جاء الكشف عن تفاصيل مجزرة التضامن في السابع والعشرين من نيسان (أبريل) الماضي، ثم أعقبه تسريب الفيديو المروّع للمجزرة نفسها، وبعدها بأيام قليلة جاءت مَشاهدُ العائلات التي تنتظر أبناءها المعتقلين على أمل الإفراج عنهم بعد مرسوم العفو الذي أصدره رئيس النظام السوري. وقد أثارت هذه الوقائع مجدداً نقاشات حول ضعف الآليات الموجودة لدعم الأهالي في رحلتهم للعثور على الأحباب المُغيَّبين، وحول الوسائل التي يمكن اتّباعها لمساعدتهم، وتجنيبهم شطراً من الآلام التي يسببها البحث في الفيديوهات والصور والشوارع ومراكز الاحتجاز والأفرع الأمنية وصفحات الإنترنت على أي معلومة أو ضوء في آخر النفق.
وفي السادس والعشرين من أيار (مايو)، أصدرت سبعة عشر منظمة سوريّة بياناً مشتركاً تدعم فيه إنشاء «آلية مستقلة دولية وشاملة للتعامل مع ملف الأشخاص المفقودين في سوريا، بما يتماشى مع الطلبات السابقة التي قدمتها عائلات المفقودين»، مؤكدة أن العائلات «تُركت مرة أخرى لتتدبر أمورها بنفسها»، وأن هناك حاجة ماسّة إلى «الدعم في تنسيق عمليات الإفراج بصورة إنسانية، وإيصال معلومات دقيقة وفي الوقت المناسب، والتأكد من مصير من لا يزالون في عداد المفقودين»، بحيث «لا تقع مسؤولية البحث عن المفقودين على عاتق العائلات بعد الآن».
لماذا نحتاج آلية دولية؟
مبادرة تعافي التي تضمّ مجموعة من الناجيات والناجين كانت إحدى الجهات الموقّعة على هذا البيان، ويقول أحمد حلمي مدير البرامج في المبادرة في حديث له مع الجمهورية إن «حجم الاختفاءات القسرية في سوريا غير مسبوق منذ الحرب العالمية، ما يضع المجتمع السوري أمام تحدٍ هائلٍ يتطلب موارد كبيرة ومستدامة، وتنسيقاً عالياً بين جميع الجهات والخبرات العاملة على هذا الملف. نعتقد أن الصفة الدولية للآلية ستسمح لها بتوفير موارد مستدامة، وتعطيها الاختصاص لدفع جميع الجهات الدولية والمحلية للتنسيق معاً نحو كشف مصير وأماكن تواجد المختفين قسراً». أما بالنسبة للتواصل مع الأهالي ودعمهم، فيرى حلمي أن المنظمات السورية تقوم فعلاً بجانب من هذه المهمة، وأن هناك تنسيقاً وتعاوناً بينها على بعض القضايا والملفّات، لكنه يضيف أنه «مهما بلغ التنسيق بين المنظمات السورية، فهو لن يكون كافياً للتعامل مع الحجم الكبير للقضية بسبب محدودية مواردها وعدم استدامتها». ويأمل حلمي أنّ «إنشاء آلية جديدة سيعالج أزمة الثقة لدى الأهالي تجاه الآليات والجهات الموجودة حالياً»، مضيفاً أنه «من المهم توضيح أنه لا يوجد للسوريين حالياً جهة أو مرجعية موحدة وواضحة يستطيعون التبليغ عن اختفاء أقاربهم لديها، بل هناك جهات متعددة».
ياسمين المشعان، من رابطة عائلات قيصر، تقول في الشأن نفسه إن «آلية ذات طابع دولي تحت مظلة الأمم المتحدة ستسمح بتوحيد الجهود الهادفة لكشف المصير وتمنع تشتت وضياع المعلومات، وتحدّ من معاناة الأهالي الناتجة عن تعدد الجهات العاملة على هذه القضية واختلاف منهجياتها ومقارباتها». وهي تشرح أن «عملية كشف المصير ستكون طويلة الأمد ومعقدة، وخاصة ضمن ظروف استخدام المنتهكين وسائل متقدمة لإخفاء آثار جريمتهم وتدمير الجثامين لتعقيد عملية البحث، مثل حرقها واستخدام الكلس ورميها في الآبار أو الحُفَر مثل حفرة الهوتة، الأمر الذي يستدعي استخدام تقنيات ومنهجيات متعددة، وتكاتف جميع الجهود من المنظمات والمؤسسات الدولية والمحلية تحت إطار موحد ومظلّة دولية».
