إشكالٌ ظاهر
ليس الطعن في جواز الاغتيال السياسيّ، بإطلاق معناه وسائر حالاتِه، تحصيلَ حاصلٍ على ما قد يُزَيَّن لنا لأوّلِ وهلةٍ إذ نكون قد حصرنا نظَرَنا سلفاً في الحالاتِ التي تزَكّي هذا الطعنَ بلا جدالٍ: أي في الحالات التي يندرجُ فيها الاغتيال في خانةِ الإجرامِ الصريح ما دام أنّ المستهدَف يكون قد استُهدفَ، لا ردّاً لعدوانٍ جسيمٍ بادَرَ إليهِ ولم يكن إلى ردّه سبيلٌ غير اغتيال المعتدي، بل قطعاً لمُزاولةِ الضحيّة ما هو حقّ سياسيّ لها أو حقوق كانت تتمسّك بها، بما في ذلك حقّها في الردّ على عدوانٍ أو في منع ضرر كان يقع عليها بما هي فردٌ أو بما هي عضوٌ في جماعةٍ تامُّ المسؤوليّة عن صون ما لهذه الأخيرة من حقوق. لا إشكالَ ظاهراً (على الأقلِّ) يشوبُ تجريمَ الاغتيال في هذه الحالة: إذ هو عدوانٌ أقصى على صاحب حقٍّ وردعٌ له (قد يرادُ نشرُه بالعدوى إلى آخرين من أمثالِه) عن السعي السياسيّ في إحقاقِ حقّه ونُصرتِه…
على أنّ هذه الحالةَ لا تَستنفدُ ما يمكن استحضاره من أعمالِ اغتيالٍ سياسيّ وقَعت فعلاً، أو ما يمكن تصوّرهُ نظريّاً من أعمالٍ محتملةِ الحُصولِ تقعُ تحت عنوانِ الاغتيال السياسيّ هذا. وهو ما يجلوهُ الانتقالُ دفعةً واحدةً إلى الحالةِ النقيضةِ أي إلى تلك التي يكون فيها المتعرّضُ للاغتيال قد سبق له، بما هو ذو سلطةٍ، أن مارسَ الاغتيالَ أو القتْلَ ظلماً للضحايا وعدواناً عليهم ولم يدَعْ لأولياء هؤلاء (أو لأولياءِ قضيّتهم) من سبيلٍ إلى وقفِهِ عندَ حدٍّ أو إلى مجازاتِهِ على ما سلفَ من جرائمهِ تلك سوى اغتياله. إذ ذاك يكون الاغتيال اقتصاصاً من المجرمِ بمثلِ جرمهِ وقد يكون أيضاً وضع حدٍّ لسلسلةِ جرائمَ مرشّحةٍ للتمادي والاستزادة.
بين الحدّين
لا ترمي هذه المقابلةُ الحَدّيةُ إلى القطع بحُكْمٍ يجيزُ الاغتيالَ في حالاتٍ بعدَ أن يحرّمه أو يجرّمه في أخرى. فما سبق يبقى بعيداً عن حسم الجدال. وإنّما توضح المقابلةُ أنّ قطبيها لا يستويان ظاهراً وأنّ على الجدال أن يضعَ في حسبانِه الاختلاف ما بين الحالات المعروضة. يزيد هذا الأمر وجاهةً أنّ كثيراً من هذه الحالات يقعُ ما بين الحدّين ويوجب البحث في إمكاناتٍ للتصرّف والمعالجة قد يكون الاغتيال قد حال دون استنفادِها واستوى بديلاً مفرطاً منها. من ذاك ما قد يمكن اللجوء إليه من ردْعٍ للمعتدي بالقانون عوض ردعِ عدوانِه بمثلِه أو بما هو أشدّ منه إذ يمثّلُ الاغتيالُ نظريّاً ردعاً مطلقاً.
