ما الذي جعل الإسلام كحضارةٍ وتاريخ بشرٍ عاجزاً عن التألق الحضاري، وكيف تحوّل الاستثناء الإسلاميّ (2004) إلى معضلة في التاريخ؟

من تراجيديا الإسلام المعاصر (2011) إلى الإسلام المتردّد: الثورات وإسلام ما بعد الاستبداد (2017)، يبدو أنّ ابتكار الحداثات في الإسلام (2020) يفتح على الأسوأ: أزمة دولة الاستبداد، ومعضلة الإرهاب الجهادي الذي «تجاوزَ الكره إلى القسوة» متوسّلاً بأدوات المجتمع ما بعد الصناعي من أجل إقامة إمارة حرب على النمط القروسطي، واستعصاءُ أو ممانعات الانتقال الديمقراطي…

إن قراءةَ كتب الرديسي ودراساته وبحوثه، أو الجلوس إليه في مكتبه، صومعة العالِم الشغوف، في المرصد التونسي للانتقال الديمقراطي بضاحية المرسى، تسمح بالفهم العقلاني لما حدث ويحدث في تونس وفي براري الإسلام.

في هذا التاريخ الحاضر الذي لا يزال يجرّ عربات الماضي بعناد ثور وارتباك عمْيان، نجدُ: سلاطين، أمراء، فقهاء، فلاسفة، قادة تحرّر وطني، وهابيّون على صهوات جيادهم، ديماغوجيّون، دُعاة تطبيق شريعة غلاظ، قادةٌ شعبويون، ناسٌ أقبلوا «بين طامع ومُحْتَسِبٍ»، حركات اجتماعية، دمٌ، قرآن، أنوار، أقدارُ بشرٍ وحضارةٌ تتشوّفُ إلى الحرّية، بين العتمة والنور، على ركحٍ لا ندري عُمقه وما يشتمل عليه من حدائق أو خرائب، حَسِبَ جمهورُهُ أنّهم بمحضرِ ثورات، ولكن …

في «أماكن  الفكر» يُقيم  حمادي الرديسي متسائلاً ومُفكِّكاً لهذه الدراما. هنا حوارٌ معه حول الفصل التونسي الأخير، ما بعد 25 جويلية (تموز) 2021، الذي أَغلقَ قوسَ عشرية سوداء، يعترف الفاعلون السياسيون الذين كانوا يحكمون فيها، الآن، بوقوع «خطايا لم يرتكبها أحد»، وفتح قوساً آخر لا تزال مآلاته غامضة بعد أن أصدر دستوراً سيُستفتى عليه في 25 جويلية (تموز) 2022 غيْر الدستور الذي كلّفَ لجنةً بكتابته، مُعْرِضاً ومُتعالياً عن الجميع.

ما رأيك في  مشروع الدستور المطروح للاستفتاء يوم 25 جويلية؟ 

لنتفق أوّلاً، قيس سعيّد ليس له الشرعية لوضع دستور. لم يفوّضه أحد. هو استولى على كل الصلاحيات عبر ترسانة من المراسيم، ثم ألغى كل السلطات، وشكّلَ لجنة استشارية مُكوَّنة من أستاذين في القانون الدستوري قَدَّما له مشروع دستور علماني، يحمي الحريات بطريقة صارمة ويوازن بين السلطات (صدر في جريدة الصباح بتاريخ 3 جوان (حزيران) 2022)، فتنكّرَ له سعيّد جهْراً بإصدار مشروع دستور في الرائد الرسمي (30 جوان (حزيران) 2022) خيّبَ آمال كلّ من كان ينتظر منه احترام تعهداته.

جاءت ديباجة الدستور في شكل إنشائي، تشكو من الأخطاء بما فيها اللغوية. وربطت مباشرة بين التجارب الدستورية السابقة، من دستور قرطاج إلى مشروع الدستور الحالي، متناسية الإرث الدستوري الوطني (دستور 1959) والثوري (2014). وحدّدت الثورةَ يوم 17 ديسمبر (كانون الأول) عوض 14 جانفي (كانون الثاني)، وكأنّ هاجس التأسيس هو عمل سيزيفي يُكرِّر نفسه باطّراد.

