«أَرْضِ ظَلاَمٍ مِثْلِ دُجَى ظِلِّ الْمَوْتِ وَبِلاَ تَرْتِيبٍ، وَإِشْرَاقُهَا كَالدُّجَى»
سفر أيوب.
أحاول في ما أكتبُ هنا تسجيلَ مُلاحظاتٍ عن حال المهاجرين في السويد، وخصوصاً المسلمين يُشكلُ المهاجرون الذين ولدوا خارج السويد حوالي 19% من سكان البلاد. وإذا أضفنا إليهم المولودين في السويد من والدين من أصول أجنبية تصبح النسبة حوالي 25% من إجمالي السكان، أي حوالي مليونين ونصف. في العام 2017 كان عدد الأشخاص الذين يُعرفون عن نفسهم كمسلمين 810000 شخصاً في السويد، ويُعتقدُ أن ثلث هؤلاء يمارسون شعائرهم الدينية. منهم، مُنطلقاً من حدَثين مرّا في الأشهر الأخيرة. لا أدّعي الإحاطةً بكل تفاصيل حال البلاد، ولا تفاصيل أحوال المهاجرين فيها، لكن لجوئي إلى هذه البلاد وإقامتي فيها منذ سنواتٍ عِدّة، ثم طبيعة عملي القريبة من المُهاجرين ويومياتهم، تعطيني صورةً عامةً عن الحال. ويبقى التحليل اللاحقُ مبنياً على أفكاري الخاصة، وأساسها قناعاتي الشخصية والزوايا التي أختارُ منها مراقبة التجاذبات حولي.
وبينما أكتبُ، فإني أستعيدُ دائماً يقيناً قديماً بأن الخلاص فردي، وأنّ خلاص الجماعات يأتي لاحقاً. وأنّ فكرتي عن المكان الذي أرغب العيش فيه، سواء أكان وطناً ديمقراطياً تعددياً أو عالماً من المثاليات، يبدأ بشيءٍ من التفْويض والتخلّي؛ تفويضٍ يشبه أن أقول للواقفة بجانبي: تفضلي وخُذي مكاني في السلطة، أنا أثقُ بكِ. تصوّري عن المكان المنشود الذي أرغب في العيش فيه يبدأ بأنّ أؤمن أنّ الآخر، سواء كان قريباً أو غريباً، لا يُضمرُ لي شرّاً.
عن دائرة الشؤون الاجتماعية وأبناء المُهاجرين
بين كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي وحتى أواخر شباط (فبراير) من العام الحالي، خرجتْ عدّة مظاهراتٍ ضد طريقة عمل دوائر الشؤون الإجتماعية؛ السوسيال، في السويد. البداية كانت مع احتجاجاتٍ من أهالٍ كانت دائرة الشؤون الإجتماعية قد أخذت أبناءها. تطورت الاحتجاجات لاحقاً إلى مظاهراتٍ أكثر تنظيماً، وصل عدد المشاركين في قسمٍ منها إلى بضع مئات في مدن ستوكهولم وغوتنبرغ.
الاحتجاجات في الأساس هي ضد ما يعرف بـLVU، وهو اختصارٌ لـ«قانون القواعد الخاصة برعاية القاصرين». حيث يسمح هذا القانون لدائرة الشؤون الإجتماعية أن تتدخل لحماية الأطفال والشباب حتى سن الواحد والعشرين. هذه الحماية قد تتم، في بعض الأحيان، عن طريق انتزاع القاصرين من أهاليهم ووضعهم بشكلٍ مؤقت عند عوائل رعاية أخرى. يحصل التدخل بسبب مشاكل في العائلة أو بسبب مشاكل في سلوك القاصر نفسه. توردُ دائرة الشؤون الإجتماعية، في معلوماتٍ منشورةٍ بالعربية على موقعها الرسمي، مثالين على الحالات التي تتدخل فيها لرعاية القاصرين: «استخدام العنف أو المعاملة المُهينة للطفل من جانب الأسرة، أو أن يمثل الطفل خطراً على نفسه ومن حوله كارتكابه للجرائم».
الأهالي المحتجون ومناصروهم، وأغلبهم كما يبدو من أصول أجنبية ومسلمة، يرون أن الأسباب التي تم انتزاع الأطفال على أساسها غير واضحة أو غير كافية. وأنّ صعوبة التواصل مع دوائر الشؤون الإجتماعية تؤخّر عودة الأطفال. كما يرى قسم من المحتجين أن هناك تقصداً لاستخدام القانون ضد العائلات المهاجرة، وخاصةً المسلمين منهم.