هذا يذهبُ بنا إلى ضرورة تقدير الجُرمِ المنسوبِ إلى الضحيّةِ (على افتراضِ التسليم بحصول جرمٍ) وتقديرِ العقوبة المستحقّةِ (أي المترتّبةِ حقّاً) على هذا الجرم. فإنّ الاغتيالَ (وهو حكمٌ نافذٌ بالموت يُصدِرُهُ، في الأغلب، غيرُ ذي صفةٍ) قد لا يكون غير بديلٍ سهلٍ لعقوبةٍ أدنى خطراً من الموتِ بما لا يقاسُ ولكنّها أعسرُ منه تحصيلاً. ففي أنواعٍ بعينها من النزاعِ الأهليِّ يصبحُ القتلُ أسرعَ أنواع العقابِ أو الردعِ تبادُراً إلى خاطر القادر عليه. وهو ما يستبطنُهُ الضالعون في العنفِ، صغارُهم والكبار، فيغدو وارداً اللجوءُ إلى القتلِ حسماً لخلافٍ قد يُوجِبُ غرامةً متواضعةً لا جريمةَ قتلٍ لو أنّه حصلَ في ظرفٍ آخر أو في بيئةٍ مغايرة… حتّى أنّ هذه النزعةَ إلى اختصارِ العقوباتِ بأقصاها يصحّ اعتبارها مقياساً لسيادة العنف الأهليّ وخواء سلطةِ الحقّ في مجتمعٍ من المجتمعات.
ما الاغتيالُ السياسيّ؟
هذا كلّه يطرحُ مسألةَ القانونِ أو العدالةِ (وهي الأهمُّ) على أنّها متوجّبةُ المواجهةِ عند النظر في حالات الاغتيال المعروضة على اختلافها طَلَباً لحكمٍ عامٍّ في مسألة الاغتيالِ السياسيّ بعمومها يستوعب هذا الاختلاف ويتجاوزه. وهو ما يقتضي التمهيد بتحديد نطاقٍ لما نسمّيه «الاغتيال» السياسيّ. فإذا كانت الدولةُ في حالة حربٍ واعتمدت الاغتيال (أي تَعمُّدَ قتْلِ أشخاصٍ بأعيانِهِم) وسيلة من وسائل كسبها الحرب وأدخَلْنا، من جهتِنا، هذا الأسلوبَ في مقارعةِ العَدُوِّ بينَ ما يشتملُ عليه مصطَلَحُ «الاغتيال السياسيّ» كنّا نوسّعُ كثيراً نطاق هذا المصطلح. ويرى ذو معرفةٍ بهذا الباب أنّ قصبَ السبقِ فيه غير بعيد عن قبضةِ الجهازين الإسرائيليّين موساد وشاباك إذ تولّيا، في مدى عقودٍ، اغتيالَ آلافٍ من الأفرادِ في أنحاءٍ مختلفةٍ من العالم كانا ينسبان إليهم أفعالاً أو خططاً مضرّةً بإسرائيل. ولكن تُنازِعُهما الصدارةَ السي آي إي! ففي مساق ما يدعى «الحرب على الإرهاب»، استُهدفَ أشخاصٌ بأعيانِهم بالآلافِ أيضاً بعَمليّاتٍ خاصّةٍ ازداد كثيراً نصيبُ المسيّراتِ الطائرةِ منها في هذه السنواتِ الأخيرة. وكان يُقتلُ، في كثيرٍ من الحالاتِ، أشخاصٌ غيرُ مستهدَفين يتّفق وجودُهم في محيط الضحيّة المستهدفة. وكانت التشكيلات المسلّحة الأميركيّة ذاتُ الاختصاص أكثر الأطراف اعتماداً لهذا الأسلوب…
على أنّ التصوّر الشائع للاغتيال السياسيّ، وإن يكن لا يستثني من حالات هذا الأخير ما يندرج في نشاط الدولة الحربيّ، يميلُ إلى إبراز ما كان متفرّداً من الحالات أي ما استوى اسم الضحيّة شارةً فريدةً له واقترن بسيرةٍ لها في السياسة أو في بعض روافدها: سيرةٍ لا تطابق تفاصيلها الشخصيّة ما تتشكّل منه أدوارٌ أخرى لآخرين منتمين إلى المحيط نفسه. ففي الاغتيالِ السياسيّ يُفضي استهداف الضحيّة بشخصها إلى تَصدُّر اسمِها وسيرتها الحدثَ ومنحهما إيّاه قواماً قائماً برأسه. وهو ما تصلُح لإيضاحه الضدّية الحاصلة ما بين ضحيّة الاغتيال السياسيّ، وهي عادةً فردٌ واحد، وإن سقط معه آخرون غير مستهدفين بأشخاصهم، وضحايا القصف الأعشى الذي يستهدف موقعاً آهلاً بأناس تؤخذ عليهم هويّتُهم الجامعة ولا يتعيّنون بأسمائهم بما هم أفراد.
