ماذا يعني تغييب أشخاص لسنوات دون معرفة شيء عن مكان حجزهم وعن مصيرهم؟ نتكلم على انقطاع الأثر خلال سنوات طويلة، تراوحت بين ثمانية أعوام و11 عاماً، بحسب أمثلة أوردتُها في مقالة سابقة تناولت مبنى التغييب. من بين ما يعنيه ذلك أن حيوات المُغيَّبين لا قيمة لها، أنها حياة غير مستحقة للحِداد إن أُهدرت، وبالتالي لا مشكلة في إهدارها. فهي في الأصل ليست حياة مستحقة لأن تُحمى أو تحظى بالرعاية. من يُغيَّبون على هذا النحو لم تكن حياتهم حياة أصلاً كي يكون موتهم موتاً، خسارة حياة. Judith Butler: Frames of War, When Life is Grievable? Verso, 2016. هذا هو مؤدى مناقشة جوديث بتلر للحياة في شروط الحروب الأميركية، ومنها اليوم ومنذ أكثر من عشرين عاماً، «الحرب ضد الإرهاب». مفهوم بتلر للحياة التي لا يُحَدُّ عليها يذكر بمفهوم الإنسان الحرام، الهومو ساكر، لجيورجيو أغامبنGiorgio Agamben: Homo Sacer, Sovereign Power and Bare Life, Translated (into English) by Daniel Heller- Roazen, Stanford University Press, 1998. الكتاب مترجم إلى العربية بعنوان المنبوذ، السلطة السيادية والحياة العارية، ترجمة وتقديم وتعليق عبد العزيز العيادي، منشورات الجمل، 2017.، الحياة التي لا يحميها قانون ولا يعتبر القضاء عليها جريمة، ولا قيمة قربانية لها (ما يعني كذلك أن الهومو ساكر لا يمكن أن يعتبر شهيداً). حياة الإنسان الحرام حياة عارية بمصطلح أغامبن نفسه، دون غطاء حقوقي أو حماية سياسية. وهذه للمفارقة هي حياة الجهاديين من الإسلاميين أكثر من غيرهم اليوم، حيث يُعتبَرون «مقاتلين غير شرعيين»، يُباح اعتقالهم لسنوات لا تنتهي، ولا يندرج حجزهم في عمليات قضائية تستهدف تحقيق العدالة. هذا ممارس إلى اليوم في غوانتانامو بعد أكثر من عشرين عاماً من احتلال أفغانستان (والانسحاب قبل عام منها)، وممارس في غوانتانامو أوروبا الذي هو معسكر الهول في الحسكة، حيث يُحتجز الألوف بلا أفق، بما فهم مئات من المنحدرين من أوروبا، ومنهم نساء وأطفال، لا يؤخذون إلى بلدانهم، ولا تجري أي عمليات قضائية بحقهم. والأكيد أن قتل أي منهم لن يكون مبعث لوم للقاتلين.
هذا الإخراج من الأنظمة القانونية المحلية والدولية هو من بين ما أسهم في جعل الشرق الأوسط، وسورية في قلبه قبل الثورة، وأكثر بعدها، فضاء استثناء دائم، تباح استباحة الناس فيه. كانت سورية كذلك منذ بداية الحكم البعثي، ولم يحدث قط أن طال العقاب من يقتلون المعتقلين عند النظام، ما يعني أنهم حيوات عارية بدورهم. وفي سنوات حكم حافظ الأسد الثلاثين، كان حال المعتقلين السياسيين في سورية كحال الجهاديين اليوم من حيث أن الاعتقال لم يكن جزءاً من عملية قضائية تستهدف تحقيقاً للعدالة من أي نوع. لقد كنا معارضين غير شرعيين إذا جاز التعبير، فلا حق لنا في العدالة. الجديد بخصوص سورية في زمن الحرب ضد الإرهاب أن النظام الدولي هو الركيزة المباشرة لحالة الاستثناء الدائمة. الحرب ضد الإرهاب لم تعفِ النظام من جرائمه فقط، ولم تجعل التدخل الأجنبي الإيراني ثم الروسي مقبولاً فقط، وإنما هي الغطاء الأنسب لإنتاج ما لا يُحصى من حيوات لا يُحَدُّ عليها، أي عملياً تحويل سورية برمتها إلى غوانتانامو دولية.
