طوال سنين كثيرة قادمة، لن يتم إنتاج دراما اجتماعية قاسية تضاهي قسوة التراجيديا السورية المفتوحة. ومهما حاول الكتّاب تقديم دراما ساخنة ملؤها القسوة والعنف، لن يتمكنوا من مجاراة جزء يسير من العنف الذي رافق الثورة السورية. خذ مثالاً ما كُشف عن مجزرة التضامن، وزلزال الآلام الناتج عنه. وكيف فجّرَ مشهد فيديو مروع قلوب ذوي الضحايا، أولئك الذين تعرفوا على أحبائهم بلحظة موتهم المصورة. ولتزيد الصورة قتامةً، قرر النظام إخراج بعض المعتقلين القابعين في سجونه منذ عقد، ونثرهم في شوارع دمشق. أفواه وعيون بانتظار كلمة مع حبيب أو قريب، وآلاف الأجساد المحتشدة تتضرع اللقاء. إذاً؛ أي دراما هي تلك التي تتمكن من محاكاة هذا الواقع والتاريخ الدامي؟ وما هي الحكاية القادرة على إظهار كل هذا العظم السوري المكسور؟
كسر عضم، كيف تروى الحكاية السورية درامياً؟
واحد من أبرز خصال الدراما التلفزيونية، ومخاطرها، هو إمكانية الوصول إلى شرائح واسعة من الجماهير. فعبارة انتشار مسلسل ما، تعني أن هناك ملايينَ قد شاهدت العمل، ورأت الحكاية التي قدمها، وتلقتها، سواء اختلفت معها أو وافقتها. لكن، ومن خصال التلفزيون أيضاً، أنه سريع الزوال ما لم تُكرَّرَ ذات السردية، بأكثر من صيغة وعمل، فهو صناعة فنية آنية، إلا في ما ندر. أحدث الأعمال التلفزيونية الواصلة هو مسلسل كسر عضم من تأليف علي معين صالح، وإخراج رشا شربتجي. انتشر العمل على نطاق واسع على المستوى المحلي السوري، وحقق جلَبة لا بأس بها. علة ذلك الحبكة التشويقية المشدودة التي بُني عليها المسلسل، وتناوله للمؤسسة العسكرية السورية وفسادها المستشري.
قديماً وحديثاً، تُعد سوريا واحدة من أكبر مدارس العربية في الوطن العربي، ورغم بلاء البعث التعليمي، إلا أنه لا يمكن إغفال الأسس المتينة لتعليم اللغة العربية في مدارس سوريا وجامعاتها في زمنه، ومحافظته على الإرث اللغوي العربي، على الرغم من إنتاجه لخطاب لغوي خشبي. من هنا يمكن اعتبار استخدام صناع المسلسل للمفردة العامية «عضم» في العنوان هو محاولة تجديد يقف عندها المرء، لكن ما إن يرى الحكاية، حتى يجد نفسه أمام سيناريو مجتر للحكاية الرسمية السورية، ينتهي بانتصار الضباط الأخيار على الضباط الأشرار، ونهاية سعيدة تبدو بلهاء أمام ما قدمه العمل من نار ودم.
أبناء السلطة وآباؤها
عماد حكاية المسلسل هي علاقة الأب الحكم – يؤدي دوره فايز قزق – والابن ريان، – يؤدي دوره سامر اسماعيل- الأب هو مسؤول نافذ في المنظومة الأمنية، بينما يلعب الابن دور ضابط الجمارك المخلص لعمله. ينفجر صراع أب/ابن من الحلقات الأولى. الأب الفاسد يسعى إلى إخضاع الابن والأخير يجاهد لتحطيم سطوة الأب السلطوية المتناقضة ومبادئه وأخلاقه. لا ريب أن القصة السالفة هي قصة اعتيادية لصراع الأجيال بين الآباء والأبناء، لكن في مقاربتها السورية تعيد للأذهان أحد أعتى الثنائيات في السلطة السياسية في سوريا المعاصرة، وهي ثنائية: «أب، حافظ الأسد وابن بشار الأسد». فهل هذه الثنائية التي قصدها صناع المسلسل؟
بالطبع لا، فالعمل يحمل توجهاً سياسياً شديد الوضوح، ولا مراء فيه. الفاسدون هم حاشية «الملك» بينما الملك بريء وصادق. العمل يقدم ثنائية أب /أبن خيالية، لا مجال لوجودها فعلياً في سوريا زمن البعث، زمن التوريث وتوارث الخراب والفساد. فريان ابن الضابط المتخم بالفساد والأموال المنهوبة، ينتحر في منتصف العمل ليوجه الضربة الأقوى لأبيه، وليوقف تسلسل الفساد والسلطة. هذا الانتحار الذي يخطه الكاتب بسهولة، هو انتحار غير ممكن في علاقة مثل هذه. من أين لابن المسؤول الفاسد، المترعرع في كنف قوى الأمن والجمارك السورية، بهذه القيم والشبكة الأخلاقية! على مدار أربعين عاماً لم نسمع عن ابن مسؤول أو ضابط انتحر ليهرب من فساد أبيه وسلطته، بل على العكس تماماً، شهدنا نماذج فاق فيها الأبناء آباءهم في الفساد والبطش، وقد اشتهرت قصص أبناء وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس، وابن رئيس الوزراء في التسعينات محمود الزعبي، والقصة الأشهر بالطبع، قصة ابن أبيه البار، بشار.
