لكَ الحـَمدُ مهما استطالَ البـــلاءْ
ومهمــا استبـدّ الألـمْ،
لكَ الحمدُ، إن الرزايا عطاء
وإن المَصيبــات بعض الكـَـــرَمْ.
ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحَر؟
فهل تشكر الأرضُ قطر المطر
وتغضب إن لم يجُدها الغمام؟
بدر شاكر السياب. سفر أيوب
وحيداً، فقيراً، بائساً يائساً، في برد لندن القارس، كتب السياب قصيدةً عن النبي أيوب. في الوقت الذي كان معظم الشعراء العرب يكتبون المطولات الفروسية ويشيدون بالنضال والصراع، وحده السياب كتب عن مأساته الخاصة، تلك التي ضربت جسده في شبابه، ولم يفهمها، ولم يفهم سببها: لماذا يموت أكثر الشعراء صدقاً وشجاعة وموهبة في عز شبابه، ليترك زوجته المحبوبة وابنه فقراء في عالم جشع قذر منحط، لا يلتفت إلى الشعر والجمال؟
السفر الأصلي في التوارة، كالقصيدة، غير متماسك منطقياً، ولا يحوي خلاصات تصلح للاستخدام. أيضاً، السفر ومعظم قصائد السياب، مكتوبة بمشاعر صادقة، بدون تنميق. السفر، بالمختصر الشديد، يحوي تأملات أيوب وأسئلته حول المصائب التي حلت به؛ والتي، بوضوح شديد، كان الله مسؤولاً عنها:
الأمر واحد لذلك قلتُ:
هو يُفني الكاملَ والشريرَ على السواء.
متى تُنْزل الكارثةُ موتاً فجائياً
يسخر من يأس الأبرياء.
إن أُسْلِمتِ الأرضُ إلى يد الشرير
حجب اللهُ وجوه قضاتها.
إن لم يكن هو، فمن إذاً؟ (الآيات 22-24، الأصحاح التاسع)
هل الله القادر يستطيع منع الشر ولكنه لا يريد، (إذن فهو ليس خيّراً كلياً)؛ أم أنه يريد ولكنه لا يستطيع (إذن فهو ليس كلي القدرة)؟ في السفر، يميل أيوب إلى الشطر الأول: الله قادر على منع الشر، ولكنه لا يريد. ينتهي السفر، فجأة، بمصالحة بين الله وأيوب، بدون إجابات على أي من الأسئلة.
في تاريخ الإسلام، عولجت المشكلة من جوانب محددة. الجوانب التي أثارت المتكلمين والفقهاء والفلاسفة المسلمين، على تنوعهم، هي: هل الله مسؤول عن الشر الذي يقوم به الأفراد؟ وما مصير مرتكبي الكبائر من المسلمين؟ لأسباب سياسية، كان هذا أحد أهم المسائل التي افتتح بها المسلمون تأملاتهم الفلسفية في بدايات القرن الثاني للهجرة. الحروب الأهلية التي بدأت بالثورة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان، جعلتهم يدركون أن بعض المسلمين، ومنهم بعض صحابة رسول الله، ارتكبوا الكبائر في حروب مروّعة؛ فتنوّعت الإجابات، بين مرجئة وقدرية و«منزلة بين منزلتين»؛ وبين المؤمنين بالحرية والمسؤولية البشرية وبين المسلّمين بالقضاء والقدر.في كتاب ألبير نصري نادر فلسفة المعتزلة ، 1950، دار نشر الثقافة، عرض واسع وواضح لما يقوله المعتزلة. من أجل عرض شامل للموضوع، انظر كتاب مونتغمري واط The Formative Period of Islamic Thought, 1973, Edinburgh University Press
لم تحتل «مشكلة الشر الطبيعي»، كما سماها لاحقاً الفلاسفة الغربيون، أي تبرير وفهم الشر النازل على رؤوس الأبرياء، وليس ما يرتكبونه هم أنفسهم من شرور، موقعاً هاماً في تأملات فلاسفة ومتكلمي المسلمين. فقد اكتفوا، على تنوع مذاهبهم، بترديد ما ردده غيرهم باطمئنان: الله يعاقب المخطئين لذا تنزل بهم الشرور، أو سيعوّض من نزل به شر غير عادل لاحقاً في الجنة. ربما، لأنهم لم يعيشوا مصيبة كبرى: كان الزمن زمن انتصارات، زمن ثقة وتقدّم وتكديس أموال وفتوحات، حتى لو ترافق ذلك مع حروب أهلية دموية. على العكس تماماً، سجّلَ اليهود سفر أيوب، بشكله الذي وصل إلينا، بُعيد السبي البابلي، الذي أنزل بهم كلهم عقوبة غير مستحقة شديدة القسوة والعنف.