بعبارة أخرى، لقد أُنتِجت الحياة العارية عبر عمليات تعرية قانونية وسياسية وأخلاقية، خفّضت طوال عقود قيمة حياة الناس، على نحو يقلل من أهمية قتلهم إن لم يجعله مرغوباً. والإسلاميون المستهدفون بشرط الحياة التي لا يُحَد عليها أو المستباحة هم أنفسهم قوة استباحة واستثناء دائمة، وهذا مبعث المفارقة المشار إليها فوق. فمن لا يُعترف بأن لهم قضية وتُنكر عليهم الشرعية، ينكرون على غيرهم أن لهم قضية، فيخرجونهم من الشرعية والحق في العدالة، ويعيدون إنتاج التوحش الذي تعرضوا هم له. الإسلاميون المعاصرون حالة متطرفة من التفارق بين الموقع المُعرَّى، المعرض للتمييز والحظر والإباحة، وبين التكوين التمييزي العنيف والمستبيح والمُعرِّي. وهذا من بين ما حرم اعتراضهم على أوضاع تمييزية ومتوحشة من أن يحوز قيمة تحررية.
يغيب عن نقاش بتلر عن الحيوات التي لا يُحدُّ عليها التفكير في حيوات أهالي أو جماعات من يُعتقلون أو يُغيَّبون أو يُقتلون، أي عموم من يعاملون كحيوات غير مستحقة للحداد. والأصل في هذا الغياب، فيما يبدو، هو أن بتلر تفكر، من موقعها اليساري الأميركي، في التقابل بين حيوات لا يُحد عليها، هي حيوات الفلسطينيين مثلاً، أو العراقيين بعد الاحتلال الأميركي، أو حيوات عرب ومسلمين في سياق «الحرب ضد الإرهاب» أو حيوات المثليين في الغرب (وهي متضامنة في كل الحالات)، وبين حيوات يُحد عليها وينتقم لها هي حيوات الأميركيين والإسرائيليين ومن في حكمهم، فلا تنظر في حال قطاعات من مجتمعات الفلسطينيين والعراقيين والعرب والمثليين… لم تُستبح مباشرة أو تعامل حياة أفرادها كـ«لا-حياة». ثم إن تجربة التغييب ليست ضمن حقل رؤية الفيلسوفة الأميركية، ما تراه وتركز عليه هو القضاء على الحياة، وليس حالات غير يقينية مثل التغييب ومجهولية المصير. ولعله كان من شأن اهتمامها بتجربة التغييب أن يغني منظورها ويمنح فكرة الحياة التي لا يُحد عليها و«الحياة المقلقلة» بعداً أشد قلقلة وجذرية بعد.
ما يحدث في حالة التغييب هو حرمان الأهالي من الحِداد بالتوازي مع حرمان المغيَّبين من الموت (وليس من الحياة وحدها). الحرمان من الحياة يتضمن أنها حياة غير مهمة، غير جديرة بالحداد، لا حياة، فيما الحرمان من الموت هو ما يتضمن تعليقاً موصولاً للحداد أو حرماناً منه. هناك بالتالي حياة لا تستحق أن يُبكى عليها بكاءاً عاماً وعلنياً هي ذاتها اللا-حياة التي تكلمت عليها بتلر، وما لم تتكلم عليه هو أن هناك مكروبين حزانى، جُرِّدوا من القدرة على تحويل حزنهم إلى حداد، بكاءٍ علني وعام. حالة التغييب تجيب على سؤال محجوب في مفهوم بتلر لحياة لا يحد عليها، سؤال يمكن أن يصاغ كالتالي: لا يُحد عليها من قبل من؟ والإجابة هي، بطبيعة الحال، ممن يحدّون على الراحلين لو حدث أنهم رحلوا بينهم، الأهل والأصدقاء الذين يحزنون عليهم ويودِّعونهم الوداع اللائق في قبور معلومة. الأهل يجتمعون في مثل هذه المواقف، ويعود المسافرون من بلدان بعيدة للمشاركة في الجنازة والعزاء وأيام الحداد الأولى. ويفعل مثل ذلك المقربون من الأصدقاء. الحداد فعل يقوم به الأحياء على من ماتوا للتو، فعل يقول إن حياتهم عزيزة مكرمة، جديرة بالحسرة والأسى. ولا يظهر أن الراحلين والأحياء معاً مجتمع أكثر مما في وقت الحداد، مجتمع يتداول قصة الراحلين، يحكي كيف عاشوا وماتوا، يعود الأحياء بعده مثلما كانوا قبله إلى حيواتهم الفردية أو العائلية ومساراتها المتفرقة.
