في الزوايا تتكدّسُ علب وقناني بلاستيكية. تشاجرتُ مع أمي ثلاث مرات خلال إقامتي القصيرة حول سبب الاحتفاظ بها. وكما في كل مرة، تؤكد لي بأن الكثيرين يحتاجونها: صديقةٌ تقوم بصناعة سائل تنظيف الأواني منزلياً، أو صديقٌ يستخدم العلب لوضع أقراص المعمول التي يصنعها ويبيعها.. إلخ. في حديثٍ هاتفيٍّ مطوّل مع صديقتي، تخبرني بأن هذه حال الجميع؛ هوس الاحتفاظ بكل الأشياء التي قد تتبخّر من بين أيديهم. أخبرتني أيضاً أن الأمر مرتبطٌ بإحساسٍ عميقٍ بالفقد العاطفي، وذلك تبعاً لمحلّلها النفسي. بلدٌ بأكمله تخاف أن يتسرب من بين يديك في العتمة! في العتمة الفعلية لا الرمزية، كما قد توحي العبارة. الكهرباء هنا متوفرةٌ لمدة نصف ساعة إلى ساعة -كحدٍّ أقصى- كل خمس إلى ست ساعات من الظلام المتوفر بكثرةٍ في كل مكان.. وفي قلوبنا أيضاً.
أذكر أن علب البلاستيك الفارغة والمقلايات المعوجّة فاقدة الأيدي كانت مجال مشاجراتِ أمي مع جدتي أيضاً، لكنّ ذلك لم يؤثر على علاقتهما كما يحصل اليوم بيننا. أحدّق بالعلب في الزاوية وأتذمّر طوال الوقت. لا يبدو أني قادرةٌ على إدراك معاني الأشياء بطريقتها، لكن ما المشكلة؟ فقد أصرّيت على إساءة فهم الحب أنا أيضاً لسنواتٍ عديدة سابقاً. هل المشكلة في موقعنا الجغرافي أحياناً.. أقصد الجغرافي العاطفي؟
في دمشق، يسألني بعض الأصدقاء، وبخجلٍ أحياناً: «لكن بصدق: لماذا تعودين؟». ليس الأمر فردياً بالمطلق، ولذلك ربما أحاول الإجابة على السؤال بفهم خيارات الآخرين، فإجابتي تَختزلُ في مكانٍ ما أجزاءَ من سِيَر حيوات أصدقائي جميعاً، بل وبالتأكيد سيرتي أنا أيضاً. بالإضافة إلى أننا في اختيار البقاء أو الرحيل، أو ما بينهما، ندفع أثماناً متعددةً أيضاً. أحاول اختيار الثمن الذي أدفعه من بين خياراتنا القليلة بعدما صارت مساحةُ حريةِ الاختيار ضئيلة. بعض هذا الثمن أن أكون بأسماء وشخصياتٍ عديدة؛ أن أبقى لا مرئيةً إلى حدٍّ ما، وأن أبتسم عند عبوري حدود البلاد؛ حتى عندما تخالطني أغرب المشاعر التي يختلط فيها الإحساس بالشفقة مع الغضب -وأحياناً الكراهية- تجاه عنصرٍ يفتّش أغراضي باحثاً عن أي شيءٍ يمكّنه من زيادة ابتزاز السائق الذي يقلّني. أن أختار الـ«ما بين» هو ألّا يعود أيُّ الأماكن لي، وأن أدّعي أحياناً أني لم أعد أبحث عن المنزل الذي يقع في مكانٍ ما، بل ربما أن أغير إجاباتي دوماً عمّا هو المنزل/الوطن وأن أتخفّف من علاقتي العميقة بكل ما هو ماديٌّ وقابلٌ للامتلاك والارتباط به، وربما أن أسعى أحياناً للتخلي عنه قبل أن يتخلى عني. فكلما ابتعدنا أو اقتربنا من الأشياء تغيّرت علاقتنا بها من جديد.