مرتكبون وضحايا وحالات
إذا جارينا، طلباً لحصر نطاق المعالجة، هذا الميل الغالب إلى تخصيص مصطلح الاغتيال السياسيّ بهذه الفئة المتشكّلة من حالاتٍ واضحةِ التفرّدِ بقي لزاماً، مع ذلك، توزيع الحالات المفردة إلى فئات يملي تَعدُّدها اختلاف الصفات الحقوقيّة السياسيّة للجهات المُقدِمة على الاغتيال واختلاف المواقع الاجتماعيّة السياسيّة للضحايا. فمن جهة المسؤوليّة عن الاغتيال، تبقى الدولة، ممثَّلة ببعض مراجعها المسؤولة وأجهزتها المختصّة، فاعلاً محتملاً للاغتيال السياسيّ تستهدف به مواطنين لها يعادون نظام الحكم القائم، مقيمين على أراضيها أو لائذين بدولٍ أخرى، أو تستهدِف، في مساق الصراع بينها وبين دولٍ أو تشكيلاتٍ أخرى، شخصيّاتٍ متعيّنةً بمواقعها وأسمائها تنتمي إلى هذه الدول أو التشكيلات.
أمّا استهداف الدولة مواطنيها بالاغتيال فبرز مؤخّراً، على سبيل المثال، في حالةِ الفتك بالصحافيّ السعوديّ جمال خاشقجي، والتصرّف الفظيع بجثّته في قنصليّة بلاده في إستانبول، وفي حالةِ أليكسي نافالني، القياديّ الروسيّ المعارض للبوتينيّة وقد أعاد تسميمُه إلى دائرة الانتباه حالاتٍ أخرى مشابهة. هذا صفٌّ من الأفعال يقعُ بديهةً في خارج حُكم القانون (الذي تنحّيه الدولةُ بتنحيتها السلطة القضائيّة فيها عن هذه الفئة من القضايا أو بتجاوزها أحكام هذه السلطة). يطعن هذا الاستهداف، بالتالي، في استحقاق الدولةِ الفاعلةِ صفة «دولة الحقّ». وهذه عادةً صفةٌ ساقطةٌ سلفاً عن النظامِ الذي يعمدُ إلى هذا الضربِ من الاغتيال: تُسقطها دواعٍ كثيرة ليس الاغتيالُ إلّا واحداً – أقصى – من بينها. وأمّا استهداف ضحايا من غير مواطني الدولة، وهو ما قد تتبنّاه هذه الأخيرة وقد تنكره، فيفتح باب البحث في حصول حالة الحرب أو عدمِها وفي ما تبيحه هذه الحالة وما تحظره. وربّما تَجاوز البحث النطاق الحقوقيّ إلى المجادلة في انتقاء الشخصيّة المستهدفة لجهة موقعها في بلادها وأفعالها وما يمليه هذا كلّه وما يجعله مستنكراً. وهذا مع العلم أنّ هذا النوع من الجدال (وهو ما تجهد إسرائيلُ – مثلاً – لاجتنابه بكتمان مسؤوليّتها عن اغتِيال من تقتلهُم من مسؤولينَ فلسطينيّينَ في دولٍ أخرى) لا يؤمَلُ التوافق على حسمٍ له، وذلك لتعلّق المواقف فيه بالمصالح المتصارعة من جهة وباختلاف المواقع الحقوقيّة أو الفلسفيّة من مسألة الاغتيال أصلاً وفصلاً وربّما من العنف السياسيّ برمّته على اختلاف صوره. هذا ونحنُ، إذ نحصر بحثنا بما يقع تحت المعنى الشائع للاغتيال السياسيّ، ندعُ جانباً صناعة القتلِ المتسلسل التي تزاولها، في السجون بخاصّة، أنظمة استبدادٍ على المثال الأسديّ، ماضيهِ وحاضرِه، ويُحصى ضحاياها بالألوف المؤلّفة…