ويطول الكلام على محتوى الدستور إلا أنّه عفّنَ علاقة الإسلام بالدولة، وأسّس لنظام رئاسوي يجعل من الرئيس دكتاتوراً بموجب الدستور. 

ما لفتَ انتباهي أنّه حذف الفصل الأول من دستور 1959 الذي يشكّل الهوية التأسيسية، بدليل أنّه أقره دستور الثورة 2014: «تونس دولة…، دينها الإسلام». وإن استقرّ الفقه الدستوري على اعتبار أنّ الإسلام يرجع لتونس لا للدولة، إلاّ أنّ حذف هذا الفصل كان قد يشكّل تأسيساً جريئاً للعلمانية لو لم يُستبدَل بما هو أشنع، أي الفصل 5: «تونس جزء من الأمّة الإسلامية، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرية». ذابت الأمة التونسية في الإسلامية ورجعت مقاصد الشريعة للشاطبي في ثوب مقاصد الإسلام. على كلّ، لا نتصوّر أن تتخلّى الدولة عن إدارة الشؤون الدينية وهو ما لم تفعله حتى تركيا العلمانية. 

نُلاحظ انخرام التوازن بين السلطات. استأثر الرئيس بأوسع الصلاحيات الممكنة. أصبحَ هو الممثّل الوحيد للسلطة التنفيذية بعدما كانت بالتشارك بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة. وهو غير مسؤول سياسياً، أي لا يستقيل في حالة توجيه لائحة لوم ضدّه ولا يمكن إقالته من طرف المحكمة الدستورية في حال ارتكابه لخطأ جسيم، ودجّنَ السلطة التشريعية التي انتزع منها مسؤولية الحكومة أمامها وأصبح هو الذي يعيّن القضاة عوض المجلس الأعلى للقضاء. 

هناك نقطة مهمة يجب الإشارة لها، لا يذكر مشروع الدستور الاستفتاء عليه يوم 25 إلاّ بنعم. غريبٌ هذا الأمر. وسيبقى العمل بحالة الاستثناء الدستوري على معنى الفصل 80 للدستور الحالي إلى أن يقع انتخاب مجلس النوّاب في آخر ديسمبر حسب رزنامة الرئيس لا غير، هذا إن أُجرَيت من أساسه. 

في حوار سابق قلت إنّ «تونس مصابة بداء الحَوَل، لا تعرف أين تنظر؟»، الآن كيف تصف الحال؟

الوضع اليوم تعقّدَ أكثر. هنالك محاولة لدفن التحول الديمقراطي. كلّ ما يحدث الآن يذهب في هذا الاتجاه، خاصّة وأنّ تجربة العشر سنوات الفائتة كانت كارثية. قمنا في المرصد بإنجاز كتاب الانتقال المسدود (La transition bloquée) ولم نكن نمتلك شجاعة القول بأنّه قد فشل. عندما نقول إنّ الانتقال في انسداد فثمة إمكانٌ للأمل، وحين نقول بأنّه قد فشل فإنّنا بذلك نقرّ أنّ تونس قد استكملت المسار وأغلقت ما يُسمّى بـ«الربيع العربي».

الآن مررنا من حالة الاستثناء إلى حالة التصفية وغلق القوس. الاتجاه الواضح هو الذهاب نحو وضع دكتاتورية فردية في ثوب إجرائي مقنّن يحاول المحافظة على الظواهر ويحترم الأَشكال. اللخبطة والخلاف الكبير حول طبيعة مرحلة ما بعد 25 جويلية، سببها أن معظم الرأي العام سجينٌ لتصور عن الدكتاتورية في ثوبها القديم الكلاسيكي، أي نظام عسكري أو فردي دموي إطلاقي. ولم يتنبه الناس إلى أنّ النظام التسلطي اليوم له العديد من التنويعات منها ما يحصل الآن: دكتاتورية بمفهوم حكم فردي يخلط بين السلطات بمفهوم مونتسيكيّ (نسبة إلى مونتسيكيو).