في إحدى قصائده من كتاب الشاي ليس بطيئاً، يقول منذر مصري: «شرط الحب أنْ تحبّ وأنت تعلم أنّ ما تحبه يتبدّل ويختلف ويوماً لا يعود هو هو وخذني أنا على سبيل المثال.. سأحبك وأنا تراب». لكن كيف نُبقي على الحب عندما يتحول إلى ألمٍ طويل الظلال ومن طرفٍ واحد، ولماذا لا نتمكن من قطع علاقة الحب المؤلمة مع المكان؟
السخرية، التي تستبطن ألماً عميقاً، تصاحب وداعي في كل مرةٍ أذهب فيها إلى سوريا بعبارة: «الوطن ليس فندقاً نغادره عندما تسوء الخدمة». السخرية من ألم الحب الذي لم يتم تبادله معنا. نودُّ أن نقول للآخر كم فقدَ بعدم مبادلتنا الحب، موقنين في أعماقنا بأننا نجانب الصواب ونحتال على ألم الرفض، فلا هو يأبه ولا الألم يشغل أحداً سوانا؛ نحن الذين نودُّ تحويل مجرى الأمور التي لا تتغير سوى للأسوأ. ما نوده هو أن نقول لهذا الوطن إنه خسرنا. فقد رحلنا وبدأنا الحياة في مكانٍ آخر وصار هو المكان القديم، بشكلٍ ما أصبح الماضي؛ ألبوم الصور التي تبهتُ ألوانها باستمرار كلما مرَّ الوقت. لكن ما نودُّ تجاهله أيضاً هو أن الوطن القديم بدأ يصبح مستقلاً عنا وعن أمانينا التي بدأت تكبر في مكانٍ آخر، أننا وهو لم نعد نسير الطريق نفسه، وأنه تحول الى ألمٍ طويلٍ قد ندفنه عميقاً، نتجاهله أو نراقبه ينمو قرب وسائدنا ليلاً حتى عندما نخفيه جيداً، أو ربما تَحوَّلَ إلى ذاك الغريب الذي لا نشعر تجاهه بشيء. يسأل بعض الذين غادروا أولئك الذين بقوا: كيف يمكن لكم أن تبقوا في هذه الحفرة؟
تحاولُ بعض دراسات الهجرة فهمَ كيف ومتى يقرر الناسُ الرحيلَ عن الأماكن التي يعيشون فيها، والتي تشكّل أماكنهم الأولية، من خلال استخدام نظرية الاختيار العقلاني Rational choice theory، ينظر منظرو الاختيار العقلاني للأفراد باعتبارهم فاعلين عقلانيين يختارون من بين مجموعة من البدائل، بينما تفرض العوائق وهياكل الفرص ضمن البلد المرسل والبلد المستقبل قيوداً على خياراتهم. نهج التكلفة والمنفعة هو أساس عملية صنع القرار. جوهر نظرية الاختيار العقلاني هو نموذج المنفعة الذاتية المتوقعة. تم تطوير النموذج لاحقا ليشمل التفكير في الكيفية التي تتيح فيها شبكات المهاجرين السابقين تخفيض تكاليف خيار الهجرة بالمساعدة لاختيار الطريق الأقل كلفة مثلاً، أو كيف تختار العائلة فرداً منها ليهاجر عوضاً عن هجرة العائلة بأكملها بحيث تخفض تكلفة الهجرة، ويُمكِّنَ ذلك بالتالي من مساعدة باقي أفراد العائلة في البلد المرسل. التي تشير إلى أن الناس يقرّرون المغادرة تبعاً لحساباتٍ عقلانية، يطغى عليها التفكير بالجانب الاقتصادي وتوازن بين الخسارة والربح الناجم عن الانتقال أو البقاء، والتي يلعب العمر والجنس دوراً كبيراً فيها.
ما يتعذّر على هذه النظرية إخبارنا به أو تفسيره هو بقاء الذين تتشابه ظروف حياتهم مع آخرين من الذين رحلوا، وكيف يقوم الأفراد بهذه الحسابات آخذين بعين الاعتبار علاقتهم بالمكان، ومشاعرهم، وقدرتهم على رؤية أي أملٍ بالمستقبل، وحتى علاقتهم بالدين والعائلة حين اختاروا البقاء رغم تمكنهم من الرحيل لمكانٍ أفضل، وذلك حتى عندما يصبح الوضع لا يطاق. علاقةٌ قد تبدو للمراقب الخارجي مازوشيةً بامتياز، لكن أليس هذا هو الحب أحياناً؟ أليست هذه هي المشاعر التي قد نعجز كأفراد عن تحليلها كلياً ونحاول تأطيرها نظرياً، علها تخبرنا كيف ومتى سيقرّر هذا المُحب اللاعقلاني التخليَ عن الحبيب.
