في مشهد عابر ولطيف من كتاب إبراهيم ناجي – زيارة حميمة تأخرت كثيراً للدكتورة سامية محرز، أستاذة الأدب العربي المعاصر وحفيدة ناجي، تحكي عن مشهد لجلسة عائلية متكررة لتحضير الأرواح بهدف السمر والتسلية عبر طريقة «السلّة» الشائعة، وعندما تستدعي روح الجد ليسألوه إذا ما كان يعرف «هنتغدى إيه النهارده؟» فيجيب: «ملوخية».

بقليل من الخيال واللعب، يمكن اعتبار الكتاب جلسة تحضير أرواح طويلة، لكن مع أسئلة أكثر جدية تُطرَح على الروح، وفي استنطاقها ستستجيب لأنها أرادت أن تفعل ذلك، وكأنها من خططت للعبة، فقد تركت عن عمد آثاراً لها قبل موتها، كشيفرات واستغاثات في الأثير تنتظر من يلتقطها.

كل شيء في تلك اللعبة يبدأ من الصورة وينتهي إليها، بِدءاً من المشهد الأول الذي يزور فيه جمال الغيطاني منزل سامية محرز عام 1981، ليتناقشا في أطروحة دكتوراة تُعدِّهُا حول أعماله بوصفه أحد رموز الأدب المعاصر وقتها، وينتبه حينها إلى صورة إبراهيم ناجي المعلقة في حائط «الصالون البرجوازي»، والتي تبدو في عين الحفيدة مُقحَمة بعد أن بالغت الأم وابنة ناجي في تكبير حجمها. وبعد أن يعرف أنه جدها، يلقي بملاحظة تبدو إشادةً في نظره عن «التشابه الشديد بينهما»، لكنها لا تنجح إلا في إزعاجها، فلم تكن ملامح ناجي جميلة، فهو أصلع، ذو أنف ضخم وشفتين غليظتين، فما هو وجه الشبه بينه وبين الشابة العشرينية الجميلة؟ لكن من ذلك الانزعاج، تتخذ الصورة أبعاداً جديدة لم تلمحها سامية من قبل، كأن كل ما كانت تحتاجه هو عين أخرى ونظرة خارجية، طازجة.

كل الأعين التي وصفت إبراهيم ناجي، سواء من المعاصرين له من الأدباء أو من عائلته، كانت تفتقد لتلك النظرة، وعملت بوعي وبدون وعي على أن تجعل من تلك الصورة حبيسة نفسها، مثالية مضيئة، لكنها مُختزَلة وبلا أبعاد، وهو الأمر نفسه الذي مثَّلَ عائقاً بين الجد والحفيدة المتمردة الحذرة من أن تُحبَسَ معه في قفص الصورة، «فلا يتبقى سوى مسخ يضاف إلى كل المسوخ التي ابتدعناها لرموزنا في كافة المجالات، بتحويلهم إلى آلهة معصومة من الخطأ والخوف والهوان والندم، محرومين من البهجة واللعب والعشق والنشوة، بل من الحياة نفسها».

لعل ما جعل ملاحظة الغيطاني ذات مغزى، أنها صادرة في الأساس من أحد نماذج الأدب المعاصر الذي اختارته الحفيدة لأطروحة الدكتوراه تمرداً على ما قدمه جدها والجيل الذي سبقه.

كانت سامية في سنوات دراستها في المدرسة ترفض إعلان صِلَتِها بالجد خوفاً من التنمر والسخرية من زميلاتها، بسبب القصيدة التي قُرِّرَت عليهم في المدارس، وهي قصيدة العودة التي يصعب تذوق دلالتها في تلك السن، فوظفوا سخريتهم منها كسلاح للانتقام من طريقة التعليم نفسها، القائمة على الحفظ والتسميع. دفعها ذلك إلى شِقاق مع اللغة الأم، التي رأت في طريقة تدريسها – مُحقِّةً – لغةً للضبط والترهيب ومركزةً للنموذج وتوحيده، بينما كانت تعتبر فصولَ الأدب الإنكليزي في المدرسة مدخلاً للتفكير وللخيال، وقد اختيرت نصوصها متوائمة مع أعمارهم، فهي «تحترم ذكاء الطلاب وتؤججه».

