يُفترض أن يكون لكل سوريٍّ لاجئ بيتٌ في سوريا هُجِّر أو أُخرج منه، ويمكنه العودة إليه متى توفرت ظروفٌ مناسبةٌ للعودة. لكن واقع الحال ليس كذلك بفعل عوامل عدة أهمها الدمار الهائل الذي لحق بالمدن والبلدات والقرى السورية، وأيضاً بفعل الزيادة العددية الطبيعية للاجئين خارج سوريا، والناتجة عن استمرار نشوء علاقات الزواج وتكوين عائلاتٍ وولاداتٍ لم تكن يوماً في سوريا. ولأنّ النمو العمراني بشكله الطبيعي في سوريا أُصيب بالجمود نتيجة سياسات النظام الاقتصادية والعسكرية، التي دمرت الاقتصاد السوري وشلّت قدرة التعافي العمراني الذاتي للمجتمع، كانت النتيجة أن سوريا بوضعها الحالي غير جاهزةٍ لاستقبال أعدادٍ كبيرةٍ من اللاجئين الذين قد يفكرون بالعودة، أو تدفعهم للعودة سياساتُ ترحيلٍ قسرية من بلدان لجوئهم على شكل دفعاتٍ كبيرة وفي زمنٍ قصيرٍ نسبياً.

لكي يعود إلى سوريا، يحتاج اللاجئ السوري عوامل أمنية واقتصادية، لكنّ توفر المسكن من أهم الشروط الأساسية للعودة. قد يمكن لعمليات إعادة الإعمار والترميم، بالإضافة لاستئناف النمو العمراني الطبيعي عبر مشاريع الإسكان المتوافقة مع الزيادة السكانية، أن تؤمّن متطلب المسكن اللازم للعودة. هذا ونتحدث هنا في العموم، ومع افتراض وجود ظروفٍ سياسيةٍ مناسبةٍ للعودة، وهي ما لم تتوفر حتى الآن. ما لدينا في الواقع هي مناطق سورية منفصلة (دواخل)، لكلٍّ منها ظروفٌ مختلفةٌ وإمكانياتٌ وشروطُ عودة لاجئين خاصة (مناطق سيطرة النظام، مناطق سيطرة الجيش الوطني، مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، الجولان).

نظرياً، للمناطق التي يسيطر عليها النظام قدرةٌ أكبر على استقبال اللاجئين العائدين من خارج سوريا، بحكم فرق المساحة الكبير بالمقارنة مع بقية المناطق الخارجة عن سيطرته، لأن ما يسيطر عليه النظام من مساحات يحتوي على أهم المراكز الحضرية  السورية والتجمعات المدنية الكبرى. لكن، في الواقع، تمتلك المناطق الخارجة عن سيطرته قدرة أكبر على استقبال اللاجئين السوريين وإسكانهم، وذلك لعدم وجود عوائق سياسية-أمنية تفرضها السلطة القائمة على عموم الناس للعودة بالمقارنة مع مناطق سيطرة النظام، بل يمكن قول إن عودة اللاجئين متاحةٌ بشكلٍ شبه حصري في المناطق الخارجة عن سلطة النظام، وخاصةً في مناطق الشمال الخاضعة للسيطرة التركية. لا ترفض هذه المنطقة عودة اللاجئين السوريين إليها ولا تمنعها (بل ويوجد فيها لاجئون عراقيون)؛ لكنها لا توفّر، في الوقت الحالي، شروط العودة الأمنية والاقتصادية. ورغم أنها أصبحت منطقة آمنة نسبياً من هجمات النظام الجوية والمدفعية في السنة الأخيرة، إلا أنها ليست آمنة بالشكل الذي يسمح بتحوّلها إلى منطقة جذبٍ للسوريين خارج سوريا للإقامة فيها، بالإضافة إلى كونها ممثلة سياسياً من قبل جهات غير مُعترَفٍ بها في الأمم المتحدة كسلطة شرعية.

إذاً، مع غياب الشروط الأمنية والاقتصادية، وبانتفاء الجهة الحاكمة المعترف بها أممياً، لا تحقق مناطق الشمال الخارجة عن سيطرة النظام في وضعها الراهن معاييرَ السلامة التي قد تسمح لدول اللجوء السوري أن تعتبرها فعلاً منطقةً آمنةً يمكن التخطيط لإرسال السوريين إليها، عدا ما تنويه تركيا في هذا الخصوص.