تُبرَّر حالة الاستثناء بالخطر الداهم الذي كان يمثّله البرلمان نفسه ومحاولات تفكيك الدولة، هل خرجنا من حالة الاستثناء؟

نعم نحن خرجنا من حالة الاستثناء، وأحسن دليل على ذلك أنّه لا يوجد فقيهُ سلطانٍ أو مستشارُ أميرٍ يستدعي الفصل 80 من الدستور أو يتحدث عنه. أغلقوها هم بأنفسهم بعد أن دافعوا عنها في شكل ديكتاتورية دستورية. خرجنا من الاستثناء على معنى الفصل 80 والذي كان يبرّر ما يُسمّى بالدكتاتورية الدستورية. وهو مفهوم مستوحى من دكتاتورية التفويض (La dictature de commission) في روما القديمة، أي حكم فردي لمدة معينة (ستة أشهر) مُفوّض من مجلس الشيوخ، يقع بعدها إرجاع الحكم إليه. وهذا ما نجده في كتاب كارل شميت الدكتاتورية (1921). مفهوم الصلاحيات الاستثنائية بُني على النمط اللاتيني، وهي دكتاتورية مؤقتة سُميت دكتاتورية دستورية يرجع بعدها النظام إلى سالف عهده، أي إلى النظام المؤسساتي، وهذا لم يحدث في تونس. فلقد خرجنا من استثناء ودخلنا في استثناء جديد تأسيسي يسميه كارل شميت الدكتاتورية السيادية أو السيّدة (La dictature souveraine)، وهي حالة تحدث في حالة سلطةٍ تأسيسيةٍ أو حين يمنح ملكٌ دستوراً أو في حالة ثورة.

الرئيس قيس سعيّد يقدّم نفسه على أنه استئناف للثورة التي وقع إجهاضها، كيف تُعلِّق على ذلك؟

بالعكس هو مصفّي ثورة (Liquidateur). نابليون الأول كان يقول، بعبارته هو، أنّه أنهى الثورة وبدأ التاريخ. لبسَ ثوباً جديداً تسلّطياً فردياً ولكنه حافظ على إرثِ ومبادئ الثورة. أمّا قيس سعيّد فعندما يتحدث عن التحول الديمقراطي، يشير بيديه متهكّماً على أنّه شيء عارضٌ مارٌّ في التاريخ.

حمّادي الرديسي

ما هو السيناريو الذي كان ممكناً ومتاحاً للخروج من حالة الانسداد التي كانت تخنق البلد؟

كنّا في حالة من الانسداد لم يكن ممكناً الخروج منها إلا بطريقة غير مؤسّساتية، معنى ذلك: إمّا وفاقٌ سياسيٌ تُبرمه الطبقة السياسية قبل 24 جويلية وهذا لم يحصل، وإما إذا ما التجأنا إلى الحل الاستثنائي فما كان عليه إلا الخضوع للفصل 80 حرفياً. ولكن نحن الآن بصدد إنشاء نظام جديد أو تأسيس جديد على معنى دكتاتورية سيّدة.

كلمة دكتاتورية جاءت من اللاتينية وتعني الأمر والإملاء. في العربية لا نعرف الكلمة. العرب يعرفون الحكم المستبد. وحتى التسلطية (Tyrannie) وقعت ترجمتها عند الفلاسفة العرب بـ«مدينة التغلّب» وفي كتاب تلخيص السياسة لابن رشد نجد كلمة لأول مرة أصادفها هي «وحدانية التسلّط». والمستبدّ هو «وحداني التسلّط».