ترى ياسمين أنه بعد الحجم الهائل للاستقطاب السياسي في الكارثة السورية، لا بد أن تكون الآلية إنسانية مستقلّة: «إن استقلالية هذه الآلية واختصاصها العالمي سيوفران لها الفرصة لكسب الثقة وجمع الخبرات والموارد والبيانات على طاولة واحدة ضمن إطار عمل واحد. ونأمل أن طبيعتها الأممية ستسمح لها بالتواصل مع جميع السلطات الرسمية وسلطات الأمر الواقع، والضغط عليهم للتعاون من أجل توفير وجمع معلومات عن المخفيين قسراً بهدف كشف مصيرهم».
تحدثنا أيضاً إلى معتصم السيوفي، المدير التنفيذي لمنظمة اليوم التالي، وهو يقول في الاتجاه نفسه إن المنظمات السورية لا تستطيع تنفيذ المهمة بكاملها دون آلية دولية، و«ذلك لسببين: الأول أن النظام السوري لن يقبل طوعاً بالتعامل مع المنظمات السورية، والثاني أن هذه المنظمات لا تمتلك تفويضاً بموجب القانون الدولي، ولا تمتلك الإمكانات التقنية التي هي مسألة شديدة التعقيد، ذلك أنه لا يكفي أن تتلقى جهة حقوقية معلومات من الأهالي عن أبنائهم حتى تقوم بعملية البحث». ويشرح السيوفي أن هناك مهمات كثيرة لا يمكن للمنظمات السورية التصدي لها على الإطلاق، من أبرزها الضغط على النظام السوري، وأيضاً على سلطات الأمر الواقع الأخرى، للتعاون في عملية البحث عن مصير المختفين قسراً، مشيراً إلى أنه رغم أن النظام هو المرتكب الأكبر للانتهاكات، إلا أن ثمة مفقودين على يد جهات أخرى عديدة.
والعائق الأول أمام الكشف عن مصير المختفين قسراً هو الجهة المسؤولة عن تغييب العدد الأكبر منهم، النظام السوري الذي هو سلطة الأمر الواقع الأكبر في سوريا، والذي يرفض طبعاً أي شكل من أشكال التعاون على هذا الصعيد. وقد تحدثنا إلى مارية العبدة، المديرة التنفيذية لمنظمة النساء الآن الموقِّعة على البيان، التي قالت في هذا الشأن إننا «حتى اللحظة وللأسف ما نزال في مرحلة النزاع. سيكون من الممكن تشكيل آلية وطنية عندما تنتهي الحرب وبعد الوصول إلى تحوّل سياسي ومصالحة وطنية، غير أننا نشهد حالات اختفاء قسري إلى اليوم، ولذلك نحتاج إلى آلية دولية للتعامل مع هذا الظرف».
يقول معتصم السيوفي في هذا الشأن إنّه «لا نية لدى النظام إطلاقاً بالتعاون في هذا الملف، حتى أنه في قرار العفو الأخير لم يكن هناك قوائم رسمية بأسماء المشمولين بالعفو أو المطلق سراحهم». وإذ يرى السيوفي أننا نحتاج إلى آلية دولية لأسباب تقنية وواقعية تحول دون قدرة المنظمات السورية على إنجاز الكثير، فإنه يقول أيضاً إن لديهم بعض التساؤلات والهواجس: «ما هي ضمانات نجاح هذه الآلية في الوقت الذي لم تنجح فيه آليات أخرى مثل لجان التحقيق الأممية؟ وهل هناك ضمانات بشأن تعاون النظام أو كيفية إجباره على التعاون؟ وفي ظل غياب الضمانات، ألن يؤدي ذلك إلى تجديد دوامة قلّة الثقة وخيبة الأمل لدى ذوي الضحايا؟ ومع غياب الإرادة السياسية لدى الأمم المتحدة والجمعية العامة ومجلس الأمن للضغط على الأطراف المُتّهمة للكشف عن مصير المفقودين، فهل سيكون هناك فائدة جديّة من تأسيس آلية جديدة؟ وأيضاً، إذا تمّ تأسيس هذه الآلية دون مراعاة جهود المحاسبة، ألا يمكن أن نرى جهة تسيء استخدامها، كأن تُعطى مكافآت للنظام السوري مقابل التعاون مع هذه الآلية، التي ستتوسل إليه لكشف مصير الناس أو لاستقبال موظفيها».
