أرسلت لنا السيدة شيماء، وهي لاجئة سورية في ألمانيا، رسالة تخجل منها وتعتقد أنها سخيفة جداً:«عزيزتي يمام، دُعيت عند جيراني الألمان على عشاء وكان أحد المدعوين، صديق للعائلة من فرنسا، قد زار القدس حديثاً وجلب معه أكياس زعتر كهدايا. بقي الرجل يشرح لي ساعة كاملة عن كيف يُصنع الزعتر ويعارض فكرتي بأن الزعتر هو تشكيلة مادتها الأساسية الزعتر البري ولكن لها تنويعاتها وتوصيفاتها المتعددة بحسب المكان وتقاليد صنعه. الموقف شديد السخافة ولا يستحق كمية الغضب التي انتابتني. كنت أرغب بسكب صحن الزيت وثم الزعتر على رأسه. شو القصة؟ هل بدأت معي عوارض البارانويا التي أصابت معظم نساء عائلتي بعد سن معينة؟»
مرحبا شيماء. الحقيقة ظاهر القصة سخيف وما بيستاهل ولكن باللحظة اللي بيتحسي بمشاعر سلبية معناها في شي بيستاهل. في 3 أشياء صاروا معك أو 3 مستويات من العنف بهالمشهد العادي كتير. 3 مستويات بدون ما نحكي عن أنو الموضوع متعلق بالأكل وسحب السلطة المعنوية منك على شي حميمي وبيخصك وبيخص أمك وذكرياتك الأولى وطفولتك وبلدك. بسبب خساراتك الكثيرة صرتي تحسي أنو شي من الاستباحة أنو يخسّروكي حتى نقاط العلّام هي.
ما عدا هيك، في اللي ممكن نسميّه بعاميتنا السورية الشرح الزلومي، من الإنكليزي Mansplaining. أهم عَرَض بهالظاهرة هو إصابة مؤقتة للرجل الشارح بالطَرَش، تستمر لدقائق، بسبب «البرطعة» بالسلطة، ما في كلمة معبّرة أكثر من من هي الكلمة العامية: برطعة، التمكّن من السلطة بدون أي قلق أو تشكيك، وشعور مستفز وغبي بالاستحقاق الكامل والثقة الثابتة أنو يشرحلك كل شي حتى البديهيات، حتى لو بيعرف إنك بتعرفي الكتلة النوعية للزعتر والاسم اللاتيني واستخدامات القدماء للزعتر والكيمياء العضوية للزيت تبع الزعتر، لازم يطرش عن ملاحظاتك ليقول اللي عنده وعيونو سارحة بعيد. أنت مجرد «وعاء» (آسفة أنو الصورة البيانية بتذكرك بشي ثاني) بيكب فيه أفكاره القيّمة. أثناء حديثه ممكن تحاولي تداخلي 3 أربع خمس مرات عن المناطق المتوسطية اللي فيها تنويعات بين الزعتر والمردكوش، أو أنو الوصفة الأردنية من الزعتر غير اللبنانية، بس هو مو هون، في حالة هيام ووَجد مع الشي اللي عم يقوله. بيجوز يفيق بآخر كلمة من جملتك وقت قلتي «أردن» ويقلك:«آه كنتي بالأردن؟ زرتي البتراء؟» طبعاً لأنو من الطبيعي أنو أنتي غير متسقة وبتنطي من حديث لحديث بدون اتساق ومو قادرة تتبعي محاضرتو عن الزعتر وتكون نطت أفكارك لرحلة للأردن. ممكن تكوني صاحبة خط ترند من منتجات الزعتر التجميلية أو كاتبة كتاب عن التاريخ الاجتماعي والاستعماري للزعتر، وتحاولي تدحشي جملتين عن الموضوع، هو مو هون عيونو لساها زايغة وبيجوز يقلك «بتعرفي في ماركة من الزعتر فهمِت تماماً الإمكانية الاقتصادية لهالمادة»، ماركتك نفسها! بتقوليلو «إيه بعرفها، هي ما…..، مار…..، مااااااركت……، ماااااااركتيييييييي…» سمعك؟ برافو. هون بيفيق من الزوغان، بيجوز، بس بيسخّف الموضوع. قبل ثواني كان الموضوع مهم كثير بس هلأ صار عادي..