وينبغي قبل أيّ شيء توضيح نقطة مهمة، وهي أن عملية إسكان السوريين داخل سوريا لا يمكن أن تسمى عودة  لاجئين، بل تحمل معنىً تقنياً: إسكان سوريين داخل سوريا. وهذه حالة غير طبيعية وتحتاج إجراءاتٍ استثنائيةً لتأمين إمكانية تحقيقها، مثل مشاريع الإسكان الكبيرة، وذلك لأن المنطقة بما هو متوفر فيها حالياً غير قادرةٍ على استيعاب أعدادٍ كبيرةٍ من اللاجئين. وهي تحتوي في الأصل على مئات المخيمات التي مازالت تنتظر عمليات إعادة إسكان قاطنيها في بيوتٍ اسمنتية.

وفي حين تتشارك جميع دول الجوار السوري الرغبةَ بإعادة اللاجئين السوريين الموجودين على أراضيها إلى سوريا، تنفرد تركيا بالتخطيط لعملية الإعادة، وذلك عبر الإعلان عن خُططٍ لمشاريع إسكان تستوعب أعداداً كبيرة (مليون وأكثر) من السوريين الموجودين على أراضيها. ومن غير الواضح بعد من هم المستهدفون -بالدرجة الأولى- من الخطة التركية لإعادتهم إلى سوريا، عدا تفاصيل نشرتها صحف تركية غير رسمية عن خطةٍ من ثمان مراحل، وتُظهر استهداف السوريين المقيمين في المدن التركية الكبرى. ورغم عدم رسميةِ هذا التوجه، إلا إن عمليات الترحيل القسرية والمتصاعدة للسوريين من المدن الكبرى، لا من المخيمات على الحدود التركية، قد تُنبئ برسمية هذا التوجه. 

ومن الجلي أن الخطة التركية، بما تَعِدُ به من مشاريع إسكانية ضخمة، لا تستهدف السوريين المنحدرين من الشمال المحرر لإعادتهم، بل اللاجئين السوريين من مناطق سورية أخرى تقع تحت سيطرة النظام. ومن المستبعد أن تستهدف الخطةُ اللاجئين السوريين الذي ينحدرون من المناطق التي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، أو ربما ستهدف إلى توطين عددٍ منهم في المنطقة المسيطر عليها خلال عملية «نبع السلام»  في محافظتي الرقة والحسكة.

من المؤكد أن عمليات الإسكان هذه لن تكون اعتباطية، وستخضع لاعتباراتٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ تركية غير معروفةٍ بعد. ولكن قد يكون واقع الحال في المجمّعات السكنية التي شُيّدت حتى الآن، وتم الاستيلاء على حصصٍ كبيرةٍ منها لصالح عوائل المقاتلين في الجيش الوطني بمختلف التشكيلات التي تتبع له، والذي يتبع بدوره لتركيا، مفيداً للتنبؤ بها.

تعريف بالخطة التركية

صدرت التصريحات الرسمية التي أخبرتنا بالخطة التركية لإعادة مليون من اللاجئين السوريين الذي يعيشون في تركيا إلى الداخل السوري «طوعاً» عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ووفق تصريحه، تهدف هذه الخطة لبناء مجمعاتٍ سكنيةٍ في 13 منطقة داخل سوريا، تضم 200 ألف وحدةٍ سكنية، تمّ فعلياً تشييد 60 ألفٍ منها بواسطة منظمات تركية ودولية، عملت بالتنسيق مع المجالس المحلية السورية في المناطق  الخاضعة للنفوذ التركي.

لكنّ هناك ما هو مختلفٌ في تصريحاتٍ صدرت عن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو من داخل سوريا، أثناء حفل افتتاح وحداتٍ سكنيةٍ شُيّدت في مخيم الكمونة قرب الحدود التركية، حيث قال إن هناك خطة لبناء 100 ألف وحدة سكنية، تم تشييد حوالي 60 ألف منها. ويبدو، بحكم أن المستفيدين من هذه المساكن هم من سكان المخيمات داخل سوريا، أنّه لا علاقة بين الرقمين 100 ألف و200 ألف وحدة سكنية في كلا التصريحين، وكذلك لا علاقة لتصريح صويلو بخطة إعادة المليون من تركيا التي تحدث عنها أردوغان. إنّ إعادة مليون لاجئ تتطلّب ما هو أكثر من 100 ألف وحدة سكنية، وقد تتطلب ضعف هذا العدد أو أكثر، ذلك على اعتبار أن متوسط عدد أفراد العائلة المستفيدة هو 5 أشخاص.

