من خلالها الجماعة القومية الألمانية أن تعرف نفسها وفضائلها وهويتها.
رغم الالتباسات المذكورة أعلاه، فإن لنضال هابرماس أثناء مجادلة المؤرخين محصلات مثمرة. فقد تمخضت معركته الخاصة بجعل الهولوكوست ركناً من أركان الوعي التاريخي الألماني عن قانون جنسية أعقبها بخمسة عشر عاماً، يقر بحق الميلاد (Jus soli) إلى جانب حق الدم (Jus sanguinis). فلم يعد كون المرء ألمانياً يعني الانتماء إلى جماعة إثنية أو «أخوة الدم»، بل هو العضوية في جماعة سياسية، ومشاركة الواجبات والحقوق، بصرف النظر عن الأصول الإثنية. كان هذا اعترافاً تالياً للوفاة بملايين اليهود الألمان الذين كانوا قد اعتبروا غرباء في بلدهم ذاته طوال عقود.
ألمانيا اليوم أمة متعددة إثنياً ودينياً وثقافياً، ينحدر عدد مهم من مواطنيها الشبان من بلدان كانت مستعمرة. وبفخر يتماهى ملايين الألمان أثناء كأس العالم بلاعبي كرة قدم من أصول بولندية وتركية وأفريقية، أو يحملون كنيات أميركية لاتينية. هذه علامة على تحول ثقافي إيجابي هائل. وبالتأكيد ينبغي للمواطنين الألمان من منابت ما بعد استعمارية ألا يتجاهلوا أن الهولوكوست جزء من تاريخ بلدهم، إلا أنهم يجسدون ذاكرات تطالب بالحصول على اعتراف شرعي. الاستعمار مكون من مكونات التاريخ الأوروبي والألماني بقدر ما هي معاداة السامية، ولذلك فإن ذاكرة المواطنين المنحدرين من البلدان المستعمرة أصلاً يجب أن تكون جزءاً من الذاكرة الجماعية الألمانية وليس مجرد ذاكرة للأقليات الألمانية. هذه البديهية لا تتوافق بكل بساطة مع دوغما فرادة الهولوكوست والدفاع عن إسرائيل. ترى، هل يتعين على المواطنين الألمان من منبت فلسطيني أن يعتبروا أمن إسرائيل واجبهم السياسي والأخلاقي؟
يلحظ ديرك موسز أن العديد من تلاميذ المدارس الألمانية غير البيض ممن زاروا أوشفيتز، لا يشعرون، بحسب عدة استقصاءات، بالذنب على ما فعل الألمان، بل يتماهون عفوياً باليهود. إن جزءاً مهماً من المجتمع الألماني لا يتعرف على نفسه في دين مدني يقوم على التذكر، دين ينبذ الهويات ما بعد الاستعمارية بوصفها معادية للسامية. يقع على مجتمع متعدد الثقافات أن يحفظ تنوعه كمجال لـ «ذاكرة متعددة الاتجاهات» (مايكل روثبرغ) لا يتعايش فيها استذكار الهولوكوست والاستعمار فقط، بل وتعزز الديمقراطية والتعددية.
في زمن العولمة، لا يمكن للوعي التاريخي وللتربية على التعددية والديمقراطية أن تؤسس حصرياً على ذاكرة الهولوكوست، مهما تكن مهمة وأساسية في تسهيل أمر «العمل على الماضي» عند الألمان والأوربيين. ولسوء الحظ فإن «العقائديين»، المؤمنين بـ«العقيدة الألمانية» لا يميلون إلى الحوار. أنهم نقيض تقليد الكونية اليهودية النبيل، التقليد الذي كان له العديد من الممثلين العظام في ألمانيا.