لكي نفهم ما يحدث الآن ربما نحتاج إلى براديغمات جديدة. يبدو أنّه هناك عقلانية أخرى تحكم علاقات السلطة عندنا ولدينا مخيال آخر؟

المخيال الشرقي يحنّ لمستبدّ عادل. هذا أكيد. ولكننا نعرف في العلوم السياسية أنّه لا يوجد مستبدّ عادل. تحدثّ كانط في نصه ما الأنوار؟ عن فريديريك الثاني ملك بروسيا كمستبدّ، ليس عادلاً، بل مستنيراً. هما مفهومان مختلفان فالمستبدّ المستنير يسمح لشعبه، لمواطنيه، بالإدلاء بآرائهم في المسائل السياسية أمّا العادل فيطرح مسألة المجتمع ككلّ، العدالة بين الأفراد وبين الطبقات، يأخذ من الغني ويعطي للفقير وهذا مفهوم بدائي للعدل، وبالتالي لا يوجد اليوم في القرن العشرين هذا المستبد العادل.

يوجد في مخيال الانتظار العربي في القرن التاسع عشر، ونجد أن الأفغاني والفكر الإصلاحي حاولوا تمرير فكرة المستبدّ العادل، ولكنّها غير ممكنة.

المشكل أن الاستبداد لم ينجح كما لم تنجح أوّل تجربة ديمقراطية عربية، وعوض أن يفكّر العرب في هذه المعضلة الكبرى، هم فقط يشمتون في فشل الإسلام السياسي وسعداء بأنّ حركة النهضة قد تبخّرت. لماذا لم نفكّر في أنّ أول تجربة ديمقراطية في العالم العربي فشلت، وهنا يصبح ما يسمى بالاستثناء الإسلامي وارداً أكان بالمفهوم القيمي أو بالمفهوم السيوسيولوجي. بالنسبة لي هي معضلة كبرى، ولا أحد يُزايد عليَّ في مقاومة الإسلام السياسي. إذا ما قبلنا بما يحدث فنحن قد قبلنا بإجهاض أول وآخر تجربة ديمقراطية عربية نتطلع إليها منذ القرن التاسع عشر ونحن فرحون بالتخلّص من الإسلام السياسي. هذا ليس مشروعاً، ربما هذا مشروع لأنظمة ودول أخرى.

الإشكال النظري بالنسبة لي هو هذا: لقد عوّل الخارج (الديبلوماسيون، الرأي العام، المثقفون) على التجربة التونسية وكانوا معجبين بها، لأنّها تخرج من الاستثناء العربي الإسلامي، ولكنها نُسِفَت.

ولكنّ قيس سعيّد يُبرّر ما اتخذه من إجراءات بالفساد والإفلاس وتفكّك الدولة والسخط الشعبي من الطبقة السياسية.

لم نَرَ أيّ دولة خرجت من الإفلاس بالدكتاتورية. لو كانت الدكتاتورية عند العرب تثمر نتيجةً وسمحت بالتحديث لساندناها. نحن مكرهون لا أبطال، لأنّنا نعرف أنّها لا تعطي نتيجة.

حتى مع التجربة التحديثية لبورقيبة وبن علي؟

لو نجحت التجربتان لما قامت الثورة.

سنظلّ إذن في الاستثناء الإسلامي؟

تأمّلْ إلى أين وصلت تركيا، أول تجربة ديمقراطية إسلامية، انتهت إلى التسلطيّة التنافسية، أي أنّ الطغمة أو النواة الحاكمة والنافذة تتحكم في العدالة والانتخابات والشرطة، أي مفاصل الدولة، وتُبقي على الأحزاب كما تُبقي مجالاً للحريات السياسية. لا يمكن القول إن تركيا دكتاتوريةٌ على النمط القديم.  الدكتاتورية بالمعنى القديم قد انسحبت من العالم باستثناء ربما تايلاندا وكوريا الشمالية.

ربّما تبدّلت الإشكاليات الآن وأصبحنا نتحدث عن نظام الجدارة (Meritocracy) (سنغافورة، الصين) أمام أزمات الديمقراطيات العريقة؟

سنغافورة خرجت من نظام الجدارة إلى نظام ديمقراطي. النظرية التحديثية تُفضي في نهاية المطاف إلى الديمقراطية. المشكل في بلداننا أنّ هذا لم يحدث. في مصر وتونس والجزائر وغيرها نجد أنّ النخب التي حكمت بلدان ما بعد الاستعمار لم تجسّد التحديث حتى تكون جديرة بالديمقراطية. هذا هو الإشكال والمشكل والمأزق، فنحن مجتمعات تعاني من الانسداد وغير قادرة على التقدم ولو مع نظام تسلطيّ،  وغير قادرة على الديمقراطية على النمط الهندي (ديمقراطية مع الفقر).

