لا تتذكر مها حاج بدقة لحظة الفكرة التي أدت لاحقاً إلى صناعة فيلم حمى المتوسط، فيلمها الروائي الطويل الثاني، والذي فاز بجائزة السيناريو في تظاهرة نظرة ما في مهرجان كان السينمائي، ولكنها تعرف أن ذلك حدث قبل نحو خمس سنوات.

تقول ضاحكةً: «في المرة المقبلة التي أرغب فيها في كتابة فيلم، سأحرص على تسجيل التاريخ والمكان والوقت ومشاعري في اللحظة التي توصّلتُ فيها إلى الفكرة، الآن أعلم أنني سأُسأَل عن ذلك».

نجلس قرب البحر المتوسط، المذكور في عنوان الفيلم، ولكننا في مدينة كان الفرنسية، بعيداً عن حيفا، المدينة التي تدور فيها أحداث الفيلم والتي ما تزال مها تقيم فيها. نتحدث عن فيلمها الجديد وعن الأعمال الأدبية والسينمائية التي تأثّرت بها وعن رؤيتها لفنها وآلية عملها.

يتناول الفيلم صداقةً غير مرجّحة بين رجلين، وليد وجلال، ويؤدي دوريهما باقتدار عامر حليحل وأشرف فرح. بعد استقالته من عمله في القطاع المصرفي، يجلس وليد في منزله محاولاً كتابة رواية، ويذهب بانتظام إلى معالج نفسي ليعالج اكتئابه العميق. أما جلال، الذي يتعرف إلى وليد عندما ينتقل إلى المبنى الذي يسكن فيه، فيبدو منخرطاً فيما يشبه حياة العصابات. المشترك بينهما أنهما يقبعان في المنزل للاهتمام بالأطفال، في حين تعمل زوجة كل منهما وتنفق على عائلتها.

كما هي العادة لدى تلقي فيلم من سينمائيين وسينمائيات من الشرق الأوسط، ومن فلسطين على وجه التحديد، ثمة اندفاع لتفسير الفيلم على نحو سياسي. ويعكس ذلك واقعاً مؤسفاً يولي فيه الكثيرون المسائل السياسية اهتماماً مباشراً أكثر مما يولونه للأعمال الفنية ولمساتها الفكرية، بل والسياسية أيضاً. واجه فيلم حاج الأول أمور شخصية (2016)، الذي يروي قصة عائلة فلسطينية مشتتة بين الناصرة والضفة الغربية وأوروبا، أسئلة مشابهة.

يتضمن حمى المتوسط بالفعل إشارات سياسية مباشرة، وإن بدا أن كثيرين لم يلحظوها. ركّز عدد من المراجعات النقدية الأولى على تناول الفيلم لموضوع الصحة النفسية، وعن سبقه إلى تقديم شخصية رجل عربي يتلقى علاجاً نفسياً. ووصفته مجلة سكرين بأنه «دراما لطيفة عن الاكتئاب وخيارات الحياة». في الوقت نفسه، تصدّر إهداء حاج الفيلم لذكرى الصحفية الفلسطينية القتيلة شيرين أبو عاقلة عناوين الصحافة الإسرائيلية.

إلا أن البعد السياسي للفيلم يكمن في مستوى أعمق، فحسّ اليأس العميق في الفيلم يعكس حالة الشرق الأوسط عام 2022 واستمرار احتلال فلسطين.

تقول مها: «يتناول الفيلم الجو العام الذي نعيش فيه: الشرق الأوسط والاحتلال وانتشار مشاعر الإحباط والتقييد. كل هذا يؤدي إلى اكتئاب شديد».

ثم تتأمل في السؤال: «ما الذي يمثله وليد؟ لعل بإمكان المشاهد قراءته على أنه يجسد اكتئاب أمّة، اكتئاباً جماعياً، لا اكتئاب شخص واحد».

عندما يجلس وليد لكتابة روايته، ولا ينجح في إحراز تقدم فيها، نراه محاطاً بصور كبار شخصيات الأدب الفلسطيني، غسان كنفاني ومحمود درويش وفدوى طوقان وسميح القاسم.

تقول مها: «نجدهم وراءه مباشرة، ينظرون إليه وإلى ما يكتبه، وهو يحلم بأن يكون واحداً منهم، الأمر الذي يؤدي به إلى مزيد من الإحباط والاكتئاب».

