أما لويثان أفتمسكه بشص أم تربط لسانه بحبل؟
أتجعل في لسانه اسلة وتثقب فكه بكلاب؟
أيكثر إليك من التضرعات أم يخاطبك بالاستعطاف؟
أيقطع معك عهدا؟ فتتخذه لك عبداً مؤيداً.
الآيات 25 – 28، الإصحاح 40 من سفر أيوب، ترجمة الآباء اليسوعيين
في البدء فكرت في تقديم صورة معاصرة للنبي أيوب من قلب الثورات العربية الأخيرة، يظهر فيها وحيداً ومعزولاً في مواجهة مدنٍ وقرى محترقة. صورة يقف فيها النبي المقترن بآيات الصبر في مواجهة اختبارٍ إلهي ملغّزٍ في صمته، يودي بأمواله وأبنائه وبدنه بلا مجيب ولا أفق منظور لنهاية محنته. ولكن لماذا أيوب وسفره على وجه التحديد؟
يظل سفر أيوب من أعقد النصوص الدينية التي طرحت سؤالاً عن معنى المعاناة في مواجهة شرٍّ متغوّلٍ في إفراطه، حتى وصل بالسؤال إلى أعتاب الجنة ولم يستكثره الله على النبي، مما يجعلنا نظن أن أيوب ربما قد ترك لنا هامشاً للتساؤل، وأن الله من جانبه قد يكون منحنا قدراً من الرحمة، مما يثبت مشروعية السؤال. يأتي سفر أيوب كالتعبير الأكثر صدقاً وعزاءً للبشر في مواجهة تجربة الشر المفرط، فعندما يخاطب الأخير إلهه يتلون صوته بأكثر من نبرة؛ بدءاً من التضرع، والمناجاة حيناً، ليصل في أحيان أخرى إلى حد الاعتراض والصراخ في وجه السماء. تلك الطبيعة المغايرة للنص بتعددية أشكال الخطاب والأصوات داخله، ربما أسهمت في أن يتبوّأ السفر منزلةً خاصةً في تاريخ السجال الفلسفي واللاهوتي المعاصر حول مسألة الشر (والمعروفة حديثا بالـ«ثيودوسيا»)، وأديباته التي طرح فيها أسئلةً عميقةً حول معنى الشر في العالم ومغزى السماح بوجوده في خطة الخلق الإلهي.
وحتى يتاح لي تقديم قراءةٍ خاصةٍ لسفر أيوب في ضوء الثورات العربية الأخيرة، سأركز على جانب من تاريخ القراءات المعاصرة لسفر أيوب ضمن أدبيات مسألة الشر، مما يمهّد لطرح أسئلةٍ عن مدى وجود أبعاد ثيودوسية في سياقنا العربي الحالي. من المستحيل تلخيص تاريخ مسألة الشر أو الثيودوسيا في مقالٍ واحد، ولذلك سأقتصر على جانبٍ معينٍ يخص ما يمثّله حضور الوحوش لويثان وبهيموث يتردد أسماء تلك الوحوش في عدة مواضع في الكتاب المقدس. يمثّل لويثان برمز حية أو تنين هائل، ويلعب دوراً محورياً في نهاية العالم. أما بهيموث، فهو ثورٌ هائلٌ يعود أصوله إلى الديانات البابلية والفينيقية القديمة. في متن السفر وتفسير مغزاه في منظومة الخلق الإلهي. أفترض في المقال أن لتلك الوحوش العتيقة حياة على أطراف الخيال الإنساني، وأن لحضورها الشبحي في السفر إثراء وإرباك لمسألة الشر على الدوام. في اعتقادي أن قراءة سفر أيوب تجعلنا نفتح أسئلةً شائكةً عن تاريخ مسألة الشر أو الثيودوسيا في نسختها الحديثة. وعلى صعيدٍ شخصي، قد تساعدنا القراءة المتجددة لسفر أيوب في ضوء تجارب الانتفاضات العربية إلى طرح أسئلةٍ أكثر قرباً لنا؛ أسئلة تخص