تأتيني ذكراه في محطة المترو، وفي الشارع وفي أوقات التعب. ففي أوقات التعب تبدأ الذاكرة باستجلاب الصور والأحداث والأشخاص. أتذكر وأبتسم وأشعر بالأمان لتوافر صديقٍ نلجأ إليه، فنشعر معه وبجانبه بذلك المزيج المكثف من الخيبة والأمل، والبساطة والعمق، وهموم الحياة الروتينية والتصدي لقضايا التغيير؛ تغيير العالم!
لسنواتٍ لم أتواصل مع سامح مستو. ظننت أن هناك متسعاً من الوقت ووفرةً من الشباب، وكثيراً من الود والصفح اللذين يتحلى بهما سامح، فينسى سنواتٍ من عدم التواصل. إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم، لأعرف -بالصدفة- أن ذلك الصديق قد اختفى من الوجود، مخلفاً صدعاً في الروح وأسئلةً تطرح نفسها بلجاجة: لماذا وكيف و«لسى بكير»!
انفجار باش بينار
حياة الإنسان حكاية، والحكاية مهما كبرت هي مجرد حكاية. روى العمال أن سامح مستو تلفظ الشهادتين بصعوبةٍ عندها صاح به من حوله: «أبو عادل لا تتركنا!». لم يكن رده إلا نظرةً و إيماءة. تلك النظرة التي أعرفها، وقد رأيتها مراراً على وجهه في ذلك المكتب في الطابق الثاني من مطعم هيلوز الإيطالي الذي يقدم الطعام السوري. كان ذلك في غازي عنتاب التركية، برفقته و برفقة آخرين. كانت نظرة لامبالاة ولا تصديق؛ نظرة تحدٍّ أخيرة مع هذا العالم الذي لا يتغير بيسر. إنها نهاية الحكاية. لم يكن ذلك المحاسب سامح عادل مستو إلا أحد أبرز الوجوه الثورية من محافظة حلب السورية؛ الوجه دائم الحضور في مظاهرات وفعاليات السوريين اللاجئين في غازي عنتاب جنوبي تركيا.
في صبيحة يوم الأربعاء الأول من حزيران (يونيو) الماضي، أدى انفجارٌ في إحدى الورشات الصناعية على مقربةٍ من مدينة غازي عنتاب التركية إلى وفاة محاسب الورشة، إثر ارتطامه بعارضٍ حديدي نتيجة قوة ضغط الانفجار. لحظاتٌ قصيرةٌ فصلت بين لحظة الانفجار وبين رحيل سامح عن هذا العالم. أحسب أن صوراً ووجوهاً كثيرةً عبرت مخيلته، كانت خزينة أحد عشر عاماً من الثورة. مرت جميعها كخيولٍ تجري في سهلٍ فسيح: معرستة الخان، وصباحاتٌ قارسة البرد في ريف حلب، وفضاءٌ فسيحٌ يعرفه لأول مرة. إنه الموت، ولا متسع لمزيدٍ من الأمل.
ختم الخبر الذي نزل كالصاعقة على أهل سامح ومحبيه ورفاقه سيرة ناشطٍ سلميٍّ بدأت من معرستة الخان، إحدى قرى الريف الشمالي في حلب، مروراً بطريق الباب في مدينة حلب وشهور النضال السلمي فيها، ومن ثم المنفى في مدينة غازي عنتاب التركية، حيث كان سامح الناشطَ المؤمن بهذه الثورة والمتمسك بها رغم تغير الأحوال والظروف والأماكن. وجد دوماً مكانه للنضال والتعبير عن الرفض؛ رفضَ السلطة المتوحشة ورفضَ التطرف ورفضَ التحلل في المنفى.
وقد شيع سامح عشرات السوريين إلى مثواه الأخير في مدينة غازي عنتاب، ونعته رابطة السوريين في عنتاب في بيان، وكذلك حزب أحرار، وعددٌ كبيرٌ من ناشطي حلب وثوارها.