القصد أن ما حُرِم منه السوريون منذ بداية الثورة ليس «عمل الحداد» النفسي وحده، بل بخاصة صفته الاجتماعية، تداول قصة حياة وموت من رحلوا، ينتظم حول مثلها مجتمعهم. وهذا بالضبط لأن الحيوات سياسية والموت سياسي والقصص سياسية جداً. فُرِض الحرمان في سورية بالمنع المباشر لمواكب الدفن وطقوس العزاء في حالات، أو بعدم تسليم أجساد المقتولين للأهالي، أو نجم عن تفرق الأهل في البلدان القريبة والبعيدة، أو بسبب مجهولية المصير. عند النظر عن قرب في طرق الحرمان الأربعة هذه، نتبين أنها تشترك في الحرمان من قصة تروى وتتناقل ضمن مؤتمر اجتماعي يعقد بمناسبة الموت. تتكلم وفا علي مصطفى بصورة مؤثرة عن الحرمان من أن «نجلس مع بعض ونحزن، نفكر أنه كان لنا أب وخسرناه بلحظة». والدة وفا وأختها الصغرى في كندا، والأخت الوسطى في الولايات المتحدة، ووفا نفسها في ألمانيا، وقد تعذر لقاء النساء الأربعة إلى اليوم. لم تجتمع العائلة لتتواسى وتتجه بأفكارها نحو الزوج/ الأب الغائب منذ نحو تسع سنوات. المؤتمر العائلي الصغير هو المتعذر في هذه الحالة المخصوصة، وليس المؤتمر الاجتماعي الأوسع وحده.
ويتمثل أثر الحرمان من حداد في جعل حياة الأهالي معلّقة، حزن لا ينتهي، حرمان من نهاية إن جاز التعبير، وبالتالي من بداية بعدها. ما نفتقده في التغييب (وهو من جديد حرمان من الحياة ومن الموت معاً)، هو الحزن العلني والعزاء، ثم الدفن في «مثوى أخير» معلوم بالطقس الاجتماعي، وإنما بهذا الطقس الاجتماعي نُحوِّل الحزن إلى حداد. وفي هذا ما يساعد زمن حياتنا على استئناف سيره بعد ما يمثله موت عزيزٍ من انقطاع على نحو أقل إيذاءاً. وفيه كذلك ما يحمي الرابطة الاجتماعية ويحول دون العزلة. في العزاءات يتصالح المتخاصمون من الأهل، ويتصافى الأصدقاء الذين تعكرت صداقتهم. هذا كذلك من بين ما حرمنا منه. وهو مُولِّد للعزلة والانكفاء على النفس أو على جماعة صغيرة من المقربين، أي هو عملياً خروج من السياسة ومن المجتمع. لا يشكل المغَّيبون الذي تعامل حيواتهم بوصفها قابلة للتبديد وأهلوهم المحرومون من حداد مجتمعاً. فما يتشكل حول الغياب من مجتمع هو مجتمع غائب، قد يظهر في شكل عزلة وتناثر وصمت. وكمد. الكمد هو الحزن الشديد المكتوم، وأقترحه تسمية لشرطنا حين نحرم من تحويل حزننا إلى حداد. الحرمان الواسع من الحداد يلغي في النتيجة المجتمع ذاته.
وتصلح المقابر الجماعية التي كشفت عنها نيويورك تايمز بالتعاون مع رابطة معتقلي سجن صيدنايا في آذار من هذا العام مقياساً للحيوات التي لا يُحدُّ عليها كما لحرمان ألوف الأسر من الحداد. يصلح مقياساً كذلك المحرقة التي كشف عنها مسؤول في الخارجية الأميركية عام 2017 قرب سجن صيدنايا، ويُعتقد أنها خصصت للتخلص من ضحايا آخرين. ومثلهما كذلك المحرقة البدائية التي كان يديرها أبو علي حكمت، كان يجري فيها حرق جثث الضحايا من الثائرين وغير الثائرين في منطقة التضامن عام 2013. في جميع الأحوال تجري إبادة الموتى في مسعى لإثبات أنهم لم يوجدوا قط، لم يسبق أن كانت لهم حياة.
يمكن تعريف التغييب، في المحصلة، بثنائية حياة مخطوفة تعتبر غير مستحقة للحدِاد، وأهالٍ محرومين من حداد يعيشون حياة معلقة. وبقدر ما أن الحِداد يساعد الأفراد والمجتمع على التغلب على الموت وعلى حياة تتجدد، فإن الحرمان منه يساعد الموت بالأحرى على التغلب على حياة الأفراد والمجتمع، ما يقود إلى الموت السياسي والاجتماعي. وهو من وجه آخر حرمان من فرح لاحق ممكن بحيلولته دون تصعيد الحزن مرة واحدة إلى حداد، نهاية ونقطة انعطاف في الحياة، تعقبها بداية جديدة. ثم إنه حرمان من الحرية كذلك لأننا نبقى مشدودين لتجربة الفقد لا نستطيع الانفصال عنها، فلا نستقل بأنفسنا في حياة جديدة.
وبقدر ما إن التغييب شرط سياسي سوري مديد طوال ما يزيد على نصف قرن، ونصف كامل تاريخ البلد، فإن خروج سورية من الغياب، وحصولها على مستقبل، يمر بحداد عام نودع فيه زمن التغييب والموت والأبد. يوماً ما، حين تطوى صفحة نظام التغييب، قد يكون أوْلى ما يبادر إليه الأحياء منا هو حِداد عام. من أجل بداية مغايرة نحتاج قبل كل شيء إلى نهاية ووداع لائق.