تعيش أرياف حلب الشمالية والشرقية الخارجة عن سيطرة النظام حالةً من عدم الاستقرار الاقتصادي والمعيشي، جراء غياب الخطط الاقتصادية الواضحة وعجز السلطات المحلية والمؤسسات التابعة لها عن ضبط معدلات التضخم وخفض نسب الفقر، وعن الاستفادة من بعض النمو الحاصل في العديد من قطاعات الإنتاج لخلق توازنٍ اقتصادي قادرٍ على توفير فرص عمل مستدامة والنهوض بالمنطقة، الأمر الذي انعكس على حياة السكان وفاقمَ من أوضاعهم المعيشية الصعبة.
وعززت الاضطرابات التي تعيشها الليرة التركية، وهي العملة الرسمية المتداولة شمال غرب سوريا منذ عام 2020، من معدلات تضخم أسعار السلع والخدمات المرتفعة أصلاً، مقابل زيادةٍ مطردةٍ في معدلات الفقر جراء انخفاض قيمة الأجور مع الانخفاض المستمر الذي تشهده الليرة التركية، وانعدام مصادر الدخل بالنسبة إلى شريحة واسعة من سكان المنطقة.
نظرة عامة
يزداد الوضع الاقتصادي للسكان سوءاً بسبب تردي قطاعات الإنتاج المحلي في ريف حلب الخاضع لسيطرة فصائل الجيش الوطني والحكومة السورية المؤقتة، والممتد من مدينة عفرين بريفها الشمالي الغربي حتى مدينة جرابلس بريفها الشرقي، وأبرزها الزراعة وتجارة المحاصيل التي يعتمد عليها السكان كمصدر دخل رئيسي، وذلك جراء انحسار المساحات الزراعية في المنطقة وخسارتها لصالح قوات النظام وقوات سوريا الديمقراطية، فضلاً عن تأثير العوامل المناخية.
كما أسهم غياب المصانع الإنتاجية والمنشآت الصناعية الضخمة، رغم تواجد المناطق الصناعية في مدن عفرين وإعزاز ومارع والباب والراعي وجرابلس بريف حلب، بارتفاع معدلات البطالة والفقر، مع صعوبة تأمين المواد الخام للعمل وتصريف البضائع المحلية، وهو ما أثر بدوره على القطاع التجاري في المنطقة وجعلها بيئةً استهلاكيةً ترتفع فيها أكلاف المعيشية بشكل مستمر.
إضافة إلى عجز القطاعات الخدمية النامية، مثل الشحن والاتصالات وتجارة الجملة والتجزئة، وقطاع الترفيه المتمثل بالمطاعم والمقاهي وصالات الألعاب، في رفع المستوى الاقتصادي وخلق توازن بين الكثافة السكانية التي تعيشها المنطقة، حيث يقدر عدد السكان بنحو مليوني نسمة، وبين قدرتها على توفير فرص العمل التي ظلت في حدودها الدنيا، واقتصارها على فئات محددة من السكان متمثلة بالشباب.
وبحسب إحصائيات فريق منسقو استجابة سوريا، فقد بلغت نسبة العاطلين عن العمل في مناطق شمال غرب سوريا الخارجة عن سيطرة النظام 85 بالمئة (تشمل عمال المياومة)، وذلك من دون إيجاد حلول، كما ارتفعت نسبة العائلات الواقعة تحت خط الفقر إلى 84 بالمئة، بينما بلغت نسبة العائلات تحت خط الجوع 36 بالمئة .
وضع معيشي منهار
وتدل هذه الأرقام والإحصائيات على انهيار الوضع المعيشي جراء الارتفاع المستمر في أسعار السلع الضرورية للأسر، الذي عكس واقع السكان والتحديات اليومية التي يواجهونها في سبيل الحصول على قوت يومهم، في ظل غياب دور السلطات المحلية وتدخلها لضبط الأسعار. عيسى الكريّم، مهجرٌ من حلب ويعيش في مدينة عفرين، يعمل حمالاً بأجر يومي غير ثابت يتراوح بين 25 إلى 60 ليرة تركية، أكد على أن العائلة الواحدة «تحتاج لأكثر من عاملٍ لتغطية أبسط احتياجاتها من الطعام والشراب، بسبب الغلاء الكبير الذي تشهده الأسواق وتدني الأجور».
ويضيف الكريّم: «أصبح اختيار طبخة اليوم يخضع لدراسةٍ مطولة، بعد أن كان الخيار يقع غالباً على البطاطا والباذنجان، لكن تكلفة هذه الوجبة باتت مكلفةً جداً بعدما ارتفع سعر كيلو البطاطا إلى 8 ليرات ووصل سعر ليتر زيت الطعام إلى حوالي 50 ليرة. بالنسبة إلى أسرتي المكونة من سبعة أفراد، فإن تكلفة أقل وجبة يزيد على 100 ليرة تركية».
ويعدُّ تراجع قيمة الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي وتسجيلها 17.13 أخيراً، أحد أبرز الأسباب التي ساهمت بارتفاع الأسعار وتضخم قيمة السلة الغذائية الشهرية للعائلة متوسط العدد، التي وصلت إلى 4175 ليرة تركية في شهر أيار (مايو) الماضي، في حين كانت قيمتها 2200 ليرة نهاية عام 2021 المنقضي، بحسب دراسات أجرتها وزارة الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة حصل موقع الجمهورية.نت على نسخةٍ منها.