معلومٌ من بعدُ أنّ الاغتيال السياسيّ ليس حكراً على الدولِ: ما كان منها معتمداً الاستبدادَ فلسفة حكم، على التخصيص. وإنّما تلجأ إليه أطرافٌ أهليّةٌ في الصراع الجاري بينها أو في مواجهتها سلطة الدولة ونظامها القائم. في هذه الحالة أيضاً قد يمارس الاغتيال في الداخل وقد يتوسَّع نطاقه إلى أهداف بعيدة إلى هذا الحدّ أو ذاك تبعاً للحدود المرسومة لانتماء الطرف المبادر ولدائرة نشاطه. والواقع أنّ استواءَ الاغتيال السياسيّ سلاحاً في النزاع بين القوى الأهليّة يفرض نفسه على أنّه أكثر الحالات شيوعاً أو رجحاناً إذا حصرنا نظرنا في نطاق الدولة الواحدة. وذاك أنّ سلطة الدولة تستعيض، في الغالب، عن الاغتيال بمعناه الدقيق (أي القتلِ غيلةً) بما يسمّى الاغتيال القضائيّ الذي تُسخّر له المحاكم وتلفّق لأجله التُهَم أو أيضاً بالإعدام السريع أو البطيء في الاعتقال بلا محاكمة.
وأمّا تَرَصُّد الضحيّة وإرداؤها بالطعن أو بالرصاص أو بالتفجير، إلخ، مع نكران المسؤوليّةِ في الأغلب، فهو من تقاليد الحروب الأهليّة، تُستكمل به صيغ العنف الأخرى فيها ويختصّ باستهداف الأفراد من ذوي المواقع الموصوفة. وهو يفيد، حيث يحصل، أنّ الحرب الأهليّة جاريةٌ، على نحوٍ ما، وإن غابت عن ساحاتها صيغ العنف الأخرى تلك. وذاك أنّه دليلٌ على أنّ اعتمادَ وسائل السياسة، بما تنطوي عليه من عنفٍ رمزيّ، بديلاً من الإلغاء الشخصيّ بالقتل ما يزال – أو هو أصبحَ – غير وافٍ بأغراض المنازلة العامّة التي يخوضها الطرف المُقْدِم على القتل. فإذا كان المستهدَف من ذوي السلطة غلب أن تكون الغاية من إردائهِ الضربَ المعنويّ لهذه الأخيرة وذاك بإظهار الخلل في حصانتها فيما هي المتقدّمة على أنّها التجسيد السامي للحصانة والجهة المحتكرةُ للعنف الشرعيّ تزاوله ولا تجيز ردّاً عليه بعنفٍ يقابله. هذا فيما يرادُ باغتيالِ ذوي المواقع فيها، على وجه التحديد، دحضُ شرعيّة عنفها وإثباتُ تَمكُّنِ معارضيها من مقارعته بعنفٍ يرونه شرعيّاً من جهتهم.
في مجال النزاع الأهليّ هذا لا يُقْتصرُ المستهدَفون بالاغتيال على ذوي المواقع في أجهزة السلطة. وإنّما تتنوّع أهدافه ما بين من يرشّحهم صراع الأجنحة في «الصفّ الواحد» ومن يتوزّعون بين ضفّتي الخندق الأهليّ الذي تنتظم حوله القوى في المواجهةِ العامّةِ التي قد تستوي سلطة الدولة القائمة، بما تتصرّف به من قوى نظاميّةٍ وأجهزةٍ، واحدةً منها لا أكثر وقد تجد نفسها بين أقلّها شأناً. هذا إلى حالاتٍ مختلفةٍ أخرى تقع كلٌّ منها في منزلةٍ ما بين هاتين المنزلتين.
