hgt;v

إنَّ البحث الدائم عن فهمٍ للوضعية التونسية تفكيكًا ونقدًا يُعَدّ واحدًا من الأَمارات الدالة على كونها مَنجمًا معرفيًا يقتضي استنطاقًا يؤهلنا للابتعاد عن المقاصد وقراءة النوايا. عندما نقول «الوضعية التونسية»، نحن لا نُجانب الصواب في جعلها مفهومًا، ذلك لأنه يطرح إشكاليات طارئة، خصوصًا بعد وضعية الثورة (2011) وما أنتجتها من تحولات كمّية ونوعية في العمق الاجتماعي والقانوني والاقتصادي والسياسي والأنثروبولوجي والثقافي إلخ، إذ أنَّ الصراعات الرئيسية والثانوية تُفصح عن وجود تباين شاسع بين متناقضات تؤلف الذهنية العامة، ومن أهمها قد نذكر: الديمُقراطية والنظام المُهيمن، الحرية وتكييف الهيمنة في المسارات الحياتية، الحقوق والتهميش الممنهج على أصعدة متعددة ومتقاطعة، البحث الأكاديمي وشبه الأكاديمي وضرب علمية المؤسسات المعرفية في أصنافها المختلفة، التغير وتأصيل السرديات المركزية، جماليات المشاهد واستهلاك القبح بما هو هوية محايثة للواقع.

هذه المتناقضات تمتد على ميادين معلومةٍ لدى الجميع، لكن قد يكون من العسير اقتفاء الجوانب العلائقية التي تجمعها، على غرار الحقوق والعلوم السياسية والفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا والدراسات الجندرية، أي مجالات العلوم الاجتماعية بما هي إطار جامع.

إنَّ المعضلة تكمنُ هَهنا في عدم قدرة هذه البراديغمات على خلق تأويل يشير إلى العطب المعيشي والفكري والسياسي-الاجتماعي التونسي في شكلٍ واحدٍ، ذلك لأن التأويلية، بما هي أداة منهجية ونظرية تُعد غريبةً تمامًا عن سياق الكتابات العربية، ربما لأنّنا نمتهنها دون أن نشير إليها، وبالتالي نتغافل عن الجدوى التي تجمعنا بها. إنَّ التأويلية بما هي فكرة فلسفية قديمة جدًا تعود للمتن الأرسطي والأفلاطوني الذي حاول أن يَحيد بالفاهمة عن نظام السفسطة والبلاهة، تطورت على يد متفلسفة حاولت بدورها أنَّ تنقذ الحضارة من بطش التأويل الديني المتلبد على غرار ابن رشد، وهو التقليد الذي طوره كلّ من شلايرماخر في تأويل النصوص الدينية المسيحية، ونيتشه في البحث الجينيالوجي داخل المعارف المتوارثة، وماركس في الصراع الطبقي وهيمنة رأس المال،  ومن بعدهم ديلتاي وريكور وغادمار في الفن والسيكولوجيا والسياسة، ومن ثم فوكو وبتلر في سياق دراسات الجنسانيات والجندر. إنَّ تاريخية التأويلية إذن تحيلنا على قدرتها في تفكيك الظواهر لا في امتداداتها فحسب بل بما فيها وبما توجد. 

ما هي التأويلية؟

لا نريد أن نجعل هذا المقال عسيرًا من ناحية التراكيب والمفاهيم، حتى نَتيه في تأويله هو الآخر، لذلك سنحاول هَهنا أن نقارب التأويلية كمفهومٍ عام بكلّ بساطة ممكنة!

هناك افتراض مفاده أن التأويلية هي البحث الدائم عن الحقيقة. لكنَّ هذا القول لا صحة له، فالحقيقة انتفت وتهدمت منذ أن أعلنت فلسفة ما بعد الحداثة أنَّ كلّ ما هو ثابت انتهى به الأمر في المقبرة، ومن بينها العبارة الشهيرة لنيتشه «اليوم قد مات الإله»، والتي أراد أن يؤكد من خلالها على موت القيم المسيحية الدينية.

أنهت العلوم المادية والتجريبية بدورها عصر الحقيقة، وأدخلتنا في متاهة التفاسير، وأكدت من خلال موروثها العلمي والمعرفي على نهاية عصر البديهيات، فكلّ ما يُقدَّم اليوم من نتائج حول الكون، والعالم، والطبيعة، والإنسان، وأدق الكائنات البيولوجية، ليست إلاّ مجرد نتائج نسبية لا تنخرط بتاتًا في منطق الحقيقة.