ربما تريد تركيا من هذا الخلط في التصريحات بين الوحدات السكنية التي استفاد منها النازحون داخل سوريا، ومشروع وحدات سكنية يستفيد منها مليون لاجئ سوري في تركيا، أن تعطي انطباعاً بأن ما تبنيه أو تشرف على بنائه يستفيدُ منه سوريون موجودون في سوريا وسوريون تركوا تركيا طوعاً، خاصةً أن الإعلان عن خطة إعادة المليون ترافقت مع تصريحٍ بأن الأمان الذي فرضته تركيا في الشمال السوري «قد أدى إلى عودة مئات الآلاف من السوريين إلى الداخل السوري حتى الآن».

ركّزت التصريحات الرسمية ووسائل الإعلام التركية، التي تولّت نشر تفاصيل حول هذه الخطة، على أن هذه المجمّعات ستُجهّز ببنيةٍ تحتيةٍ تقوم عليها مشاريع اقتصادية تؤمّن فرص عملٍ تحقّقُ اكتفاءً اقتصادياً يضمن بقاء اللاجئين فيها، ويضمن بالذات عدم حاجتهم لمغادرتها طلباً للعمل في تركيا. وقد فتحَ عدم وضوح تفاصيل الخطة التركية وتقديرات وسائل الإعلام التركية باب التكهنات عند السوريين؛ كان أبرزها توقّع أن تقوم تركيا بعملٍ عسكريٍّ -أو أكثر- لاستعادة مناطق تضمن عودة المليون لاجئ الذين تحدث عنهم أردوغان. والمقصود هنا ما يُسمى بحدود اتفاق أستانة، والتي تشمل مدن الأوتوستراد من مورك حتى سراقب،  ومناطق أخرى في الريف الحلبي: مثل منبج، وحتى مدينة حلب نفسها. وهذه التكهنات وجدت ما يعززها في الإعلان الرسمي التركي الذي تحدّثَ عن نية شنِّ عمليةٍ عسكريةٍ على تل رفعت ومنبج لطرد قوات سوريا الديمقراطية منها.

«توكي»

ذكرت وسائل الإعلام التركية التي نشرت تفاصيل حول خطة الإسكان التركية داخل سوريا أن إدارة الإسكان الجماعي التركية (Toplu konut idaresi، والمعروفة اختصاراً بـTOKI) ستشارك لأول مرة في عمليات البناء داخل مناطق النفوذ التركي في سوريا، ووفق نمطها المشهور في تشييد المجمعات السكنية. ويتوافق هذا مع التصريحات التركية الرسمية عن شكل هذه المجمعات السكنية، وعن توفير كافة الخدمات في المجمعات السكنية للمستفيدين منها، من محلاتٍ تجاريةٍ ومشافٍ وملاعب وحدائق وأفران وغيرها.

و«توكي» هي إدارة مرتبطة بوزارة البيئة والتخطيط الحضري التركية، تتركز مهمتها على الإسكان الجماعي بأسعارٍ مقبولةٍ ومُقسّطة للأسر محدودة الدخل. وقد أصبح اسم الإدارة نمطاً شائعاً للبناء في تركيا نتيجة تشابه المجمّعات التي تبنيها في الخطوط التصميمة والألوان وطريقة تخطيط المجمعات والتخطيط الداخلي للشقق وبناء مرافق الخدمات العامة.