بعض التقارير التي صدرتْ قبل المظاهرات وتزامناً معها، أشارتْ إلى أنّ الآراء الفردية الخاصة عند موظفي دوائر الشؤون الإجتماعيّة المتعلقة بالجنس أو العمر أو العرق أو الإعاقة، قد تؤثر على طريقة تقييم هؤلاء الموظفين للحالات التي يعملون عليها، وبالتالي تؤثر على قرارات الدائرة. وذكرت التقارير أيضاً بأن الآراء الشخصية هذه يمكن أن تنطوي على خطر التمييز في بعض الحالات، وقد تشكل عقبةً أمام وصول الأفراد إلى فُرصٍ وحقوقٍ متساوية.تقرير صادر عن دائرة مناهضة التمييز في أيلول (ديسمبر) 2021.
لم يبقَ المتظاهرون في الساحات لوحدهم، فالاحتجاجات امتدتْ إلى خارج السويد، مُشكِّلةً حملةً على الإنترنت، توصفُ فيها السويد بالدولة الفاشية التي تختطف أطفال المسلمين أو تبيعهم، وتكثر ضدّها تعليقات التهديد والكراهية. صفحاتٌ متابعةٌ بشكل كبير على تويتر وفيسبوك مثل صفحة شؤون إسلامية، ومحطاتٌ إخبارية مثل الجزيرة، نشروا تقارير عن الموضوع، مُستعملين هاشتاغاتٍ مثل #السويد_دولة_فاشية أو #أوقفوا_خطف_أطفالنا أو #boycott_sweden. أحد الأطراف الحاضرة في المظاهرات، وكذلك في نشر الأخبار ونقلها على الإنترنت، كان حزب نيانس Partiet Nyans.
الجدلُ حول طريقة عمل دائرة الشؤون الاجتماعية مُستمرٌ. من جهةٍ هُناك شحٌّ في المعلومات الرسمية حول أُسسِ اتخاذ قرارات انتزاع الأطفال، وتعتيمٌ على طرق تقييم العائلات الجديدة التي ستستقبل الأطفال. ومن جهة أخرى هُناك إفراطٌ في استعمال المظلومية من قبل المُحتجين، وارتكازٌ على أفكارٍ شعبوية مكررة عن مؤامراتٍ تتقصد المسلمين وأبناءهم، واستسهالٌ في ردِّ المشكلة إلى فكرة عنصرية بحتة تفترضُ تمييزاً مدروساً وبنيوياً تعمل عليه المؤسسات العامة، دون أخذ أي أرقام أو إحصائيات بعين الاعتبار. تكرار المعلومات المغلوطة حول عمل المؤسسات العامة يؤدي مع الوقت إلى تقويض الثقة بهذه المؤسسات، وإلى مقاطعة هذه المؤسسات؛ إذ أن كل حاجةٍ إلى المساعدة أو الدعم -حسب الادعاءات- قد تكون مدخلاً يؤدي إلى تدخل الجهات العامة في الحياة الخاصة والعائلية، وقد تكون بالتالي سبباً لانتزاع الأطفال من الأهالي. اليوم، هناك بالفعل تشكيك واسع النطاق بين المجموعات المهاجرة في طريقة عمل السلطات، والخاسر الأكبر من الاستسلام لحملات التشويه هم الأطفال والشباب الذين يحتاجون فعلاً إلى حماية المؤسسات العامة.
عن حزب نيانس
أُنشئ حزب نيانس وتم تسجيله في مدينة جوتنبرج في العام 2019. في التعريف بالحزب على موقعه على الإنترنت نقرأ أنه «حزب السويد بأكمله، وهو متاحٌ لأي شخص يريد العمل وفقاً لأهداف الحزب وغاياته. الجميع، بغض النظر عن الخلفية والدين والعرق، مُرحبٌ بهم في الحزب». رغم التعريف اللطيف، فإنّ الحزب في الواقع هو مشروع حزب إسلامي في السويد، يتوجه أساساً نحو المواطنين من أصول أجنبية في السويد، خاصةً المسلمين منهم. ويركز على أسئلة تتعلق بالإسلاموفوبيا والاندماج ومواضيع أخرى تتعلق بحقوق الأقليات وطرق تعامل المؤسسات الرسمية معهم. يطالب الحزب بالتمييز الإيجابي للأعراق والإثنيات، بطريقة تشبه المُحاصصة التي تحصل عليها النساء في الحياة العملية والتعليم. كما يطالب الحزب أن يتم الاعتراف بالمسلمين كأقلية رسمية في الدستور، وأن يكون للإسلاموفوبيا تصنيفها الجنائي الخاص. وأنّ يُكفل للأطفال الذين ينتمون إلى ثقافة أو دين ما تنشئةٌ تتوافق مع ثقافتهم الأصلية، أي أنَّ الدين في منزل العائلة الجديدة يجب أن يكون نفس دين العائلة الأصلية، وذلك منعاً لأي انسلاخ.
