تخيل-ي أنّ اسمكِ «مخمل». تقفين في كلوب مخصص لموسيقى التكنو الصاخبة، وتنظرين من حولك. هناك الكثير ممن يشاركونك بعضاً من حكايتك، أو ربما الجزء الكابوسي منها. فجأة تُعمى عيونُكِ من الإضاءة الضاربة فيهما. تُغمضين، ترقصين، تَنفَذين إلى حكاياكِ، إلى ما كوّنك. وبفعل بعضٍ من المخدرات والتداعي الخاص بجسدكِ مع موسيقى التكنو، تنفذين أنتِ ومن حولك من الأشقاء والشقيقات إلى عوالمكنَّ، تحدثين نفسك وتروين لها ما جرى لها بكل صفاءٍ معزولةً عمن حولك، متخيلةً أكثر الحكايا سورياليةً لكيف قد تبدو تجربتِكِ كإمرأة سورية غادرت من أسفل القناطر في دمشق ووصلت برلين بقطار أنفاق. حيث تلاحقك على ساحة الرقص ذكرى البلاد التي لفظتك، والعلاقات التي عشت والحرب التي اختبرت والانكسار في مكان لا تنبت فيه جذور لكِ، حيث نجوتِ. 

هكذا يلخص المخرج سِباستيان نوبلينغ (Sebastian Nübling) والدراماتورج فاليري غوهرينغ (Valerie Göhring) بالاشتراك مع الممثلة كندة حميدان والراقصة لجين مصطفى والممثلين كريم داوود وكنان حميدان كتاب رشا عباس ملخص ما جرى، في المسرحية التي تحمل عنوان الكتاب ذاته، والتي بدأت عروضها في شهر شباط (فبراير) الفائت على خشبة مسرح مكسيم غوركي في برلين. 

يبدأ العرض، بدعوة الممثلات والممثلين للجمهور، ومن على مقاعدهم بين جمهور الصف الأول في الصالة لأن  يتخيلوا؛ أن يتخيلوا أنّ كتاب ملخص ما جرى للكاتبة رشا عباس هو نافذتنا للعبور إلى خيال الكاتبة ذاتها، وأن هناك حرباً  في زمن آخر، وما سنشهد عليه الآن خلال العرض، هو ملخصٌ لكل ما جرى. 

عملية شحذ الخيال هذه تترافق مع تنقلاتٍ في الفضاءات الدرامية لحكايا العرض المأخوذة من حكايا عشر شخصياتٍ ذُكرت في الكتاب. هذه الشخصيات جميعها لها اسم واحد، ويمكننا أن ندعوها مخمل. تختلف تمثيلات مخمل على الخشبة جندرياً وعمرياً، كما تختلف حكاياتها ونهايات قصتها، وإن كانت عبثية الموت هي الشيء الذي يوحد مصائرها. يروي لنا المؤدون الأربعة حكاية مخمل من قلب تجربة برلين، والتي هي بالضرورة تجربة لجوءٍ لا تخلو من السقوط في فخ الذاكرة، وهي ذاتها الذكرى التي تطلبُ منّا الراقصة لجين  مصطفى في بداية العرض أن نتخيلها «تتكرر وتتكرر وتتكرر».  

تخبرنا إحدى الشخصيات أنها تستمع لذات الأغنية ولذات المغني، الذي لم يمت في السابعة والعشرين من عمره. وعنوان الأغنية «عد للستة ومت». لتكن هذه هي نقطة البداية، حيث تبدأ الشخصية بالعد/الغناء، وعند الوصول للرقم ستة تموت. نشهدُ تسع عشرة ميتةً تعكس حوادث وأشكال موت الشخصيات على الخشبة، وهي ثيماتٌ جمعتها الدراماتورج والمؤدّون من كتاب ملخص ما جرى. وإذا أمكننا تلخيص هذه القصص ضمن ثيمات، سنجد أنها تندرج تحت غياب الحب، والانتحار، وضياع الهوية، والهروب، والسحر والخيال، والعلاقة مع الأب، والحاجة للصراخ عندما ينعدم التواصل مع المجتمع.

