فرانسوا بيجودو روائي ومخرج وناقد سينمائي وأدبي ومفكر فرنسي يساري. كتب روايات عديدة مثل Jouer juste (اللعب بالنّار) (2003) وEntre les murs  (بين الجدران) (2006) وLa blessure la vraie  (الجرح الحقيقي) (2011)، وأيضًا كتبًا سياسيةً أشعلت جدالات في فرنسا مثل Histoire de ta bêtise  (تاريخ غبائك) (2019) عن البرجوازية ومن ينتخب مرشحيها، وNotre joie (فرحتنا) (2021) الذي ينتقد فيه خصوصًا اليمين المتطرف الفرنسي المهووس بقضية الهوية الفرنسية.

كتب بيجودو أيضًا سيناريوهات أفلام مثل الصف (2008) الذي حصد الفيلم السعفة الذهبية لمهرجان كان خلال دورته الـ 61، وهو في الأصل رواية كتبها حول خبرته التعليمية بعدما قضى 10 سنوات يعمل في عدّة مدارس ريفيّة في فرنسا. كما أنه أخرج عدّة أفلام أخرى مثل Autonomes (واثق من نفسه) (2020).

بصفته مفكرًا له خلفية كبيرة في المؤسسة التعليمية، ينتقد بيجودو النظام التعليمي كما نعرفه، سواء كان فرنسيًا أو غير ذلك. وقد أردنا في هذا الحوار أن نطرح عليه بعض الأسئلة المرتبطة بأطروحته حول التعليم، وربطها بطبيعة النظام النيوليبرالي الذي نعيش في ظله.

*****

من خلال مسيرتك المهنية كمدرّس، حَدِّثنا عن الدور الاجتماعي للمؤسسة المدرسية في عالمنا المعاصر بسلبياته وإيجابياته، وذلك عبر نموذج التعليم الفرنسي؟

الدور الاجتماعي للمدرسة أكثر تشابكًا وتعقيدًا، لكن بِعدسة المُدرّس يمكن القول إنّ تلك المؤسسة؛ مثل أي مؤسسة، تعمل على الحفاظ على النظام الاجتماعي والسياسي، وهما بلا شك في حالة ترابط. في اعتقادي أنّ للمدرسة وظيفتان تقوم بهما على الوجه الأمثل؛ أولاهما تأديب الطلاب، وثانيهما إعداد هؤلاء الطلاب بالتوازي مع تأديبهم لدخول سوق العمل. يتقاطع هذان الهدفان بشكل جيد لأن عالم العمل، كما نعرفه منذ القدم، يحتاج إلى أشخاص منضبطين بشدة وبشكل أساسي، ولكن عالم العمل الرأسمالي في ثوبه المعاصر، يحتاج أيضًا لمهندسين ومعلّمين وفنيين من جميع الأنواع. لذلك، يسعى التعليم جاهدًا للاستجابة لهذة التوقعات وتلبية الطلب من المجتمع وفقًا للمعروض، أي السوق. فعلى سبيل المثال، تحتاج المجتمعات اليوم بشكل أساسي إلى مُبرمِجين. لهذا، في رأيي، سوف يتم القضاء تدريجيًا على التعاليم المدرسية غير الضرورية مثل الأدب والفلسفة. وبما أنّ هدف هذا المشروع هو هدف اقتصاديٌ بشكل قاطع، وبالتالي هدفٌ سطحي، فإنه لا يمكن الاعتراف به أمام العامة، وعليه تتم تغطية الحقيقة حول هذا الموضوع بأهداف وأقوال أكثر نُبلاً مثل: «تدريب المواطن»، و«تطوير الرؤية النقدية»، و«إيقاظ الشباب»، و«التحرر»، و«خلق تكافؤ الفرص». لكن كل ذلك خرافات إيديولوجية، تحاول الأنظمة بها تغليف الجدوى الاقتصادية الواضحة لنظام التعليم.