يتجلى إحباط وليد واضحاً على امتداد الفيلم، حين يسخر جلال منه لإيلائه اهتماماً مبالغاً فيه لفلسطين ويوم الأرض، وحين يُعرّف المدرّس في مدرسة ابنه القدس بأنها عاصمة إسرائيل، وحين يضطر لتحديد ديانته في استمارة طبية «سجل، ديني فلسطيني»، يقول وليد في عبارة تسمح لنا بالمقارنة بعبارة محمود درويش الشهيرة «سجّل أنا عربي» في قصيدته بطاقة هوية.

بإيماءاتها النشيطة وضحكتها المليئة بالأمل وسلوكها الودود، قد يبدو غريباً أن تهتمّ مها حاج بتناول الاكتئاب. ولكن تميّز الفيلم ونقطة قوته يكمنان في قدرته على إظهار اليأس المجتمعي دون لمسات تزيينية تهدف إلى منح أمل زائف، ودون مباشرة في الطرح.

تقول لي: «لا أرى أي أمل في الأفق بالتأكيد. أتمنى لو كنت أكثر تفاؤلاً بقليل، ولكن من أين آتي بالتفاؤل؟ لا يمكنني أن أكون ساذجة. الصورة القاتمة التي تراها في الفيلم هي رؤيتي لفلسطين والشرق الأوسط عموماً. الأمر محزن حقاً. ليتَني أتمكن من رؤية بارقة أمل ولكنني لا أستطيع».

ويتجلى ذلك في الطريقة التي تختارها لتقديم مدينتها حيفا. تضم حيفا بين سكانها 10 بالمئة من العرب و25 بالمئة من الناطقين بالروسية، ولذلك يُشار إلى حيفا على أنها مدينة التعايش بين العرب واليهود. ولكن حمى المتوسط ناطق بالعربية بأكمله، باستثناء زيارة قصيرة يجريها وليد وابنه لطبيبة يهودية تصفها العائلة، التي تثني الأطفال عن التحدث بالعبرية في المنزل، بأنها «روسيّة».

تقول مها: «أردتُ أن أركّز علينا نحن فقط. لم أرغب في التركيز على التعايش. ولكن الواقع أن المدينة التي تشهد مستوى من التعايش بين اليهود والعرب، هي حقاً حيفا. فحتى عندما حدثت اضطرابات في أيار 2021، لم يتسبّب فيها مواطنون يهود من سكّان حيفا، بل من جاؤوا من مناطق أخرى».

ولكن الفيلم يلقي نظرة أعمق وأطول على حيفا وتاريخها. فعوضاً عن الاحتفاء بمطاعمها البراقة الشهيرة على ساحل البحر، التي تشتهر باختلاط الفلسطينيين واليهود، تريدنا حاج أن نفكر في الحزن العميق المتجذر في المدينة التي فقدت الآلاف من أبنائها الفلسطينيين في النكبة، عام 1948.

يشهد المبنى الذي يسكنه جلال ووليد على هذا التاريخ الطويل.

تقول: «بُني هذا المبنى في العهد العثماني، منذ 150 عاماً، قبل الاحتلال بزمن بعيد. ويفاجئني كثيراً أنه لم يُدَمّر، وظل بجماله وبهائه. اخترتُ هذا المبنى لأحداث الفيلم، وأركز على حي وادي الصليب الذي تسكنه حالياً أغلبية يهودية، والذي طُرِد منه فلسطينيون كثيرون عام 1948، وحلموا بالعودة لزمن طويل».

وتضيف: «أردتُ أن أقدّم حيفا هذه، لا حيفا التعايش، ولا حيفا السياحية بمينائها وأحيائها التي تحتوي أماكن التسلية والترفيه والبارات. صحيح أن حيفا مدينة جميلة ومسلية، ولكنها أيضاً مدينة وليد، مدينتي، مدينتي الحزينة التي يتزايد حزنها على امتداد الفيلم».