استحالة التجسيد على الخشبة 

يضمُّ كتاب ملخص ما جرى مجموعة قصصٍ لشخصياتٍ تعيش وتتحرك في عوالم تبدو أنها عوالم اعتيادية، لكن سرعان ما تنهار هذه العوالم في اللحظة التي تقرر فيها الشخصيات أن تعبّر عن ذاتها، أو تتمرّد على واقعها، أو تواجه حقيقة هشاشة وجودها. 

يجمع العرض بعضاً من قصص الكتاب ضمن بناء دراماتورجي يحاول تجسيد الكتاب أو تلخيصه على الخشبة، حيث تتعدد وجهات نظر المؤدّين حول الكتاب، حتى أنهم يهجسون أحياناً باسم الكاتبة رشا عباس. هذا الهجس يحدث مراتٍ عدّة خلال العرض؛ أولها في اللحظة التي يدخل فيها المؤدون إلى عوالم شخصيات الكتاب، ويقولون لنا: «هاي هي(الكاتبة) نحنا ما دخلنا». وكأنّ هذا الهجس يخبرنا عن ارتباكهم أمام النص الأصلي وعوالم شخصياته. أحياناً قد يوقفون اللعب/التمثيل فجأةً، ويتوجهون للجمهور خلال العرض، كما فعل الممثل كنان، ليحدثنا عن صعوبة كتاب رشا وفضاءاته المتنوعة، مستشهداً بما كتب النقّاد عن الكتاب في الصحف الألمانية، وتحديداً عندما يستشهد بما كتبته الصحافية كارولين هانتييس في جريدة تاغيزشبيغل، واصفةً الكتاب بأنه «رحلة عميقة في العبث». إلا أنه من الواجب هنا تصحيح المعلومة، فالصحافية كانت تصف في مقالتها كتاب آخر لرشا عباس، وهو كيف تم اختراع اللغة الألمانية، وهو ما يشير إليه الموقع الإلكتروني لمسرح غوركي أيضاً. 

ما أن نتتبّع الكتل الدرامية واحدةً تلو الأخرى حتى نجد أن المعنى يتركّب تدريجياً خلال العرض، وتصطفّ أحجاره في قاع جهاز إدراكنا/معرفتنا، ولكن مع نهاية العرض يُقدّم كل مؤدي-ة ملخصه-ا الخاص لما جرى. مثلاً: يقدم كنان نسخاً عديدةً من الوجوه ليشرح لنا عن تعابير وملامح ارتسمت على وجهه عند قراءته الكتاب. 

ليس المؤدّون وحدهم من يذكرون اسم الكاتبة على الخشبة، بل أيضاً شخصيات القصص يهجسون باسمها حتى أنها تسطو على خيالهم أحياناً، فعندما تظهر الممثلة كندة حميدان بالكساء الريشي لتخبرنا بأن هذا كان ملخصها لكل ما جرى بحسب رأيها، سنفهم أنها محاولة تجلٍ لـ رشا وهي تلعب دور الراوية، والتي عاشت واختبرت كل فاجعةٍ عاشتها شخصيات القصص الأخرى.  

بعد تقديم لوحات متفرقة من النص، يجتمع المؤدون في ساحة الرقص متحررين من شخصيات النص، وكأنهم يرقصون الآن في ملهىً ليلي ويجسّدون حاضرهم المختل بسبب بشاعة الذكرى وما جرى. لا تخرج الشخصيات من ساحة الرقص هذه إلا لتُرينا ما قد حُفر في الذاكرة بشكلٍ مؤلم، مبتعدةً عن خيال ونص رشا، ومقدمةً نفسها على أنها شاهدةٌ أيضاً، وبوسعها تقديم النسخة الخاصة من الشهادة، أو مخلص ما اختبرته كل شخصية بطريقتها الخاصة. مثلاً: تقدّم الراقصة لجين مصطفى شهادتها في مشهدٍ حركي نقراً فيه محاولات التحرر والانعتاق من خلال الالتواءات والسقطات والأيدي المكبلة والانفلات من القيد. 