ولكن تأملات الشعراء العرب، أبي تمام وبشار بن برد وأبي نواس والمتنبي وغيرهم، في الشر والعدل، واعية تماماً لمشكلة الشر الطبيعي؛ وصولاً إلى الدقة الساحرة في طرح الموضوع عند شيخنا أبي العلاء. كانت حساسية الشعراء عالية جداً، ومعايشتهم لليومي ولما ينزل بالناس من مصائب جعلتهم يرون الجانب الآخر من المشكلة، الذي غاب عن المتكلمين والفقهاء والفلاسفة.
في الثورة السورية، تأخر ظهور المشكلة كثيراً.
بعد جولة من القصف العشوائي في سوريا سنة 2014، ظهر طفل صغير باكياً، ليقول ببراءة لا يقدر عليها إلا الأطفال: «سأخبر الله بكل شيء». (رأيت الطفل على شاشة التلفاز مدمى على سريره يومها. لم أجده على الشبكة العنكبوتية عندما بحثت عنه ثانيةً أثناء كتابة هذا النص). تبع ذلك جولات كثيرة من القصف، وتهجير نصف سكان البلد، وتدمير مشافيه ومدارسه ومخابزه، واعتقال مئات الألوف. مع ذلك، لم تظهر مشكلة الشر بشكل واضح للسوريين. ظهرت لاحقاً، وبالتدريج، منذ منتصف سنة 2017.
لماذا تأخر ظهورها كثيراً؟
لم تظهر المشكلة إلى أن هُزمت الثورة. قبلها، كنا واثقين بالنصر، يحرّكنا الأمل. حتى بعد ضربة الكيماوي (2013) آمن الناس بعدالة قادمة، وبمستقبل أفضل: بشكل ما، كان للتضحيات ثمن تستحقه. لكن، ما الذي يفعله الناس، حين يرون، بوضوح، أن الهزيمة كاملة، والنضال عبثي، والمستقبل أسوأ من الماضي، والتضحيات بلا معنى: هدر لأرواح الناس على مذبحٍ لا إله يحميه؟
هذا الجانب من مشكلة الشر، مشترك بين المؤمنين والعلمانيين: لا يطرح مباشرة معضلة الاختيار بين قدرة الله أو خيره غير المحدود. ما نتكلم عنه الآن مختلف: هل يستطيع الإنسان، أي إنسان، مهما كان إيمانه وقناعاته، أن يعمل بجدّ، في ظل هزيمة كاملة، وفي غياب أي بوادر تغيير في المستقبل؟ مشكلة الشر، إذن، بوجهها الأعم والأعمق هذا، ليست عن الله، بل عن العمل في عالم بلا أمل.
لا يتبدّى هذا الجانب إلا في ظل تكثيف هائل للعنف، ينزل بالناس، ليمحو كل قدراتهم على المبادرة: كما في سفر أيوب، أو في مرض السياب، أو هزيمة الثورة السورية. هذه نماذج تتكرر، فردياً وجمعياً: مآسي الأكراد والفلسطينيين، إبادة سكان أميركا الأصليين، الهولوكوست والمذبحة الأرمنية، الحرب الأهلية النيجيرية، وغيرها الكثير.