يشرح السيوفي أن هذه قضايا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، لكنه يؤكد أن منظمة اليوم التالي «ليس لديها اعتراض جوهري على البيان»، الذي وقّعت عليه «دون أحكام مسبقة على الآلية». مضيفاً أن المشكلة المتعلقة بغياب الإرادة السياسية وعدم وجود ضمانات لا تتعلق بالنظام وحده، لأن «هناك أطرافاً أخرى تخفي سوريين وسوريات من مختلف الأطياف والمناطق، وهذه الأطراف هي الأخرى محمية من جهات إقليمية ودولية. هل هناك إمكانية لإجبارهم على التعاون مع الآلية؟».
الصحفية ميسا صالح هي شقيقة سمر صالح، المُغيَّبة مع محمد العمر على يد داعش منذ العام 2013، وكانت قد نشرت في موقع الجمهورية مقالاً بعنوان سماسرة التغييب، تحدثت فيه عن عملية ابتزاز تعرضت لها هي وعائلتها. عن الفارق الذي يمكن أن تُحدِثَه آلية دولية، تحدثت ميسا صالح عن معاناة أساسية عاشتها عائلتها، وعائلات جميع المغيبين على يد داعش، تتعلق بإهمال مطالباتهم المتكررة باتخاذ إجراءات جدية لكشف مصير المختفين والمختفيات قسراً، وهي الإجراءات التي كان لاتّخاذها أن يخفف معاناة عدد كبير من السوريين، وأن يجنّب عائلات كثيرة عمليات الابتزاز التي تتعرض لها مقابل معلومات مزعومة عن أحبابها.
تقول ميسا: «طالب كثيرون من عائلات المخطوفين مراراً بالضغط جدياً على التحالف الدولي وعلى قوات سوريا الديمقراطية لاتخاذ إجراءات عديدة، أبرزها فتح المقابر الجماعية والبحث في رفات الضحايا عبر جِهات وفرق متخصصة، ووضع كل المعلومات التي أمكن الحصول عليها من سجون داعش في عهدة جهات موثوقة والاستفادة من كل ما يمكن أن تتيحه من معلومات بشأن مصائر أحبابنا، والتحقيق الجدي مع عناصر داعش المحتجزين، بما في ذلك المحتجزون في سوريا أو الذين تم نقلهم إلى دولهم. لم يحدث شيء من هذا، حتى أن ما يتعلق بمصير المخطوفين لم يكن جزءاً من المفاوضات التي جرت مع قادة داعش مراراً أثناء مراحل الحرب، كما لا يبدو اليوم أنها جزءٌ من صفقات نسمع عنها مع عناصر أو قادة محليين في داعش. ثمة عجز تام من جانب المنظمات عن تقديم أي شيء على هذا الصعيد حتى الآن، ولا نعرف إذا ما كانت آلية دولية كتلك التي يطالب بها البيان ستحدث فرقاً، لكن يبدو أن الأمر يتعلق بالإرادة السياسية لدى الدول والجهات صاحبة السلطة والقرار، وهذه الإرادة لا يمكن أن تتشكل دون ضغط جدي لا يبدو أنه يتم القيام به بشكل كافٍ. نأمل أن آلية دولية يمكن أن تغيّر قليلاً من هذه المعادلة، لأن هناك بنك معلومات هائل دون شك لدى قسد والتحالف الدولي، وهذه المعلومات يمكن أن تقودنا إلى معرفة مصير كثيرين من المخطوفين».