إشاراتٌ لبنانيّة
وأمّا أهداف الاغتيال السياسيّ فتتنوّع، حين تتعدّد ضحاياه في مساق النزاع الأهلي، بتنوّع المقدمين عليه وتقلّب الظروف التي تسدّد فيها ضرباته وتتنوّع أيضاً – بل على الأخصّ – بتنوّع ضحاياه المختارين. ففي لبنان، مثلاً، بدت الضربات التي توالت من محاولة قتل مروان حمادة في تشرين الأوّل 2004 إلى اغتيال محمد شطح في كانون الأوّل 2013، وقد بلغت أقصى مشهديّتها باغتيال رفيق الحريري في شباط 2005، سلسلةً متماسكة الحلقات في مسار عاصف واكبت فيه هذه الضربات أحداثاً أخرى جسيمة، بينها التظاهرتان المعلومتان في آذار 2005 وانسحاب القوّات السوريّة من لبنان في غدواتِهما والحرب بين حزب الله وإسرائيل في صيف 2006 وجولة أيّار 2008 المسلّحة في بيروت والجبل وما تبع ذلك من آثارٍ لبنانيّةٍ خلّفها «الربيع العربيّ» وأظهرُها دخول حزب الله الحرب السوريّة… وهذا إلى الخلل المتمادي الذي ضربَ عمل السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة مراراً في غضون هذه المرحلة وعطّلَ التجديد الدستوريّ لكلٍّ منهما أو أجّله كلّما استحقّ تقريباً، إلخ.
في هذا المسار، بدت حالات الاغتيال التي تلت قتلَ رفيق الحريري ضربات معولٍ مدرجةً في الجهد المديد الذي رمى إلى قلب ما بدا توازناً جديداً افتتحه في البلاد ذاك الاغتيال بما تكشّف عنه من عواقب مباشرة ضخمة. على أنّ هذا التماسك لا يمنع التفارق بين تلك الحلقات بتفارق الضحايا الذين استُهدِفوا شخصيّاتٍ ومواقع. فإذا كان اغتيال كلّ من جبران تويني وجورج حاوي، مثلاً، قد استهدف وجهينِ سياسيّين كانت معارضتهما للوصاية السوريّة بلغت درجةً مرموقةً من علُوّ الجرْسِ وانتظام الوتيرة وكانا متوفّرين، إلى ذلك، على منابر مسموعة، فإنّ قتْلَ سمير قصير، مثلاً أيضاً، جاء مفترقاً عن حالتيهما بمعناه ومرماه (أي بالجمهور المستهدف بالرسالة) على الرغم من أنّ النشاط السياسيّ للضحيّة كان غامراً أيضاً. أشدّ من هذا الافتراق في السلسلة نفسها انفرادُ حالَتي الضابطين وسام عيد ووسام الحسن إذ بدا أنّ دورهما في التحقيق الجاري آنذاك لجلاء غوامض العملية التي أودت بالحريري وضلوع ثانيهما العمليّ في دعم المقاومة المسلّحة للنظام الأسديّ هما الدافعان المرجّحان لاغتيالهما. إلخ.
ليست هذه، في كلّ حالٍ، سوى إشارات جدّ عجولة إلى مرحلةٍ متراميةِ الأبعاد والتفاصيل. ولا نريد بها غير التخلّص إلى السؤال عمّا يرمي إليه الاغتيال السياسيّ وعن الحظوظ التي تتيحها له منطوياته وديناميّته لتحقيق مراميه. فما أشرنا إليه من أعمال اغتيالٍ متوالية في لبنان بدا رافداً من روافد جهدٍ مثابر لتعديل ميزان القوى الذي أرساه الردّ على الحلقة الكبرى من السلسلة نفسها، أي على اغتيال الحريري، إذ أسفر هذا الاغتيال في أوّل أمره عن رجحان واضح لكفّة الخصوم: خصوم المعسكر الذي وُجّهت إليه تهمة الاغتيال. ظهر هذا الرجحان في الساحات العامّة وفي الانتخابات النيابيّة التي شهدها ربيع 2005 وفي الحكومة التي تألّفت على الأثر، إلخ. وهو الرجحان الذي اقتضى إبطاله بضع سنينٍ من جهودٍ أشرنا إليها وإلى اندراج أعمال الاغتيال الظاهر في مساقها.