محاولات النجاة في مواجهة شرٍّ يصل في إفراطه إلى درجة التوحش (السؤال الأساسي الذى يتبادر إلى ذهني: كيف يمكننا تفكيك تلك التجارب في أقصى صورها العبثية والمفرطة في تغولها حتى لا تتخذ بعداً قدرياً في حياتنا وحيوات القادمين بعدنا؟). هل يمكن أن نطرح سؤالاً عن أهمية سفر أيوب في مسيرة تلك التحولات التاريخية لنعرف ما هي معالم تغيير التفسير بين التقليد الآبائى والقراءة الحديثة لسفر أيوب، وكيف شخّص الإنسان الحديث أزمته في قراءةٍ جديدةٍ لسفر أيوب؟
أيوب فى التقليد الآبائي
ركز التقليد الآبائى في تفسير سفر أيوب على قيمة الصبر الملحمي للنبي في مواجهة الاختبار الإلهي، ولكن مع تذكير جماعة المؤمنين بإنصاف الله له في نهاية ذلك الاختبار. فبجانب الكتاب المقدس وشروحاته الممتدة، كانت الأيقونات وكتب الرسوم المصورة (المعروفة بأناجيل الفقراء) إنجيل الفقراء هو مجموعة من الكتيبات المصورة التي أعدت لصغار رجال الدين والفقراء، لتزوّدهم بمواد للتأمل والصلاة من خلال التمثيل البصري لقصص الكتاب المقدس. كان يتم إبراز نوعٍ من التضافر الرمزي ما بين صورٍ لقصص العهد القديم مع صورٍ خاصة بأحداث من حياة المسيح ليتم تفسير قصة أيوب في ضوء سردية أكبر، مرتبطة بمجيء المسيح وكرازته ودوره في منح الخلاص للعالم على سبيل المثال. بمعنى أن قصة أيوب وأفعاله تقرأ كعلامات تمهيدية وإشارية لكرازة المسيح.، والرسوم الزجاجية على جدران الكنائس، تروى كل أحداث القصة للمُصلي-المشاهد من بداية الاختبار الإلهي إلى الضربات التي طالت أبناء وبدن أيوب إلى شكوى زوجته من الابتلاء، لتجعل المصلين يروا فيها أمثولاتٍ لحيواتهم القصيرة على الأرض، باضطراباتها المتكررة وطبيعتها القاسية، في إطار معنىً وغاية أشمل من معاناتهم اللحظية (بمعنى حضور زمانية الأبدية في حيواتهم الأرضية العابرة) (لاريمور ص.39). كانت تلك الرسوم، بصيغةٍ أخرى، بمثابة نوافذ المقدس على اليومي، والتي تعكس رؤيةً لكونٍ مترابطٍ عضوياً، في قمته إله-صانع تتخلل قوته وحكمته كل مخلوقاته بدرجاتٍ مختلفة، وتمتلك تلك المخلوقات بدورها قوىً فاعلةً لها قدرةٌ على التأثير في حياة البشر.
لسنا بصدد عرضٍ مطوّلٍ للتحولات التاريخية التي أدت إلى القطيعة الوجودية مع تلك الرؤية القديمة للعالم (أو الرؤية المقدسة للكون)، والذي قد يستغرق الكثير من المجهود البحثي، ولكن يهدف العرض المبسّط إلى تمهيد الطريق لوصف القراءة الحديثة لسفر أيوب كجزءٍ من أدبيات مسألة الشر لأطرحَ السؤال التالي: كيف عكست تلك القراءة بعض هواجس وأسئلة الإنسان المعاصر حول طبيعة الشر ومغزى السماح الإلهي بوجوده، ومدى إمكانية وجود عوالم أفضل من عالمنا الحالي (الفرضية التي تختبر بدورها مدى قدرة البشر وفاعليتهم في إصلاح العالم الحالي لجعله مكاناً أكثر استقراراً لرخاء وسعادة الإنسان).