مؤسس الحزب، ميكايل يوكسيل Mikail Yüksel، كان قد أُجبِرَ على ترك حزب الوسط السويدي في العام 2018 بسبب اتهاماتٍ عن علاقته مع منظمة الذئاب الرمادية التركية المتطرفة. نجح الحزب في وقت قصير في ضم شخصياتٍ إشكاليةٍ أخرى لا يخلو تاريخها من الاتهامات والأحكام القضائية، مثل بشير علي أمان Bashir Ali Aman، الإمام والخطيب السابق في مسجد رينكبي في ستوكهولم، والذي قضى مؤخراً ثلاث سنوات في السجن بسبب استيلائه على عشرة ملايين كرون من خزينة مدرسة الأزهر في ستوكهولم، والتي عمل مُديراً لها.
الحزب واضحٌ في علاقته الودودة مع تركيا، يرفض الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، ويرى أن شروط تركيا لقبول دخول السويد في حلف الناتو شروطٌ منطقية. مؤخراً نشرت قناة Haber Global التركية القريبة من منظمة الذئاب الرمادية تقريراً تنصح فيه السويديين من أصول تركية أن يصوتوا لحزب نيانس.
والحزب في أفكاره هذه امتدادٌ لأحزاب وجهات إسلامية أخرى تنشط في أوروبا، قسمٌ كبيرٌ منها قريبٌ من جماعة الإخوان المسلمين، بدأتْ في الظهور منذ ستينات القرن الماضي بعد الهجرات من منطقة الشرق الأوسط باتجاه دول أوروبا، وكان المركز الإسلامي في ميونخ 1961 الذي أسسه سعيد رمضان، صهر حسن البنا، واحداً من أوائل هذه التجمعات.
عن أحداث العنف بعد حرق القرآن
مَطلع أبريل الماضي، تقدم راسموس بالودان رئيس حزب Stram Kurs اليميني، بطلبٍ للحصول على إذن لتنظيم عدة تجمعاتٍ في أماكن عامة في السويد يقوم فيها بحرق نسخ من القرآن. الغرض المُعلن للمظاهرات هو الاحتجاج على فشل الحكومة السويدية في دمج المهاجرين. المهاجرون الذين، حسب بالودان، لا يتصرفون حسب القانون السويدي ولا يتقبلون الحق في انتقاد الدين. والهدف غير المعلن هو إثارة غضب المسلمين، ودفعهم للقيام بأعمال عنف احتجاجاً على حرق القرآن.
حصل بالودان على الترخيص لتنظيم التجمعات في مدن سويدية عِدة في فترة عيد الفصح التي تزامنت مع منتصف رمضان الماضي.
مرَّ حدث الحرق الأول للقرآن، يوم الخميس 14 نيسان (أبريل) في مدينة يونشوبينغ، دون أي اضطرابات. لاحقاً في اليوم نفسه كان بالودان قد خطط وحصل على ترخيص لتنظيم حدثٍ مشابه في مدينة لينشوبينج. أوقفتْ الشرطة المظاهرة واحتجزت بالودان على أساس أنه قد يكون سبباً في قيام أعمال شغب، ورغم إيقاف مظاهرة حرق القرآن، تجمّعَ عددٌ من المسلمين في المنطقة احتجاجاً على عمليات الحرق، وتطور تجمعهم إلى أعمال شغب عنيفة، أصيب فيها عددٌ من رجال الشرطة بجروح، اضطروا بعدها لمغادرة المنطقة. في اليوم نفسه أيضاً، ودون أي حرق للقرآن، قامتْ أعمال شغب في مدينة نورشوبينج، احتجاجاً على حرق القرآن، تعرضت فيها الشرطة لرشقٍ بالحجارة، كما جرى حرق سياراتٍ تابعةٍ للشرطة.