تركز دراساتُ الهجرة بأغلبيتها على أسباب الرحيل كما ترى كيرلين شيفيل، المحاضرة في جامعة دوك ومركز الهجرة العالمية، وتعتبر هذا المنظور قاصراً عن تقديم تحليلٍ متكاملٍ لفهم ظاهرة الهجرة، وتعزو ذلك لاهتمام العلوم الاجتماعية بالتغيير وليس بالثبات، حيث يتم ربط التغيير بوجود الفاعلية. ولذا كان الاهتمام بفهم أسباب بقاء أغلب السكان في مواطنهم الأساسية، حتى في ظل العنف والظروف المُهدِّدة للحياة، أقل بكثير. ولذا ترى أن أيّ فهمٍ متكاملٍ لظاهرة الهجرة يجب أن يحيلنا إلى محاولة فهم بقاء الأغلبية، وليس مغادرة البعض حتى في أحلك الظروف؛ فالقرار بالبقاء ينطوي على فاعليةٍ ليست بأقل من القرار بالرحيل، بسبب الحاجة لمفاوضاتٍ مستمرةٍ مع البيئة المحيطة، وإيجاد سبل الحياة في مكانٍ قد تستمر إمكانيات العيش فيه بالانحدار.
في عملهما المشترك لدفع دراسات الهجرة للتركيز بشكلٍ أكبر على أولئك الذين يختارون البقاء، توضح شيفيل ويورغن كارلينغ، الأستاذ المحاضر في قسم دراسات السلام في جامعة أوسلو، أن الناس يتوزعون على محورين: أحدهما يعبّر عن التطلعات والآخر يعبر عن القدرة، وذلك عند اتخاذ قرار البقاء أو الرحيل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفئات التالية تشكل حالاتٍ مثالية وليست فئاتٍ جامدةً ذات حدودٍ ثابتة. وعلى هذا تقع الفئة الأولى ضمن إطار مَنْ يتطلعون للرحيل ويمتلكون القدرة، والفئة الثانية ضمن مجموعة مَنْ يتطلعون للرحيل ولا يمتلكون القدرة، في حين تقع الفئة الثالثة ضمن من يرغبون بالبقاء وإنْ كانوا يمتلكون القدرة على الرحيل، وأخيراً تضيف شيفيل فئةً رابعةً وأخيرةً من الذين يرغبون بالبقاء والذين لا يمتلكون القدرة على الرحيل، وهو ما تسميه acquiescent immobility أو البقاء الاستسلامي. تستخدم شيفيل مصطلح البقاء الاستسلامي لتسليط الضوء على أولئك الذين لا يرغبون في الهجرة والذين لا يستطيعون القيام بذلك. تشير كلمة acquiescent إلى عدم مقاومة القيود، وتعني أصولها اللاتينية «البقاء في حالة سكون». وتتضمن هذه الفئة أولئك الذين لم يتخيلوا الهجرة كخيار- أي إن الهجرة لا تتواجد بشكلٍ هادفٍ في أفقهم الطَموح أو عملية صنع القرار. في مثل هذه الحالات يفتقر الفرد للقدرة على التطلع والحركة. تستشهد شيفيل بدراسات حول السنغال مثلاً، حيث لا يستطيع ما يقرب من ثلث الشباب تغطيةَ احتياجاتهم الأساسية، وهم لا يرغبون، حتى في ظل الظروف المثالية، بالهجرة إلى الخارج. بالطبع ليست المغادرة أو البقاء قراراً يُتّخذ لمرةٍ واحدة وإلى الأبد. يتغير الناس، والأحوال من حولهم، فيقرّرون فجأةً أن الوضع الذي يعيشون فيه لم يعد يطاق، وأن الألم تجاوز عتبة الاحتمال، وأن تكلفة الحب أعلى من قدرتهم على دفعها أو أنهم لم يعودوا يرغبون بذلك. تتداخل عوامل كثيرة ليقرّر الفرد منّا لماذا يصنع بقاؤه بالنسبة له معنىً أكثر من الرحيل أو العكس.
رواياتُ الأصدقاء الذين بقوا تحملُ في طياتها الكثير لتقوله عن علاقتنا المعقدة بالمكان، وبدوائرنا الاجتماعية، واختلاط ما نرغب بما هو متاحٌ أو ممكن.
في كل مساءٍ تجتمع مع أصدقائها الجدد الذين غالباً لا أتعرّف على أيٍّ منهم في كل زيارةٍ جديدةٍ لي؛ شباب أغلبهم في بداية أو منتصف العشرينيات. تخبرني أن جميع أصدقائها المقربين قد رحلوا لبلدان مختلفة. البعض سئم انعدام الأفق هنا، وآخرون يفرّون من طلبهم للخدمة الإلزامية، والبعض يودُّ أن يجد مصدر دخلٍ آخر بعدما أصبح من المستحيل تأمين قوت عائلته الصغيرة أو الممتدة أو توقّعُ إلى أيّ مدىً يمكن أن تنحدر الحياة أكثر في هذا المكان. هي في منتصف الثلاثينيات، تجد نفسها مجبرةً على إعادة تشكيل صداقاتها بالكامل. ضمناً أن تختار أصدقاءً يصغرونها بحوالي عشر سنوات كي لا تبقى وحيدةً تماماً. بسخريةٍ تخطُّ على جدار غرفتها لتسأل الأصدقاء الجدد: «ليش لسا ما سافرت؟».