نص العودة، كان أولى الشيفرات التي بثّها الجد – إيماناً مني باللعبة المتخيلة – حتى إنني أسمح لنفسي أن أقتطع من أبياته ما يؤكد اللعبة:

لمَ عدنا؟ ألم نطوِ الغرام                       وفرغنا من حنين وألم

ورضينا بسكون وسلام                       وانتهينا لفراغ كالعدم؟

موطن الحسن ثوى فيه السأم                وسرت أنفاسُه في جوّه

وأناخ الليل فيه وجثم                        وجرت أشباحُه في بهوه

والبِلى أبصرتُه رأيَ العيان                ويداه تنسجان العنكبوت

صحتُ يا ويحك تبدو في مكان         كل شيء فيه حيٌّ لا يموت

ركني الحاني ومغناي الشفيق          وظلال الخلدِ للعاني الطليح

علم الله لقد طال الطريق                     وأنا جئتك كيما أستريح

على بابكَ ألقي جعبتي                 كغريب آبَ من وادي المِحَن

فيكَ كفَّ الله عني غربتي           ورسا رحلي على أرض الوطن

هل يمكن اعتبارها رسالة لها أو نبوءة؟ أنها في النهاية ستعود من الغربة التي فرضتها على نفسها هرباً من الصورة، غربة عن الوطن واللغة والعائلة، لتعيد اكتشاف جدها، لكن بمنطقها الخاص.

* * * * *

تظل أبرز شفرات الروح الحبيسة هي أوراق ناجي التي انتقلت من يد إلى يد، والتي تبدو كأنها خارجة بعد زمن من داخل صندوق مسحور، وكانت إحدى بناته وخالة سامية هي الأقرب لفكّ الشفرة لولا أنها تراجعت، لأنها قررت نشرها بعد حذف الأجزاء الشخصية حفاظاً على الصورة المثالية للشاعر الكبير، الزوج المحب والمخلص، لكنها فوجئت أن هذا الحذف لا يجعل بين يديها مادة ترقى للنشر، فآثرت عدم نشرها.

ترى سامية أنه على الرغم من أن تلك المدونات كُتِبَت بلغة شبه مبهمة ومختزلة، تستعصي أحياناً على القارئ، إلا أنها قد أُعدِّت للنشر، كأنَّ ناجي كان يطالب بإنقاذه من سجن الصورة، وما لجوؤه إلى التدوين إلا تعويضٌ عن عدم قدرته على إيجاد أي شخص يبوح له بأزماته الحقيقية.

في مقال نشر له عام 1953، بعنوان ناجي يؤرخ لحياته، تلتقط سامية الاستغاثة المبثوثة في أثير الأرواح:

هذه هي الرحلة، رحلة العمر، من يريد أن يؤرخني – إن كان لهذا التاريخ أهمية، يلقي نظرة على المكتبة، يقرأ تواريخها، يقرأ الهوامش والتعليقات يقرأ على صفحاتها الأولى أين وكيف ولماذا اشتريت.  لقد عشت أقرأ، وقد أسقط في الميدان والكتاب في يدي.

وصية الجد نفسه، هي أن تُؤرَّخَ حياته عبر الهوامش لا المتن.