فالتأويلية إذن هي البحث الدائم عن المعنى، أي أنَّ كلّ ما تدل عليه هذه المجالات الدراسية والبحثية يتمثَّل في مُهمة تأهيل العقل البشري للفهم والتفكيك. فالمعنى بهذا الشكل لا يُمكن أن يصنع وفقًا لمنطق الوحدة، بل هو بالأحرى السعي الدائم إلى خلق تنوعٍ في الأفكار، تسمح بأن نجعل منطلقاتنا متعددة. وكأنَّ كلّ معنى يرحل لموضوعٍ آخر، أي أن كلّ ما أحوزه أنا كفردٍ من أفكار يجب أن أدرك حدوده في مَلَكَة فهم الغير، وبذلك يصبح المعنى بهذا الشكل مُرادِفًا للغربة، أي أن تأويلي للعالم وللمجتمع وللدين و للحرية ولغيرها من الأشياء يجب أن تكون في حدود تفسيراتي، وأن يكون لديّ استعداد تام لتقبّل المعنى من مصدرٍ آخرَ.

كيف تُعَدّ «الوضعية التونسية» إمكانًا تجريبيًا للتأويلية؟

إنَّ ما عاشته تونس في الفترة الممتدة منذ سنة 2011 (أي منذ لحظة الثورة) لحد ما حصل بعد 25 جويلية (تمّوز) 2021 (إلغاء عمل البرلمان التونسي وحيازة الرئيس التونسي قيس سعيّد على كامل الصلاحيات في تونس) هو المثال الوجيه لتطبيق وفهم أزمة التأويلية في تونس.

أول المجالات التي عاشت هذه الأزمة العميقة هي مجال الدراسات القانونية والحقوقية. تمثّلت مظاهر غياب المعنى أساسًا في الاستناد المطلق للموروث الديني، وما يحمله من شحنة دلالية ورمزية تواصلية، في كتابة الدستور وفي الحوارات التي حدثت في أروقة المجلس التأسيسي التونسي (2011-2014).

لقد كان حدثُ كتابة الدستور التونسي دلالة على غياب المعنى، حيث أظهرت حركة النهضة الإسلامية تشبثًا عقائديًا (بالمعنى السياسي للكلمة تحديدًا) بتأويلها الوحيد للنص الديني الموروث على تصور المعيش التونسي، وهو ما أرادت أن تترجمه في شكل قوانين، لا تتطابق مع العصر الذي نعيشه. 

لقد رافق هذا ذلك أيضًا ظهورٌ للحركات السلفية المتشددة، ودعوات للجهاد الداخلي (في تونس) والخارجي (في سوريا) ، ذلك على اعتبار أنَّ «الإسلام» يعيش تحت تهديدٍ النظم التي تحكمها الأحزاب القومية العربية والنظم التي أرادت أن تؤسّس لمعيشٍ علماني بحتٍ يقتات فتات حداثة النظام الاستعماري.

هذه الأجواء المشحونة بمشاهد الأعلام السوداء والتشدد الديني كان لها الأثر العميق على القوانين التي كانت تُكتَب، فحدثَ أن طالبت أحزاب يمينيّة باستبعاد فكرة تطبيق المساواة التامة بين المواطنات والمواطنين، واعتبار أن النساء مُكمّلات للرجال، والدعوة لاعتبار الشريعة الإسلامية البيئة المناسبة لاستنطاق أشكال الحياة العامة.

لقد ظهرت أزمة التأويل الواحد للقوانين في محاولات ربط الدعوي بالسياسي، والتي أنتجت بدورها الإسلام السياسي. لقد أضحى وفقًا لذلك معنى التدبير العام لشؤون المدينة مرتبطًا بالعاطفة الدينية وبالعودة لنصوص الفقه والعصور الغابرة كمصدرٍ لحياة ما بعد الثورة. لقد وُضِعت قوانين وأعراف تمتد في كافة المجالات الحياتية، من بينها الاقتصاد (المالية الإسلامية) والحياة الاجتماعية (التشديد على القوانين التي تمسّ «الأخلاق الحميدة») و السياسية (انتصار خطاب الصحوة الإسلامية عند فئات متعددة من المجتمع) إلخ.