وجدَ الفيلسوف ميشيل فوكو، الذي تَقتبسُ منه في بعض الأحيان، أنَّ المدرسة مثل الجيش ومؤسسات أخرى، هي مؤسسة تأديبية. أليس هذا مبالغًا فيه؟ خاصة أن النموذج الفرنسي «أقلّ سوءًا» على المستوى التأديبي من مؤسسات تعليمية في العالم الثالث مثلًا، فضلًا عن أنّ هناك نماذج تعليمية أخرى معروفة بـ «مرونتها» (مثل النموذج السويدي). ما رأيك في ذلك؟

إذا فكرَّنا وقارنَّا بين نماذج مختلفة، فمن الأكيد أنّ هناك اختلافات كبيرة بين النظام التعليمي الفرنسي والنظام التعليمي المغربي على سبيل المثال. ولكن من وجهة نظر هيكلية، فإنّ فكرة الجهاز التأديبي أو المؤسسة التأديبية صالحة لجميع هذه الأنظمة التعليمية رغم اختلافاتها. فالهدف دائمًا هو التأديب، والأساليب فقط مختلفة. يمكن أن نجد طريقة مرنة و«ناعمة» في المؤسسة التعليمية الفرنسية أو غيرها، وطريقة «صعبة» وعنيفة في بلاد أخرى. فهي شبيهة بفكرة المثل: Good cop، Bad cop (وهو تكتيك نفسي يُستخدم في الاستجواب والمفاوضات، ويتضمن هذا التكتيك فريقًا من محققَين يتخذ كل منهما موقفًا مغايرًا للآخر تجاه شخص ما، ويجوز لهما إظهار موقفيهما بالتناوب أو في الوقت نفسه).

في البلدان التي شقت فيها الرغبة الديمقراطية طريقها، سيكون من المستحيل فرض انضباط صارم على الطلاب. لذلك تكيفت المدرسة كما تكيفت إدارة الشركات، لتصبح «أفقية» و«أكثر ديمقراطية». لكن الأمر دائمًا يتعلق بإنجاز العمل وجعل الجميع في المجتمع أكثر كفاءة، وكفاءة هنا تعني كل ما يصبّ في مصلحة المؤسسة على الصعيد الاقتصادي بغض النظر عن الأفراد.

«المدرسة» كما نعرفها اليوم، باعتبارها إحدى تجليات الدولة الحديثة، هل يمكن اعتبارها مرحلة عابرة في تاريخ الإنسان؟ وهل يمكن تجاوزها؟

بمجرد اقتراح فكرة إلغاء المدرسة يتساءل بعض الناس قلقين: ماذا سيفعل الأطفال إذا لم يكن لديهم مدرسة؟! وأول شيء يجب أن نقوله؛ وهو أمر صحّي علينا تذكره، أنّه على أقل تقدير، عاشت البشرية بدون مدرسة لمدة 99.9 ٪ من تاريخها. يمكن أن تساعد تلك المعلومة لتهدئة القلق من فكرة عالمٍ بلا مدرسة.

قوة التفكير النقدي تكمن في تفكيك ضرورة النظام الاجتماعي والسياسي القائم، وكذلك في إعادة التأكيد على عدم وجود نظام اجتماعي سياسي مثالي يمكنه أن يلبي ضرورات مجتمع مّا. لذلك يمكن التفكير وإعادة التفكير في كل شيء، وتفكيك القديم. ولذلك أيضاً يمكن إعادة النظر في كل شيء، بما في ذلك اقتراح مجتمع قد يخترع شيئًا آخر غير المدرسة لاستيعاب السكّان الذين لم يدخلوا سوق العمل بعد.

بالطبع، إذا ربطنا ظهورَ التعليم الإجباري بظهور الرأسمالية الصناعية، يصبح من المنطقي عدم الفصل بين تجاوز الرأسمالية الصناعية وتجاوز التعليم الإلزامي، ما يجعلنا نفكر في الاثنين معًا: كيف نتجاوزهما؟ وما البديل؟

لديك رؤية «بورديوزية» (من المُفكّر وعالم الاجتماع بيير بورديو) عن خلق عدم المساواة الاجتماعية والتفاوت الطبقي، التي تُخلَق أيضًا – في رأيه – من خلال المؤسسات التعليمية. ما رأيك في هذا الموضوع؟ وهل يمكن ربطه بتكوين عالمنا النيوليبرالي المعاصر؟

كان بورديو بالفعل أول من وضع نظريًا، وبشكل كميّ، الكيفية التي تساهم من خلالها المدرسة في تكوين وترسيخ اللامساواة والتفاوت الطبقي. لكن رؤيتي ليست بورديوزية، بل هي واقعية وبراغماتية، لإنها تأتي من ملاحظاتي ومن موقعي كطالب ثم من موقعي كمعلّم. رأيتُ كمُدرِّس من أحدد مصيره مهنيًا ومصيره عمومًا في نهاية الصف الثالث الإعدادي.