ولكن الفيلم لا يقول هذه المقولات بمباشرة. بل كما في أفضل الأعمال الفنية، تبقى رسالة الفيلم الأساسية مخبأة بين السطور، وتنبع من القصة نفسها عضوياً. وليس ذلك مفاجئاً نظراً لآلية عمل مها الفنية، فهي، مثل رواة القصص المهرة، انطلقت في صياغة فيلمها من القصة نفسها، لا من رسالة أو مقولة مُقرَّرة مسبقاً.

يبدو واضحاً أن حاج سئمت السؤال عن سبب تركيز الفيلم على رَجُلَين، إذ بدت مسرورة حين سألتُها عن الزوجتَين في الفيلم، اللتين، وإن كانتا لا تظهران على الشاشة كثيراً، تحتلان مساحةً مهمة من قصة الفيلم، باعتبارهما المُعيلتين اللتين تمكنان عائلتيهما من الاستمرار في الحياة.

تقول: «يسألونني لِمَ صنعتُ فيلماً عن رجلَين؟ وما المانع؟ ألأنني امرأة، لا يمكنني صناعة فيلم عن الرجال؟»

في معرض الحديث عن وليد وجلال، تقول: «إنهما شخصيتان فريدتان جداً، فهما ليسا رجلَين ذكوريّين، وإن كان جلال يبدو منطلقاً ومنمّقاً، ويخوض علاقة خارج إطار زواجه. إنهما بالغا الهشاشة والحساسية، ويمكن كسرهما بسهولة».

من فيلم حمى المتوسط

خيالات جامحة وعائلة شيوعية

نتحدث أيضاً عن خلفيتها.

تقول لي مها: «تأثرتُ بكل ما قرأت، من الأدب العربي والإنجليزي والفرنسي والروسي والفارسي. تشرّبتُ هذه الثقافات الرائعة كلها، وحين أكتب، يسكنني ما قرأت وأكتب انطلاقاً من ثراء هذه الثقافات، فالكتابة لا تأتي من فراغ».

وعن الأعمال السينمائية التي تأثرت بها تقول: «أعشق الأفلام الإيرانية، وأحد أفلامي المفضلة هو فيلم انفصال لأصغر فرهادي، فهو تحفة فنية لمختلف الأزمان، وبطبيعة الحال أحب أعمال كياروستامي أيضاً. أحب السينما الفرنسية والسينما اليابانية والأخوين كوهن وإيليا سليمان – عملتُ معه في تجربتي الأولى، حيث كنتُ مديرة موقع في فيلم الزمن المتبقي – وروي أندرسون وإنغمار برغمان».

وتؤكد حاج أنها لا تؤمن بالأفكار القديمة حول «الفن الملتزم»: «لا أعتقد أنني أدين لبلادي بشيء أو أحمل مسؤولية خاصة تجاهها لأنني فنانة، فما هكذا يُصنَع الفن».

وتضيف: «فلنكن صادقين. حين يكتب الفنان، يكتب لنفسه. ولا أعتقد أن البلبل يغني لأنه يريد إسماع غيره من الطيور! بل يغني لأن هذا هدفه في الحياة».

وتتابع: «حين أقرر كتابة سيناريو، سأكتبه حتى إذا كنتُ أعلم أنني لن أجد منتجاً واحداً في العالم لإنتاجه، فهذا هو شغفي».

في الوقت نفسه، لا يصعب تبيّن خلفية مها حاج الأدبية والاجتماعية، الناتجة عن البيئة التي ترعرعت فيها، حيث وُلِدت مها ابنة لعائلة من الناشطين الاشتراكيين في الناصرة، معقل الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وترعرعت في بيئة شاعت فيها التوجهات الماركسية الأممية، والتي تركز على حب الفن ومكانته في الحياة الإنسانية.

لقطة من الحوار

تقول لي: «لم أدرس كتابة السيناريو في أكاديمية سينمائية. ولكن، كما يقول وليد في الفيلم، لدي خيالات جامحة. أعتقد أن السبب هو أن أمي كانت تقرأ لي الكتب والقصص منذ كنتُ في الثانية من عمري. رغم ذلك، بدأتُ العمل في هذا المجال متأخرةً، فقد صنعتُ فيلمي الأول وأنا في الخامسة والأربعين».