لكن العائلة تتخلص من المكتبة، لتطمس معها رحلة عمره المدونة في هوامش الكتب، وهو ما تظنه سامية نوعاً من الإهمال، لكنها تعرف من خلال المظروفين اللذين يحمل أحدهما يومياته وترجمات غير كاملة لسوناتات شكسبير ويحمل الآخر عقوداً موثقة، أن المكتبة بيعت بعد وفاته إلى رابطة الأدب الحديث بمعرفة شقيقه لتسديد ديون تركها الجد وصدرت بشأنها أحكام نهائية، وأن العائلة حاولت إنقاذ المكتبة وصورتها أيضاً فلم تبعها في مزاد علني، لكن الرابطة نفسها تتفكك وتضيع الكتب.

* * * * *

على عكس المأمول، يترك الشاعر بموته إرثاً ثقيلاً على العائلة متمثلاً في الديون، كشأن كل شبح وسلف يظل حضوره بعد موته أشبه بجذر خانق يعتصر وجود من حوله ويكبّله ويعيق تطوره. يصير الجد مصدراً للقلق لا الثراء، حتى عندما يتحول إلى نجم بأثر رجعي عام 1966، بعد 13 عاماً من وفاته. فعندما غنت أم كلثوم له قصيدة الأطلال، انفتح معها باب آخر للعنة، وهو ادّعاءات نساء أن تلك القصيدة وقصائد أخرى كُتبت لأجلهنّ، على «روشتات عيادته»، لتضطر العائلة للرد بنشر مخاطبات بين ناجي وزوجته، تؤكد مثاليته كزوج ومثالية علاقة الحب بينه وبين زوجته. بحسب ما تكشفه قراءة سامية، تطلَّبَ ردُّ العائلة على الأسطورة نسجَ أسطورة مضادة، لتنفي الأسطورتين معاً.

تُخضِعُ سامية الخطابات بين الزوجين لتحليل لغوي لتكشف أن ما تخبئه صورة الحب هي فجوة ظلّت تتسع ببطء، تداعٍ لحلم رومانسي تخيله ناجي في الأساس، مُجبِراً إياها على أن تكون صورة طبق الأصل من خيال آخر سابق تصور به قصة حبه الأولى التي فقدها في صباه وشبابه، فيُلِّحُ على الزوجة أن تكتب له بالفرنسية، رغم معرفتها المحدودة بها، لأنها اللغة التي تعلَّمها من أجل محبوبته.

تُبرِزُ الخطابات مثلاً محاولة تثقيف الجدة وحثها على القراءة والاطلاع والأدب لتصير أقرب للصورة التي لم تغادر خياله، يضفي على ذلك صبغة رومانسية: «وكنت أحمل هم جلوسي وحدي وكيف أستطيع، وقد تعودت أن تكوني دائما معي تجعلين رأسك الجميل على كتفي، وترتاحين إلى ذلك وتاخذين في النوم بينما أقرأ، وأحكي لك ما قرأت».

في جزء أصيل من لعبة سامية، تحتفظ بالأخطاء الإملائية في الرسائل كما هي.

ما تفهمه سامية من أن الجدة كانت تأخذ في النوم بينما يقرأ لها ناجي يأتي على عكس ما يُصوِّر هو، إذ يبدو النوم ضَجَراً مما يقرأ على عكس ما تَخيَّله عن رومانسية الموقف. وكذلك بشأن الرواية الإيطالية التي يلخصها إبراهيم ناجي لزوجته، والتي تدور حول امرأة تفيض بالكلام في مراسلاتها بينه وبين زوجها، وهو ما كان يشتكي من غيابه، فالزوجة لا تستجيب لإلحاحه بأن ترسل له الخطابات كل يوم رغم شكواه من الوحدة في عيادته بالمنصورة، فتتضح المسافة بين شاعر يبحث عن الألم، ويخترعه أحياناً، لأنه لا يستطيع أن يطابق الصورة المتخيلة في ذهنه مع الواقع، وبين امرأة تريد زوجاً بقدمين مغروستين في هذا الواقع، وهو السبب عينه الذي هجرته من أجله محبوبته الأولى. من تلك الزاوية لا يظهر ناجي كعاشق، بل أقرب إلى طفل متطلب، مهووس.