الاستجابة لما لا يمكن تصوره 

ليست حركات الرقص المجنونة ومحاولات الانعتاق من العالم والانفلات والتحرر الأدائي إلا أشكالاً من التعبير عن الصدمة/التراوما مجسدةً في اللحم ودم الشخصيات التي تحملها، والتي رحلت من دمشق ووصلت برلين، والآن تقف على المسرح لتشهد على ما جرى. يذهب كل من شوشانا فِلمان (Shoshana Felman) ودوري لاوب (Dori Laub) في كتابهما الشهادة وأزمة أن تشهد في الأدب والتحليل النفسي وتاريخ الفن Felman, Shoshana, and Dori Laub. 1992. Testimony: crises of witnessing in literature, psychoanalysis, and history. New York: Routledge.إلى أنه إذا كانت الصدمة هي عدم القدرة على الاستجابة لما لا يمكن تصوره، فإن الشهادة هي وسيلةٌ لإعطاء صوتٍ للصدمة، ووصفُ شخصيةِ ما لا يمكن تصوره. وهو ما فعلته رشا في قصصها، العبثية السوريالية. 

يضعنا فريق العمل أمام العديد من الملخصات لـ ملخص ما جرى؛ ملخصات من وجهة نظرهم تحاول تقريب أجواء قصص رشا منّا. يشهدون على الكتاب الذي قرأوه في بحثهم لإنتاج عرضهم، ويقدمون شهادتهم على قصصٍ نثريةٍ ترسم ملامح ما لا يمكن تصوره؛  قصصٍ تعطي صوتاً للصدمة، صوتاً يتجلى بغالبيته على ساحة الرقص، محاولاً اختزال حياتنا البرلينية عليها. والجسد هو الوسيط لعرض الصدمة أو التراوما، حيث  تحمل أيادي المؤدين المايكروفونات قريبةً من شفاههم، يرقصون بشكل حر ضمن إطار الـgroove؛ أي أسلوب الرقص المرتبط بتفسير الإيقاع، أو هو شعورٌ داخليٌّ بالحركة نظهرهُ بخطواتٍ أو دعسات. يروون لنا ما لا يمكن تخيله، أو ما تستحيل الشهادة عليه، ليس من أحداث ووقائع فقط، بل أيضاً من جميع المشاعر والارتباك المرافق لهذه الحوادث. وتتمثّل تلك الاستحالة في انقباضاتٍ عضلية وتكسيراتٍ والتواءاتٍ في أطراف الجسد الراقص/المُتكلّم.  

عندما تخلو الخشبة تماماً، تدخل شخصيةٌ لا نرى وجهها، تؤديها لجين مصطفى، غامرةً رأسها في دلو (سطل) أحمر اللون يتدحرج على الأرض. كل ما نراه على المسرح هو دلوٌ يخرج منه جسد. تختصر لجين من داخله خراب تلك المدينة المشتعلة والرؤوس المحصودة. تدفع بنفسها على الأرض متنقلةً بعشوائيةٍ على خشبة المسرح، وتقدّمُ لنا ملمحاً لما قد يبدو عليه أن الشخصية تضلُّ طريقها إلى البيت في مدينة مدمرة. تضيع لجين في متاهات ذلك الكابوس الدموي وتجعلُ المشاهدَ يضطربُ لما يرى أمامه، لأن شكل الصدمة، التي أخذت لجين على عاتقها تأديتها، وربما هذا المشهد كفيلٌ بأن يجعل المرء يحبس أنفاسه عندما يستعيد رحلته الكابوسية في مدنٍ مدمرةٍ ومعتمةٍ وموحشة. هذا المشهد لا يقل كابوسيةً وعبثيةً عن مشهدٍ آخر تؤديه كندة حميدان مكسوةً بالريش الأبيض، وتبيض ثماراً حمضيةً، تاركةً ملحوظةً للسيدة والدتها المحترمة، طالبةً منها أن تضع رأسها المقطوع على بذور البطيخ ودوار الشمس، حيث تبقى تلك الرأس قادرةً على الثرثرة حتى بعد الموت.