ورغم التحديات السياسية والاقتصادية التي يواجهها ريف حلب في الوقت الراهن، ثمة مجالات وبيئة مناسبة يمكن أن تساعد المنطقة على تحقيق النشاط الاقتصادي والنمو، من خلال التحرك الجدي لتنمية القطاعات المتهالكة وتشجيع رؤوس الأموال على الاستثمار فيها، والاستفادة من الموقع الجغرافي لمناطق الريف الحلبي والنمو التجاري وحالة الازدهار التي تعيشها القطاعات الخدمية والترفيهية.
بيئة مناسبة
يشهد ريف حلب الشمالي والشرقي الخاضع لسيطرة المعارضة، نمواً ونشاطاً اقتصادياً لافتاً، بعد إخراج تنظيم الدولة وقوات سوريا الديمقراطية من المنطقة خلال عملياتٍ أطلق عليها «درع الفرات» في ريف حلب الشرقي و«غصن الزيتون» في مدينة عفرين بريفها الشمالي، والهدوء النسبي، على الصعيد العسكري، الذي تشهده المنطقة مقارنةً ببقية المناطق التي لا تزال تحت تهديد العمليات العسكرية.
وشكل انفتاح المنطقة على السوق التركية من خلال المعابر التي أنشئت في كل من مدن إعزاز (معبر باب السلامة) وجرابلس وبلدة الراعي قرب مدينة الباب ومعبر أبو حمام بريف عفرين، عاملاً مساهماً في توافر السلع والبضائع وزيادة حركة الاستثمار والاستيراد، نتيجة تسهيل الجانب التركي دخول البضائع على اختلاف أنواعها من موادٍ غذائيةٍ وسلعٍ تجارية وآليات ووسائل النقل إلى الداخل السوري، قبل أن تصدر وزارة التجارة التركية منتصف شهر آذار (مارس) الماضي قراراً يقضي بمنع تصدير الحبوب والبقوليات باختلاف أنواعها، كما شمل القرار منع تصدير البذور وزيت الطعام والأعلاف، إلا أن القرار لا يشمل استيراد هذه المواد من دول أخرى وإدخالها إلى الأراضي التركية (ترانزيت) .
يضاف إلى ذلك سماح الحكومة التركية لشركاتها بالاستثمار ضمن المنطقة، والذي تركز في قطاع خدمات الكهرباء من خلال شركة AK ENERGY والشحن والنقد متمثلاً بمؤسسة البريد التركية Ptt، إضافةً إلى الاتصالات، ونشاط المؤسسات التركية على الصعيد الإنساني وإدارتها القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والمشاريع الخدمية.
كما تربط أرياف حلب الخاضعة لسيطرة المعارضة العديد من المعابر الداخلية مع القوى العسكرية الأخرى التي تتقاسم السيطرة على الجغرافيا السورية، ومنها معبران مع إدلب التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، وهما الغزاوية ودير بلوط، ومعبر أبو الزندين قرب مدينة الباب الذي يربطها مع مناطق سيطرة النظام، إضافةً إلى معابر التهريب في ريف عفرين مع بلدات نبّل والزهراء، ومعابر تربطها بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، أبرزها معبر الحمران قرب مدينة جرابلس، ما جعل المنطقة مركزاً تجارياً واقتصادياً هاماً.
الاستيراد
الموقع الجغرافي المتميز لريف حلب الشمالي والشرقي مكنه من لعب دور محوري في مجال التجارة، حيث تحوّل إلى ممرٍ لدخول البضائع من تركيا إلى سوريا ومنها إلى مناطق سيطرة النظام وقوات سوريا الديمقراطية، مستغلاً التسهيلات التي يقدمها الجانب التركي ووفرة رأس المال، وأيضاً تحوله إلى عقدة وصلٍ تجاريةٍ بين مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية شرق سوريا وإدلب في الشمال الغربي.
وشهد قطاع التجارة خلال السنوات القليلة الماضية طفرةً غير مسبوقة، رغم أنه كان في غالبيته يعتمد على استيراد البضائع من تركيا أو عن طريق الموانئ التركية قادمةً من دولٍ أخرى. وساعد في ازدهاره غياب التعقيدات والقوانين من قبل الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف السوري المٌعارض، والضرائب الجمركية المعقولة التي تفرضها هذه الحكومة، والتي تبلغ، مثلاً، 70 ليرة تركية عن كل طن من مادتي الرز والسكر الأساسيتين.
وبحسب إحصائياتٍ صادرةٍ عن وزارة التجارة ومجلس المصدّرين الأتراك، كانت سوريا في المرتبة السادسة في قيمة أعلى الصادرات التركية لدول الجوار، خلال الربع الأول من العام الجاري، وبلغت 383 مليوناً و267 ألف دولار أميركي، في حين وصل الرقم عام 2021 الفائت إلى أكثر من مليار و66 مليون دولار أميركي.
وتعتبر المواد الغذائية والمشتقات الحيوانية في مقدمة الصادرات التركية إلى الشمال السوري، حيث بلغت قيمة الصادرات التركية من الخضروات والفواكه والحبوب، إضافةً إلى الثروة السمكية والمنتجات الحيوانية منذ شهر كانون الثاني (يناير) وحتى شهر أيلول (سبتمبر) من العام الماضي، 581 مليون و215 ألف دولار أميركي، بنسبة زيادةٍ تجاوزت 86 بالمئة مقارنةً بالفترة ذاتها من عام 2020.