اختفاء الوحوش
برزت معضلة الشر في شكلها الحديث، والمعروفة بالثيودوسيا، بالتزامن مع التحولات التاريخية لعصر ما بعد النهضة في أوروبا، ففي القرن الثامن عشر ساهمت المنجزات العلمية الجديدة في تدشين وعيٍ إنسانيٍّ جديدٍ عن طبيعة الكون على يد كل من كوبرنيكوس وجاليليو ناموس بطليموس حول مركزية الأرض في الكون، والتي تماشت مع الكنيسة الكاثوليكية ورؤيتها الكوزمولوجيا، والذي كان يعكس نظامها الاجتماعي المعقد المبنى على الهيراركية.. هزت تلك النظريات الجديدة كل الأسس المعرفية الخاصة بطبيعة الكون في القرون الوسطى بسننها القديمة: مثل مركزية الأرض في الكون وتأريخ بدء الخليقة قياساً بحساباتٍ مستمدةٍ من الكتاب المقدس. مثّلت تلك التصورات الركيزةَ الأساسيةَ للتنظيم الاجتماعي والسياسي في أوروبا أثناء العصور القروسطية، والتي ضمنت للكنيسة الكاثوليكية دوراً محورياً في تسيير ذلك التنظيم. كانت نظريات كل من كوبرنيكوس وجاليليو وبرونو جواردينيو أدت إلى تعديلاتٍ مفصلية على نظامٍ شمسي مغاير للنظريات القروسطية عن طبيعة الكون.
أسهمت النظريات العلمية الجديدة في تكوين قوانين عامة وثابتة لطبيعة الكون، مما مهّد لتصورٍ جديدٍ عن علاقة الله بالعالم من جانب، ومن جانبٍ آخر ٍعلاقة الإنسان بالطبيعة، مما جعل المجتمعات الأوروبية في ذلك الوقت ترى العالم كمكان «مستقر وآمن بما يكفي للازدهار الإنساني. لم تحل الاكتشافات العلمية محل الإيمان الديني، بل أعادت صياغته ليصبح الله يعمل بطرقه العجيبة من خلال قوانين الطبيعة الخيرة والمحكومة والدقيقة». (لاريمور ص. 158). يصف الفيلسوف تشارلز تايلور في كتابه الأهم العصر العلماني التحول الكبير الذي حدث في بنية الوعي البشري في ضوء صعود الحداثة ليرصد التحول التاريخي من «المفاهيم المسيحية الأرثوذكسية عن الله كعامل يتفاعل مع البشر فى كتابه «عصر علماني»، يشرح الفيلسوف تشارلز تايلور التحولات التاريخية المرتبطة بالعلمنة، والتى يعيد تعريفها كنوع من تشكيل الذاتية الإنسانية وصلتها بالعالم، بدلاً من التعريف القديم لها كمبدأ معرفي سياسي قائم على فصل الدين عن السياسة فى النظم السياسية الحديثة. ويتدخل في تاريخ البشرية إلى رؤية لله كمهندس للكون يعمل بقوانين ثابتة، والتي يجب أن يتوافق معها البشر أو ليتحملوا العواقب». (ص.273). تغيرت نظرة الإنسان للطبيعة وقوانينها كمجال قابل للمعرفة البشرية، ونتيجةً لذلك أصبح الشر «وخاصةً الشر البشري يُختبر على أنه الاستثناء الذي لا يمكن تفسيره لعالم تحكمه العناية الإلهية، فكيف يمكن أن يأذن الله بذلك؟ من المفارقات أن الشر أصبح مشكلةً فلسفيةً منفصلةً لأنه لم يعد يعتبر أمراً مفروغاً منه وتجربةً عامة». (لاريمور ص. 158)
ما الثيودوسيا؟