إن أزمة التأويل هَهنا تمثلت في عدم قدرة العقل السياسي التونسي على تقبل إمكانيات إيجاد معانٍ مختلفة للحياة الجماعية، لذلك وجدنا أنفسنا أمام «ثورة مُحافِظة»، لم تقم بتغيير الواقع نحو مجتمعٍ أكثر انفتاحًا وأكثر استعدادًا لتنشئة أفراده وفقًا لمفاهيم التعدد والتنوع.

لقد انسحبت الأزمة بدورها على مسار الانتقال الديمقراطي، فمحاولات تثبيت هيئات ولجان تكرس مبدأ حياد السلطة، وخلق التنوع السياسي، وتثبيت الديمقراطية في شكلها ومضمونها، انتهت بنا إلى خلق نظام شعبوي، أوقف المسار برمته، وأدخَلنا في اللامعنى وفي دوامة الأزمة الدائمة، على مستوى المؤسسات، والحياة العامة.

إنَّ الشعبوية لا يمكن أن تُفهَم على أساس أنّها حركة سياسية أو إيديولوجية لديها جملة من الأفكار التي تُعرِّفُها، أي أنها حركة دون معنى، تستند لفكرة «الشعب» على اعتبار أنه وحدة متجانسة، ويشترك في المعتقد، والرؤية، والأهداف الكبرى. ولا تتوقف أزمة المعنى هذه في بروز نظام شعبوي يستند على أساس الرؤية الدينية، بل حتى الأحزاب اليسارية بدورها وقعت في فخّ الديموغوجيا البسيطة، ومغازلة فكرة «الشعب» في تصوراته ومعتقداته الإثنية البسيطة.  

ولم يتوقف الأمر عند تصور النظام السياسي وطرق اشتغاله، بل تذهب هذه الأزمة لحدّ الحريات الفردية. حيث تعيش تونس حتى  اليوم أزمة في إدراك معنى الهوية على غرار الصراع الديني-السياسي، الذي تَميَّزَ بنزاعٍ حادٍ فيما يخص استقلال الأفراد وحقهم/ن في التواجد.

فعلاً، لقد برزت في الساحة التونسية تيارات تحاول أن تتموقع داخل نسق ورث حملًا ثقيلًا من الثقافة والحضارة، التي امتزجت بما تركته حركات الاستعمار التي تعاقبت على تونس، وبالتطور التاريخي للأعراف والقيم والعادات.

لقد تمثلت أزمة المعنى الكبرى في سؤالين أساسيين: «من نحنُ؟ ومن هم الآخرون؟»، إذ يمكن أن نعتبر فعلاً أن لحظة الانتفاضة قد سمحت بتحرير الأفواه الصامتة لعقود، وغير القادرة على أن تتساءل حول مكنونها. لقد تشكلت مجموعات صغيرة تسعى للظفر بتعريفٍ لنفسها، فكان الصِدام السمة الأساسية لرحلة التموقع هذه.

لم يسمح الموروث العام للتونسيين والتونسيات بأن يتقبلوا بسهولة إمكان وجود أنواعٍ مختلفة من الحيوات، وأنماط الوجود. بين النساء العازبات، ومجتمع الم/ع، واللاّدينيين/ات، والمهاجريين/ات، والفرق الفنية، والحركات النسوية، نشبت اختلافات عاش فيها العديد من الأفراد عنفًا يتراوح بين الثلب والسباب المباشر، والضرب والملاحقة البوليسية، والتنمّر الإلكتروني، والتهديدات اليومية.

إنَّ عدم القدرة على تأويل الحياة بما هي فضاء يمكن أن يتسع للجميع جعل من الواقع مساحة للعيش المرير، والهيمنة، على أساس التصورات الأبوية، والتحكم البوليسي، والعنف البنيوي. في هذا الصدد نحن نُرجّح أن الأزمة تتأتى فعلاً من عدم قدرة المخيال الجمعي على الاستئناس بالهوية المُركبة، أي أن الواحد منّا يمكن أن يعي لوحده كيفيات وجوده، وسعادته في اختيار مسار حياته وطرق عيشه، دون أن يكون تحت رقابة مؤسسة مباشرة، رسمية أو غير رسمية. لكن هيهات، إنَّ معضلة «النمط» التونسي، الذي خلق أسطورة الاعتدال، والمراوحة بين التقبل والرفض، كرَّسَ شكلاً مهمًا من أشكال التبلّد الذهني، وجعلَ من الذهنية التونسية العامة منغلقة على ذاتها، ومتقوقعة على التحديدات المعيارية العامة، لا فقط على مستوى السلوك، بل حتى على مستوى الإبداع والخلق.