عن تأسيس الآلية وعملها
ترجع المطالبات بتأسيس آلية دولية للمفقودين في سوريا إلى شهر أيار (مايو) 2021، عندما أصدر تحالف من خمس منظمات سورية بقيادة الناجين وعائلات المفقودين ورقة بحثية تتضمّن خطة لإنشاء آلية دولية مستقلة للتحقيق في مصير المفقودين في سوريا. ويضم هذا التحالف رابطة عائلات قيصر ورابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا ومسار (تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية – داعش) ومبادرة تعافي وعائلات من أجل الحرية، وهي المجموعة التي باتت تعرف باسم مجموعة الميثاق منذ إطلاقها ميثاق الحقيقة والعدالة في شهر شباط (فبراير) 2021. جميع هذه المنظمات موقعّة على البيان الذي يدعم إنشاء الآلية اليوم.
تلعب روابط الناجين وعائلات الضحايا دوراً محورياً إذن في هذه الجهود، وفي هذا الشأن تقول مارية العبدة إن «البيان يتضمن مطالب ونقاط أساسية واضحة، وإن ما تقوم به روابط الناجيات والناجين والأهالي التي أصدرت الميثاق العام الماضي، والتي تقود اليوم عملية المطالبة بإنشاء الآلية، يدعو إلى الفخر. تتميز الروابط بوضوح مطالبها، وبتواصلها مع شريحة واسعة من الأهالي والمعتقلين والمعتقلات السابقين، وأرى أنّ المطلوب منا كمنظمات سورية، والمطلوب كذلك من المنظمات الدولية، هو التركيز على ما يمكن تسميته المقاربة المتمحورة حول الضحايا، بمعنى أن نكون أذناً صاغية لما تطلبه هذه المجموعات».
المركز السوري للإعلام وحرية التعبير كان واحداً من المنظمات الموقِّعة على البيان، وعن سبيل تأسيس هذه الآلية يقول داني بعّاج مدير المناصرة في المركز إن «الآلية المطروحة آلية أممية منبثقة عن الأمم المتحدة، والوضع الأمثل أن تتشكل بقرار صادر عن مجلس الأمن، وهو ما سيصطدم على الأرجح بفيتو روسي، وسيكون لدينا عندها خيار الجمعية العامة. على سبيل المثال، الآلية الدولية الخاصة بجمع الأدلة على جرائم الحرب والانتهاكات في سوريا (IIIM) أُنشئت بقرار من الجمعية العامة، ما يعني أنه يمكن إنشاء الآلية بقرار من الجمعية العامة مع إعطائها الولاية القانونية الكاملة. ويستند المسار الذي نعمل عليه الآن إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 228/76، الذي أوصى بإنشاء الآلية وطلب إعداد دراسة بهذا الشأن. والمعلومات التي لدينا تقول إن الأمين العام للأمم المتحدة طلب بالفعل من المفوضية السامية لحقوق الإنسان العمل على دراسة تصدر باسمه بهذا الخصوص».
يقول معتصم السيوفي إن «هناك مطالبات للنظام السوري بكشف مصير المفقودين وإطلاق سراح المعتقلين منذ سنوات طويلة جداً، ولكن النظام لم يتعاون في هذ الإطار. أما المطالبة بإنشاء آلية دولية بتفويض خاص فهي حديثة العهد نسبياً، وهي تتأسّس اليوم على مواد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 228/76، وهي مواد مبنية على توصيات اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق التي تخلص إلى أن معالجة ملف المعتقلين بحاجة لإرادة وتفويض دوليين».
وكان قرار الجمعية العامة المشار إليه قد صدر في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2021، وتنص المادة 63 منه على أن الجمعية العامة «تلاحظ توصـية لجنة التحقيق بإنشاء آلية مستقلة ذات ولاية دولية لتنسيق وتوحيد المطالبات المتعلقة بالمفقودين، بمن فيهم الأشخاص الذين تعرضوا للإخفاء القسري»، فيما تطلب المادة 64 منه أن يقوم الأمين العام «بدراسة عن كيفية تعزيز الجهود، بما في ذلك من خلال الآليات والتدابير القائمة، لتوضيح مصير وأماكن وجود المفقودين في الجمهورية العربية السورية، والتعرف على الرفات البشرية وتقديم الدعم لأسرهم، بالتشاور مع مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان واستناداً إلى توصيات لجنة التحقيق، بمشاركة كاملة ومُجدية للضحايا والناجين وأسرهم، وبالتشاور مع الجهات الفاعلة الأخرى ذات الصلة».