صدى الخطة التركية بين السوريين في الداخل

تتنوع آراء الناس في الشمال السوري المحرر، حيث مكان تنفيذ الخطة التركية لإعادة مليون لاجئ، لكن تغلبُ على هذه الآراء النظرة السلبية والإحباط، وذلك حتى لدى المؤيدين للخطة. يمكن تفحّص آراء الناس على عدة مستويات: أولها المستوى المتعلق بآمال عودة المُهجّرين إلى بيوتهم الأصلية في مدنهم وبلداتهم وأحيائهم التي نزحوا منها؛ وتأثير هذه الخطة على التطبيع مع الوضع الراهن؛ ومستوى الأحوال المادية والمعيشية في الشمال السوري. تتنوع الآراء بخصوص الأثر الاقتصادي لهكذا عملية بين التخوف من مزاحمة «المليون العائدين طوعاً» على فرص العمل الشحيحة في الداخل السوري، الأمر الذي تبدده -بشكلٍ مؤقت- ما تَعِدُ به هذه المشاريع من فرص عملٍ في عمليات البناء الضخمة، وما قد يرافقه من مشاريع اقتصادية كالمدن الصناعية، وما يمكن أن يعود من رؤوس الأموال السورية العاملة في تركيا إلى الداخل، ومساهمتها في إنعاش الحياة الاقتصادية. يتوفر في مناطق الشمال الواقعة تحت السلطة التركية فائضٌ كبيرٌ من الكوادر البشرية اللازمة من عمالةٍ ماهرةٍ وأصحاب حرف ومهندسين ذوي خبرة في كل مجالات البناء، وهي الكوادر ذاتها التي نفّذت كل مشاريع بناء المجمعات السكنية البديلة للمخيمات، والتي اقتصر الدور التركي الحكومي وغير الحكومي فيها على الإشراف عن بعد، وبدون وجود عمالة تركية. لكن من غير المعروف بعد إذا ما سيتم إدخال عمالةٍ تركيةٍ لتنفيذ عمليات البناء أم ستبقى للعمالة السورية، والتي يعتبر تدني أجورها بالمقارنة مع العمالة التركية ميزةً جاذبةً لشركات البناء.

نجد أيضاً أصحاب العقارات المتخوفين من أن تُنقِص هذه المشاريع من الطلب على شراء أو استئجار عقاراتهم، التي عملوا منذ سنوات على بنائها لتلبية الطلب الكبير على البيوت بعد موجات النزوح الهائلة مع كل عمليةٍ عسكريةٍ للنظام. بالإضافة إلى ما سبق، هناك مخاوف من أن تكون هذه المشاريع بوابةَ ترحيلِ سوريين من تركيا، والتي يشكل عملهم فيها وتحويلاتهم المالية منها مصدر دخلِ رئيسي لأهاليهم داخل سوريا.

عند الكلام عن رأي الناس يمكن ملاحظة عاملين لا يستهان بهما ولا ينبغي إغفالهما في نظرة سكان الشمال، وخاصةً المُهجّرين منهم، لمشاريع الإسكان هذه بشكل عام رغم كل مخاوفهم منها. العامل الأول هو الأمان الذي تولّده فكرة بناء مشاريع الإسكان الضخمة، من باب أن هذه المشاريع ما كان ليُخطَّط لها، وهذه الأموال ما كانت لتُرصد لصرفها، لولا أن الجهات القائمة عليها قد حصلت على ضماناتٍ بأنها لن تتعرض لتهديد النظام.  وهذه وجهة نظرٍ مبنية على مبدأ أن منطقةً آمنةً داخل سوريا، على الحدود مع تركيا، هي حاجةٌ تركية، ولذلك فهي حريصةٌ على إنشائها وضمان استمرار وجودها لتحمي بها نفسها من كل التهديدات الصادرة من سوريا، أكان من ميليشيات كردية أم إيرانية. وبالتالي فإن عليها أن تحمي هذه «المنطقة الآمنة» من تهديدات النظام وحلفائه، وهذا ما ثبت  نجاحه حتى الآن في المناطق التي سيطرت عليها تركيا وسلمت إدارتها للجيش الوطني والمجالس المحلية عقب عملياتها العسكرية الثلاث داخل سوريا (درع الفرات، وغصن الزيتون، ونبع السلام). في هذه المناطق الثلاث نجد حمايةً مختلفةً عن المنطقة التي تخضع لسيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب، والتي تتعرض لغاراتٍ جويةٍ روسية وقصفٍ مدفعي من قبل النظام والميليشيات الإيرانية باستمرار، هذا رغم أنّ حجم الوجود العسكري التركي في إدلب لا يختلف عن حجمه في باقي مناطق سيطرتها في سوريا. 