صيانةُ الإرهاب وتفعيلُ القوّة: مسألة الحصيلة
تلك حالة كان فيها ميزان السلطة السياسيّة برمّتها بل أيضاً موقع البلاد السياسيّ ودورها في المحيط على المحكّ. وكان الاغتيال السياسيّ بين ما اعتُمد من أدواتٍ لفرض التعديل في هذا كلّه. على أنّ اتّساع الدائرة هذا ليس ديدناً للجنوح إلى هذا الأسلوب. فإنّ الضربة قد تبتغي مجرّد الإرهاب صوناً لغلبةٍ قائمةٍ ممّا يبدو للممتّعين بها تطاولاً عليها وعلى حلالٍ وحرامٍ فرضوا رسمهما. هذا والإرهاب في جهة الجماعة المستهدفة يقابله في الجهة المرتكبة نوعٌ من الاطمئنان المجدَّد إلى القدرة على تفعيلِ القوّة بأعنف تجلّياتها، أي إلى كون هذه القوّة ليست شلّاء ولا مُلجَمة. هذا ما يظهر حين يُستهدف بالاغتيال شخصٌ تطغى صفته الشخصيّة على صفته الحركيّة أو التمثيليّة. وهذه، على الأخصّ، حال المثقّف المعرّفِ بصفتِه هذه، المقرونِ نشاطه السياسيّ باسمه أوّلاً: سواء أكان هذا الاسم سمير قصير أم لقمان سليم.
هذان طرفان مقترحان لمروحةٍ تُوزَّع على زواياها أهداف الاغتيال السياسيّ أو أنواعه فتحدّد كلّ زاويةٍ نطاق أحدها مبرزة موقع المرتكب وموقع الضحيّة وما كان بينهما من عداء راح يتفاعل في حقلٍ وفي ظرف… ولا بغية لنا ههنا في استقصاء التصنيف. بل الأَوْلى أن نسأل عن حظوظ الاغتيال في تحقيق بغيته أو إدراك هدفه. ذاك شاغلٌ معتادٌ للباحثين في الموضوع. وهم مختلفون في وجهة الترجيح ولكنّهم واعون تَغايُرَ الحالات. فيشار مثلاً إلى كون بيل كلنتون رأى في اغتيال إسحاق رابين ضربة حاسمة لمسار أوسلو نحو سلام إسرائيليّ فلسطيني. بخلاف ذلك، يُشدَّد على كون اغتيال أنور السادات لم يكن له أثرٌ يعتدّ به في مجرى السلام المصريّ الإسرائيلي…
وما نراه، بلا حاجةٍ إلى الاستكثار من الأمثلة، أنّ فاعليّة الاغتيال إنّما هي رهنٌ بالميزان المصاحب لوقوعه بين الجهة المرتكبة والجهة المُستهدَفة بالضربة. فإذا كانت الجهة الأخيرة من التماسك والبأس بحيث تحمي الخيار المستهدف بالضربة وتنصره وكانت الجهة المُرتكِبة من الضعف والعزلة بحيث لا يتسنّى لها استثمارُ الضربة وفاقاً لمأمولها رجح أن يرتدّ الاغتيال على مرتكبيه. والعكس بالعكس إن جازَ افتراض التعاكس القاطع في هذا المضمار… على أنّ للحالين دلالةَ ترجيحٍ بيّنةٍ على كون الفاعليّة إنّما هي لميزان القوى الإجماليّ في الصراع الجاري وليست لفعل الاغتيال. فهذا الأخير شرارةٌ قد تشعل ناراً ولكنّ وقود النار ومآل الحريق يُسألُ عنهما في مواضع وفي بوادر أخرى. ولا يفوتنا أنّ الاغتيالَ، بما هو فعْلُ قمع، كثيراً ما يرمي إلى إخمادِ نارٍ مضطرمةٍ وليس إلى إشعال حريق. ههنا أيضاً يغلب أن