يمكن لأي شخص أن يرى ببساطة ويلاحظ كيف أنّ المدرسة مصممة لأطفال الطبقات العليا، فمصيرهم المدرسي واضح: سينجحون في الثانوية العامة ثم يذهبون إلى الجامعات الكبرى المرموقة. المؤسسة المدرسية تُغرِق أطفال الطبقات الدنيا في بحر الشعور بالفشل وعدم الاستحقاق والطبقية، ما يدفعهم لاحقًا إثرَ شعورهم بالفشل للذهاب إلى اختيارات دراسية لا يرتضونها لأنفسهم. تؤكد المؤسسة المدرسية شرعية الأوضاع الاجتماعية للشريحة الأولى من أبناء الطبقات العليا، (أستحقُّ أن أكسب أكثر بما أني نجحت في المدرسة)، وتُعزِّزُ عند الشريحة الثانية، أي أبناء الطبقات الدنيا، شعوراً بعدم الاستحقاق (أستحق أن أكون فقيرًا لأن المدرسة أقنعتني بأنني غبي). يتّم ترسيخ تلك الأفكار عن طريق المدرسة، لتصبح طريقة تفكير المجتمع بأكمله، فيصبح الفقر والثراء نتائج لأفعال واختيارات شخصية لا لطبيعة النظام الاقتصادي المُعزَّز بدوره للامساواة. تلك الفلسفة هي لبُّ النظام النيوليبرالي، لذا يجب أن تشجع هذه الملاحظة وحدها أي شخص مؤيد للتحرر على التفكير في تغيير جذري للنظام التعليمي والمؤسسة المدرسية.

تؤكد أطروحتك فكرة أن النظام التعليمي كما نعرفه لا ينجح ولا يحقق هدفه المتمثل في «حكم الجدارة» (Méritocratie/Meritocracy). هل يمكنك أن تخبرنا، مع ذلك، إذا كانت هناك لحظات تاريخية كان فيها هذا الفشل في ذروته ولحظات تاريخية أخرى عندما اقترب نظام التعليم -على العكس من ذلك- من هدف نظام الجدارة المذكور؟

بدلاً من أن نقول «هدف نظام الجدارة»، يمكننا أن نتحدث عن «خطاب الجدارة». وهذا الخطاب يقول الآتي: في المدرسة، الجدارة فقط هي التي تُفرّقُ بين الطلاب، لذلك تنظم المدرسة مسابقة صحية وعادلة تضمن التوزيع العادل للمهن، وبالتالي الدخل.

ولكن أمام هذا الخطاب، لا بدّ من ملاحظة ثلاثة أشياء:

1- فكرة الجدارة عفا عليها الزمن وهي غير منطقية، فهل يمكن اعتباري «جديرًا» لأنني أمتلك مهارات في الرياضيات؟

2- فكرة الجدارة غير منطقية على المستوى الاجتماعي، حيث أنها لا تأخذ في الاعتبار الموقع الاجتماعي للطالب. فأنا يمكن أن أكون ناجحًا في المدرسة لأنني من عائلة مُعلِّمين على سبيل المثال؛ وليس بسبب «كفاءتي».