وإلى جانب المواد الغذائية، تستورد مناطق ريف حلب مواد البناء التي شهدت زيادةً كبيرةً خلال العام الماضي نتيجةً لزيادة أعداد المشاريع السكنية وتوسع الرقعة العمرانية في المنطقة، إضافةً إلى استيراد الأثاث والورق والألبسة والمعادن والآلات الزراعية والصناعية وغيرها.
أبو خالد هو تاجر جملة في مدينة إعزاز ويعمل في مجال الاستيراد، أكد على أن الاستيراد عبر البوابة التركية قد ساهم في استمرارية سوق الشمال ومحافظة المئات من التجار والباعة على مصادر رزقهم وتوسعتها، خاصةً أن المدينة شهدت نمواً تجارياً جرّاء الكثافة السكانية المرتفعة فيها، وزيادة الطلب الاستهلاكي بشكل كبير.
ويقول أبو خالد: «ساهم انفتاح سوق الاستيراد على تشجيع الاستثمار، وذلك لسرعة تدوير المال وضمان ربحه بنسبة كبيرة، وذلك يرجع إلى طبيعة العمل الحالية، فالموردون يقومون بعرض البضائع قبل استيرادها، كما يشترون الكميات اللازمة بحسب الطلب، وبالتالي هناك سرعة في البيع وتحقيق الربح، والذي يختلف بدوره مع اختلاف الكميات.
ويضيف: «هناك بعض التجار الذين يفضلون العمل في مجالٍ واحد، مثل الألبسة أو المواد الغذائية، أما الأغلبية يفضلون تنويع تجارتهم لضمان استمرارية الربح، خصوصاً أنّ الوصول إلى البضائع في السوق التركية صار سهلاً بسبب انتشار التجار السوريين هناك واعتماد الأكثرية على تجارة التصافي؛ أي شراء بضائع محلات تركية معروضة للبيع بأكملها.
نشاط الحركة التجارية
لا تقتصر عملية الاستيراد على البضائع التركية رغم سيطرتها على النسبة الأكبر من السوق، فقد تحول ريف حلب إلى سوق تصريفٍ هام بالنسبة إلى الصناعيين والتجار المحليين في مناطق سيطرة النظام. وتعد الألبسة وبعض السلع الغذائية والمعلبات، مثل الإندومي والمشروبات الغازية والكحولية والشاي والبن، إضافةً إلى قطع تبديل السيارات من أبرز السلع المتدفقة إلى مناطق سيطرة المعارضة من مناطق سيطرة النظام.
ويوضح محمد العمر، صاحب محل لبيع الألبسة بريف حلب، أن مصادر البضائع متنوعةٌ ولكلٍّ منها سوقها الخاص، ويختلف سعرها باختلاف جودتها، إلا أن البضائع التركية هي الأكثر رواجاً وانتشاراً. وعن تنوع الألبسة يشرح محمد قائلاً: «بالنسبة إلى البضائع التركية فهي متنوعة من حيث الأسعار والجودة ونوعية المنتج، وغالباً ما تكون البضائع في الوقت الراهن مصنعةً في الورش السورية داخل تركيا، وهو ما جعل أسعارها تنخفض مقارنةً بعام 2020. أما البضائع القادمة من مناطق سيطرة النظام، فغالباً ما تكون ألبسة الأطفال (من عمر 5 سنوات إلى 15 سنة). غير أن ملابس المراهقين والشباب القادمة من تركيا هي الأكثر رواجاً في المنطقة، لتناسب موديلاتها مع الذوق العام لهذه الفئة، إضافةً إلى دخول الألبسة الصينية وألبسة البالة القادمة عن طريق الموانئ التركية (ترانزيت)».
ويضيف محمد العمر: «مؤخراً بدأت الألبسة المصنعة في ريف حلب بالانتشار، لكن بصورة أقل، حيث بدأت تنافس البضائع القادمة من مناطق النظام وبعض أصناف البضائع التركية، وتختص حالياً بملابس الجينز والألبسة الداخلية والبيجامات القطنية والعباءات النسائية، وأسعارها مقبولةٌ نوعاً ما». كما يشير العمر إلى أن هذا التنوع أدى إلى نشاط حركة الأسواق خلال المواسم الرئيسية، وهي الأعياد ومع بداية فصلي الشتاء والصيف، بسبب تنوع أسعارها وتناسبها نوعاً ما مع دخل السكان.
يضاف إلى ذلك تجارة المواشي والنفط الخام بين ريف حلب ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية في شرق سوريا، إذ يعد الريف الحلبي خط عبورٍ للنفط باتجاه منطقة إدلب، الأمر الذي ساعد أيضاً بتوافر المادة.
تنوع الصادرات
خلال الأشهر القليلة الماضية، ارتفع معدل صادرات الشمال السوري إلى تركيا مع تنوع المنتجات، فبعد أن كانت تقتصر على الفائض من المحاصيل والمنتجات الزراعية، مثل البطاطا والقمح والشعير وزيت الزيتون والقطن والذرة، توسعت لتشمل البصل والتين المجفف والخوخ والدراق والفاصولياء البقولية والفستق الحلبي والقبّار (الشفلح) وبذار البطيخ والقطن والذرة المجففة ونفايات الورق والسبائك الحديدية التي تدخل في صناعة الحديد والصلب والألبسة والأحذية وصابون وزيت الغار والحجر السوري، وذلك بحسب ما أكده وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة عبد الحكيم مصري في تصريحه لموقع الجمهورية.نت.