هناك عقلانية خاصة سمحت لتلك البلدان باختيار أفضل طريقة بالنسبة لها للوصول إلى الرخاء أو التقدم في مجتمعاتها.

ربما لا نزال في مفهوم الغَلَبة والشوكة؟

غلبة وشوكة دون نتائج. نحن لا ننتج شيئاً، لا الورق ولا الكمبيوتر، لم ننتج صناعة حتّى ننتقل بعدها إلى مستوى أعلى. دعك من الحاضر. الماضي أثبت أنّه منذ الاستقلال وخروج الاستعمار حاولنا هذا النموذج، والدخول في مشروع آخر، ولكنّنا فشلنا.

والسبب؟

لا أعرف. لديك أناسٌ مهووسون بالتخلص من الإسلام السياسي، وآخرون مهووسون بتطبيق الشريعة، ولديك نخبٌ غير كفؤة وغير قادرة على استشراف المستقبل وإعطاء الحلول الآنية. ثمة أزمة حضارية كبرى تُعاني منها بلداننا.

ماذا عن تونس بكلّ إرثها الدستوريّ والتنويريّ؟

عُلِّقَ كله بجرّة قلم، وهو ما يكشف عن هشاشة هذه المجتمعات. كيف نفسّر انهيار النخب بعد 25 جويلية مثلاً؟ النخب صفّقت بأيديها وأرجلها لما حدث دون درايةٍ ولا امتلاكٍ لأيّ مشروع مستقبلي بديل. ودخلنا في منطق أعطه الوقت ولا يجب أن نحاكم النوايا وعلينا الانتظار. ولكن ماذا ننتظر؟ أن يغرق البلد أكثر؟ النخب غير قادرة على استشراف أربعة أشهر فما بالك بأربعين سنة.

مساندو قيس سعيّد يقولون إن المؤسسات كانت فاسدة

حين تكون المؤسسات فاسدة يقع إصلاحها، فهناك فرقٌ بين الإصلاح والنسف. لم أرَ إصلاحاً. الإصلاح عملية جماعية. الإصلاح المفروض من فوق مرفوض تماماً. ألم يفشل التحديث من فوق؟ حقَّقَ أشياء ولكن الخلاصة أنّه فشل.

كيف نفكّك الأزمة الحضارية إذن؟

الجميع يقول إنّها نشأت من ثقافة التلفيق والتوفيق بين الحداثة والتقليد. لا أؤمن بذلك، فنحن كلنا مُلفِّقون، لا أحد مبدع. محاولة المزاوجة في الصين أو الهند نجحت. في آسيا نجحت، أما أمريكا اللاتينية فرغم أنّ حضارتها مسيحية ولكنها في اضطراب دائم. المسألة الحضارية لا علاقة لها بالدين. منذ الثلاثينات في أمريكا اللاتينية ثمّة صراع دائم بين ثلاثة نُظُم: شعبوية، ديمقراطية وعسكرية، من زمان فارغاس في البرازيل وبيرون في الأرجنتين في الثلاثينات إلى زمان شافيز وبولسونارو. نحن لم نعرف هذا. الشعبوية في تونس ظاهرة جديدة ظهرت في الديمقراطية.

بالرجوع إلى الأزمة الحضارية وإذا ما أردنا أن نفهم سرّ نجاح آسيا، فيتمثّل أساساً في ثقافة العمل والانضباط. وليس صحيحاً أن ثقافة العمل متأتية من البروتستانية كما يقول ماكس فيبر. البروف (Beruf) كواجب أخلاقي ليس حكراً على البروتستانت. 