في جلسةٍ مسائيةٍ طويلةٍ على ضوء اللدّات مع صديقٍ آخر، يطلب مني أن أتبعه إلى غرفته ليريني شيئاً. الغرفةُ التي بالكاد تحوي مسافةً كافيةً لسريره تتكدّسُ فيها صناديق عديدة من الكتب والأغراض الشخصية، ومدفأة، ومخدات، وأغطية. يقول بلهجةٍ مليئةٍ بالغيظ والألم معاً: «البيت أصبح متحفاً. أمتلك هنا بقايا من عشرات البيوت لأصدقاء رحلوا، ممن اعتقدوا أنهم سيعودون يوماً. أعلم أنهم لن يعودوا، أما أنا فبقيت أحرس المتحف». ينظر إليّ فجأةً ويقول: «ما رأيك؟ أيجب أن أغادر الآن؟ أم هل تعتقدين أني غبيٌّ لأني لم أرحل سابقاً؟». أدرك أني عاجزةٌ عن تقديم أي إجابةٍ مقنعة. هو المسجون في مساحةٍ لا تتعدى بضعة كيلومتراتٍ لا يمكنه التحرك خارجها منذ أربع سنوات لأنه مطلوبٌ للاحتياط، بعد أن رفض الرحيل حتى عندما أمكنه ذلك لسنوات، معتقداً أن من واجبنا -نحن الذين دفعنا البقية للثورة- أن نبقى معهم حتى النهاية، لنغلق الباب الأخير إن كان ولا بدّ، كما يُحبُّ أن يخبرني عن الصمود الذي يشكّك به كلما التقينا.
لكن ما هو الصواب حقاً عندما تقع خياراتك بين التألّم من قرب الحب غير المتبادل أو ألم البعد عنه؟ ما الخيار الصائب إن كنت ستغدو بمجرد مغادرتك المهاجرَ أو اللاجئَ دوماً، حتى وإن استقرّ بك المقام في مكانٍ ما وبنيتَ بيتك الجديد، ففعل الانتقال الذي قد يحدث لمرةٍ واحدةٍ يصبغُ حياة الفرد حتى مماته، بل إنه سينتقل أيضاً لأبنائه وأبنائهم الذين يصبحون الجيل الثاني والجيل الثالث من المهاجرين، كما تقول شيفيل. أم إن الصواب هو أن تبقى حتى لا يعود للمستقبل أي مكان؛ حتى تشكّك بالكثير مما قمتَ به سابقاً؛ حتى تسكن قرب من قد تبغض وتُقنع نفسك بأنك وهو تتشاركان مصير الموت، وأنّكما عالقان في الحاضر الذي لا يبدو أيُّ غدٍ ممكناً فيه، وأنكما سويةً ملعونان بلعنة الطغيان الذي زجّ بكما قرب بعضكما البعض، وأَجبركما على مفاوضة مساحات المكان ومشاعر الحقد، وأحياناً التعاطف، وربما تقاسم الخبز مجدداً عندما تشتد الأحوال.