إنَّ الفضاء العام كان ساحة معركة لهذا الصراع الهووي، الذي شاهدنا فيه «غزوات» تشبه ما مرّ منذ قرونٍ، وضربًا للفنانين/ات واغتيلاتٍ سياسية لمن خالف السياق العام السائد من تصورات، وسحلاً في الشوارع لمن طالب بأن يعيش في هذا البلد وفقًا لمبادئ الحرية والكرامة والعدالة. وطبعًا لم تتمكن الهويات المختلفة والمتنوعة من أن تتواجد بطلاقة كما كان من المفترض أن يكون.

إنَّ عدم قدرة تأويل معنى التواجد على أساس تعدد الهويات خلق بدوره مركزيةً وهامشًا، إذ أضحى من يعتقدون أنَّهم أصاحب «الهوية الأصليةّ» هم من يمتلكونَ مفاتيح الحياة برمتها، وهو ما يتيح لهم/نَّ السيطرة والتحكم، بينما هنالك العديد من المهمشين/ات الذين واللواتي سُلِّطَ عليهم حُكم الغُربة في أرضهم/نَّ، لأنهم/نَّ اختاروا واخترنَ هوية غير محددة الشروط مسبقًا.

لقد أفضى هذا الصراع لوجود ذواتٍ تعيش في الخفاء والصمت، تدرك سبيل الحياة من خلال المراوغة والحيلة، وإذا ما قرر شخص ما المواجهة، سيجد نفسه أمام ترسانة من المعايير والاستثناءات، والوصم، والتحقير. لقد جذّرت الوضعية التونسية التي ذكرناها منذ بداية المقال ألمًا، كان يُفهَم على أساس أنه شعور مفارق ليوميتنا البشرية العادية، لكننا اندهشنا من كونه مكونًا محايثًا لأدق تفاصيل العلاقات الاجتماعية.

إذن، لدينا اقتناع راسخ تَمثَّلَ في كون واحدة من الأزمات الكبرى التي تعيشها تونس الآن تتمثل في غياب الممارسة التأويلية، بمعنى أنَّ جلّ الفاعلين والفاعلات التونسيين/ات يعيشون/نَ وفقًا لغلبة موروثاتهم الدينية والثقافية والمجتمعية وغيرها من العوامل التي تحدد معاشهم/نَّ.

وأكثر المظاهر الكبرى لهذه الأزمة، تجسدت أساسًا في غياب المساءلة النقدية في كافة المجالات، وعدم القدرة على توليد المعنى. إنَّ الذهنية التونسية العامة تتدبر شؤونها بمرجعيات محدودة للغاية، ومشتركة، وتغيب فيها الموضوعية العلمية، ومتشبّعة بالاندفاع العاطفي، وأحيانًا كثيرة تتمظهر في أشكال غرائزية.

لقد كان من المفترض أن تكون المكتسبات المهددة في كلّ ثانية بالاندثار في غياهب التاريخ، والقوانين، ومؤسسات المعرفة المحايدة، زهدًا عن الجمود وعن اجترار ويلات وأوامر الماضي؛ لكننا نحن عندما نُعبِّرُ هَهنا عن موت المعنى، فنحن نقول إن ما اعتبرناه ثورة، لا يتعدى أن يكون مجرد انتفاضة سمحت بشكلٍ فجئي أن تتطور الأشياء لتكون انتقالًا ديمقراطيًا، في ظاهره الكثير من الشكليات التي تبدو جيدة (وربما هي كذلك!)، وفي باطنه فراغ، تغيب فيه الحيرة، والأشكلة، والدربة على التأويل، وفتح آفاق متعددة لواقعنا. نحن ببساطة لم نفهمه في هذه السنوات الأخيرة، فوقعنا في مآزق التأويليات، وهي في الحقيقة أزمات، لا نعلم كيفيات مغادرتها.  