نحن بلدان شرقية لا تزال رهينة نظرية الفصول لابن خلدون ومونتيسكيو: البلدان الصحراوية الساخنة لهم ميل نحو التجارة وروح المغامرة، والبلدان الرطبة تتّجه أكثر نحو العمل وخلق الفرص. ربما  مازلنا في نظرية تأثير المناخ على الأخلاق. مازلنا في منطق العصبيات واقتصاد الريع والتجارة. الشعوب الشرقية أقرب لهذا النمط من الإنتاج منها إلى نمط آخر، فالتجارة والريع دائماً في ازدهار، ولكننا لم نتملك ناصية الصناعة.

لم نستطع الدمج بين التحديث والديمقراطية وروح العمل. هذه أسئلة وليست أطروحات. أنا أرفض النظرية الثقافوية التي نجدها لدى المثقفين العرب الذين يرون أننا لم ننجح أن نكون حداثيين أو تقليديين. ليس صحيحاً، فلا أحد حداثي أو تقليدي في المطلق، فالواقع معقّد وكلّنا مزدوجون: مزدوجو الشخصية والثقافة واللسان. لا توجد ثقافة صافية بسبب الحداثة والعولمة. نظرية التلفيق كما طورها الفيلسوف الإيراني شايغان في كتابه النفس المبتورة خاطئة، وعلينا البحث عن شيء آخر. كلٌّ منّا يمزج ويخلط ويلفّق. الأزمة في اعتقاد المفكرين العرب سَبَبُها عدم استيعاب الحداثة، وهم يرون أنّنا استوعبنا الثقافة التقنية في حين أننا لم نستوعبها كقيمة، أي لم نعمل على هضمها وإعادة إنتاجها مجدداً، بل استهلكناها. وربما السبب في ذلك غياب ثقافة الالتزام الأخلاقي بالعمل. نخبنا السياسية والفكرية أرادت ديمقراطية على المقاس ولم تردها إصلاحية، وعندما دخلت في مسار ثوري سريعاً ما أصابها الملل.

دستور سنة 2014 ملغّم وغير متجانس، والانتقال الديمقراطي وصل إلى طريق مسدودة، وربّما لم يكن هناك حلول أخرى؟

الحل كان تسلطياً وبَيْعَوياً (من البيْعة)، والناس فرحون لأنّهم يرغبون أن يحكمهم مستبدّ عادل، فلا نزال في المخيال العربي التقليدي، وفي أسْر صورة الزعيم. في 25 جويلية تبيّن أنّ النخب في البرلمان وخارجه لم تكن مقتنعة بالفكر المؤسساتي. وهو شبيه بما وقع في ألمانيا في الثلاثينات مع صعود النازية لأنّ المؤسسات لم تكن صلبة. ما حدث هائل. أن تتحجّج بأنّ دستور 2014 مُفخَّخ ليس حجّة، فالدستور كان نتاج عقل جماعي ومفاوضة جماعية بالمعنى الذي حدّده هابرماس، وجاء حصيلة أكثر من مائة اجتماع ونقاشات. هذا ليس حال الدستور موضع الاستفتاء اليوم، فهو دستور فرديٌ آتٍ من فوق وكأنّه منحة. لم يُناقشه أحد ولن يُعمّر طويلاً.

بالعودة إلى ماكس فيبر وتفريقه بين الأسس الثلاثة للسلطة، يبدو أننا لم نصل بعْد إلى السلطة العقلانية ولا نزال في سلطة التقليد وكاريزما القائد؟

الغرْب قَبِلَ في داخل العقلانية القانونية بوجود (Des Boss)، أي قادة كاريزماتيين قادرين على التأقلم وعلى تلوين الديمقراطية بطابعهم الشخصي. في حالة قيس سعيّد، هو يريد الرجوع إلى الكاريزما في حالتها الأولى أي قائد كاريزماتي خارق لا يحكم بالمؤسسات وتكون قراراته نافذة.