وفي معرض الحديث عن أمها، تقول حاج: «كانت قارئة للأدب الروسي الشيوعي. مع الأسف، توفي والدي قبل أن يتمكن من مشاهدة أمور شخصية. أنتمي لعائلة ليست شيوعية فحسب – وإن كانت اليوم أقل شيوعيةً مما سبق – بل ومسيّسة ووطنية جداً أيضاً. هكذا نما لدي حب فلسطين وفهمي لها وشغفي بها وانتمائي لشعبها. كان ذلك كله جزءاً من تربيتي». 

تنتمي مها إلى جيل من الفلسطينيين من حاملي الجنسية الإسرائيلية، الفخورين بهويتهم الفلسطينية، ممن بذلوا جهداً جباراً لترسيخها، ويرفض بعض المخرجين من هذا الجيل صناعة أفلام من إنتاج إسرائيلي أو بتمويل مؤسسات إسرائيلية. طيلة سنوات حكومة نتنياهو الطويلة، زادت وزارة الثقافة الإسرائيلية الأمر صعوبة بفرضها الرقابة السياسية وحَدِّها من المحتوى الفلسطيني في الأفلام التي تدعمها. تطرّق فيلمان إسرائيليان نجحا في مهرجان كان إلى هذا الواقع الصعب. يروي فيلم رُكبة أحد لناداف لابيد، الذي فاز مناصفة بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، قصة سينمائي إسرائيلي يواجه صعوبات كبيرة مع المؤسسات الثقافية الإسرئيلية، وفي تظاهرة نظرة ما، رفض الممثلون والفنيون الفلسطينيون الذين شاركوا في فيلم فيلكن الصباح لإيران كوليرين، المقتبس عن قصة لسيد قشوع، السير على السجادة الحمراء المخصصة لعرض الفيلم في مهرجان كان احتجاجاً على تصنيف المهرجان للفيلم على أنه فيلم إسرائيلي، حيث رشّحت إسرائيل الفيلم لنيل جائزة الأوسكار العام الماضي. 

كان فيلم حاج الأول من إنتاج إسرائيلي، ولكنها توضح أنها لم تكن تفضل ذلك، وتقول إنه لم يكن أمامها خيار آخر. فاز الفيلم بالجائزة الأولى في مهرجان حيفا السينمائي. وبشأن هويتها، تعلن مها بوضوح: «أعرّف نفسي بأنني من فلسطين، لا من عرب إسرائيل. ما معنى هذه العبارة أصلاً؟»

الآن، بمساعدة التمويل الدولي، تمكنت من بناء ديكور الفيلم في حيفا بإنتاج فلسطيني، وهكذا سُجِّل اسم فلسطين بجانب الفيلم بكل فخر، باعتبارها الدولة الوحيدة المنتجة للفيلم، في مهرجان كان.

تروي مها حكاية إنتاج الفيلم: «بدأت الرحلة بلقائي بمُنتِجَين فرنسيين هما جولييت لوبوتر وبيير مناحيم، في مهرجان روتردام للسينما في هولندا. عرضتُ عليهما الفكرة بصحبة المنتج الفلسطيني باهر أغبرية. أُعجِبا بالفكرة، وعدتُ إلى فلسطين وبدأتُ بكتابة الفيلم وتطويره».

وتمكّنت حاج لاحقاً من الحصول على دعم من منتجين من ألمانيا وقبرص وقطر، وهكذا أصبح فيلمها الفلسطيني دولياً.

تبدو مها كأنها لا تعرف التعب، فهي تفكر في مشروعها المقبل منذ الآن، إذ تقول: «لدي فكرة فيلم أرغب في كتابته، بل وأتوق لبدء العمل!» لا يمكنها أن تخبرنا بالكثير الآن، ولكنها كشفت أن الفيلم «سيُصوّر بين فلسطين وألمانيا».

أما في المستقبل، فهي تسعى للتعاون مع جهات عربية وأوروبية وستتابع العمل بأسلوبها الفني.

تقول: «يصعب جداً كسب القوت اليومي من هذا النوع من الأفلام. وأحياناً نُضطَر إلى صناعة مشاريع نحن أقل إعجاباً بها، ولكن إن كان في إمكاني صناعة فيلم كل أربع سنوات، فأنا راضية».
رغم النَّفَس المأساوي الذي يعم فيلمها حمى المتوسط، تمنحنا حاج الأمل بقوة السينما العربية والفلسطينية المستمرة في الإنتاج.