جاء كتاب الفيلسوف الألماني جوتفريد لايبنتز بعنوان مقالات فى الثيودوسيا (1710) لحل التناقض الحاد بين نظريةٍ جديدةٍ حول كونٍ منظّمٍ مبني على قوانين عامة وعقلانية مقابل خطة خلقٍ إلهية غامضة بلا إجابات واضحة عن مبرر للسماح بوجود الشر فيها. من خلال الحِجاج الفلسفي حاول لايبنتز التفكير في أسباب سماح العدالة الإلهية بوجود الشر في العالم، ليصك مصطلح «الثيودوسيا» من خلال تحوير كلمتين اشتقهما من اللغة الإغريقية القديمة، وهما ثيوس بمعنى إله وديكي بمعنى محاكمة أو نظام.، يعيد فيه طرح مسألة الشر وفقاً للتحديات الفكرية الجديدة حول علاقة الله بالعالم. انصبّت تلك الأسئلة على حل ما تم رؤيته كتناقضاتٍ في صلب مسألة وجود الشر في العالم بعملية الخلق الإلهي، والتي يمكن شرحها في صورة الأحجية التالية: إنْ كانت الألوهية لا تستطيع إزالة الشر من العالم، فهل الرب مقيد؟ وإن كان يمتلك المقدرة ولكنه يأبى، فهل ذلك دليلٌ على طبيعةٍ غير خيرة؟ تعود الأحجية الى الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم، ولكنها مقولة تنسب إلى الفيلسوف أبيقور (لاريمور ص.155).
انطلق لايبنتز من فرضيةٍ تحاول إثبات أن العالم الحالي هو أفضل العوالم الممكنة للبشر، وكأنّ العالم المنقوص وغير الكامل في نظرنا هو المناسب للطبيعة البشرية من منظور خطة الخلق الإلهي قام لايبنتز بتطوير أفكاره عن الثيودوسيا فى فتراتٍ مختلفةٍ من حياته، وذلك من خلال العديد من المقالات المنشورة والمراسلات الشخصية مع منتقديه.. كان الله بالطبع قادراً على خلق نموذجٍ لعالمٍ بلا شر، بخلاف العالم في هيئته الحالية، ولكن قد يخفي ذلك النموذج الأفضل، في ظننا، نوعاً من الشر أكثر تعقيداً، لا نستطيع فهمه في ضوء حدود معرفتنا البشرية المنقوصة. ومن تلك الفرضية رأى لايبنتز دوراً لأفعال الشر في منظومة العالم الحالي، قد تبدو فيها مفجعةً وبلا مبرر من منظورنا اللحظي، ولكنها جزءٌ من رؤيةٍ أشمل من المنظور الإلهي. فالله كما يخبرنا لايبنتز «استشرف كيف ينفذ الشر إلى نفوس البشر، لأنه يعلم كيف يحوله إلى خيرٍ أعم مما لم يكن موجوداً في الأصل» (لايبنتز ص.206). إذاً من الممكن أن نرى بعض أفعال الشر في التاريخ كجزء من منظومةٍ كونيةٍ متناغمةٍ ومترابطةٍ في نموذج أقرب للسلاسل الرياضية؛ حيث كل أثرٍ من الوجود مرتبط ببقية الموجودات في توازن إلهي دقيق ومنضبط. ولذلك رأى لايبنتز أن للخطايا دوراً في حياة البشر أشبه بالظلال فى الرسوم الفنية، والتي تُبرز بقتامتها الأشكالَ والأجسامَ المضاءة؛ أي إن التضاد الطبيعي بين الضوء والظلمة يبرز الأجسام. وبالمثل يمكن أن نرى للشر دوراً في إبراز الخير الأعم في منظومة الخلق الإلهي. وهنا نأتي لنقطةٍ مفصلية، حيث يمكن أن نتخيل أن لايبنتز يرى الخطايا في ضوء سلسلة كونية كبرى تجعل خطيئة آدم ضرورية حتى يستطيع أن يظهر المسيح ويخلص العالم. وعلى المدى الأبعد، تتحول خطيئة نكران بطرس الحواري للمسيح إلى خطوة ضرورية كي يستدرك الحواري خطأه وينال مكانته كصخرة الكنيسة فيما بعد. (لايبنتز ص. 203).