3- حتى لو كانت الجدارة تحتوي فكرة جيدة، وحتى إذا حققت المدرسة فرزًا جيدًا للطلاب، فكيف يمكن أن يكون ذلك أكثر عدلًا؟ أليسَ من الظلم استبعاد الأشخاص الذين ليس لديهم بالفعل فرصة لامتلاك صفات أو مهارات معينة؟

ومع ذلك؛ السؤال المطروح هنا يتعلق بفترة تاريخية افتراضية غير حقيقية، استطاعت فيها المؤسسة المدرسية أن تُشجِّعَ أطفال الطبقات الدنيا وتمنحهم فرصًا حقيقية وعادلة. ولكن تلك الحقبة لم تكن موجودة حقًا. كانت المؤسسة المدرسية «كريمة» مع أطفال الطبقات الدنيا فقط في الوقت الذي احتاج فيه سوق العمل والمجتمع إلى عُمّال مؤهلين بشكل أفضل. تلك هي المفارقة التي سمحت لأجيال من الفلاحين ومن أطفال الفلاحين بالوصول إلى الوظائف في القطاع الخدمي.

لكن مرة أخرى، هل تلك الظاهرة تقدم حقًا فرصًا عادلة لأبناء الفقراء؟ نرى اليوم إلى أي مدى تُعتبر الهجرة الجماعية من الريف كارثة أنثروبولوجية.

هل يمكن أن يقضي نمط الإنتاج الرأسمالي في شكله النيوليبرالي على منظومة التعليم التقليدي؟

إذا كنا نعني بعبارة «نظام التعليم التقليدي» النظام المُطبَّقَ حاليًا في بلد مثل فرنسا، فإن قوى السوق لا تريد القضاء عليه، إذ إنها ما زالت بحاجة إليه. ولكن سيريدون فقط تكييفه بشكل أفضل مع مقتضيات الإنتاج. لذلك ستتكيف المؤسسة المدرسية أكثر فأكثر مع علوم الأعصاب مثلًا، وستقوم بالرقمنة والحوسبة والترشيد، لكن كل ذلك ليس سوى تغييرات شكلية. أما إذا كنا نعني بـ«نظام التعليم التقليدي» نوعَ المؤسسة المدرسية السارية في بلاد العالم الثالث، فأعتقد أنها ستتبع التطور والطريق نفسهما كما هو الحال في الغرب: نظام أفقي متطور أكثر، ومرونة أكثر في علم أصول التدريس، وطلب المزيد من المشاركة من قبل الطلاب – تمامًا كما تتطلب الإدارة الجديدة في الشركات المعاصرة موظفين أكثر استقلالية. لكنّ الأهداف تظلّ كما هي: التحكم في الطلاب وانضباطهم وجعلهم قابلين للتوظيف والدخول في سوق العمل. لكنَّ هذا لن يجعل المواد المدرسية أكثر إثارة.

لقد قلت بالفعل قبل ذلك إن اقتراحك لتغيير نظام التعليم هو القيام «بفعلين أناركيين في وقت واحد» عَبرَ إلغاء إلزامية التعليم ووزارته. ولكن بشكل عملي أكثر، ما هي العناصر التي تؤسس مدرسةً ما خارج المفاهيم النيوليبرالية والإنتاجوية والتنافس؟ ماذا وكيف نُعلّم في تلك المدرسة؟

لا بدَّ من إلغاء وزارة التربية والتعليم، ولكن قبل كل شيء لا بدَّ من إلغاء فكرة التعليم الإلزامي. هذه هي النقطة المركزية.

السؤال المحوري هو: هل نحن بحاجة (بشكل جماعي ومجتمعي) إلى هيكل تعليمي؟ لستُ متأكدًا من ذلك.

يمكننا بالأحرى التفكير في هياكل استقبال الشباب القائمة على العمل التطوعي؛ وبناءً على طلب الأطفال.

في هذا المجال، كل شيء يمكن ابتكاره. ولكن يمكننا استخلاص أفكار جديدة من الهياكل والمؤسسات القائمة، وأيضًا من خلال النظر إلى ما يحدث في مدارس بديلة معينة، أو في شبكة التعليم الشعبي حيث يمكن للناس من جميع الأعمار ومن جميع الظروف أن يُثقِّفوا بعضهم بعضاً.

على أي حال، من الواضح أنه من أجل التعلّم لا يحتاج المرء إلى أحد ولا يحتاج إلى سيّد. يمكن للجميع أن يلاحظوا ذلك في حياتهم اليومية، حيث أنّ الجميع يتعلمون باستمرار وبمفردهم.