يتحدث أردوغان عن عمليات عسكرية تركية جديدة قادمة في الشمال السوري، ولا شك أن إبعاد مسلحيّ الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني عن الحدود هو أحد أهداف هذه العمليات المتكررة، لكن مجمل السياسات المتّبعة في مناطق سيطرة الجيش التركي وأتباعه تقول إنه ليس الهدف الوحيد، وإن من أهدافها أيضاً إحداث تغييرات اجتماعية وإدارية وثقافية يصعب التراجع عنها في الشمال السوري، بما في ذلك تغييرات ديمغرافية في المناطق ذات الغالبية الكردية على ما يشرح مثال عفرين. نعرف أن مزيجاً من التعصّب القومي والدعاية الحكومية المضلّلة يدفع أتراكاً كثيرين لتأييد عمليات كهذه، لكن هل يسعنا أن نعرف ما هو المزيج الذي يدفع سوريين إلى تأييد عمليات تركية جديدة في الشمال السوري اليوم؟

على صفحات التواصل الاجتماعي نقاشاتٌ كثيرةٌ غاضبة بين معارضين سوريين مؤيدين للعملية التركية ومعارضين سوريين رافضين لها، وتنتهي حجج أنصار العملية التركية منهم إلى أربع: الأولى هي ضرورة التحالف مع «إخوتنا الأتراك» في مواجهة «ملاحدة الأكراد» أو «الميليشيات الانفصالية» أو «الأقليات الطائفية»، والثانية هي الانتقام من المسلحين الأكراد في قوات سورية الديمقراطية بسبب ما ارتكبوه سابقاً بحق قوى الثورة والمعارضة (أو بحق أهل السنّة أو بحق العرب… حسب خلفية المتحدّث وخطابه)، والثالثة هي تأسيس منطقة آمنة لِلاجئين ونازحين ومهجّرين سوريين بمن فيهم مُرَحَّلون و«عائدون طوعاً» من تركيا، والرابعة هي تأمين عودة المهجّرين على يد قسد إلى ديارهم في تل رفعت وغيرها.

لا يسعنا نقاش الحجّة الأولى على نحو جاد، لأن أصحابها لا يخرجون عن احتمالين: إما أنهم لا ينطقون عن قناعاتهم بل عن مقتضيات التبعية للحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية، أو أنهم ينطقون فعلاً عن قناعاتهم التي تستند إلى موقف طائفي أو قوميّ متعصّب غارق في الكراهية على نحو يستعصي نقاشه. كذلك، لا يمكن الخوض بعيداً في نقاش أصحاب الانتقام، ذلك أن الانتقام ليس عدلاً ولا باباً إلى العدل، وهو ليس إلّا مطيّة لكل أنواع التعصّب والكراهية القومية والطائفية، وهو فوق ذلك لا ينفع صاحبه في شيء، لكنه قد ينفع من يستثمر فيه لتعزيز السلطة أو اكتسابها.

أما ما يتعلّق بتأسيس منطقة آمنة للّاجئين، فواضحٌ تهافتُ هذه الحُجّة من ثلاثة وجوه. فأولاً، لن تكون هذه منطقة آمنة محمية دولياً، بل هي محميةٌ، شأنها شأن مناطق السيطرة التركية اليوم، بتفاهمات مع روسيا يمكن أن تنهار في أي لحظة، وليس مفهوماً ما الذي يمكن أن يُضيفه توسيع مساحتها إلى الأمر. وثانياً، هي تأتي في سياق مشاريع للتغيير الديمغرافي وتخليص تركيا والمجتمع الدولي من عبء أزمة اللاجئين، وهي فوق ذلك ستكون هدية للنظام وحلفائه الإيرانيين الراغبين في تحويل جرائم التهجير التي ارتكبوها إلى تغييرات ديمغرافية دائمة. وطبعاً، لا يُمانع عاقلٌ في أن يتم تنفيذ مشاريع لتخليص نازحين من حياة الخيام ونقلهم إلى بيوت إسمنتية، ولكن ما علاقة ذلك بعمليات عسكرية جديدة؟ وثالثاً، فإن نظرة سريعة إلى الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية في مناطق سيطرة الفصائل السورية التابعة لتركيا تكفي لأخذ فكرة عن نوع «الأمان» الذي يمكن أن توفّره هذه المنطقة الآمنة.

تبقى الحُجّة الأخيرة المتعلّقة بإعادة مهجَّرين إلى بيوتهم، ولعلّه يمكن التعاطف معها للوهلة الأولى، لكنَّ نظراً متأنياً فيها يقودنا إلى القول إنها تعني، في نهاية المطاف، استعادةً لحقوق أشخاص على حساب حقوقِ غيرهم، إذ ستؤدي العمليات الجديدة إلى تهجير آخرين دون شك، فضلاً عن الموت والدمار والانتهاكات التي ستنجم عنها، على ما شهدنا ونشهد في عفرين وشمال الجزيرة السورية. وطبعاً، قد لا يكون سهلاً أن يَرُدَّ أحدنا على مزاودةٍ من قبيل: «عليكَ أن تجد حلّاً لأبناء تل رفعت المهجّرين قبل أن تعطينا دروساً في حقوق الإنسان»، إذ لا ردّ ممكناً سوى أن يُقال من قبيل السُخرية المريرة: «لماذا لا تجد أنتَ حلاً للقضية الكردية قبل أن تعطينا دروساً في حقوق المهجّرين».