هل هناك أجوبة نظرية قد تساعد؟
بالطبع، لا. على العموم، لا يوجد الكثير من الأجوبة في علم الأخلاق. في واحدة من أشهر شذرات «رسالة منطقية فلسفية» للفيلسوف الألماني لودفيج فتجشنتين، يقول: «لا يمكن وضع الأخلاق في كلمات». برأي فتجنشتين، الأخلاق في الفعل، فقط. أستاذه، برتراند راسل، سخر من ذلك، في المقدمة التي كتبها للرسالة، والتي لولاها لم يقبلها الناشر. على أن راسل نفسه يتفق مع تلميذه، ولكنه أقل تشدداً. لم يكتب راسل كثيراً في الأخلاق النظرية: عشرات الكتب التي نشرها كانت تُعنى بأمور واضحة مباشرة، وبحثّ الناس على الفعل.
في الجانب الإلهي من مشكلة الشر، قُدّمت أجوبة مثيرة، تتجاوز الكلام المكرر عن أن ما حدث إما عقوبات، أو ضرورة للخير الكلي العام، أو أن الله سيعوض المتضررين لاحقاً، أو أن الشر وهمي (كما يرى معظم المتصوفة والبوذيين، وهي النتيجة المنطقية لوحدة الوجود) لا يعني ذلك أن المتصوفة والبوذيين لم يواجهوا الشر. تمظهرات الحركات الفكرية في التاريخ متنوعة ومتعددة. عملياً، بعض الحركات الصوفية كانت فاعلة جداً في السياسة، من التحالف مع السلطات، كما في التحالف مع السلطنة العثمانية وبدايات الحركة الصفوية، إلى الثورة على الاستعمار الغربي عند سنوسية ليبيا ومهدوية السودان. العلاقة بين النظرية والتطبيق أمر معقد للغاية هنا. لعرض واسع حول التاريخ المعقد للصوفية، راجع كتاب الصوفية، نشأتها وتاريخها لنايل غراين ، 2018، مؤسسة هنداوي.: كل هذه الحلول، التي تصوّر الشر على أنه هامشي، مخاتلة مخادعة. الأجوبة التي اعترفت بالشر اضطرت إلى مواجهة مباشرة: اقترح جون ستيوارت مل أن الله كلي الخير ولكنه ليس كلي القدرة. راجع المقال الأول «الطبيعة» في ثلاث مقالات في الدين. نُشرت المقالات بعد وفاة مل. ديفيد هيوم، من جهته، يعتقد أن الله (أو القدرة التي صممت الكون) ليست معنية بالأخلاق على الإطلاق، لأن الشر كثير جداً في العالم.الفصل العاشر من محاورات في الدين الطبيعي خصصه هيوم لمشكلة الشر. الترجمة العربية التي قام بها الأستاذ محمد فتحي الشنيطي في مصر سنة 1956 جيدة جداً، ولكن مقدمة الترجمة غير دقيقة ومضللة، للأسف. كلا الأمرين قد يصح وقد لا يصح، ولكنهما لا يقدمان مساعدة في الجانب العملي، أي في إشكالية العمل في عالم بدون أمل، في عالم يحكمه الشر بشكل مطلق تقريباً.
ما نبحث عنه يتعلق بإجابة عملية، وليس نظرية. هذا بالضبط ما فهمه بعمق فولتير الساخر التنويري الشكاك، المؤمن بالله والكافر بالأديان، وقد ناقش الأمر مراراً وتكراراً: بشكل نظري وبشكل عملي.ناقش فولتير الموضوع من زوايا مختلفة في كتابه الشهير المعجم الفلسفي. الترجمة العربية التي نشرتها مؤسسة هنداوي للأستاذ يوسف نبيل جيدة جداً، ولكنها لم تشر إلى أنها مترجمة عن الإنكليزية، وهي نسخة عجيبة، فيها زيادات وفيها نقص، تداولها الإنكليز لفترة طويلة. إذ إن الكتاب مُنع في بريطانيا وفرنسا عند صدوره، والترجمات الإنكليزية لأعمال فولتير كانت دوماً مبتسرة. صدرتْ مؤخراً أول ترجمة كاملة للكتاب في الإنكليزية عن دار بينغوين. ناقش فولتير المشكلة أيضاً في كتيب صغير غير مشهور، تحت عنوان الفيلسوف الجاهل. نظرياً، يعتقد فولتير أن هناك الكثير من الأسئلة التي لا يمكننا الإجابة عليها، ومنها وجود الشر في عالم يحكمه إله عادل. عملياً، اقترح أننا يجب أن نعمل باستمرار، بغض النظر عن النتيجة.