ابن الريف الشمالي
عندما أذكر سامح مستو تقودني قدماي إلى مطعم هيلوز القريب من جامعة غازي عنتاب. هو مطعمٌ إيطالي الاسم، ينتمي إلى سلسلة مطاعم تقدم الطعام الإيطالي، ولكنه نتيجة عدم رواج الطعام الإيطالي في تلك المدينة التركية، قرر مالكه السوري تقديم طعامٍ سوري وعراقي لزبائنه ومرتاديه. كنت أهرب من ظهيرات عنتاب شديدة الحرارة ومن الاستوديو الضيق، فأطلب أوزي عراقي أو طبقاً سورياً. يمر سامح مستو بالعاملين وبالزبائن، وكان حينها يعمل كمحاسب في المطعم ويديره بشكل فعلي، فنجلس ونتحدث. ليس بيننا الكثير من المعرفة حينها، ولكنه لا يفتأ يرحب بنا بصدرٍ واسع، أنا و أخرين من الشباب الذين نصغره سناً. كان يرحب بنا ترحيباً كبيراً، ولم يكن يخطر ببالي مع بشاشة وجهه وانشراح طبعه أن للرجل مشاكله المادية التي يضطر معها للاستدانة لإكمال باقي الشهر، وذلك لسببٍ وحيد: كرمه داخل المطعم، والذي يدفعه لسداد حساب شبابٍ من جمهور الثورة والأصدقاء من جيبه الخاص. كما أنه كان خارج المطعم سنداً للعديد من الأصدقاء.
كانت مدينة غازي عنتاب آنذاك تضم خليطاً من اللاجئين الحلبيين والرقاويين والحسكاويين والديريين، فرّ أغلبهم من سوريا بعد استفحال أمر تنظيم الدولة الإسلامية، الذي أضاف عذاباً جديداً على عذابات السوريين، وليشوّش على مسار الثورة في مناطق وينهيه تماماً في مناطق أخرى. وفي جو اللجوء الجديد وانتظار المجهول والخيبة، بدأ هؤلاء اللاجئون الخروجَ من محليتهم والتعرف على بعضهم البعض، فتعرف ابن دير الزور على ابن حلب والرقاوي على الحسكاوي. وأحياناً تعرّف أبناء القرى المتجاورة على بعضهم البعض في عنتاب، بينما قضوا عمراً في قراهم دون معرفةٍ أو التقاء. في هذا الجو المضطرب تعرفت إلى سامح، وكانت جلساتي معه تعيد إليّ القليل من التوازن والقليل من الأمل. كانت شخصيته تشابه في جوانب منها شخصية أبو زهدي الطروسي في الشراع والعاصفة لحنا مينا؛ تلك الشهامة المشتركة والكلمات التي تخرج متأنيةً من فمه، لتزيدها لهجته المميزة ثباتاً: «خاي.. راح نرجع وراح نعزمكم على معرستة». تلك النظرة الصلبة والهادئة، والمنكبان العريضان يوحيان بعصامية هذا الرجل.
يقول الناشط ماجد عبد النور: «ما كان أي ناشط من الريف الشمالي يصل عنتاب حتى يعلم سامح بوصوله، ليجده ويساعده في إيجاد عملٍ ومسكن، ولا يتركه حتى يطمئن عليه. رغم انخراطه في العديد من التجارب السياسية في عنتاب: كروح الثورة وحزب أحرار، وانسحابه منها لاحقاً بهدوء، إلا أن انتماءه للثورة ولأولاد البلد ولسوريا المستقبل ظل كما هو.
إلى كرم عبو يوماً ما
في زاويةٍ من زوايا نفسه، كانت تقبع كراهية سامح لكل الجلادين والقتلة من العسكر وأشباه العسكر، وكراهية هذا المنفى. وفي زوايا أخرى ما يؤججها: الأصدقاء القدامى؛ ومصطفى ابن العم والأخ الذي سفح دمه على تراب حلب في بدايات الثورة؛ ومعرستة الخان -قرية العائلة التي صارت في أيدي نظام البراميل ومليشياته؛ المرارة وهو يرى أصدقاءه ممن عرفهم خلال سنوات الثورة الأولى يكدّون وراء لقمة عائلاتهم بأعمالٍ أجبرتهم عليها هذه الثورة نفسها. يتذكر أحلام هؤلاء بسوريا جديدة حرة، وتزداد مرارته مرارة لحال هؤلاء الذين يختفون خلف أعمالهم ولقمة عيشهم و أسقام منفاهم، كما تختفي سوريا المستقبل المتخيلة في أذهانهم، وتتباعد سوريا الحلم، ليحل محلها مستقبلٌ يعنون بأسماء الفصائل والمناطق والقادة، وينتهي بمناوشاتٍ واحترابٍ لا نهاية له.
كتب سامح ذات يوم على حسابه في فيسبوك: «غادرت سوريا جسداً وبقيتُ في فضاء الثورة». وبقي سامح هنا وهناك، جسداً لا يكلّ ولا يملّ من البحث عن لقمة العيش لعائلته وأطفاله الثلاثة. وكان ثورةً بحدّ ذاتها، في فضاء ثورةٍ تضيق شيئاً على أبنائها. عمل جسده خلال ذلك الوقت كمحاسبٍ في مطعم هيلوز، ثم تنقّل في عدة مطاعم. تمسكه بمبادئه وقناعاته السياسية كانت تجلب له المشكلات في العمل.