العوز للحب والعاطفة

إن الإغراق باستعراض تلك العوالم الكابوسية والعبثية على مسرح مكسيم غوركي يمكن قراءته على أنه 

انعدامٌ لليقين، مصحوباً بفقدانٍ شديدٍ للقدرة على الحب وبرودة العاطفة، فعندما تبدأ الممثلة كندة حميدان في العرض بالدعاء، بصوت التجويد الذي ينحو أحياناً إلى الترنيم، فإن هذا الدعاء ما هو إلا لومٌ تلقي به الشخصية على «سيدنا» الذي أعطى مُخمل أطفالاً عوضاً عن الحب الذي تَمنّته، أولاداً بلا حب. وهو ذاته السيدgosh الذي ينام بعينٍ واحدة، والآن تطلب منه أن يفتح عينيه الاثنتين ليبصر الواقع الأليم لشخصياتٍ تعيش في ظل افتقارٍ للحب وفي مدينةٍ طافت مجاريها بمياه التواليت لأن إحداهنّ رمت إختبار الحمل الإيجابي فيه.تجتمع الشخصيات في نهاية العرض حول مائدة أبيهم، لاعنين إياه، فقد حمّلهم نجاتهم كصليب. شخصيات حملت الفاجعة كلها على أكتافها، وقدمها لنا فريق العمل بخفةٍ وجهدٍ واضحين بالرغم من صعوبة الغوص في موضوعات الكتاب وأثر الصدمات والاستجابة لها، بالإضافة لاستغلال خشبة المسرح بشكلٍ يجرُّ المتفرجَ للتورّط مع المؤدين على الخشبة. أما الإضاءة، فقد لعبت دوراً هاماً في خلق أجواء كابوسية الملامح، وتجسيد عوالم نفسية مرتبكة ومشوهة، تدفعنا لنسأل أنفسنا عن المدن التي جئنا منها، وأيّ عوزٍ أصابنا للحب، وللكلام، والحاجة الماسّة للتوقف للحظات واستدراك عبثية الموت وسوداوية المصائر المتوقعة. عالمٌ أصبح، بعبثيته، اعتيادياً وتاركاً ندباً وجروحاً تنفذ منها الصدمات لا إرادياً في بعض الأحيان، بالرغم من جميع محاولات كبتها وإسكاتها. وبالعودة إلى مسرَحة الفاجعة واللجوء من بعدها، حيث تُقدّم الشهادات على المسارح، ويؤدى/يروى ما هو ضربٌ من ضروب الخيال، فإن الشكل الإخراجي للعرض نحا أسلوباً مشابهاً للذي اعتدناه في العروض التي تناولت موضوعة اللجوء في السنوات القليلة الماضية. إذ تتركّز العروض على المونولوجات/الشهادات، مع أداءٍ حركيٍّ راقص، والاستعانة بشاشاتٍ على الخشبة وكورس مرافق. إلا إن الاختلاف هنا أننا لا نستمع لشهاداتٍ حيةٍ من ممثلين عرب مهاجرين هواة، ولا نرى على الشاشة ريبورتاجات مأخوذة من الأخبار أو من تصوير الممثلين ذاتهم. بل نشاهد عرضاً بين المتخيل والواقعي، يجسد قصصاً لشخصياتٍ متخيلة، وأيضاً يشارك فيه المؤدّون بتجاربهم الشخصية مع صدماتهم التي وجَدوا لها صوتاً في السطور المقتطعة من كتاب رشا عباس. حيث الفاجعة والصدمة، ومن خلفهما جرحٌ عميقٌ يعزلنا عن الواقع.