لا يشكل البقاء أو الرحيل الخيارَين الوحيدَين للبشر الذين ابتُلوا بأوطان طاردةٍ لأبنائها كبلداننا، بل الحدَّين الأعظمين لسلسلةٍ طويلةٍ من الخيارات. في إشارته لأنماط وطرق الهجرة القسرية، يبين روجر زيتا، Zetter, R. (2018) “Conceptualising Forced Migration: Praxis, Scholarship and Empirics”, in Bloch,A & Don, G.(eds.) Forced Migration: Current Issues and Debates. London: Routledge,pp.19-43. الرئيس السابق لمركز دراسات اللاجئين في جامعة أوكسفورد، بأنه كما تتنوع الأسباب التي يهاجر بسببها المهاجرون قسرياً، يُستخدم مصطلح دراسات الهجرة القسرية بشكله التمييزي التبسيطي للتفريق بينها وبين دراسات الهجرة الدولية، باعتبار الأخيرة قائمةً على الانتقال على أساس الاختيار وليس بفعل ظروفٍ قاهرةٍ دافعةٍ للسكان خارج مواطنهم الأولية؛ كالهجرة بغرض الدراسة على سبيل المثال، والتي قد تهدف للعودة بعدها للبلد المُرسِل. في العقد الأخير هناك نقاشٌ أكاديمي حول أهمية النظر لمصطلح الهجرة الطوعية والهجرة القسرية باعتبارهما التعريفين للحدين الأعظمَين بين درجات متدرجة بين الخيار الطوعي والقسري، والنظر لهذه الخيارات باعتبارها دوالّ مستمرة (continuum) تبعاً للظرف الذي تحصل الهجرة في إطاره، وهو منظورٌ تتّفق معه كاتبة المقال. أيضاً يُستخدم في بعض الأحيان، وإن كان أقل شيوعاً، مصطلح النزوح القسري Forced displacement باعتباره أعمّ من الهجرة القسرية Forced Migration بهدف لفت النظر لأهمية النزوح الداخلي وإدماجه عند التفكير بالمصطلح، كي لا يقتصر التفكير بالهجرة على الهجرة التي تحصل خارج الحدود الوطنية، خاصةً أن التفكير بالنزوح الداخلي تعرّضَ للإهمال والتجاهل لفترات طويلة من قبل الدراسات الأكاديمية، ولم يتم الاهتمام به في سياقات دراسات الهجرة القسرية إلا خلال القرن الاخير. فإنّ أنماط وعمليات الهجرة تتنوع. يختار البعضُ الهجرةَ داخلياً، بينما يختار الآخرون الهجرةَ إلى خارج الحدود الوطنية. يختار البعض العودةَ إلى مدنهم التي نشأوا فيها، وذلك في حال كانوا قد استقروا في مدنٍ أخرى في وقتٍ سابقٍ من حياتهم. وقد يعلَقُ البعض في الطريق إلى الوجهة التي يبتغونها بسبب حرّاس الحدود، أو في مخيمٍ مؤقتٍ حيث تمنعهم إجراءات الدول من الانتقال أبعد منه. وعلى هذا يبدو جواب الطريق الصائب هو جوابنا المعياري لسؤالٍ ستختلف إجابته كلما اختلف موقعنا وأشكال رأس المال المتعددة التي نحملها، وروابطنا مع المكان الأول وشعورنا بالانتماء له من عدمه، أو حتى امتلاكنا لشبكة علاقاتٍ مع مهاجرين آخرين انتقلوا قبلنا، جاعلين طريقنا أسهل للانتقال أو ناصحين لنا بعدم الرحيل، وكيف نجري حساباتنا كلها ضمن هذه التوليفة.
بعد سيرٍ طويلٍ في الشوارع المظلمة، وفي طريق العودة إلى منزل صديق، نتوقف لشراء الخبز. أسأله كيف سيشتري من «الكولبة» التي يتجمهر حولها العشرات ببطاقاتهم التي يلوحون بها إنْ كان لا يملك بطاقةً ذكية. يضحك وهو يقول لي: «مندبرها!». يمرّر النقود للعسكري الواقف، بعد سؤاله إنْ كان بإمكانه شراء ربطتين عوضاً عن واحدة، ليجيبه بفخرٍ مضحك: «طبعاً! ما حدا بجوع بهالبلد يا عمي». لم أستطع التوقف عن التهكم والسخرية طوال طريق عودتنا متلمّسين الطريق على ضوء قداحته الفوسفورية، لشدة ما شعرت بالإهانة، فالجوع، كما الكثير من الأشياء في هذه البلاد، غدا فائضاً عن حاجةِ أغلبية الناس. ينظر إليَّ بحزنٍ يشوبه خجلٌ مؤلمٌ ويقول: «أودّ أن أُدفن هنا، وإنْ لم يعد هناك الكثير من الهواء فأنا أعرف هذه البلاد جيداً على علّاتها، ولا أريد أن أموت غريباً في أي أرضٍ أخرى»، ثم يبتسم بخجل.
ربما ما أردته أيضاً من خلال عودتي المتكررة هو أن أحكي عن قصص هؤلاء الأصدقاء جميعاً؛ عن الذين يستطيعون العودة وأولئك الذين لا يستطيعون؛ عن الذين اختاروا الرحيل وأولئك الذين اختاروا البقاء؛ أو عن أولئك الذين لم يختاروا إلا القليل ما بينهما؛ عن حقنا جميعاً في الاختيار الذي لا نملكه بشكلٍ كامل.