في منطقة رينكيبي في العاصمة ستوكهولم، اندلعتْ أعمال عنف مشابهة ضد الشرطة في 15 نيسان (أبريل). وكذلك في مدينة أوريبرو، حيث كان بالودان قد حصل على ترخيصٍ لإحراق القرآن هناك، مما تسبب في أعمال شغبٍ كانت الأعنف، حيث أصيب العديد من الأشخاص في المنطقة وتضررت سيارات الشرطة، وأُضرمت النيران في العديد منها. كما اختُطفت سيارة شرطة من قبل رجالٍ ملثمين.
في 16 نيسان (أبريل)، كان مُخططاً أن يُعقد تجمعٌ لحرق القرآن في مدينة لاندسكرونا، لكن الشرطة قررت نقل التجمع إلى مالمو. اندلعتْ أعمال عنف مُشابهة لسابقاتها في كلا المدينتين. استمرت الاضطرابات وأعمال العنف من قبل مسلمين ساخطين على حرق القرآن حتى 17 نيسان (أبريل).
في المحصلة، تقدر الأرقام أن حوالي 300 شُرطي أصيبوا خلال أعمال العنف، التي اصطُلح على تسميتها باضطرابات عيد الفصح، من بينهم 16 شرطياً كانت حالتهم خطيرة، كما أصيب 14 مدنياً على الأقل، وحُرِقتْ أو خُرِّبتْ أكثر من 20 سيارة. وأشارت تقارير إخبارية لاحقة إلى أنّ المحتجين ضد حرق القرآن في كل من لينشوبينج ونورشوبينج كانوا قد تواصلوا مسبقًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأعدوا أنفسهم من خلال تكسير وجمع حجارة الرصيف قبل وصول الشرطة، كما أنَّ الأطفال والأمهات شاركوا في رشق الحجارة.
أثارت أعمال الشغب الجدل العام بين جهتين، الأولى تضم أولئك الذين يدافعون عن حريّة التعبير ويعتقدون أنه لا ينبغي تغيير الدستور السويدي تأثراَ بالعنف أو التهديد بالعنف وأن تعبير الأفراد عن رأيهم، حتى ولو كان عن طريق حرق كُتب مُقدسة هو حقٌّ يكفله الدستور ولا يمكن تحييد مبدأ أساسي للحريّة هو حريّة التعبير باسم الدفاع عن التنوع الثقافي. وفي الطرف المقابل كان أولئك الذين يرون أنّه من غير المعقول أن يدافع المجتمع عن حقّ المحرضين في الإساءة إلى الأديان، وأنه يجب حظر التعدي على الإسلام، وكذلك اعتبار حرق القرآن جريمةَ تحريضٍ ضد الجماعات العرقية. أدتْ أعمال العنف أيضاً إلى نقاشٍ مطول في البرلمان السويدي حول آليّة تعامل الشرطة مع أحداث العنف، وضرورة أن تكون قوات الأمن أكثر جاهزيةً للردّ على أعمال العنف.
مؤخراً صدرتْ أحكامٌ قضائيةٌ عن محكمة أوريبرو ضدَّ أربع أشخاص كانوا مشاركين في أعمال العنف: عراقيٌ وصومالي وسوريان، تمّت إدانة الجميع بتهم التخريب والعنف، وصدرت بحقهم أحكامٌ بالسجن بين أربع وخمس سنوات، بالإضافة إلى حُكم بإبعاد السوريين إلى سوريا بعد انتهاء مدة المحكومية. وقبلها في ستوكهولم كان قد صدر حكمٌ مماثل بالسجن لمدة ست أشهر ضد رجلٍ شارك في أعمال العنف ضد الشرطة في العاصمة.
عن راسموس بالودان
هو محامٍ وسياسي دنماركي سويدي، حصل في العام 2008 على شهادة المُحاماة وتدرّب بعدها في محكمة العدل الدولية في لاهاي. أسس في العام 2017 حزب الصليب المُحافظ Stram Kurs، وهو حزبٌ يمينيٌّ متطرف يدعو إلى منع الإسلام في الدنمارك وعدم استقبال اللاجئين من خارج الدول الغربية.