روايته الصغيرة، كانديد، أشهر أعماله، هي النتيجة المباشرة لمعالجته مشكلة الشر، وخصصها للسخرية من الفيلسوف لايبنتز. رأى لايبنتز، ذلك الألماني العقلاني، أن العالم الذي نعيش فيه أفضل العوالم الممكنة، وحجته أن الله القادر الكامل لن يخلق عالماً غير كامل (نفس الحجة قدمها بعض المعتزلة). فولتير، الذي نظر حوله، فوجد الزلازل والحروب والفقر والمجاعات والمجازر الدينية، سخّر قلمه للهجوم على الألماني بحدة وشراسة وحقد كان فولتير يخوض معركة أخرى أعمق وأشد تعقيداً لإسقاط ما عُرف باسم الفلسفة الميكانيكية، التي أرساها غاليليو وديكارت ولايبنتز. هذا الأخير عاصر نيوتن ورفض فكرة الجاذبية-عن-بعد. ينتمي فولتير إلى جيل لاحق، وشكل عمله ضربة قاضية للديكارتية ولأتباع لايبنتز في فرنسا، وانتصاراً ساحقاً لنيوتن..
بالطبع، انتصر فولتير: الشر موجود، وبكثرة. في معرض نقاشه للموضوع، ناقش الحل الطريف الذي أتى به أهل الثنوية تاريخياً، الأديان الفارسية مالت إلى الثنوية، بأشكال مختلفة: ماني (بابلي وفارسي، وتقريباً مسيحي، ربما)، أكثر من زارادشت، يجعل إله الشر مستقلاً وقادراً؛ ولكنهما لم يكونا متساويين، ولا يعبثان: يجب أن ينتصر الخير في النهاية. تشكل الثنوية حلاً منطقياً ممتازاً لمشكلة الشر، ولكنها صعبة القبول، كما بيّن فولتير. فهم ثنوية الأديان الفارسية موضع نقاش وخلاف دائم. راجع المقالات حولهما في The Cambridge History of Iran volume 3 part 2 Fifth printing 2007. University Press, Cambridge، ورفضه، كما رفضه هيوم والمعتزلة والقديس أوغسطين والمعري. يقترح أهل الثنوية أن الكون مقسّم بين قوتين متساويتين: قوة شريرة وقوة خيرة، أي شيطان وإله متكافئان، يعبثان بنا. الحجة الرافضة للثنائية تقول بأن الكون (في بنيته وقوانينه الثابتة- أي خارج الأخلاق) منظّم بطريقة جيدة جيداً، لا توحي بوجود إلهين يتصارعان، بل قوة واحدة تتحكم بكل تفاصيله.
تنطلق كانديد من فكرة مثيرة، صحيحة حتماً: حتى لو يكن هناك أجوبة نظرية، وحتى لو كان العالم مليئاً بالشر، وحتى لو لم يكن أمامنا وسيلة لتفسير الظلم الواقع على الناس، يجب أن نعمل ما بوسعنا عمله. في خاتمة الرواية، يزرع البطل حديقته، تاركاً الأسئلة النظرية، والخسارات الكبرى، وراءه. ولو صح فهمي، لزوميات المعري ورسائله المتبادلة مع داعي الدعاة الفاطمي، تقدم رؤية مماثلة.