ثمة العديد من اللجان الدولية والآليات ذات الصلة، من بينها الآلية الدولية الخاصة بجمع الأدلة على جرائم الحرب في سوريا (IIIM)، ولجنة التحقيق الدولية التابعة للمفوضية السامية لحقوق الإنسان الخاصة بسوريا (COI)، واللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP) التي لديها برنامج خاص بسوريا. يتقاطع عمل هذه الجهات الدولية وغيرها مع المهمة المفترضة للآلية الدولية الجديدة المطلوبة، ويقول داني بعّاج إنه «لا يوجد تضارب بين اللجان الدولية ولا تعارض بين ولاياتها، فكل الولايات تكاملية، والفرق هنا أنّ الآلية التي يدعو البيان لإنشائها ستكون متخصصة بقضية المعتقلين والمختفين في سوريا بالتحديد. مثلاً، عندما أصدرت لجنة التحقيق الدولية التابعة للمفوضية السامية لحقوق الإنسان الخاصة بسوريا COI تقريراً وثقت فيه ضربات السلاح الكيميائي، لم يتعارض ذلك مع التقارير الفنية التي صدرت لاحقاً عبر لجان متخصصة تابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية OPCW».
يقول داني بعّاج أيضاً إنه «سيكون هناك مباحثات بشأن الآلية وولايتها وصلاحياتها بين الدول، لكننا نأمل أن تستطيع هذه الآلية تقديم قوائم بأسماء المختفين قسراً والمعتقلين من أجل الوصول إلى معلومات عنهم، وأن تستطيع الوصول إلى نتائج حول مصير المعتقلين والمختفين قسراً في سوريا. هذا الأمر يحتاج إلى أدوات، لذلك نحن نطالب بأدوات فنية تنفيذية عالية، مثل مختبرات للحمض النووي وتحقيقات للطب الشرعي وجمع عينات مع قدرة على متابعة المعلومات ومصير المعتقلين». ولكن هل يمكن فعلاً أن يكون عند هذه الآلية إمكانية الوصول إلى مواقع يُشتبه بأن تكون مقابر جماعية على سبيل المثال؟ يجيب بعّاج: «سيكون هذا عظيماً، لكن في توقّعي أننا سنعود لنصطدم بالعوائق التي واجهت عمل لجان التحقيق الدولية السابقة، إذ على الرغم من أنّ الولاية القانونية تسمح لتلك اللجان والآليات، بل وتطلب منهم، الوصول إلى أدلّة مادية على أرض الواقع، لكنهم لم يستطيعوا تنفيذ تلك التوصيات بسبب رفض النظام السوري السماح لهذه اللجان بالدخول إلى مناطق سيطرته».
لا طموحات كبيرة لدى أيّ من الموقعين بخصوص أن هذه الآلية ستنجح فيما عجزت عنه آليات ولجان سابقة، أي إجبار الأطراف صاحبة السلطة على التعاون، لأن هذا يتطلب إرادة سياسية دولية غائبة حتى الآن، وفي ظلّ غيابها فإنه لا يمكن إجبار النظام السوري، ولا حتى سلطات الأمر الواقع الأقلّ شأناً، على كشف مصير المفقودين والمُغيّبين أو تسهيل جمع معلومات بهذا الشأن. لكن يبقى أنهم يرون في إنشاء آلية أممية خاصة بالمفقودين والمختفين قسراً في سوريا خطوة ضرورية لاستدامة العمل، وتصعيد الضغط على كل الأطراف، وتقديم مزيدٍ من الدعم للعائلات في رحلتها للبحث عن مصير الأحباب.
الصور والفيديوهات والبحث عن المصير
كان واضحاً أن تكرار محنة الأهالي الذي يبحثون بأنفسهم في الصور والفيديوهات المسرّبة، كما هو الحال مع صور قيصر منذ تسريبها ومع فيديو التضامن الأخير، هو أحد الأسباب التي دفعت هذه المنظمات إلى إصدار بيانها الذي يجدد دعم مطلب إنشاء آلية دولية. وتوفّر منظمات وجِهات عديدة وسائل لمساعدة الأهالي، من بينها نموذج التبليغ عن مفقود على موقع رابطة عائلات قيصر، الذي يتضمن إمكانية رفع صور المفقودين للتحقق من وجودها بين الصور المسرّبة. وكذلك وسائل التواصل المُعلَن عنها على موقع رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، وآلية تحديد الضحايا في مجزرة التضامن التي أعلن عنها الباحثان أنصار شحود وأور أونغر بالتعاون مع الشرطة الدولية الألمانية. لكن لا يبدو أن هذه الوسائل كافية، بالتحديد لأنها ليست موحدة ولا شاملة.