يقدم العمل في بعض حواراته قشوراً تحررية، فيحمّل الأمن مسؤولية خراب البلاد، ويفضح «أو يظن نفسه فاعلاً» سلاسل الفساد المستشرية في سلطة النظام السوري. لكن في اللب، ما هو إلا عمل ينطق بكل مقولات السلطة السياسية الحاكمة في سورية اليوم، وخير دليل على ذلك، هو النهاية التي يتحقق فيها العدل في بلد لم يعرف طعم العدل بعد.
في القول النسوي المهلهل
يقوم المسلسل على العنف، وللنساء النصيب الأوفر منه. يظهر في البداية أن العمل مهموم بتقديم قضية نسوية تحاكي وضع المرأة في سورية اليوم والمخاطر التي تحدق بها. ينطلق العمل من بؤر نسائية مختلفة، منها ما هو مختص بجريمة الشرف وتبعات هذا النوع من الجرائم، وهناك ما يتناول بيوت الهوى في سوريا اليوم وآلية عملها، وشكل حياة بناتها ويومياتهن. بيد أن هذا الطرح يهوى حينما يقدّم إحدى أبطال العمل الأخيار مقولته الفذة، إذ ينفي المسؤولية عن المتحِّرش الفاعل ويحمّلها للفتاة المُتحرَّش بها، بسبب لباسها! هذا الطرح البخس، قد تجاوزته الدراما التلفزيونية السورية منذ الستينات وليس قبل عقد أو عقدين وحسب.
أثناء عرض العمل، ارتفع الصخب حول حقوق النص ولمن تَتْبع، بعد أن هاجم السيناريست السوري فؤاد حميرة شركة كلاكيت المنتجة للعمل واتهمها بسرقة خطوط من نصه حياة مالحة وإضافتها لمسلسل كسر عضم. على الجهة الأخرى، وقع كاتب العمل الشاب علي معين صالح في فخ التبرير على امتداد حلقات العمل، وشرح حلقات عمله عبر منشورات يومية على الفيسبوك محاولاً تفسيرها واحتكار معناها وتأويلها.
لا يمكن البت في قضية حقوق المؤلف، فهي مسألة على غاية من التعقيد، خاصة في أجواء الإنتاج التلفزيوني وفوضاه. لكن في نظرة سريعة على أعمال حميرة السابقة، نجد أنه كان قد كتب عمل للتلفزيون بعنوان رجال تحت الطربوش تم إنتاجه وتقديمه قبل عشرين عاماً تقريباً. وكان من إخراج هشام شربتجي. في مراجعة سريعة للعمل، سيظهر للمشاهد متانة القول النسوي في عمل حميرة ذاك، حينما قدم أنماطاً مختلفة للهيمنة الذكورية في المجتمع السوري، وحاكى قضايا نسائية متنوعة، تنتمي لأكثر من طبقة وسياق، مصوراً المرأة الساعية للاستقلال في مناخ فحولي مغلّف بالثقافة والفنون.
في خضم الانتفاضة الأولى في فلسطين نهاية الثمانينيات، ظهر مقطع فيديو شهير، لمجموعة من جنود الاحتلال الإسرائيلي، تكسر عظم شابين فلسطينيين بالحجارة كانا يرعيان الأغنام في جبال نابلس. المقطع الذي أصبح أيقونة لوحشية المحتل المستمرة، يصور حالة كسر العظم الحاضرة في الحالة السورية، قد لا يكون كسر العظم والموت مباشراً كما هو الحال في فيديو الاحتلال وفيديو المجزرة في التضامن، لكن قد يكون على شكل رسائل وأعمال فنية. أعمال بغلوها ودجلها، كمن يكسرَ عظمَ أخيه وهو حيٌّ يُرزق.