كان قد صدر، بحق بالودان، حُكمٌ بالتوقيف الاحترازي لتهديده مُساعداً في الشرطة الدنماركية في العام 2018. كما صدر حُكمٌ آخر بحبسه 14 يوماً بتهمة الإساءة إلى مجموعاتٍ عرقية، بعد أنّ قال في مقطع فيديو على اليوتيوب أن «درجة ذكاء الأفارقة منخفضة».
أراد راسموس بالودان حرق القرآن في جميع أنحاء أوروبا. لكنه صُنِّف على أنه تهديدٌ لأمن الأمة في فرنسا، وتم توقيفه مرتين في ألمانيا وإعادته على متن الطائرة التي جاء بها. كذلك تم طرد خمسة من أنصاره من بلجيكا. وكان قد طالب في العام 2020 بترخيصٍ لحرق القرآن في مالمو تم رفضه، كما تم منعه من دخول السويد. قام بالودان بعدها بطلب الحصول على الجنسية السويدية، بحكم أن والده من أصول سويدية. بعد حصوله على الجنسية السويدية لم تعد السلطات مُخولةً بمنعه من دخول البلاد.
* * * * *
يمكن نَسبُ أسباب الحدثين السابقين؛ الاحتجاجات ضد دائرة الشؤون الإجتماعية وأعمالُ العنف بعد حرق القرآن، إلى خللٍ في أنظمة دول الغرب الأكثر تقدماً، ويمكن الإدعاء بأن النظام في هذه الدول نظامٌ جامدٌ شبه ميكانيكي مُناسبٌ لتسيير خطوطٍ للإنتاج في معملٍ قائمٍ على قوة الآلات، لا يأخذ بعين الاعتبار اختلافاتٍ أصوليّة بين الأفراد. وأن الفراغات الناتجة عن عدم كفاءة عمل المؤسسات العامة، يؤدي إلى ارتداد الأفراد إلى الجماعات الأولى طلباً للأمان أو الانتماء أو الخدمات. ومع الوقت تصبح الردّة هذه راسخةً يصعب معها الخروج من إطار الجماعة، ولا يمكن النظر إلى الأفراد فيها بمعزل عن أصولهم.
التحولُ الليبرالي في دول الأنظمة الإشتراكية الديمقراطية، كالسويد مثلاً، قائمٌ بالأساس على تأكيد الحرّيّات الفردية للمواطنين، الذين يرون -بدورهم- في الدولة حامياً أساسياً للحقوق. التحولُ الليبرالي هذا تزامناً مع الهجرات المستمرة إلى هذه الدول وتطور الأفكار المتعلقة بالهويّات وخصوصياتها، إضافةً إلى عوامل محليّة متعلقة ببُنى المجتمع ومشاكل الإندماج، أدتْ إلى ظهور تياراتٍ تحاول وضع الجماعات في منطقةٍ رماديةٍ متوسطة بين الفرد والدولة. وحلت سياسات الهوية تدريجياً محلَ صراع الطبقات ومحل السياسات القائمة على الإيديولوجيات التقليدية. في هذا التحول، طورّت كُلٌّ من الأقليات ومجتمعات الأكثرية تصوّراً شديد الضيق عن ذاتها؛ تصوّراً قائماً على خلفيات الانتماء الثقافي أو الديني، وبه صار الإختلاف وأهميته أكثر إلحاحاً من الأسئلة عن مستقبل المجتمعات المشتركة التي نرغب في العيش فيها. صار نطاق حرّيّة الجماعات وسلطتها متمدداً على حساب تقلّصٍ في سلطات كُلٍّ من الفرد والدولة، وبالتالي أصبحت الجماعات مع الوقت نقيضاً لفكرة الدولة، وتأكيداً ذاتياً قائماً على فكرة الانتماء في وجه الدولة، وفي وجه الجماعات الأخرى المختلفة. وذلك رغم أن الانتماءات متداخلةٌ وتتقاطع في عدة مستويات، يختار الأفراد انتماءً أساسياً واحداً دون غيره يُشكل جزءاً كبيراً من هويّتهم اللاحقة.