يقول أحمد حلمي إن «غياب جهة واحدة محددة يلجأ إليها الأهالي للسؤال والبحث عن مصير أحبّتهم حمّلهم عبئاً ثقيلاً من خلال سؤال المفرج عنهم والبحث في الصور والفيديوهات، وهو أمرٌ منهكٌ ومؤلم. عند نشر المواد، تقوم العائلات بتصفح محتواها، فتتعرّضُ لألم تَخيُّلِ ما قد حدث لأحبّتها، والألمِ الناتجِ عن التعارض بين الخوف من وجود أحبّتها ضمن هذه المواد، وأمل وجودهم فيها لكي تتأكد من انتهاء معاناتهم في السجون وتعرف مصيرهم. عندما تقوم العائلات بتصفح المواد مراراً وتكراراً فهي تتعرض لصدمات بعدد الاشخاص الموجودين في هذه المواد، وحتى في حال وجود شبهٍ بين المفقود وأحد الموجودين في الصور، فإن عدم اليقين المؤلم يستمرّ لأن التطابق لا يكون تاماً. يجب إذاً أن توجد جهة مركزية موثوقة تعمل على تحليل الصور باستخدام التكنولوجيا وتُطابقها مع الصور الأصلية، ما يعيدنا إلى ضرورة وجود آلية مركزية تعمل تحديداً على كشف مصير المخفيين».
وتقول ياسمين المشعان إن «تسريب مقطع جريمة التضامن يشبه إلى حد كبير ما حصل معنا كأهالي تعرّفوا على أبنائهم ضمن صور قيصر، وقد أصدرت رابطة عائلات قيصر تقريراً تفصيلياً عن تأثير نشر الصور على وسائل التواصل الاجتماعي على العائلات، وعن الجانب القانوني لهذا النشر. وبصرف النظر عن الجدل حول نشر صور الضحايا أو مقاطع الفيديو المسربة وضوابط ذلك القانونية والأخلاقية، فإن ظهور شبكات التواصل الاجتماعي غيّرَ قواعد وآليات الرقابة والتحكّم بشكلٍ كامل، فظهر ما يشبه الطفرة في انتشار الصور والتسجيلات المؤلمة التي تتضمن مشاهد تعذيب وقتل بصورة مستمرة، ما يُضاعف المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية التي يجب أن تحيط بالتعامل مع صور الضحايا في الحالة السورية والحالات المشابهة، والتي توجب على حائز صور الضحايا مسؤوليةً أخلاقية بأن يمتنع عن تحويلها إلى سلعة وعن تبديد معناها، وأن يساهم في الحفاظ على كيان موضوع الصورة من حيث هو “ضحية” لجريمة فيحيطها بكل أسباب الحفظ، و يصون حرمة موضوع الصورة وصولاً إلى تقديمها كدليل إثبات في محاكمة عادلة تتمتع بالمشروعية».
تتحدث ياسمين أيضاً عن ضرورة أن يتم التعامل مع الصور وفق فردانية صاحبها، لا أن يتم التعامل معها بالجملة، لأن خلف كل صورة قصة إنسان وعائلة فريدة، مضيفةً أن على الجهات التي تنشر الصور «أن تُراعي الطريقة التي سيتم من خلالها إخبار عائلات الضحايا ومشاركتهم الصور، لأن ما حدث من نشر غير منظمّ تسبَّبَ بالكثير من الآلام للعديد من الأسر والمقربين من الضحايا، وعلى هذه الجهات إبداء احترام أكبر لرغبة الأسر التي لا تريد نشر صور أبنائها».