العامل الثاني نجد فيه عكس ما هو شائع ومتداول من التخوفات حول أن تكون هذه المشاريع بوابةً لتثبيت الواقع الراهن للمهجرين؛ إذ يرى كثيرون أنّ منع تثبيت الواقع الراهن إنما يحصل بواسطة الزيادة السكانية، حيث تؤمّن هذه المشاريع استمرار الزيادة العددية عبر تسهيل تأمين المسكن اللازم للزواج والإنجاب. منطلق هذه الفكرة هو أن واقع الحال الذي فرضه النظام هو القتل والتهجير، ولذلك يكون التعويض بالولادات والإعمار لحفظ سلامةٍ عدديةٍ  للجماعة التي نال منها القتل أولاً، ثم التهجير، ريثما تتغيّر الأحوال.

من المحتمل أن تقوم «العودة الطوعية» التي تروج لها الحكومة التركية على فكرة فتح باب التسجيل للسوريين في تركيا على المساكن في سوريا، الأمر الذي لا شك بأنه سيدفع عدداً ليس بقليل من السوريين المقيمين في تركيا في ظروفٍ صعبةٍ للعودة إلى الأراضي السورية للحصول على منزلٍ مجاني، وبهذا يُموَّه طابع الإعادة القسرية المُتضمَّن في هذه العمليات.

الخطة التركية والوضع الراهن

يمكننا ملاحظة بعض المظاهر التحضيرية لعمليات البناء الضخمة التي تعد بها تركيا بالشراكة مع منظماتٍ دوليةٍ من خلال مراقبة زيادة إعلانات التوظيف، خاصةً للاختصاصات المتعلقة بالعمل في البناء (مهندسين مدنيين ومعماريين ومساعدين فنيين) لدى شركات التعهدات في الشمال السوري. إذ تعمل هذه الشركات على تقوية كوادرها الفنية والتجهّز لحجز مكانٍ مهمٍّ في عمليات البناء. لكن لا يوجد حتى الآن ما يوحي بزيادةٍ غير عادية في أعمال المشاريع الإسكانية (مشاريع بناء مخيمات)، كما أن عدداً من المشاريع التي توقفت أعمالها بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء إثر الغزو الروسي لأوكرانيا مازالت على حالها؛ لم تتقدم ولم تتلقَ دعماً مالياً يُعينها على استئناف الأعمال أو استكمالها.

من الواجب ذكره أنّ نظرةً شاملةً لكامل مشاريع إسكان النازحين في الشمال متعذرةٌ حتى على من يعمل في  مجال الإسكان، وذلك لكثرة المنظمات العاملة في هذا المجال ولتنوّع مشاريعها التي لا توجد جهةٌ رسميةٌ تنظّمها. وعليه فإن وجود دليلٍ شاملٍ لكامل مشاريع الإسكان في الشمال السوري، يُحدَّثُ سنوياً ويغطي كافة التجمعات السكنية ويقدم معلوماتٍ كاملةً عن هذه المجمعات، هو حاجةٌ مهمة، وإنْ كانت تقتضي وجود جهةٍ رسميةٍ تتولى مهمة إصداره، مثل نقابة المهندسين.

جهات التنفيذ

يوجد في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام العديد من متعهّدي البناء، وأيضاً شركات التعمير، ولكنها في المجمل حديثةُ النشأة وقليلةُ الخبرة وضعيفةٌ على مستوى المعدات والكوادر. ولكنّ نوعَ أعمال البناء المنتشرة في الشمال، ببساطتها، ملائمةٌ لمستوى هذه الشركات. تستطيع هذه الشركات تنفيذ أعمال بناءٍ ضخمة (بسيطة في تفاصيلها الإنشائية) لكنها، بسبب آلياتها القديمة، تحتاج إلى زمنٍ أطول للتنفيذ وبجودةٍ أقل بالمقارنة مع الشركات التي قد تدخل سوق البناء على غرار الشركات التركية. وفي حال دخلت الشركات التركية الكبيرة على خط البناء في الشمال السوري، قد يتبقى للشركات المحلية حصةٌ من التنفيذ على شكل تعهداتٍ جزئيةٍ من الشركات التركية.