وأوضح المصري أن «بعض المواد، ومنها الشفلح المُصنّع في مدينة الباب، يتم تصديره إلى تركيا ودول أخرى عن طريق الموانئ التركية». أما بالنسبة إلى المنتجات الزراعية، فيتصدّر القطن قائمة الصادرات، إضافةً إلى اليانسون والمنتجات الأخرى، عدا المحاصيل التي مُنع تصديرها مؤخراً بموجب قرارات الحكومة المؤقتة، وأهمها القمح والشعير.
ولا يوجد إحصائيات دقيقة للكميات المصدرة من مناطق ريف حلب باتجاه بقية المناطق السورية الأخرى أو تركيا، وذلك نتيجة تعدّد المعابر المستخدمة في التصدير، والبالغة أربعة معابر بريف حلب (باب السلامة وجرابلس والراعي والحمام بريف عفرين)، والتي يتم تحويل عائداتها إلى خزينة الحكومة المؤقتة بشكل مباشر من قبل إدارات المعابر، إضافةً إلى قيام بعض التجار بتصدير بضائعهم عن طريق معبر باب الهوى الخاضع لسيطرة حكومة الإنقاذ بريف إدلب، بحسب ما أكده العميد عثمان هلال مدير مديرية الجمارك التابعة للحكومة السورية المؤقتة.
ويقول هلال في تصريح للجمهورية.نت: «بالنسبة للرسوم المفروضة على الاستيراد والتصدير، هي عبارة عن رسوم خدمية لا أكثر، وهناك تعرفة موحدة لدى جميع المعابر التابعة للحكومة المؤقتة، وهي معابر الحمام بريف عفرين المقابل لولاية هاتاي التركية، ومعابر باب السلامة-الراعي المقابل لولاية كلس، وجرابلس المقابل لولاية عينتاب، ومقدار الرسوم المحصلة توضع في بنكٍ لصالح الحكومة المؤقتة».
الاتصالات
بعيد انتهاء عملية «درع الفرات» التي أطلقتها فصائل الجيش الوطني بدعمٍ تركي للسيطرة على مدينتي جرابلس والباب بريف حلب الشرقي، بدأت المجالس المحلية بمشاريع لتأهيل المنطقة على الصعيد الخدمي، حيث شكل وجود الاتصالات وخدمة الإنترنت ضرورةً ملحةً للسكان. ومع قيام الحكومة التركية بتمديد خطوط تغذية وأبراج اتصالات لتخديم المنطقة بالاتصالات الخليوية، نمت شركاتٌ محلية متخصصة بتوفير خدمات الإنترنت في مناطق ريف حلب تتنافسُ مع بعض الشركات التركية-السورية في المنطقة، ومنها شركة توليب جروب tulip group.
عبد الكريم حزوري، صاحب شركة elcom network لخدمات الإنترنت في مدينة الباب، أشار في حديثه للجمهورية.نت إلى أن المدينة «تضم حالياً أكثر من 90 شبكة محلية تخدّم الباب ومناطق بزاعة وقباسين، كأكبر نسبة شركات بريف حلب الشمالي والشرقي، وتساهم بتوفير فرص عمل لأكثر من 500 شخص بين عمال وفنيّي صيانة وتمديد وموظفي مكاتب وغيرها».
وعن قيمة رأس المال الموظف في هذا القطاع، يوضح حزوري أن كتلة رأس المال «تختلف بين شركة وأخرى بحسب المساحة التي تغطيها وتجهيزات البنية التحتية، وتبدأ بحوالي 40 ألف دولار أميركي وتصل إلى 200 ألف دولار». ويضيف: «بالنسبة إلى شركتي، فقد وصلت تكلفة إنشائها وإطلاقها إلى 150 ألف دولار أميركي تقريباً لتجهيز البنية التحتية وإيصال الخدمة وإيجار مكاتب، إضافة إلى تكاليف ثابتة وأجور موظفين، فهي توظف 20 عامل برواتب متفاوتة بين 2000 ليرة تركية إلى 7000 ليرة شهرياً».
قطاع الترفيه
وعلى صعيدِ مشابه، يعتبر قطاع الترفيه والخدمات على رأس القطاعات الاقتصادية التي تستقطب رؤوس الأموال والمستثمرين المحليين، وبشكلٍ خاص المطاعم التي تعتبر في مقدمة هذه المشاريع لما توفره من خيارات تناسب مختلف كتل رأس المال، وبات ملاحظاً انتشار عددٍ كبيرٍ منها تتباين من حيث الحجم والمساحة ومستوى الخدمات.
وانتعش هذا القطاع بعد حركة النزوح وتوافد المُهجّرين التي شهدتها المنطقة عام 2018، وإقبالهم على افتتاح مطاعم خاصة بتقديم الوجبات التي تشتهر بها مناطقهم، ما خلق جواً تنافسياً بين المطاعم المحلية ونظيرتها المملوكة من أبناء المناطق الأخرى، وأسهم في رفع الجودة والاهتمام أكثر بالخدمة وتوسع قائمة الخيارات للزبائن.