تكون فاعليّة الاغتيال رهناً بمقدار تركّز الطاقة التي تنطوي عليها الحركة المستهدفة بالقمع في الشخصيّة المستهدفة بالاغتيال. هذا إلى ما قد يصحب الاغتيال من تدابير قمعٍ أخرى ومن جهود سياسيّة. وأمّا في ما تعمدُ إليه الجهةِ المعادية للسلطة الحاكمةِ فيشَدَّدُ كثيراً على ما يورثه الاغتيال السياسيّ (والإرهاب بعموم تعابيره) من خلخلةٍ لائتمان السلطة المذكورة على السلامة العامّة ومن زعزعةٍ لديمقراطيّةِ النظام السياسيّ حيث توجد. غير أنّ العمدة، في آخر المطاف، تبقى في جانب البنى المتقابلة وسياسة الصراع أي في ما يسع الحُكمَ أن يعوّل عليه من ولاءٍ ومن مقوّماتٍ أخرى وما يوظّفه في الصراع من إمكاناتٍ مختلفةٍ وليس في جانب ضرباتِ الإرهاب ناهيك بفعل الاغتيال المُفرد.
ولا يُقْتصر اغتيال المثقّف بخاصّةٍ على تأكيد هذا المنحى بل يَرْجَح ارتدادُ الفعل على مرتكبه، في هذه الحالة، لفرط ما يبرز قبح الاغتيال حين يقع على شخصٍ أعزل قلّما يُقْتصر ما ينتجه من قيم على موقفه في السياسة أيّاً يكن. وإنّما تُرشِّحُ هذه القيمُ صاحبها لديمومة الحضور إلى مدى غير محدود ويتعزّز حظّه هذا بانتمائه إلى فئةٍ اجتماعيّةٍ تسبغ على أفرادها هالةَ ندرةٍ وميزةٍ معنويّتين وتجدُ سُبُلاً لحفظ ذكراهم ونشرِ شهادتهم. فإذا أفلح المُرتكِب، في هذه الحالة، في جعل ضحيّته «أمثولةً» أي عبرةً لمن اعتبر (وهو نادراً ما يفلِح حتّى في المدى القصير) فإنّ هذا الإنجاز (أي الإرهاب) لا يدوم وينقلب إلى عكسه: يسعف في ذلك فعلُ الزمن الذي يتعذّر حصر صيغه ووسائله أو ردعها. ذاك ما جرى، مثلاً، لكلّ من حسين مروّة ومهدي عامل، وقد مضت على اغتيالهما مدّةٌ باتت كافية لتبيُّن الأثر الفعليّ لاغتيال المثقّف. خلاصة هذا الأثر، في حالتيهما، هي تعزيزُ الصورة الشخصيّة وزيادةُ النفوذ المعنويّ فوق المأمول لو انّهما أتمّا عمريهما بسلام. بل هي أيضاً تجنيب فكرهما، ولو إلى حَدٍّ، نقداً ومحاكمةً كان يرجّح أن يتعرّض لهما أو لمزيدٍ منهما لو لم تُحِط بطلعتيهما هالة الشهادة.
لا بدّ من الإشارة، مع ذلك، إلى عاملٍ يدخلُ في تقدير فاعليّة الاغتيال السياسيّ وهو التقابل بين ما يحوزه فعل الاغتيال من تأييد أو «شعبيّةٍ» وما يثيره من شجبٍ واستنكار. وهو ما يؤول إلى توظيف الفعل في السياسة المعنويّة لجماعةٍ من الجماعاتِ بالعنف، بحيث يكون الاغتيال، مثلاً، بديلاً انفعاليّاً من إنجاز فعليّ مفتقد في الجهة المرتكبة أو يكون، في الجهة المستهدفة، ضربةً معنويّة تشعرها بالهشاشة وضعف الحصانة. وهذا الأثر عارضٌ عادةً في حالتيه يكشف أو يَستُرُ وضعاً قائماً وليس له، بسبب موضعيّتِه، أن ينشئ هذا الوضع.