أيوب والثيودوسيا
بالرغم من أن الله يستجيب لشكوى أيوب ويباركه في نهاية السفر، ولكنه في نظر الفلاسفة الجدد لا يجيبه، بل يبدو خطابه الأخير مغرقاً في الغموض الذي لا يشفي الشغف المعاصر المتطلع لإجاباتٍ عن الكون المؤهل للمعرفة الإنسانية، ولاستخلاص قوانين سيرورته. ولذلك كانت هناك رغبة ملحة لإعادة قراءةٍ لسفر أيوب في ضوءٍ جديد، وحتى يمكن الاستدلال على إجاباتٍ أوضح على أسئلة البشر الجديدة حول طبيعة الشر في العالم ومغزى وجوده.
تظهر أثر فلسفة لايبنتز على قراءة سفر أيوب في المشهد الختامي للسفر، حين يخاطب الله أيوب من خلال العاصفة وبخليطٍ من العجب والإفحام يذكّر الرب النبيَّ بعظمة وتعقيد منظومة الخلق الإلهي، المتمثلة في عجائبه اللامحدودة؛ كالوحوش الأزلية والمثيرة لخيال البشر مثل لوياثان:
يغلي الهاوية كالمرجل ويحول البحر الى قدر طيب
يخط وراءه سبيلاً نيراً فيحسب الغمر شعراً أشيب .
ليس له في الأرض مثيل وقد طُبع على عدم الخوف.
يسدد نظره إلى كل متعالٍ وهو ملك على جميع بني الكبرياء.
سفر أيوب 41: 23-26
ترتبط تلك الوحوش بالقوى البدائية الكامنة فى الطبيعية أو رواسبها، والتي قد تطل برأسها كلما تخيل الإنسان أنه بصدد ترويض قوى الطبيعة واستخلاص قوانين نهائيةً تصف سيرورتها. ولكي تستقيم الرؤية الجديدة للكون بشكلها المنضبط والمنظم، كان يجب على الوحوش أن تعود الى الغمام مرةً أخرى، أو تعود إلى العمق لتترك السطح هادئا مرةً أخرى. يمكننا القول إن قراءة سفر أيوب في ضوء الثيودوسيا الحديثة ساهمت في تهميش البعد «الوحشي» في عملية الخلق ذاتها، والتخلص من أطيافها (أو ينسحب ذلك البعد كاستثناءٍ هامشي على كونٍ منظّم)، وذلك لتكريس رؤيةٍ للكون أكثر انتظاماً وأقل فوضويةً في التصور الفلسفي المبنى على العقلانية.
فلنتذكر أن هذه الوحوش في تمثيلهم الخيالي لقوى الطبيعة (أو كرواسب لقوى الفوضى chaos)، كان البشر في القدم يعتبرونهم جزءاً «من صانعي العالم الذين يعيشون تحت سطح خيالنا مباشرة. وتتمثل مهمتهم في مراقبة طرق وحدود العالم المنظم، مما يهدّده بالفوضى، ويتحدى ثباته بقوةٍ متلألئة، ويضمن بقاء النظام الحضاري مرناً وقابلاً للاختراق للتأثيرات المتغيرة لقوة إبداعية حين يتوقف عن التدفق». Matthews, John; Matthews, Caitlin (2010-02-24T22:58:59). The Element Encyclopedia of Magical Creatures: The Ultimate A–Z of Fantastic Beings from Myth and Magic . HarperCollins Publishers. Kindle Edition
تزحف الوحوش العتيقة من جحور الخيال إلى أرض الواقع في أكثر أوقات اليقين. يأتى عام 1755 ميلادي لتضرب سلسلةٌ من الزلازل مدينة لشبونة، وتودي بحياة الآلاف من البشر، وتهدم معظم أبنيتها رغم الحديث عن رؤية العالم القديم، لا نعلم إن كنا على شفا وعيٍ جديدٍ يعيد لنا قيمة الخيال وعلاقة مختلفة بالعالم كمكان نتقاسمه مع ذوات أخرى. مكان لا نملكه أو نتسلط فيه على باقي مخلوقات الله. تعلمنا قصة أيوب أن هناك مساحةً ما تقف عندها حدود الخيال.. انتقلت الأخبار فى ذلك الوقت بأن الهزة الأرضية ضربت المدينة في وقت أغلب سكانها كانوا يحضرون القداس لتترك تلك الكارثة آثارها فى ذاكرة أوروبا وتاريخها المعاصرَين، وتقدّم رداً شبه عملي على أطروحات مشروع لايبنتز الفلسفي المتفائل بالتقدم الإنساني المتراكم عبر الزمن.