قيس سعيّد: التعبيرة الشعبوية للنمط التونسي 

ونحن نُدوّن الكلمات الأخيرة في هذا المقال، وعلى ضوء ما يقع في الآونة الأخيرة في تونس من تحوّلات، لا يُمكن أن تكون إلاّ انقلابًا على مسارٍ كاملٍ من المكتسبات الديمقراطية القليلة جدًا، تبين لنا أن ما يفعله الرئيس التونسي الحالي قيس سعيّد، من خلال مسار ما بعد 25 جويلية (تمّوز)، أنّنا ربما سنغادر نهائيًا مسار الانتقال الديمقراطي دون أن نبلغه. 

في توصيف تأليفي، نود أن نُنبه لكون النظام الحالي هو نظام شعبوي تسلطي، استفاد جدًا من غياب المعنى، ومن عدم قدرة المقبلين والمُقبلات على خُطبه، على تفكيك الرسائل الضمنية، وهو ما فسح مجالاً للانبهار العفوي، وكان متنفسًا لضغط حكم الإسلام السياسي في السنوات الفارطة. 

لقد تبين هذا الأمر فعليًا من خلال مشروع مسودة الدستور الصادرة في 30 جوان (يونيو) 2022، والتي تم تصحيح بعض الأخطاء الواردة فيها ليلة 08 جويلية (تمّوز) 2022. إنَّ أزمة التأويل تتمركز ههنا حول الأزمة المُراد بها أن ينقلنا النظام الحالي إلى بديل تسلطي. لقد افتعل «المُشرّع» فعلاً أزمة الهوية، حيث يذكر في الفصل الخامس: «تونس جزء من الأمة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل، في ظل نظام ديمقراطي، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية»، ناسفًا بذلك مبدأ «الدولة المدنية» التي ذُكرت في الفصل الثاني من دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014. 

إلى جانب هذه التعديلات الجوهرية، يُضيف المُشرّع التونسي تغييرًا على مستوى الوظيفة التشريعية لتصبح متمثلةً في غرفتين: مجلس نواب الشعب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم، وتكون السلطة التقريرية بأسرها لدى رئاسة الجمهورية.

إنَّ هذه الحالة السياسية هي تعبيرة عن أزمة غياب المعنى، وهو الأمر الذي  يتجلى بتقديرنا المتواضع في التالي: 

1- تحيين خطاب أزمة الهوية تحت مسمى الدين الإسلامي، مستغلاً في ذلك ضعف التأويل وغياب الفصل بين «العقلاني» و«الإيماني» لدى مختلف المواطنات والمواطنين، ومستغلاً في الآن ذاته سياق التمشي الشعبوي، الذي يهدف لمخاطبة العاطفة واستغلال الجانب القومي والخصوصيات الثقافية لتمرير برنامج تسلطي. 

2- ضرب «الوحدة الوطنية» التي جسدت جزءًا من تاريخ تونس المعاصر، وعلى الرغم من الهينات التي تحوم حول هذا المفهوم. إلاّ أن المرور بالوظيفة التنفيذية لمشروع يَقصد تفتيت المجال التونسي، قد يعود بنا مباشرة إلى مربع «الجهويات»، وهو ما يعني صراعًا مبنيًا على أساس الانتماء لجهة ما من الوطن، وهي إكراهات ثقافية تغذي على ما يبدو مشروع دستور 30 جوان 2022، وأيضًا هي «حقائق» قائمة اليوم في توزيع الثروات بين الأقاليم، والبنى التحتية، والنماذج الاقتصادية، وغيرها. 

لقد حوَّلتنا أزمة المعنى والارتكاز المطلق على «النمط التونسي» المُحافِظ والجامد إلى نظام هجين غير قادر على تثبيت بعض القيم الديمقراطية، ولا المحافظة على بعض المكتسبات المتعلقة بالحريات الفردية والعامة؛ أو مبدأ التشارك في الحُكم. إنَّ الديمقراطية هي أسوأ النظم السياسية، لكنها الأكثر نجاعةً. لكن ما يهددنا اليوم فعلاً ليس الضعف الظاهر للديمقراطية في السلطة التمثيلية أو التنفيذية؛ بل أكثر من ذلك بكثير: أين نحن من محاولات تغيير «النمط التونسي»؟ هذا التصور العام الهووي الديني والثقافي الذي يتغذى على الرفض (في معناه المطلق)، والقومية المقيتة، والانغلاق، والأبوية، والانسياق وراء الاختيارات النيوليبرالية.