على أي حال، تندرج هذه الحجج كلّها في سياق تبرير جرائم جديدة بجرائم أقدم، أو في سياق البحث عن حلول لأوضاع إنسانية صعبة عبر دفع أشخاص آخرين إلى أوضاع إنسانية صعبة، وحتى دون أن تكون الحلول المطروحة مضمونة ولو بالحدّ الأدنى. دعونا نتذكر معاً؛ لقد تحدّثَ كثيرون عن إعادة أبناء تلّ رفعت المهجرين في سياق تبرير الغزو التركي لعفرين عام 2018، واليوم لا يزال أبناء تل رفعت مهجرين، وفوق ذلك تم تهجير كثيرين من عفرين وتحويل حياة الباقين فيها إلى جحيم، وخاصة من الأكراد الذي يتعرضون لشتى أنواع الاستضعاف والجرائم والانتهاكات. تكفي هذه الواقعة لتكون صورة مكثّفة عن التدخلات العسكرية التركية في سوريا ونتائجها المحتملة.

لكن ما يثير الاستغراب فعلاً هو أن مؤيدي العملية التركية معارضون للنظام السوري، ويُفترَض أنهم يريدون إضعافَ النظام تمهيداً لحلّ يزيل الحكم الأسدي ويكفّ يد المخابرات السورية ومجموعات الشبيّحة، بما يُفضي إلى عودة المهجَّرين والنازحين واللاجئين جميعاً إلى بيوتهم. وقد بات واضحاً، منذ الغزو التركي لعفرين على الأقلّ، أن المشاريع العسكرية التركية في سوريا تسير عكس هذا الاتجاه تماماً، إذ بينما كان النظام وحلفاؤه يشنّون حرب إبادة وتهجير ضد سكّان غوطة دمشق عام 2018، كان مَن يُفترض أنهم «مقاتلون معارضون للنظام» يشاركون في اجتياح عفرين دفاعاً عن «الأمن القومي التركي». وبعدها كانت العملية التركية في الجزيرة السورية عام 2019، التي أسماها أصحابها «نبع السلام»، مدخلاً أساسياً لعودة قوات النظام إلى مناطق عديدة في الجزيرة السورية. وفوق ذلك، بينما ينبغي ممارسة كل ضغط ممكن لإجبار النظام على تقديم تنازلات في المفاوضات، تدفع تركيا أتباعها في المعارضة للانخراط في محادثات سخيفة بشأن الدستور، وتقود المسار السياسي السوري بالتعاون مع إيران وروسيا في دهاليز مسار أستانا، التي تم تصميمها لتجاوز ما تفرضه القرارات الأممية بشأن ضرورة تأسيس هيئة حكم انتقالي في سوريا تحلّ محلّ النظام.

لن تنطلق أي عملية تركية دون تفاهمات مع روسيا والولايات المتحدة، وهو ما نجحت الحكومة التركية في الحصول عليه قبل ذلك مراراً عبر شتى أنواع المساومات. وقد تؤدي عمليات تركية في تل رفعت ومنبج إلى إعادة بعض المُهجَّرين إلى بيوتهم فعلاً، وهو ما سيكون خبراً سعيداً للعائلات العائدة دون شك، لكنه لا يُلغي سياقاً كاملاً من تسخير السوريين وقضيتهم ودمائهم لصالح ما تعتبره الحكومة التركية مقتضيات أمنها القومي، ولا سياقاً من الانتهاكات بحق عموم السوريين، والأكراد منهم على وجه الخصوص. في الواقع، لا شيء يخصّ السوريين في العمليات التركية سوى أن مقاتلين منهم ينخرطون فيها على جانبي القتال، وأنهم سيدفعون أثمانها الكارثية اليوم وفي سنوات قادمة، وأن السوريين المعارضين سيخسرون مزيداً من رصيدهم الأخلاقي والسياسي نتيجتها، عبر مزيد من التبعية ومن تمريغ قضيتهم في أوحال جرائم وانتهاكات تُرتكب باسمِ ثورتهم على نظام الأسد.

في آخر الأمر، لقد ارتكب الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني انتهاكات مروعة في سوريا دون شك، غير أنه لا يَسعُ من يعتبر نفسه طرفاً في صراع عادل أن يبرّر دوسَ العدالة تحت أي ذريعة، ولهذا فإن الموقف الأخلاقي ضد العمليات التركية ليس ترفاً بالنسبة لخصوم النظام السوري، بل لعلّه الرصيد الوحيد الباقي بين أيدينا بعد أن انتصر حلفاء النظام في كل الميادين. ولكن فضلاً عن الجانب الأخلاقي، يحتاج تأييد عمليات عسكرية تركية جديدة من قبل معارضين سوريين إلى مزيج مُدمّر من قصر النظر السياسي والتعصّب.