وأخذت المطاعم الكبيرة التي تضم صالاتٍ للألعاب وقاعات للاحتفال بالازدياد بشكلٍ مطرد في المدن الرئيسية، مثل إعزاز والباب ومارع وبزاعة وعفرين، إضافةً إلى المطاعم متوسطة الحجم، وأخرى صغيرة، وهي الأكثر انتشاراً حيث تتركز في الأسواق والشوارع الرئيسية. ويعتبر كثيرٌ من أصحاب المطاعم، ومنهم عبيدة أبو محمد، مالك مطعم الخيال أحد أكبر المتنزهات الترفيهية في مدينة إعزاز بريف حلب الشمالي، أن «ارتفاع الكثافة السكانية جراء حركات النزوح والتهجير، وتحول العديد من مدنه مثل الباب واعزاز إلى مراكز تجارية واقتصادية، ساهمت بانتشار المطاعم بشكلٍ لافت».
ويضيف: «إن نجاح المطعم في ريف حلب يعتبر مضموناً بنسبةٍ كبيرة في حال الأخذ بالاعتبار توافر عامل الخبرة في الإدارة وطاقم العمل المؤهل، إضافةً إلى اختيار المكان وجودة الخدمة، حيث يلعب الجو العام وطريقة عرض وتقديم المنتج وتوفير وسائل ترفيهية تناسب الذوق العام ومستوى دخل السكان دوراً هاماً في جذب الزبائن الذين يقصدون المطاعم للترويح عن أنفسهم أو للاستراحة من عناء السفر».
ومع ذلك لا يخفي أبو محمد وجود المعوقات التي أدت إلى زيادة تكاليف افتتاح المطاعم، وعلى رأسها عملية استيراد المعدات والتجهيزات وتضاعفُ قيمتها بشكلٍ كبيرٍ لعدم توفّرها في السوق المحلية والاضطرار إلى استيرادها من دول الجوار، «حيث تشكل 90 بالمئة من قيمة رأس المال» بحسب تقديراته.
وعن العوائق الموجودة في هذا القطاع، يقول أبو محمد: «هناك مشكلات بدأت تظهر مؤخراً وتسبّبت بزيادة تكاليف الخدمة، أهمها مشكلة الكهرباء إضافةً إلى عدم استقرار سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار وغلاء المواد الخام مثل التوابل واللحوم والمنتجات الزراعية وغيرها، على اعتبار أن المواد وسعر الخدمة تسعّر بالليرة التركية، فضلاً عن الوضع المعيشي المتدهور للسكان، والذي أدى إلى تراجع أعداد رواد المطاعم خلال الفترة الماضية».
وعن تكلفة افتتاح المطاعم الكبيرة في ريف حلب، يقول: «تختلف التكلفة باختلاف المساحة التي يغطيها المطعم ومبلغ الإيجار السنوي، إضافةً إلى المعدات التي تتفاوت أسعارها بحسب حجمها وجودتها، لكن في المحصلة فإن التكلفة تبدأ بنحو 25 ألف دولار أميركي وقد تصل إلى 300 ألف دولار تقريباً، فضلاً عن المصاريف الثابتة للعمل متمثلةً بالمواد الخام وإيجار العقارات وأجور اليد العاملة، مثل مطعمي الذي يوفر 25 فرصة عمل».
وبدا لافتاً غياب الإحصائيات الدقيقة أو التقريبية عن الأعداد الكلية للمطاعم ومراكز الترفيه في ريف حلب لدى الحكومة السورية المؤقتة، رغم النمو المتزايد لها واستقطابها المستثمرين في الداخل السوري أو من السوريين اللاجئين والمهاجرين الراغبين باستثمار أموالهم، حيث تقتصر الأرقام على تقديرات المجالس المحلية للمدن وأصحاب المشاريع ممن تواصلت معهم الجمهورية، والذين قدّروا تعداد المطاعم الكبيرة بنحو 50 مطعماً تبلغ تكلفة الواحد منها ما يتجاوز 70 ألف دولار أميركي.
ويعتبر الدكتور كرم الشعار، وهو مدير مركز السياسات وبحوث العمليات الذي ينشر أبحاثاً عن الواقع المعيشي في سوريا، أن انتشار هذا النوع من المشاريع يعد طبيعياً في مناطق ريف حلب والشمال السوري عموماً، بالنظر إلى ضبابية المشهد السياسي وعدم وجود قوانين لحماية الاستثمار في مجالات تحتاج إلى رؤوس أموال مرتفعة، وهو ما يجعل الاستثمار في المجالات الخدمية والترفيهية الخيار الأنسب.
ويشرح الشعار: «تعتبر دورة رأس المال في القطاعات النامية بريف حلب قصيرة نسبياً وعوائدها سريعة، ما يجعل الجدوى الاقتصادية لهذه الاستثمارات أعلى من غيرها، وهذا ما يتم فعلاً على أرض الواقع. إذ يعتبر الجزء الأهم في دراسة الجدوى الاقتصادية لأي مشروع هو تقييم مخاطر خسارة التكلفة، وبالتالي فإن أصحاب التكلفة المنخفضة تكون الخسارة في التكلفة الثابتة من معدات أو غيرها أقل من الخسائر التي يتحملها أصحاب المنشآت الضخمة والمعامل الصناعية ذات التكلفة الثابتة المرتفعة، كما أن قدرة المشاريع الخدمية على تغطية تكلفة رأس المال أسرع».