مشاريع إسكان النازحين

تغلبُ البساطة الإنشائية على مشاريع الإسكان الجماعي بغرض استبدال الخيم، والتي تنتشر في الشمال السوري ، وتتّسم كذلك ببساطة الخدمات المُرفقة، كما ليس فيها نشاطٌ اقتصاديٌّ حقيقي يتجاوز بعض المحلات التجارية التي لا تؤمّن إلا عدداً محدوداً من فرص العمل. أما النشاطات الإنتاجية المحاذية للمخيمات، في العموم، فهي محدودةٌ للغاية. وحتى المدن الصناعية  في الباب وإعزاز والراعي وجرابلس، فنشاطها الصناعي ضعيفٌ حتى الآن، ويقتصر على صناعاتٍ بسيطةٍ مثل الصناعات البلاستيكية وصناعة بعض مواد البناء والملابس، ويغلب عليها نشاط الورش الحرفية؛ مثل أعمال الحدادة والنجارة وصيانة السيارات. ويلجأ أغلب سكان المخيمات للعمل خارجها، خاصةً في سوق عمل بناء المخيمات الجديدة، وهو من قطاعات العمل الأكثر رواجاً في الشمال، إذ يستوعب أكبر قدرٍ من اليد العاملة بعد الزراعة.

وبمعزلٍ عما تثيره الخطة التركية من وعودٍ على مستوى تنشيط سوق العمل الخاص بالإعمار، ليس من الممكن أخذ وعود الإنعاش الاقتصادي للشمال السوري، والتي تشكل نواة الخطة التركية، على محمل الجد. وبشكلٍ أو بآخر، ستظهر مشكلة إدخال مليون لاجئٍ إلى منطقةٍ تعاني من مشاكل في إدخال المساعدات الإنسانية الدولية، وتتحكم روسيا في طريقة إدخالها عبر حق الفيتو الذي تمتلكه في مجلس الأمن، الذي تصدر عنه بروتوكولات إيصال المساعدات الاستثنائية إلى سوريا عبر معابر لا تديرها الحكومة السورية المعترف بها في الأمم المتحدة.

المساحات بين الحاجة والإمكانية

تقع المناطق الشمالية والشمالية الغربية من سوريا الخارجة عن سيطرة النظام والواقعة تحت النفوذ التركي في شريطٍ حدوديٍّ تغلب عليه الطبيعة الريفية مع تجمعاتٍ سكّانية متوسطة الحجم (بلدات صغيرة) ومدن متوسطة مثل إعزاز والباب. الطبيعة الريفية لهذه المناطق تعني أن المنطقة كانت سابقاً، قبل موجات النزوح إليها، ذات كثافةٍ سكانيةٍ متوسطة، خصوصاً الريف الشمالي والشمالي الشرقي لمحافظة حلب الممتد من جرابلس حتى إعزاز، مع وجود مساحاتٍ كبيرةٍ من الأراضي الزراعية أو الجبلية غير الصالحة للزراعة وغير المؤهلة للسكن.

وفق مشاريع الإسكان الحالية، بشكلها التقليدي الذي يعتمد على نموذج بيوتٍ إسمنتيةٍ صغيرة المساحة، تقدر بين 30 و50 مترٍ مربع، فإنّ مجمعاً سكنياً بمساحةٍ أرضيةٍ تبلغ 1500 مترٍ مربعٍ سيستوعب عدداً قدره 100 نسمة. وهذا يعني أن المساحة الأرضية اللازمة لاستيعاب مليون لاجئ وفق هذا النمط، تساوي -تقريباً- 15 كيلومترٍ مربع كمساحةٍ سكنيةٍ صافية دون احتساب المساحات اللازمة للخدمات. وهذه مساحةٌ قريبةٌ من مساحة مدينة حلب، كبرى المدن السورية. حاصل قسمة هذه المساحة  على 13 (عدد المناطق المقترحة لاحتضان مشاريع الإسكان حسب التصريحات التركية) يعني أن المساحة اللازمة تساوي تقريباً 1.15 كيلومترٍ مربع لكلّ مجمعٍ سكني، ما يعادل تقريباً نصف مساحة مدينة إعزاز.