أيوب في مرآة كانط
علموني وأنا أصمت، بينوا لي في أي شيء ضللت.
سفر أيوب 6: 24
في مقالٍ بعنوان «إخفاق كل محاولات الثيودوسيا الفلسفية» (1791)، قام ايمانويل كانط بانتقاد معظم أطروحات لايبنتز حول الثيودوسيا، وذلك من خلال قراءةٍ جديدةٍ لقصة أيوب يتحول فيها من مثال الصبر في مواجهة المأساة والبلاء إلى نموذجٍ للمصداقية الأخلاقية والاستقلال الذاتي. كأن كانط يسعى لقراءةٍ راديكاليةٍ لسفر أيوب، يبحث فيها عن قصور بعض الأجوبة اللاهوتية والفلسفية السابقة لمسألة الشر، لتصبح جرحاً غائراً بلا جوابٍ مقنعٍ للبشر. انتقد كانط الحجج الفلسفية المؤيدة للثيودوسيا، وشبّهها بخطابات أصحاب أيوب في محاولة تفسيرهم لمعاناة الأخير دون الاستماع لمحتوى شكواه. فبدلاً من مواساته، يحاولون تبرير أسباب الابتلاء وإرجاعها بكل السبل إلى خطايا أيوب حصراً. ربما تعكس خطب أصحاب أيوب حول الإثم والعقاب السماوي جوهر الثيودوسيا كشكلٍ من أشكال الرياء الإيماني والتقوى المفتعلة في مواجهة معاناة الآخر. فقد رأى كانط في صوت أيوب الثائر على إيمانيات أصحابه الصماء أنه حقٌّ في التساؤل (أو رأى فى الإصرار على التساؤل دليلاً على مصداقية أيوب).
شكوى أيوب بالنسبة لكانط هي اعترافٌ بعدم فهمه لمغزى معاناته في العالم، والبوح بذلك في صيغة تساؤل. رغم وجود المهابة في نفس أيوب من العقاب الإلهي، لكنه يطرح السؤال عن عدم استحقاق تجربة المعاناة للعقاب الإلهي. أصحاب أيوب، على الجانب الآخر، مهتمون بتبرئة أنفسهم أمام الله بالإصرار على صيغةٍ تفسيريةٍ لاهوتيةٍ جامدة، حيث يترادف الجزاء بطريقةٍ مباشرةٍ مع العمل (ليرجع بلاء أيوب إلى إثمه بالأساس). يؤكد كانط ما يبدو لنا بأن الحياة الدنيوية ليست بذلك التناغم (كانط مشغولٌ بعلاقة العدالة بالجزاء الدنيوي؛ بمعنى إن العقاب لا يتناسب مع العمل، فدائما الجزاء الدنيوي يفوق العمل (في حالة الصالحين) أو يبقى قليلاً (في حالة مرتكبى الشر)، وإنّ ذلك الوضع لا يمكن تبريره في ضوء الحكمة والعدالة الإلهية.