ويرجع الشعار هذا التوجه نحو المشاريع الخدمية إلى حالة التشرذم التي يعيشها القطاع الاقتصادي وسوق العمل في الشمال السوري، ويضيف: «رغم أن العوائد المادية للمشاريع الصناعية أعلى من عوائد المشاريع الخدمية، إلا أن غياب قوانين ناظمة لعمل القطاع الصناعي وضمانات حقيقية للاستثمار، فضلاً عن غياب أفق الحل السياسي وطبيعته، يشكل هاجساً للمستثمرين الراغبين بدخول سوق المنطقة، نتيجة غياب الرؤية والقوانين الاقتصادية التي تحمي أصولهم وتجارتهم».
توجه نحو العسكرة
لكنّ آثار هذا النمو كانت ضيقةً، خاصةً وأنها ظلت محصورةً ضمن قطاعات محدودة تعتمد على رأس المال العامل أكثر من اعتمادها على اليد العاملة، وهو ما جعلها عاجزةً عن تضييق الهوة بين فائض الطلب مقارنةً بفرص العمل الموجودة (العرض)، وأدى ذلك إلى ظهور سوق عمل فرضه الواقع الذي تعيشه المنطقة متمثلاً بالعسكرة.
فقد ارتفع معدل المنخرطين في القطاع العسكري من مختلف الفئات العمرية، بعد أن أصبح العمل العسكري مهنةً لكثيرٍ من السوريين، لما يوفره من رواتب وأجور ثابتة وانتشار الإتاوات والتهريب بين مناطق سيطرة القوى المتصارعة التي توفّر عوائد مادية كبيرة للعناصر. إضافةً إلى تنامي ظاهرة القتال الخارجي (الارتزاق) لدى بعض الفصائل العسكرية التي تقوم بنقل العناصر للقتال في دولٍ مثل ليبيا وأذربيجان مقابل رواتب شهرية ثابتة تصل إلى ألفي دولار أميركي، ما شكل عامل سحبٍ لليد العاملة من أصحاب المهن الباحثين عن عوائد مالية ثابتة تغطي احتياجاتهم.
ويعتقد الدكتور في الاقتصاد يحيى السيد عمر أنّ «غالبية الشباب لم يتّجهوا للعمل المسلح قناعةً به، بل كنتيجةٍ مباشرةٍ لقلة فرص العمل، وتراجع مستوى الأجور، فالعمل مع الفصائل العسكرية يضمن أجراً شهرياً، وإن كان بسيطاً، لكنه مستمر، وهذا مؤشرٌ خطير».
ويقول السيد عمر: «شكّل توجه الشباب للعمل مع الفصائل المسلحة ظاهرةً يمكن وصفها بالسبب والنتيجة في الوقت ذاته، فهي نتيجةٌ لقلة فرص العمل في المنطقة، وفي الوقت ذاته هي سبب من أسباب عدم القدرة على تحريك الدورة الاقتصادية؛ كون غالبية الشباب في سن العمل قد هجروا الأسواق وتوجهوا للعمل العسكري». ويضيف: «على المدى المتوسط ستختفي العديد من المهن، وتتراجع الخبرات، وهنا من غير المجدي دعوة الشباب لترك العمل مع الفصائل والانخراط في سوق العمل قبل توفير فرص عمل حقيقية، فهكذا دعوات لا طائل منها، فالخطوة الأولى تتمثل بالعمل على تحسين مؤشرات التمكين الاقتصادي في المنطقة».
ويوضح السيد عمر أن القطاعات الخدمية تقوم بشكلٍ رئيسي على رأس المال العامل أكثر من الثابت، وهذا يعني دورةً إنتاجيةً قصيرة، وبالتالي مخاطر منخفضة، إضافةً لكون القطاعات الخدمية تتطلب خبراتٍ منخفضةً مقارنةً بالقطاع الإنتاجي الذي يحتاج لخبراتٍ متقدمة. كما تلعب العوامل النفسية دوراً في دعم قطاع الخدمات، وهنا نحن إزاء ظاهرة اقتصادية تسمى بظاهرة تأثير قلم الحمرة، وهو مصطلحٌ ظهر إبان الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2001، ويجمع بين العوامل الاقتصادية والنَّفْسية، ففي ظلّ الضَّائِقة المالية التي يعاني منها الأفراد وما تُسببه من ضغوط نَفْسية لا يستطيعون الترْفِيه عن أَنْفسهم بالسَّفر أو شراء الكَمالِيات الباهِظة الثَّمَن، فيتجهون لاستهلاك الكَمالِيات الرَّخِيصة نسبياً».
ويشير السيد عمر إلى أن إغفال ضعف البرامج والمشاريع الحكومية لدعم القطاعات الإنتاجية وبرامج التمكين الاقتصادي، إضافةً إلى قيام المنظمات الإغاثية والإنسانية بالاعتماد على المساعدات المباشرة، حفّزت السلوك الاستهلاكي على حساب الإنتاجي «فحتى الآن لا يوجد خطة حكومية واضحة المعالم في هذا الشأن».