في ذلك المطعم، ينظر سامح إلى صديقنا المشترك سامر نظرةً ذات معنى، ويبتسم عندما يتحدث عن مرؤوسيه الذين يملكون المطعم. الحديث عنهم بشكلٍ عابر، لم يكن راضياً عن طريقتهم في إدارة المطعم، وكان قربه من عمال المطعم ودفاعه عنهم يقحمه في مشكلاتٍ لا تخصه، فينتقل من مطعمٍ إلى آخر. يبحث جسده عن لقمة العيش، وينتظر الأمل لهذه الثورة وله، وتستمر ثورته ويبقى سامح خارج جسده. وبعد سلسلة التنقلات بين المطاعم، بدأ عملاً جديداً في إحدى المنظمات، فلم يكن حظه فيها أفضل من حظه في ما سبقها، ليتركها سريعاً ومُغاضباً لها ولعالمٍ يرفض التغيير ويقاوم الثورة. وما بين عملٍ وآخر، وصل سامح لتلك المصبغة المتعثّرة وشبه المفلسة في منطقة باش بينار الصناعية في ولاية عنتاب، وقَبِلَ العملَ فيها كمحاسب،على أمل أن يتحسن العمل.
هذا الجسد ليس لي، وهذا الدم النازف مني ليس لي. في البعيد يرى سامح نفسه في بلدية معرستة الخان؛ محاسب البلدية ابن عائلة مستو، أكبر عائلات القرية الصغيرة. في هذه العائلة كان أبوه وأعمامه وأبناء عمومته أعضاء في أحزاب يسارية، واعتقل النظام والده عدة مرات أثناء نشاطه السياسي، كما اعتقل عمه لسنوات، وابن عمومةٍ آخر عاش الاعتقال لعدة سنواتٍ كذلك. يفكر سامح في أوقات الفراغ الطويلة في مبنى البلدية بمستقبل سوريا، ويحلم بالثورة والتغيير. ينطلق من عمله إلى مسكنِه في طريق الباب بحلب. يرتاح ما بعد الظهيرة قليلاً ليعمل بعدها في أحد مطاعم حلب الشعبية الشهيرة. في الأشهر الأولى في الثورة انصبّ نشاط سامح السلمي في هذا الحي، وتكوّنت فيه الصداقات التي رافقته إلى تركيا. اعتقله نظام الأسد مدة أسبوعين تقريباً خلال الأشهر الستة الأولى من الثورة، وبعدها انتقل إلى قريته ليتابع نشاطه منها، فعمل في الإغاثة، وكان رئيساً منتخباً للمجلس المحلي فيها، وذلك إلى حين اجتياحها من قبل تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014، ليخرج منها مع جميع أفراد العائلة نحو مدينة غازي عنتاب، حيث سكنوا جميعاً في حيٍّ واحد.
خلال شهر شباط (فبراير) من العام 2016 سقطت معرستة الخان بيد قوات النظام من جديد، بالإضافة إلى عدة قرى أخرى من ريف حلب الشمالي، من بينها قرية رتيان ومعظم القرى الموازية والمتداخلة مع قريتي نبّل والزهراء المواليتين للنظام، لتدخلها جموعٌ من الشبيحة والموالين المسلحين والجرافات، فاقتلعوا أشجار الزيتون وهدموا المنازل بعد أن نقلوا منها كل ما يمكن حمله. روى لي ناشطٌ من المنطقة أنهم «قاموا بقصّ بعض الجدران والطوب والأسقف من المنازل وحملوها معهم، وفي حالاتٍ أخرى قاموا بتكسير المنازل بحثاً عن الحديد فيها». رفضت تلك الميليشيات رجوع أبناء تلك القرى إليها، وعندها فقد سامح أي أملٍ بالعودة إلى قرية العائلة، لكنه لم يفقد القدرة على الحلم، فيأخذه بعيداً إلى طريق رتيان؛ حيث أشجار الزيتون والتين والعنب، وإلى كرم عبو؛ تلك الأرض التي تفصل بين رتيان ومعرستة الخان، والتي صودرت من قبل حكومة النظام منذ سنين طويلة، ومن ثم تحوّلت مكاناً للنزهات والجلسات. كان دائماً ما يقول لأصدقائه في نهاية سهراتهم وأحاديثهم مودعاً: «سنتغدى في كرم عبو يوماً ما».