انتقد كانط حجج الثيودوسيا لأنه رأى فيها مما قد يؤدى إلى إضفاء بعدٍ لاهوتيٍّ على الشر، وتلمّسَ خطراً من إسناد دورٍ له في منظومة الخلق الإلهي، ما قد يؤدى إلى أن نقبل العالم في صورته الحالية كأفضل العوالم الممكنة للبشر، وأن يحدّ ذلك من قدرة المرء على الفهم المُخلص لواقع العالم وأوضاعه الظالمة، ومن ثمة التفكير في كيفية العمل على تحسينه وتقويمه (مع الاعتراف بحدود الفعل والفهم البشرى في إحداث هذا التقويم).انتقد كانط أفكار لايبنتز حول أفضل العوالم بطريقة أقرب إلى التهكم، معقباً على أن الطريقة الوحيدة للحكم على أفضلية العالم الحالي تفترض أن المؤلف رأى وعايش كل العوالم الأخرى ونواقصها حتى يسدي رأيه.
في إطار نقده للثيودوسيا، أبقى كانط على حجةٍ أخيرةٍ بالنظر في الحكمة السلبية، والتي تعترف بمحدودية المعرفة البشرية في فهم الحكمة الإلهية ومآلاتها. الإجابات الموجودة في تراث مسألة الشر لم تعد كافيةً أو مقنعة، ولذلك يجب أن نفتح السؤال مجدداً، أو أن نحاول العثور على إجاباتٍ جديدة. حافظ كانط على صوت أيوب كصوت مصداقية الاعتراف بعدم الفهم في مواجهة أصدقائه الممثلين للتقاليد اللاهوتية التي تدّعي المقدرة على امتلاك كل الأجوبة، أو على الأقل تفرض حدوداً لما يمكن التساؤل عنه.
أيوب وحيداً
تحول أيوب فى نص كانط إلى نموذجٍ للذات الأخلاقية مبنيٍّ على الاستقلال الذاتى (autonomy)، التي ترتكز على العقل كسلطةٍ في التوجيه الأخلاقى للفرد، مقابل أصدقاء أيوب الذي رأى فيهم نموذجاً مختلفاً لتشكيل الذات الإنسانية، تعتمد بوصلتها الأخلاقية على مصدر سلطةٍ خارجي لتقويمها وتوجيهها؛ مثل سلطة الكهنوت والتراث الديني في القرون الوسطى على سبيل المثال (بمعنى أن نموذج أصحاب أيوب قائمٌ على التغاير الذاتي heteronomy). يرصد تشارلز تايلور جانباً مختلفاً من الاستقلال الذاتى القائم على ميراث العقل، والذى أدى إلى تحولٍ جذري فى علاقتنا بالعالم وتجربة العيش فيه.
أصبحت الذات الحديثة تعانى من الانفصال عن العالم، قائم على «فصلٍ صارمٍ بين ما هو داخلي وما هو خارجي: ما يقع فى العقل وما يحدث هناك فى العالم الخارجي. كل ما يتعلق بالفكر والغاية والمعاني الإنسانية، لابد أن يكمن فى العقل ولا يمكن أن يكون في العالم». (تايلور 2008) بصيغةٍ أخرى، كان جزءاً من إشكال ميراث عصر التنوير (منه نص كانط الناقد للثيودوسيا) أنّ تشكل الذات الأخلاقى لم ينفصل عن مصادره الدينية فقط، لكن من علاقته العضوية بالعالم أيضاً. كما ذكرنا في بداية المقال، كان الإنسان قبل الحداثة ربما تربطه علاقةٌ عضويةٌ بالطبيعة، فكان يتقاسم الكون مع جماعاتٍ وذواتٍ أخرى فى هيراركية تراتبية يتخللها نوعٌ من السحرية والفاعلية المستقلة: مثل القديسين والأرواح السفلى وأشباح الأسلاف والوحوش. ولكن العالم القديم تبدل بلا رجعة.