عم بالغ؟ كاريكاتور؟ بعض الأخوة القرّاء أكيد عم يقولوا كاريكاتور.
بالواقع يا شيماء أول وحدة كانت وراء هالمصطلح، الـ Mansplaining، كاتبة أميركية اسمها ريبيكا سولنيت، صاحبة مقال شهير بعنوان «هؤلاء الرجال الذين يشرحون لي الحياة» (Men explain things to me)، شرحت بشكل مفصل أنو هاد التفصيل الصغير اللي بيشبه حادثة الزعتر واللي خلتك تحبي تكبي الزيت على راس الزلمة هي نقطة صغيرة ولكن أصيلة ومهمة بأرخبيل العنف الموجه للمرأة وقت ما تكون مسموعة، هو أصل أنو شهادتها غير مسموعة، هو أصل أنو شهادتها عن عنف زوجها ما انسمعت أول مرة والثانية والثالثة وماتت قبل ما تدلي بالرابعة. بالمقال هاد بتقول الكاتبة شي غريب، بتقول أنو ما حدا رضي يسمع تحذيرات كولين روولي، موظفة بالـ FBI حول منظمة القاعدة، تحذيرات أولى، ويمكن هاد «الطَرَش» غيّر سياسات الولايات المتحدة الخارجية بشكل دراماتيكي…. هاد الطَرَش وكون النساء مو مسموعات مو سخيف أبداً.
المستوى الثاني اللي أغضبك بجلسة الزعتر هو whitesplaining أو «الشرح الأبيض»، إحساس هالزلمة بالاستحقاق الكبير والثقة التي لا تهتز أنو يشرحلك عن ثقافتك وعن أكلك لأنو متمثّل شي غير واعي هوي أنو هو مواطن عالمي مطلّع على كل شي وعندو إمكانية السفر والانفتاح على العالم وكوزموبوليتي، بس أنتي مستحيل تكوني شرعية بالحديث عن أكلة فرنسية شعبية مثلاً من ثقافتو إلو، هاد تاريخ من أدبيات السفر والاستقرار بالأنثروبولوجيا والشعور بشرعية أنو ينتجوا معرفة عن الآخرين ويعطوهم دروس عن حالهم. (بين قوسين في ناس من طبقات معينة منا بيعملوا نفس الشي، بيعتبروا مستحيل الناس تصير كوزموبوليتية، بس هنن)
المهم، منرجع للمستوى الثالث من العنف اللي خلاكي تطلعي عن طورك، هو الاحتلال الثقافي الإسرائيلي للزعتر، لوصفات من ثقافتنا الأكلية وإسباغ الشرعية على هالاحتلال من العالم كلو بدون مُساءَلة. عادي، متل الجارة اللي بتعلميها الوصفة وبعد شهر بتجي بتعلمك ياها.
شو تعملي منشان تكوني مسموعة؟ هاد مسار حياة يا شيماء بتتقلع سنان فيه، بس برأيي في تفاصيل صغيرة ممكن تعمليها إذا ما كنتي ساءلة عن الكياسة مع هالأشخاص بمعنى أنو ما في رهانات حياتية معهم، مع هالأشخاص اللي بتزوغ عيونهم هياماً باللي عم يقولوه. مثلاً : فيكي تردي عليه متل كأنك عم تعملي لعبة الببغاء أو الكاروكيه، تعيدي آخر كلمة عم يقولها أو تحكي معو بصوت واطي نفس اللي عم يقوله، ممكن تحكي بصوت غير مسموع، بس تحريك شفايف، منشان يفيق ويحاول يقرّب ويسمع. ما تصرخي وتعللي صوتك، هو متعود على هالمحاولات «الهيستيرية»، لازم تغيير التكتيك، لازم شي ثاني مو مشروط فيه، ممكن إذا كنتي جدية وحابة فعلاً تكوني مسموعة لأنو في طائل من الحديث، تحاولي تثبتي صوتك على مستوى القرار، ما تخليه حاد ومنفعل، أو…. ممكن هو عم يحكي عن موسوعة الزعتر تجاوبي عن صيد الفِيَلة التعسفي بأفريقيا، بركي بيفيق…
بانتظار انو نصير مسموعات، اسمعيلي هالمقطوعة الموسيقية واللي هي شكوى نسائية مغنّاة بأصوات رجال، بس جميلة والحق يقال…