نحن في مخيال الزعيم الذي تُبرَّر اعتباطيته بزعامته. لا يوجد زعيم دون أخطاء وعيوب. ولكن زعيم دون مؤسسات تبرّر اعتباطيته بخِصاله الشخصية وما يأتي به من إيجابيات. الزعيم هو مفهوم جديد. في الأدب الكلاسيكي لدى العرب لا توجد زعامة، فعندما تقرأ ترتيب المدن عند الفارابي تلقى حكم السفسطائي (بارعٌ في البلاغة) ويسميّه «المدينة البدّالة».  

الزعامة لا توجد في الخلافة، من الممكن أن تجدها في الإمامة، زعامة الإمام تَتَأتّى إليه بالوراثة لا بالخصال. فالزعيم بصفته تلك، يحكم بخصاله الاستثنائية، إمّا لأنّه قائد حرب أو خطيب أو يستمد كاريزما من خارج ذاته مثل المُوحَى إليه. الإمام لا يملك هذه الصفات، فهو معيّن بالنص والوصيّة. الزعامة ظاهرة جديدة أتت مع حركات التحرّر الوطني وحتى عبد الرحمن الكواكبي (في كتابه طبائع الاستبداد. أعتمدُ على ترجمة كتاب فيتوري ألفياري De la tyrannie 1202 إلى العربية عن التركية) لم يتحدّث عنها.

وقتها، الزعيم كان قائداً لأمّة من أجل مهمة تاريخية. ولكن مع تأسيس الدول كان من الضروري أن تخضع الزعامات للمؤسّسات لا العكس. فالباجي قائد السبسي (رئيس تونس 2014-2019) له كاريزما، قام بمناورات ولم يخرج عن المؤسسات، ولكن قيس سعيّد خرج عنها نهائياً.

نحن الآن في تونس في أيّ مدينة من مدن الفارابي: المدينة الجاهلية، المدينة الفاسقة، المدينة البدّالة، أم المدينة الضالّة؟

لن تجد تونس في أيٍّ من مدن الفارابي. فحتى المدينة الضالّة لا تجد فيها الزعيم. ابن رشد يحترم ترتيب أفلاطون بينما الفارابي أكثر إبداعاً فهو يمزج بين أفلاطون وبين تصوراته. لدى أفلاطون يبدأ الاستبداد من السفسطائي لينتهي بالمستبد. وربّما لو عدنا إلى الفارابي نحن في المدينة البدّالة: «هي التي قصد أهلها أن يتعاونوا على بلوغ اليسار والثروة»، أو في مدينة التغلّب: «وهي التي قصد أهلها أن يكونوا القاهرين لغيرهم، الممتنعين أن يقهرهم غيرهم، ويكون كدّهم اللذّة التي تنالهم من الغلبة فقط».

هل تتلخّص أزمة الثقافة في تونس في عدم قدرة النخبة على فهم تعقيدات الواقع ونسق الأحداث السريع واكتفائها بالشكلانيّات، وبالمقابل فإن للمجتمع فهمه الخاصّ لما يحدث؟

لا أستطيع الحديث إلا عن النخب لأن معرفتي بها أفضل من الشعب. من هذا المنظور فسّرت لك هشاشة الثقافة النفعية الوسائلية المقاصدية التي تهمّها النتيجة لا الوسائل. نسمّي هذا في الفلسفة بـ«العواقبيّة» (Conséquentialisme). نحكم على الأشياء من خلال مآلاتها وليس انطلاقاً من صلاحية البدء. 

هناك شرخٌ مزدوج يكشف عن ضحالة الثقافة السياسية: شرخ بين الشعب والنخب وهو ما جعله ينقاد إلى قيادات وهمية ذات صبغة زعاماتية أو شعبوية دون دراية. وهناك شرخٌ بين النخب نفسها، فمعظم هذه النخب غير متشبّعة بالقيم الديمقراطية الليبرالية، فهناك من النخب من له ثقافة نفعية، وهناك من له ثقافة تسلطية أو تقليدية. التشبّع بالثقافة الديمقراطية ينشأ من التجربة والقراءة والوفاق، فليس من المعقول القبول بشخص يأتي ليغير قواعد اللعبة التشاركية.