تتفق مارية العبدة مع ضرورة عدم تداول هذه الفيديوهات والصور على وسائل التواصل الاجتماعي، «يجب عدم مشاركة هذه المواد، وعدم نشر معلومات غير مؤكدة 100%. كما أن على الجهات الحقوقية التي تعمل على معرفة الجناة أن تخصص جزءاً من مواردها للتنسيق والعمل على احتياجات الأهالي. من المهم جداً أن يكون الضحايا بالنسبة لنا كناشطين في الشأن العام هم الأولوية، وأن نستطيع تطوير نهج يتمحور حول احتياجاتهم، وحول احتياجات ذويهم لأنهم ضحايا أيضاً. إن مشاركة أي معلومات غير مؤكدة هي إساءة لهم، ولكن ثمة جانباً آخر يتعلّق بالقدر الذي نتعود فيه نحن كسوريين على العنف. عدم النشر هو موقفٌ يساهم في حمايتنا كبشر، وحماية إنسانيتنا من التوحش، لأن الوضع السوري والنظام السوري خَلَقا وحوشاً بسبب العنف الشديد».
ما الذي يمكن فعله أيضاً؟
يقول أحمد حلمي في حديثه مع الجمهورية إن «ملف المفقودين والمختفين قسراً من أعقد الملفات وأصعبها في أغلب السياقات التي عانت من الانتهاكات، وفي السياق السوري على وجه الخصوص نتيجة تعدد الجهات المنتهِكة واستخدامها أدوات متنوعة لمسح آثار الأشخاص المفقودين، ونتيجة تعقيدات كثيرة أخرى على رأسها وجود المجرمين والمنتهِكين على رأس السلطة». لذلك، يقول حلمي: «يجب أن يأخذ العمل على هذا الملف مسارات متعددة متوازية ومتقاطعة، وهذا ما وضعناه بشكل تفصيلي في ميثاق حقيقة وعدالة الذي يعكس رؤيتنا للتعامل مع هذه القضية على صعيدي العدالة قريبة الأمد والعدالة بعيدة الأمد، بحيث يتم تحصيل الحقوق والإنصاف والعدالة للمجتمع السوري عامة، والضحايا وذويهم خاصّة، بشكل تراكمي يؤدي للانتقال بسوريا تدريجياً إلى دولة قانون تحترم حقوق الإنسان».
يشرح حلمي أن هذا التفكير بالمسألة بوصفها عملية تراكمية، دفعهم إلى أن يضعوا على رأس أولوياتهم العمل على كشف مصير المخفيين قسراً ووقف التعذيب كـ «مطلبين مستقلّين منعزلين عن أيّ تقدم في العملية السياسية أو الانتقال السياسي وعمليات السلام في سوريا، بحيث لا يكون كشف المصير شأناً تفاوضياً أو ورقة يتم استخدامها في المحادثات السياسية». كذلك، يقول حلمي إن رؤيتهم تضع العمل على المحاسبة «شرطاً أساسياً لأي سلام حقيقي في سوريا، مع وعينا الكامل بأن المحاسبة مرتبطة بشكل وثيق بأن تُزاح عن المنتهكين الحصانةُ التي توفرها لهم السلطة والقوة التي يتمتعون بها حالياً».
وفي سياق التأكيد على أهمية فصل مطلب كشف المصير عن أي عملية تفاوضية سياسية، تقول مارية العبدة إن «معرفة الحقيقة بشأن مصير المختفين هي أولوية يتم التغاضي عنها أحياناً مقابل المحاسبة، ونحن لا نستطيع أن نلغي أي آلية من آليات العدالة مقابل أخرى، لكن علينا أن نتذكر أن هناك عائلات تضطر إلى تسجيل وفاة أبنائها المختفين قسراً في السجّلات الرسمية، من أجل استكمال إجراءات حياتهم القانونية مثل الإرث والحضانة».
يقول أحمد حلمي إن العقد الأخير أثبت لنا أن القانون والتشريعات الدولية غير كافية لضمان الحقوق، لكن نضالات شعوب أخرى تقول إنه «لا يموت حقّ وراءه مُطالِب، ولذلك فإن علينا كسوريين أن نستغلّ انتشارنا الواسع، وقدراتنا ومهاراتنا المختلفة وشبكاتنا، كي نُبقي الضجيج عالياً حول حقوقنا وقضايانا، وذلك للحفاظ على الزخم الذي يمكن استغلاله والبناء عليه حقوقياً بشكل استراتيجي فاعل. علينا أن نسعى إلى انتصارات صغيرة قابلة للتحقّق ويمكن البناء عليها، وأن نراكمها للوصول لعدالة شاملة في نهاية المطاف».