على الجانب الآخر، أصبحت الذات الحديثة تعيش على الفصل الصارم «بين العقل والعالم؛ بل حتى بين العقل والجسد. تكمن المعانى الأخلاقية منها وغيرها في العقل، ولا تستطيع أن توجد خارجه. ولذلك يوجد هناك حدٌّ صارم». (تايلور 2008) أصبحت قدرة تلك الذوات والقوى الوسيطة على التأثير على حيوات البشر منعدمةً، منها تلك الوحوش الأسطورية التي تكاد تكون أقرب إلى عناصر الخلق فى أشد صورها البدائية.
قد نلتمس في أعمال تايلور نوعاً من النحيب على فقدان تلك الصلة العضوية بالطبيعة، ولكنه يدرك جيداً أن الحلم باستعادة الذات القديمة محفوفٌ بالمخاطر. ربما قد حدث تغيرٌ جذري في علاقة الإنسان بالعالم، وأن الذات الحديثة تضع حدوداً وحواجز في علاقتها بما خارجها (وكأنما حشدنا كل تلك الكائنات والأشباح والوحوش خلف بوابةٍ موصدة. لكننا لا نعلم العواقب الكاملة إذا ما فكرنا في إعادة فتح تلك البوابة مجدداً لمجرد التباكي على سحر العالم المفقود). ملاحظة عابرة: ربما تمثل أفلام المخرج الأميركي روبرت أيجرز أقرب المحاولات لإعادة تجسيد العالم القديم وصلة الذات العضوية بالطبيعة. الذات في صورتها القديمة كما يخبرنا تايلور «ضعيفةٌ أمام الأرواح والشياطين والقوى الكونية. كما يمكن لبعض المخاوف أن تسيطر عليها في ظروف معينة». (تايلور 2008) أما الذات الحديثة، على خلاف ذلك، معزولةٌ عن هذا النوع من الخوف (حيث لا تقع تحت دائرة تأثيرٍ خارجها).
فى مواجهة لويثان
لا تغيب الوحوش كلياً فى النص الكانطي. في تحليله لخطبة الله فى نهاية سفر أيوب، يرصد كانط كيف استخدم الله العديد من الأمثلة الجميلة والإعجازية من الطبيعة لتذكير النبي بمحدودية الفهم الإنساني لخطة الخلق (والحكمة الإلهية وراءها). ولكن من جانبٍ آخر، يستحضر الله صوراً للوحوش لويثان وبهيموث للتدليل على الجانب المعتم والمرعب من عملية الخلق (ص.292). لا يقلل ذلك من الحكمة الإلهية، ولكن يجعلها أعصى على الفهم الإنساني في محدوديته. يعترف أيوب بتلك الحقيقة ويكاد ينتزع اعترافاً بها من أبواب السماء، ويسمح له الله بذلك.
فلنتخيل مشهداً للنبي العليل في قلب الغمام، حيث تظهر أمامه كل كائنات الله بأشكالها وصورها وتحولاتها وأصواتها بأعداد شبه لامتناهية عبر الزمن في ومضةٍ واحدة. وفجأةً تتعالى خيوطٌ لأصواتٍ تجمع ما بين نقرات الحيتان وصفير الرمال وقصيف أمواج البحر، ليتبعها ظهور ليوثان في كامل صورته.
نفسه يضرم الجمر ومن فمه يخرج لهيب
في عنقه تكمن القوة وأمامه يعدو الهول.
مطاوي لحمه متلاصقة مسبوكة عليه لا تتزحزح.
قلبه صلب كالحجر وقاس كالرحى السفلى.
عند نهوضه ترتاع الآلهة ومن الذعر ينصرفون أيوب 41: 13-17
فى البداية يكاد أيوب يسقط من الرهبة. لا يملك النبي إلا قلبه الذي يومض بخفوتٍ في ظلامٍ حالكٍ وسرمدي. يرفعه بيدٍ مرتعشةٍ فى مواجهة الظلمة، لعله يتلمّس طريقاً ما.
* * * * *