محاولات تنموية
«لا توفر الحكومة السورية المؤقتة جهداً للنهوض باقتصاد المنطقة والعمل على تعافيها، بدءاً بالعمل على إنشاء مدن صناعية وعقد اجتماعاتٍ دوريةٍ مع المستثمرين، والعمل على تأمين الدعم الكافي لتنمية القطاع الزراعي، وليس انتهاءً بتقديم التسهيلات للتجار والموردين لتلبية احتياجات المنطقة من السلع والبضائع لحمايتها من الاحتكار والعوز»، هذا ما يقوله وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة عبد الحكيم مصري رداً على أسئلتنا عن غياب الخطة الحكومية الواضحة التي أشار إليها الدكتور يحيى السيد عمر.
وفي محاولة لتنشيط القطاع الصناعي، يقول الوزير: «عملت الحكومة التركية بمساهمةٍ من السلطات المحلية السورية على إنشاء وتأهيل ثمان مناطق صناعية، 6 منها بريف حلب في جرابلس والراعي وإعزاز ومارع والباب وعفرين بريف حلب، وذلك بهدف تنمية اقتصاد المنطقة وتوفير فرص عمل للحد من عمليات الهجرة وتقليل أعداد الراغبين في اللجوء إلى أراضيها».
ويوضح الوزير أن هناك سبع مناطق صناعية حكومية وواحدة خاصة في مدينة الباب، تضم أكثر من ثمانين مصنعاً ومشغلاً للحرف اليدوية، بينما لاتزال بقية المناطق قيد التجهيز والمصانع العاملة فيها محدودة حتى اللحظة.
ويضيف خلال حديثه للجمهورية.نت: «يتم العمل على تجهيز البنية التحتية لجميع المدن الصناعية بريف حلب، وأهمها تأمين كهرباء دائمة لمنع الاختناقات وتوقف المصانع. بينما تعتبر المنطقة الصناعية في الراعي هي العاملة حالياً بطاقتها شبه الكاملة، وتضم مايقارب 70 مصنعاً، معظمها في مجال الأحذية والألبسة والصناعات البلاستيكية. ويوجد عدد كبير من المعامل ضمن باقي المناطق الصناعية بريف حلب، وأبرزها معامل الأحذية والألبسة، إضافةً إلى معمل لتصنيع أكياس النايلون لتعبئة الحبوب والمحاصيل الزراعية في مدينة الراعي، وينتج نحو 2.5 مليون كيس شهرياً، ومعمل لصناعة الحصر المنزلية، ومعمل لإنتاج المسامير في مدينة جرابلس، وأيضاً مصانع تنقية المياه وتعبئتها، ومصانع صهر وصب الحديد».
ويتابع الوزير: «حالياً يوجد مصنع لتركيب الأدوية البشرية في مدينة عفرين يتبع لشركة سكاي فارما المرخصة في تركيا، إضافةً إلى وجود مشروع قيد الدراسة لافتتاح مصنع لإنتاج المستلزمات الطبية. مثل الإبر وأكياس المصل (السيروم) وغيرها، لتوفير احتياجات القطاع الطبي في المنطقة. ويتم التجهيز أيضاً لتشغيل مصنع لتركيب الأدوية البيطرية والمبيدات الزراعية في مدينة مارع». ويؤكد المصري على وصول مشروعٍ لتشغيل معمل للإسمنت بريف حلب الشمالي مراحله النهائية، ما «سيساهم بتوفير المادة وتقليل استيرادها من الخارج».
الاستثمار في ريف حلب
وفي ما يخص الاستثمار وطرق استقطاب رؤوس الأموال إلى المنطقة، يجيب الوزير: «تجهيز البنية التحتية للمدن الصناعية على رأس أولوياتنا، وقد قطعنا شوطاً كبيراً في تهيئتها، إضافةً إلى تجهيز قوانين لحماية المنتجات المحلية وتأمين أسواق تصريف لها وفرض رسوم كبيرة على استيرادها. كما عقدنا اجتماعاتٍ دورية مع مجموعة من المستثمرين واتحاد غرف التجارة والصناعة لوضع دراسات وخطط تنموية للاستفادة من إعفاءات قانون قيصر والآليات التي يجب أن تترافق مع قرار الإعفاء لتنمية المنطقة».
لكن المستشار الصناعي المهندس سعيد نحاس. مدير شركة “ieeo” الصناعية، شدّد على ضرورة وجود بنية تحتية وفوقية مجهزة، إضافةً إلى توافر البيئة الآمنة وضمانات قانونية وأمنية تحمي حقوق المستثمرين وعملهم وعمالهم، للحصول على استثمارات قادرة على تفعيل منشآت ضخمة في المنطقة.
ويقول نحاس: «تعتبر المنطقة شديدة الأهمية من الناحية الجغرافية لقربها من الأراضي والموانئ التركية التي تسهل عملية جذب أصحاب رؤوس الأموال السوريين وغير السوريين (الأتراك منهم على وجه الخصوص)، وأيضاً من حيث تمتعها بالموارد البشرية الطبيعية والخبرات المتعددة للأهالي ورخص الكلف المتعلقة بالأيدي العاملة، وبالتالي انخفاض تكلفة التصنيع وسهولة تصدير الفائض من الإنتاج».