في واحدة من التأويلات المتعددة للرواية، تكون الرواية إعادة كتابة ساخرة وعصرية لسفر أيوب نفسه. أيضاً، تتمسك الرواية بأفضل ما قدمه السفر: ترفض بشكل قاطع التخفيف والتقليل من حجم الشر والظلم، وتعلن العجز عن تقديم أجوبة، وتتمسك، مع ذلك، بالعمل الصالح: أي أن الرواية تقول بالضبط ما يقوله السفر، ولكن بدون إلهام إلهي، وبدون تذلل للآلهة.
يقترب هذا الحل من انتقادات إشعيا برلين لفلسفة التاريخ، خصوصاً الماركسية. يقترح برلين، الليبرالي الصلب، أن علينا العمل بدون إيمان بالنصر النهائي. ويرفض القناعة التي سادت عند معظم الفلاسفة الغربيين، منذ القرن الثامن عشر، بوجود نهاية سعيدة للتاريخ، نهاية حتمية وقريبة، حيث يعيش جميع الناس بوئام وسعادة في جنة أرضية: يوتوبيا نهائية كاملة. راجع مقال «الحتمية التاريخية»، وبقية المقالات في كتاب برلين الحرية، خمس مقالات. يوجد أكثر من ترجمة عربية جيدة للكتاب. من اليسار، يتفق برتراند راسل ونعوم تشومسكي مع برلين في هذه النقطة. يرى الفيلسوفان الفوضويان أننا يجب أن نبذل كل ما يمكن في سعينا إلى الاشتراكية، بدون نور ميتافيزيقي أو تاريخاني يهدينا، وبدون ضمان النصر.
هناك حل عملي ثانٍ، يختلف عن حل فولتير، وقد يكون أسهل وأكثر منطقية بعد الهزائم.
أكّد أبيقور أن الإنسان الحكيم يبتعد عن السياسة. تبنّت هذه الفكرة، بأشكال متقاربة، الفلسفات الثلاث التي سادت أيام الرومان: الرواقيون والأبيقوريون والشكاكون. تتناقض هذه الرؤية مع رؤية الفلاسفة الإغريق، الذين ربطوا الحياة الأخلاقية والعمل السياسي بعروة لا تنفصم. يبدو الأمر عند فلاسفة الرومان رد فعل جماعي على وجود إمبراطورية ضخمة هائلة الحجم مترامية الأطراف، لا تشبه الدولة-المدينة الإغريقية، التي يمكن للفرد الفاعل أن يؤثر فيها. لم يكن الابتعاد عن السياسة، إذن، مرتبطاً بمشكلة الشر، ولكن بالعجز عن التأثير في الأحداث السياسية. راجع على سبيل المثال برتراند راسل في تاريخ الفلسفة الغربية، الجزء الأول. لاحقاً، الأفلاطونية المحدثة، وبشكل طوّر أفكاراً رئيسة لأفلاطون وآرسطو، أيضاً اقترحت أن التأمل النظري البحت أعلى مراحل الفلسفة للوصول إلى الحكمة: التأمل النظري، الفارغ عملياً وسياسياً، الذي سيتلقفه الفلاسفة المسلمون بجدية كاملة. راجع ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، 1983و الدار المتحدة للنشر، ومقاله Three Varities of Mysticism in Islam International Journal for Philosophy of Religion 1971 / 24 Vol. 2; Iss. 4
هذا الخيار الأبيقوري ملائم تماماً للمهزومين، كما لاءم التائهين الضعفاء في الإمبراطوريات الضخمة.