ماذا عن أزمة القِيَم؟

عندما يتعلّق الأمر بسلّم القيم، تتصرّف النخب كما لو أنّ الأمر يتعلّق بسوق ولا يوجد لديهم التفرقة بين قيم أصلية لا نفاوض فيها وقيم يمكن أن نتفاوض فيها. وحين تطرح عليهم مسألة القيم التي لا تَفاوُضَ فيها، يقولون لك من الممكن التفاوض حول الديمقراطية والحريات الفردية. لا يوجد هذا إلا عندنا: أي التشكيك في القيم الأصلية للعيش المشترك في مجتمع حرّ، ويهمّنا هنا الليبرالية السياسية أي أنّ كل الناس لهم نفس الحقوق والواجبات، والليبرالية السياسية لا علاقة لها بالليبرالية الاقتصادية. فحرية القُدامى هي المشاركة في الشأن العام عبر الانتخابات وعند اليونان لا يعتبر مواطناً من لا ينتخب، وحرية المُحدثين هي الحريات الفردية. وسأعطيك مؤشراً عن هشاشة الاقتناع بالديمقراطية: هل من المعقول أنّ بلاداً خرجت من خمسين سنة من الاستبداد وتشتكي من تسلّط بورقيبة وبن علي، وعندما مَثُلت أمامهم فرصة الانتخاب لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي انتخب فقط ما يقارب52 بالمائة من الناخبين. في فرنسا شارك 52 بالمائة من الناخبين في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الأخيرة فطرحوا على أنفسهم سؤال: هل أن هذه الانتخابات مشروعة؟

وهناك مؤشرٌ آخر عن هشاشة الفكر الليبرالي عندنا: عندما تُمسّ حريات النساء والسود والمثليين/ات لا أحد يتكلم وفي أحسن الحالات لا أحد يعتبر الموضوع ذا أولوية. 

تكمن  أزمة التحول الديمقراطي في تونس في أن القيم الديمقراطية لم تصبح طاغية في الثقافة الوطنية، أكان بين النخب أو بين المواطنين والنُخب، لو تعلَّقَ الأمر بالمواطنين فقط لقلنا على الأقل أنّ النخب متماسكة ومنضبطة لقواعد اللعبة وتلعب وحدها، كما أنّنا لسنا في حالة شعب ديمقراطي ونُخَب متسلّطة، لم تثر النخب والشعب سواءً بسواء على عدم احترام الحقوق والإجراءات.

ما هو السيناريو الممكن للمستقبل؟

ستُفصَل المسألة قريباً وستُغلَق. سنخرج من وضع استثناء الاستثناء إمّا بمأسسة الديكتاتورية وإمّا بإعادة النظر في المسار عبر حوار وطني يشرف عليه الاتحاد العام التونسي للشغل لإعادة توزيع الأوراق في إطار مفاوضة جماعية داخلية وخارجية. لا توجد حلول أخرى. حتى لو انعقدت انتخابات في ديسبمر القادم فستكون بيعية (plébiscite) كما هو الحال في الاستفتاء على الدستور في 25 من هذا الشهر، والنظام الذي ينتج عنها هو نظام بَيعي. نسمي ذلك ديمقراطية المبايعة (La démocratie plébiscitaire). ثم سنخرج بعدها من الشعبوية الممثّلة في الرّئيس كإحدى تعبيرات الديمقراطيّة البيعيّة إلى نظام تسلطي تنافسي مؤسساتي، أي يسمح بالتنافس الانتخابي وبفسحة من الحريات ولكن يتحكّم في مفاصل الدولة (العدل، الشرطة، وإدارة الانتخابات)، ويصبح كل شيء غير ممكن. 

نظام تسلّطي مؤسّس أو الرجوع إلى الديمقراطية ولا يعني ذلك الرجوع إلى ما قبل 25 جويلية، بل عبر  مفاوضة جماعية كبرى يستخلص الجميع الدروس ممّا حدث قبل 25 جويلية وما بعده، وهو سيناريو ممكن.