ويعتقد نحاس أن «إنشاء المناطق الصناعية الحالية جاء ضمن خطةٍ لاستيعاب المصانع والمنشآت الضخمة، إضافة إلى الورش والمشاغل المتوسطة والصغيرة التي تمثل لبنة النهضة الصناعية». ويضيف: «لكن هذه المناطق تحتاج إلى توفير بنية تحتية، بما تحويه من شبكة طرق وشبكة نقل وغيرها من أساسيات العمل مثل الكهرباء والماء ومواد الخام، وأيضاً الاهتمام بمعيشة السكان. إضافةً إلى ضرورة وجود بنية فوقية راسخة، متمثلةً في إحلال الأمن والحوكمة الرشيدة وإرساء العدالة بمفهومها القضائي والحقوقي والشرطي».
ويؤكد على أنه «في حال توافر هذه المقومات بالحد المقبول، فإن الحكومة السورية المؤقتة لن تكون بحاجة إلى تشجيع رؤوس الأموال على الاستثمار داخل المناطق المحررة، خاصةً وأن المنطقة تمتلك القدرة على الإنتاج بما يكفل التصدير ليس فقط لبقية المناطق السورية وتركيا، بل لعديد الدول حول العالم».
تفاؤل بلا أساس داعم
لكن بالنسبة إلى الوضع الحالي للمنطقة، فإن هذه الأفكار ليس لها أساسٌ داعم، خاصةً وأن الإنتاج يبقى رهين القوانين المتغيرة فيما يتعلق بالاستيراد وتصدير المواد الأولية والمنتجات والحركة الجمركية، فضلاً عن توغل الفصائل في الحياة اليومية وفرضها للأتاوات، وبالتالي ضعف دخول أصحاب المال وتخوف الصناعيين من الاستثمار.
ويعتقد عبد الرحمن أنيس، الباحث في اقتصاد الشمال السوري، أن «من الصعب جداً النجاح في عملية التنمية الشاملة لريف حلب الشمالي والشمال السوري عموماً، نتيجة ضعف الحكومة السورية المؤقتة وهشاشة السلطات المركزية في المنطقة، والتي تعد مجرد مكاتب أخذت أكبر من حجمها».
ويقول: «إن عملية التنمية الاقتصادية يجب أن تتم ضمن استراتيجية استقرار الاقتصاد الكلي من أجل التنمية، وذلك عبر وضع نظام اقتصادي فاعل من خلال وضع مبادئ ومحددات وطنية، وأن تٌرسم موارده العامة ونفقاته العامة بكل وضوح، وتعبئة تلك الموارد ضمن خزينة عامة، وأن يركز ذلك على تحسين المستوى المعيشي وتحقيق الاستقرار في سوق السلع والخدمات، بما يضمن الوفرة في السلع والأساسيات ويبني الأرضية القانونية والتشريعية لاقتصاد حر مضبوط بأجهزة مركزية للوصول إلى تهيئة مناخٍ استثماريٍّ واعدٍ وآمن يشجع دخول الأموال المحلية وأموال المغتربين والمهجرين والأموال الأجنبية لتحريك وتنشيط الاقتصادات المحلية وتوفير فرص العمل».
ويضيف: «يعتبر النمو الاقتصادي أحد سلل التنمية الشاملة الاقتصادية والاجتماعية، والتي تبنى بشكل تدريجي من خلال تهيئة كل القطاعات ونهضتها وحوكمتها وتنظيم الدخل القومي وضبطه ضمن مؤسسات محكومة تنظيميا وإدارياً وقانونياً وتشريعياً، ووضع استراتيجيات التنمية الشاملة والمتكاملة ضمن فترات زمنية وبأهداف محددة ومدروسة، وهو ما لا تستطيع الحكومة السورية المؤقتة فعله، لعدم فاعليتها في متابعة المشاريع الموجودة في المنطقة وتعدادها واحتياجاتها، وهشاشة حضورها وافتقارها للدعم والموارد، وهو ما يظهر جلياً في العلاقة بين مؤسسات الحكومة وهيئاتها وبينها وبين المجالس المحلية أو الائتلاف، حيث تغيب مصفوفات توزيع الأدوار والصلاحيات. لذلك من الصعب جداً ضمن ظروف الحكومة المؤقتة النجاح بعملية التنمية الشاملة».
يمكن القول إن هناك حلولاً قد تُعتبر الحكومة السورية المؤقتة ومعها سلطات الأمر الواقع قادرةً على تنفيذها، وعلى رأسها قانون استثماري ينظم عمل القطاع الاقتصادي ويضمن حقوق أصحاب رؤوس الأموال، وأيضاً تنظيم عمل شركات الكهرباء المزودة للمنطقة بالخدمة، وأخرى خارجة عن قدرة الحكومة لعدم توافر التمويل والدعم المادي، مما يجعلها عاجزةً عن تجهيز البنية التحتية للمناطق الصناعية الموجودة حالياً وانتظار دخول المستثمرين لتنميتها، بما يؤدي إلى تنشيط مختلف قطاعات الإنتاج الاقتصادي في الشمال السوري. لكن وقبل الشروع بهذه الإجراءات يتوجب على سلطات الأمر الواقع رفع المستوى المعيشي للسكان وتوفير الاستقرار على مختلف الأصعدة لضمان دخول المستثمرين الذين يعتبرون أن أساس الأمان على كتلهم النقدية يتمثل بتوافر الأمن والاستقرار بين سكان المنطقة، وهو ما يبدو صعب التحقق نتيجة التعدد الهائل لفصائل المعارضة المسلحة وتناسلها من بعضها والاقتتال الدائم فيما بينها وتغوّلها على حياة الناس.