الغابُ والقيمة: ما الذي يُقْتَل؟
في كلّ حالٍ تبقى هذه المناقشةُ كلُّها لفاعليّة الاغتيال في نطاق القياس العاري لوقع هذا النوع من العنف في موازين صراعٍ جارٍ أي في نطاق ما يصلُح له أن يسمّى «حساب الغاب». وهذا نطاق تقاسُ فيه القيمة بالقوّة أو بمقدارها حصراً أي إنّه منسوبٌ إلى الهمجيّة. ولا مخرج ههنا من النطاق الهمجيّ إلّا بالعودة إلى مسألة المبدأ أو الشرعيّة (شرعيّة الاغتيال) وهي المسألة التي غادرناها بلا معالجةٍ في مطلعِ كلامنا. والحالُ أنّ حديث المبدأ هذا لا يحتاج إلى إطالة. ولعلّ أيسر السبل إلى رأيٍ متماسكٍ فيه أن يُستطلع ما يسلّطه الجدال العصريّ في عقوبةِ الإعدام من ضوءٍ على مسألة الاغتيال. فإنّ استجابة أكثر الدولِ استقراراً في الديمقراطيّة ورعايةً لحقوق الإنسان للشعور بما هي عليه هذه العقوبة من همجيّةٍ إنّما يعبّر، في ما يتعدّى مواقف السلطات المشترعة، عن سويّةٍ عامّةٍ بلغتها البشريّة المعاصرة (أو طلائعُها في الأقلِّ) لجهة تحسّسها الحياة بما هي قيمةٌ عظمى وامتناع التصرّف بها طلباً لما هو أدنى منها قيمة. فإذا كان هذا شأنُ عقوبة الإعدام وهي عقوبةٌ يُفترض أن تنزلَها سلطةٌ ذات صفةٍ في ظلّ القانون ومع توخّي العدالة، فما حالُ الاغتيال وهو، على النقيض من هذا كلّه، ثمرة قرارٍ مكتومٍ بالغدر، لا حصيلة محاكمةٍ، وهو فوق ذلك ثمرة حسابٍ نفعيّ (يخطئ أو يصيبُ) لجهةٍ سياسيّةٍ منحازةٍ إلى نفسها حكماً وليس ثمرة حكمٍ تتّخذه «باسم الشعب» سلطةٌ مقيّدةٌ بأصولٍ وقوانين قد لا تُعَدّ بمنجاةٍ من الطعن والجدال ولكنّها مقرّرة شرعاً؟
تبقى أخيراً وجاهةٌ للسؤال: ما الذي يغتالُه الاغتيالُ السياسيّ؟ واضحٌ أنّه لا يقتُلُ ما يرمي إلى قتله: أي الرأيَ أو الموقفَ السياسيّ. فهذا لا يكون، على الإجمال، منحصراً بفردٍ فيموتَ بموته. وإنّما يقتُل الاغتيالُ ما قد لا يكون مَرَّ لمرتكبيه ببال: يقتُلُ أباً أو ابناً، زوجاً أو أخاً، صديقاً أو جاراً، عالِمَ آثارٍ أو شاعراً، محبّاً لنوعٍ من الوردِ أو لصنفَين من الفاكهة… إلخ. يَقْتُلُ إنساناً إذن! ذاك ما أشار إليه الحوار الأخير في حال الدنيا، روايةِ أندريه مالرو، ومؤدّاه أنّه ليس في تسعةِ أشهرٍ يُصنَعُ إنسان! وإنّما يحتاجُ إتمامُ صنعِه إلى ستّين سنة! وهو يُقْتَلُ، بعد ذلك، في يومٍ واحد!