عند اعتماد طرقٍ مختلفةٍ في بناء الشقق السكنية على طريقة Toki، أو وفق نماذج أخرى توفر المساحات الأرضية، من الممكن تقليص المساحة الأرضية اللازمة لمشاريع إسكان اللاجئين العائدين. ولدينا كمثال على ذلك مشروع أوتاد ملهم، الذي نُفِّذَ على شكل مجمعات طابقية صغيرة. المجمعات التي شُيدت وفق ضوابط المنظمات التي قامت بتمويلها لا تسمح بالتعديل، لكن هذه المجمعات، بشكلٍ عام، قابلةٌ للتوسّع أفقياً في الأراضي المجاورة، وبالتالي استيعاب أعدادٍ جديدةٍ من المستفيدين، كما حدث فعلياً مع مشاريع عديدة؛ مثل مشروع أوتاد ملهم نفسه.

البنية التحتية

يحتاج كل مجمعٍ سكني شبكةَ صرفٍ صحي ومياه شرب وشبكة طرقات ومصدر توليد كهربائي، وكلها متناسبةُ الحجم طرداً مع حجم المُجمَّع وقدرته الاستيعابية من المستفيدين. وقد يفعّل توزع المجمعات السكنية المقرر إنشاؤها على 13 منطقة تابعة لمجالس محلية إمكانيةَ استفادةِ هذه المجمعات من البنية التحتية للمدن والبلدات المجاورة لها، من شبكات طرق وصرفٍ صحي ومياه شرب، وحتى من خدماتٍ أخرى كالمدارس والجامعات.

إن نظرةً عن كثب لمجمعات السكن المخصصة للنازحين لا تكشف عن مشاكل في البنية التحتية، بل تكشف في حالاتٍ كثيرةٍ عن غيابها، وخاصةً في المراحل الأولى من تشييدها وتوزيعها على المستفيدين؛ إذ تتّبع بعض المنظمات سلوكاً غريباً تقومُ وفقه بتنفيذ المجمّعات السكنية قبل بنيتها التحتية، وتُسكِن فيها النازحين قبل تأمين الصرف الصحي ومياه الشرب والشوارع الُمعبّدة، لتعود لاحقاً بتعهداتٍ جزئيةٍ لإنشاء بنيةٍ تحتيةٍ على مراحل.

مع هذه المشاريع تبرزُ مشكلةُ البناء على الأراضي الزراعية لإنشاء المجمعات السكنية للنازحين، ما يُنقِص من الأراضي الصالحة للزراعة ويرفع أسعار بعض المواد الزراعية.  أُقيمت مجمعاتٌ سكنيةٌ عديدة لإيواء النازحين على أراضٍ زراعيةٍ خصبة، وبعضها تم تشييده بعد تخريب مساحاتٍ واسعةٍ مزروعة بأشجار الزيتون؛ مثل المشاريع القائمة في قرى شرق إعزاز وعلى مقربةٍ منها.

تؤمّن بعض هذه المشاريع احتياجاتها من المياه بفضل آبار المياه الجوفية التي يتمُّ حفرها في موقع المشروع نفسه أو على مقربةٍ منه، بالإضافة إلى إنشاء تجهيزات تخزين المياه ومعالجتها، في حين يعتمد البعض الآخر على نقل المياه عبر صهاريج، وضخ المياه منها إلى الخزانات المنزلية بشكلٍ دوري. كما تؤمّن هذه المشاريع شبكات الصرف الصحي، ولكن من دون حلٍّ للتصريف النهائي الذي يُعدّ مصدر تلوثٍ بيئي يزيدُ من انتشار الحشرات والأوبئة، ويهدد بتلوث مصادر المياه الجوفية التي تعتمد  عليها المشاريع السكنية ذاتها.

كما فتح تشييد هذه المجمعات سوقاً لبيع مساحاتٍ من الأراضي كان بيعها متعذراً عندما كانت تحت سيطرة النظام السوري؛ لأنها حدوديةٌ ولا يمكن بيعها دون موافقةٍ قانونيةٍ خاصة.

 وتتولى المجالس المحلية تنظيم عمليات تصديق بيع وشراء الأراضي ومنح تراخيص البناء عبر إداراتٍ مختصة مثل السجل العقاري في إعزاز والنقابة العقارية في مدينة الباب. أما عن ملكية الشقق السكنية التي تُوزَّع على النازحين، فيختلف الأمر تبعاً لملكية الأرض التي يُقام عليها مشروع الإسكان ولسياسة الجهة المنفّذة من المنظمات الممولة: بعضها يُملِّكُ الشقة للمستفيد منها بعد فترةٍ زمنيةٍ تتأكد فيها حاجة المستفيد عقب عمليات كشفٍ دوريةٍ للتأكد من وجود المستفيد فيها، والبعض الآخر يتعامل مع المجمعات السكنية التي يشيدها كوقف، ويحتفظ بملكيتها ويُسجِّلها في دوائر التسجيل المختصة في المجلس المحلي للمنطقة التي يقام المشروع السكني على أرضها.