تكمن الإشكالية الرئيسة في أن ما نبحث فيه ليس معضلةً نظريةً: لا يستطيع المرء أن يجلس مع السوريين، الذين عاشوا الحرب، وفقدوا أهلهم، وبلدهم، وقدرتهم الفردية والجمعية على المواجهة، ليقول لهم يجب أن تحاولوا، مرة أخرى. هذا ما لا يجوز فعله اليوم: لا يجوز، في ظل هزيمة ماحقة، ومجاعة حقيقية في البلد، أن نطلب من الناس أن تؤمن بالخير، أن تتابع العمل، أن ترفض الاستسلام، بدون أمل في مستقبل أفضل؛ لأن هذا يعني أن نفعل أسوأ ما يمكن فعله: أن نقلل من آلام الناس، من خساراتهم، من بؤسهم، من يأسهم، من استسلامهم. في سفر أيوب تأكيد حادّ وصادق وغاضب على هذه النقطة. مدهشٌ تسجيل كل ذلك العنف الذي ينضح من كلماته: يرفض أيوب، بشكل قاطع، محاولات أصدقائه مواساته، أو التخفيف مما أصابه، أو الإيحاء بأنه يستحق ذلك كعقوبة على خطايا ما: يرفض كل ذلك، وهو محق تماماً في هذا الرفض.
كما يجب أن نرفض محاولات تقديم إجابات نظرية فارغة، عن حركة التاريخ أو الجنة الموعودة في السماء أو أخطاء ارتكبها السوريون أنفسهم: كل هذا يزيد في آلام الناس، في بؤسهم، في غربتهم عما يحيط بهم في عالم لم يصبه ما أصابهم.
أنا أتبنى خيار فولتير وأؤمن به؛ ولكنني، كثيراً جداً، أجد نفسي غارقاً في حكمة أبيقور. وأتمرجح بينهما باستمرار، عاجزاً تماماً عن فهم أي الخيارين سيتلبّسني مع كلّ إشراقة شمس.
بين هذا وذاك، يوجد وصفةٌ قد تساعد قليلاً في المواجهة المفتوحة مع الشر؛ وصفةٌ يجب أن نأخذ بها، وقد تكون متوافقةً مع ما قاله فولتير والنبي أيوب، من جهة، ومع انسحاب أبيقور والرواقيين، من جهة أخرى: وصفةٌ بسيطة، أضافها الشاعر العراقي إلى مفاهيمنا عن أيوب، بعمق وصدق ومحبة.
يحتفي الشاعر بالحب، ويكره المرض-اللعنة لأنه يبعده عن أحبائه، عن زوجته إقبال وابنه غيلان. في القصيدة التي افتتحنا بها النص أعلاه، يدعو السياب زوجته إليه في لندن البعيدة:
أسمع غيلان يناديك من الظلام
من نومه اليتيم في خرائب الضجر.
سمعتِ كيف دق بابَنا القدر
فارتعشت على ارتجاف قرعه ضلوعْ،
ورقرقت دموعْ،
فاختلس المسافرُ الوداعَ وانحدر؟
…
إقبال… إن في دمي لوجهك انتظار،
وفي يدي دمٌ، إليكِ شدّه الحنين،
ليتك تُقبلين
من خلل الثلج الذي تنثّه السماء،
من خلل الضباب والمطر!
يتمسك السياب بالحياة، لأنه يحب. لا يشير إلى محبة مجردة: إلى الوطن، إلى التاريخ، إلى الإنسانية. كلا، ينادي حبيبته وابنه، فقط، من خرائب الثلج والضباب والظلام!
يبدو لي أن رواية العمى لخوسيه ساراموغو تقول شيئاً مماثلاً. لم أفهم الرواية تماماً، ولكنني أعتقد أن أحد مداخلها يكمن في أن المحبة، في جوهرها، وبالضرورة، محبة مخصصة لشخص محدد، لكائن بشري من لحم ودم، وليست محبة مجردة عامة. زوجة البطل، التي وحدها لم تصب بالعمى، تساعد زوجها في المحنة الطويلة جداً: تحميه وترعاه، هو وحده، من بين كل الناس. بمثل هذه المحبة، لا تفقد بصرها، وبصيرتها.
العمى ينتشر في كل مكان، ومواجهته تقتضي محبة مخصوصة، لأصدقاء وأهل محددين؛ وأعمالاً صغيرة، مباشرة، لن تغير مسار الحرب، ولكنها -على الرغم من كل شيء- قد تساعد في إضاءة القليل من النور في قلوب الناس.