كما يمكن التنقيب عن أسباب للحدثين السابقين في علاقة المهاجرين بالبلدان التي وصلوا إليها. يحلم الكثير من المؤمنين بالهجرة إلى بلادٍ يكرهونها، في الجذر هُناك هذه النظرة إلى الغرب بوصفه حضارةً متفسخةً، مفتقرة إلى الروح، مُدمنةً على الملذات وآيلةً إلى الإنهيار. وبعدها تأتي الفكرة المتأصلةُ عن مقارعة هذا الغرب وآفاته. تحتاج الجماهير في هذه المُقارعة أو المُحاربة إلى التجمع حول مبادئ جليلة، تعاكسُ مبادئ الغرب الفاسدة. تحتاجُ الجماهير هويةً جامعةً تُلائم المعركة، هي الهويّة الدينية. وبما أنّ فكرة الدين كمفهوم مجرد غير كافية لوحدها، يتمُّ تضمين الهويّة الدينية قيماً يومية تبدو أكثر سمواً؛ قيماً ممجوجةً، دائمة الحضور، مبهمة التعريف وغير قابلة للقياس، كالشرف أو الكرامة. وبها يصير تبنّي الدين كطريقة لعيش اليوميات بديلاً عن قوانين المجتمع ومؤسساته.
وليس غريباً أن يهبَّ المتدينون كأفراد ومؤسسات نُصرةً لدينهم ضد الغرب عند كل منعطف، فالغرب يمثّل تهديداً للمتدينين، سواء كانوا موجودين هُنا أو في بلادهم الأصلية، ليس فقط لأن الغرب يوفر منظومةً بديلةً من القيم، بل لأنّ بلوغ الأفراد فيه للرفاه والأمان يفضحُ كلّ المزاعم عن استئثار الدين بهذه القيم. في الحال هذه تكون الطبيعة المادية الدنيوية في الغرب هي العدو الأكبر للمتدينين الساعين للخلاص البطولي.
والحدثان السابقان، وإن كانا مختلفين من جهة التفاصيل والعواقب، يظلّان متقاربين من جهة استخدام المتطرفين: الأول حزب إسلامي والثاني يميني معادٍ للإسلام، وكلاهما يستخدم المسلمين كجماعةٍ يسهل التنبؤ بردّات فعلها للحصول على مكاسب سياسية. مسلمو السويد ليسوا مستفيدين من تعزيز الاستقطاب على أي حال، والمستفيدون أطراف أخرى؛ مثل نيانس أو راسموس بالودان، الذين يرون في الجدل القائم وسيلةً لتلميع صورتها أو تشويه صور جهاتٍ تقفُ على الضد منها.
من الضروري أيضاً الإشارة إلى أنّ طريقة التعامل الرسمية اللاحقة فيها شيءٌ من التأثر بأفكار اليمين الشعبوي المعادي للمهاجرين، برغم اليقين بأن أصل المشاكل ليس عنصريةً بنيويةً في عمل المؤسسات، وذلك عبر المبالغة في اعتبار كل اعتراضٍ أو شكوى من مسلمين خطراً على الدولة ومؤسساتها. والاستسهال العام في النظر إلى جموع المسلمين على أنهم مشاريع خطر راديكالي يمكن أن ينفجر دوماً. والمثال الواضح على المبالغة في ردّ الفعل الرسمي هو تخصيص حكومة السويد موارد كبيرةً لدحض الاتهامات وتلميع صورة السويد ومؤسساتها.الصورة ليستْ باهتةً تماماً، والأرقامُ قلّما تكذب. الأطفال في السويد، ومن بينهم أبناء المهاجرين، يتمتعون بدرجةٍ عاليةٍ من الرفاهية والخدمات العامة مُقارنة بأغلب دول العالم. والمسلمون يتمتعون بكل حقوق المواطنة وقادرون على ممارسة شعائرهم الدينية، في المساجد والحسينيات وغيرها، دون مضايقاتٍ تذكر. الانتخابات النيابية ستجري في أيلول (سبتمبر) القادم، واستطلاعاتُ الرأي تُشير إلى أن كُلاً من حزبي نيانس والصليب المُحافظ لن يتمكنوا من جمع أصواتٍ تؤهلهم لدخول البرلمان. سيستمرُ النقاش حول مشاكل الاندماج وتحييد الدين، وسيظلُّ المتدينون غير راغبين في إخلاء المجال العام. سيكرر عجائزُ من السويد حكاياتٍ عن معاطف شتوية وأغطيةٍ من صوف، نسجوها، ليحملها المبشرون معهم للأطفال في إفريقيا. ويردُّ عليهم أميرٌ مؤمن بأن يُرسِل أموالاً أكثر لنُصرة إخوانه المظلومين في الغرب الكافر.