المساهمة التركية

تساهم تركيا عبر هيئة إدارة الكوارث (آفاد) في تمويل بعض مشاريع  بناء الوحدات السكنية للنازحين، كما تنظّم وتمارس دوراً توجيهياً لعمل المنظمات الأخرى في كل القطاعات، ومنها قطاع البناء. كما تمارس تركيا نفوذها على هذه المنظمات لدفعها إلى تبني سياسات إنفاقٍ مالية تعود عليها بالفائدة، وذلك عبر ما يمكن تسميته إلزام المنظمات بشروط فنية لمشاريعها تستخدم أكثر ما يمكن من البضاعة تركية المنشأ؛ كالحديد والإسمنت ومستلزمات تمديد سواد وبياض مياه الشرب والصرف الصحي وإكسسوارت الاستخدام الداخلي والمعدات الكهربائية بأنواعها.

الخيمة أفضل!

يمكن من خلال طرقٍ مختلفة تقصّي رأي النازحين المستفيدين من المجمعات السكينة التي تموّلها المنظمات الدولية وينفذها متعهدون محليون لنقلهم من الخيم إلى بيوتٍ أسمنتية، لكنّ أفضلها يكون المعاينة المباشرة من قبل مَنْ يعمل في قطاع البناء ويشاطر المنظمات المموِّلة مهمة تسليم الوحدات السكنية لأصحابها المستفيدين. ومن هذا الموقع، أستطيع نقل بعض الانطباعات التي يتركها الأهالي المستفيدين عن مكان سكنهم الجديد: لا تعجب الوحدات السكنية أغلب المستفيدين منها لصغر مساحتها وتخديمها السيء، ولأنها تحتاج -غالباً- لاستكمال أعمال الإكساء، الأمر الذي يحتاج ما هو فوق استطاعة النازحين المادية. فغالباً ما تُسلّم الوحدات السكنية بدون تشطيباتٍ نهائية (ورقة إسمنتية، دهان،..)، وما يتوفر فيها من بياضاتٍ صحية وكهربائية تكون من نوعٍ منخفض الجودة يتعرض للتلف خلال مدةٍ قصيرةٍ من الاستعمال. 

وبعيداً عن الفساد في عمل المنظمات والمتعهدين، فإن المشكلة تكمن في أنّ تشييد هذه الوحدات السكنية لا يتم وفق كود هندسي موحد ومعتمد، بل وفق دفاتر شروط فنية خاصة تضعها كل منظمة لمشروعها وفقاً للميزانية وأولوياتها في توزيع مساكن على أكبر عددٍ ممكنٍ دون تجاوز الميزانية المخصصة للبناء. 

إنّ وجود هذه الوحدات السكنية واستمرار بنائها يساهمُ في حل مشكلة أعدادٍ كبيرةٍ من النازحين الذين لا قدرة ماليةً لديهم لشراء بيتٍ أو استئجاره. غير إنّ المقارنة مع البيت الأصلي الذي جرى النزوح منه تبقى حاضرةً بشكلٍ دائم في أذهان وكلام المستفيدين، ويبقى السكن في نظرهم خيمةً طالما أنه أقل جودةً من البيت الأصلي، ويظل المجمع السكني مخيماً ما دام لا يقام على أرضهم الأصلية. ويرى كثيرٌ من المستفيدين أن الخيمة أفضل بسبب رداءة هذه المساكن وعشوائية تجميع المستفيدين منها، الأمر الذي يتسبب بمشاكل اجتماعية. لكنّهم يسارعون إلى السكن فيها مع محاولاتٍ جهيدةٍ لتجميع أنفسهم – أبناء المنطقة الواحدة- في مجمعٍ سكنيٍّ واحدٍ للمحافظة على ما يمكن الحفاظ عليه من الروابط الاجتماعية السابقة للنزوح، ولمسايرة آليات المنظمات وخططها في توزيع المساعدات الإنسانية.