يلتقط كتاب ريكاردو بيجيليا القارئ الأخير، ترجمة أحمد عبد اللطيف، فكرة عمّا أراده كافكا من خطيبته فيليس: لقد شيّد كافكا خيالياً، يمكن أن نخمّن ذلك، صورة القارئة الساهرة على مخطوطاته. والخطابات مجرّد اختبار لهذه الآلية في السيطرة والافتتان «والاستعباد». إجبار آخر على القراءة. والمرأة تمثّل الصورة السنتمنتالية التي تسمح بتوحيد الكتابة والحياة.

أهذا ما كان يرغب فيه ناجي من زوجته، ومن كل امرأة نسجها خياله؟

تفكك سامية كذلك فكرة جدها الرومانسية عن مدينة المنصورة من حيث اختزالها كمكان يفوح منه الجمال والشعر والوحي عبر سحر الطبيعة والنيل، فلا ينتبه إلى السياق التاريخي والاجتماعي للمدينة العريقة من حيث كونها مجتمعاً متعدد الفئات يضم التجار والأجانب، جاذباً للفن والغناء والطرب والعوالم والراقصات والموسيقيين، ممّا أضفى عليه في ذلك الزمن روحاً تحررية.

تتصاغر الأساطير عن الملهمات في عين سامية وفي عين الحقيقة أيضاً، فما يسميه ناجي بالجرائم الصغيرة متباهياً بها أحياناً، ويصوره كفتح ذكوري، ليس إلا علاقات غير مكتملة تبدو رداً على تردي حالته الصحية وإحساسه بتقدم العمر، وإثباتاً لذات ذكورية مهددة. وكذلك، تتهاوى قصة الحب بين ناجي وزوجته فلا توصف في الخطابات إلا كمجرد زوجة وباسمها بدون تدليل، وتوصف بالإسراف وأنها لا تحبه أو تفهمه، بل يتسرب الشك في أنها دخلت قصة حب مع نسيب لها.

بتخليص ناجي من الرومانسية عبر «العقلنة» لا يُستَبعد الحب بل ينضج، كحب سامية لجدها والمغاير للصورة المسبقة عن الحب. إنه حب يحدث بعمق بعد أن تعرف أكثر، فتفهم ولا تُدين، حبٌّ مشروط بالعقل وغير مشروط بأن يكون خالصاً من الشوائب، لأن لا مثالب قادرة على الانتقاص منه، بل على العكس تلك المثالب هي وُقوده.

لكن يمكنني التفكير في شيء آخر يشغلني، وقد وجد ضالته وأسئلته في الشخصية الرومانسية. قد تكون الرومانسية في نسختها الساذجة إعادة تخييل وبناء اواقع على مقاس صورة في الذهن ليس إلّا، فلا يرى المرء حينها سوى ما يتوهمه، وعندما يدرك أقل فارق بين المُتوهَّم والصورة يعصف به الألم الذي يولد اغتراباً قد يدفع إلى الثورة والإبداع، ولكنه أيضاً قد يولّد الغضب والكراهية. هل شدة العاطفة المبنية على ما أردناه، في هذه الحال، هي مصدر الخلل أيضاً والتطرف والاستبداد والرغبة في السيطرة عنوة على مقدرات الواقع؟ لكنها أيضاً قد تكون بالقدر نفسه مصدراً للإيمان الذي قد يُمكِّنُ المرء من الثبات في الأرض، ولو بقدمين مغروستين في الخيال. هذا الحب المؤذي، الفوضوي، غير الحقيقي والمُتوهَّم، هو أيضاً خالق.

الحب مثلاً يدفع ناجي لتعلّم الفرنسية كي يكتب لمحبوبته الأولى، بل بسببها نَظَمَ الشعر في صباه، وكذلك ترجمة رواية إيطالية لزوجته. في السراب الذي تبعه حركةٌ لم تَكلّ.

بل أفكر، هل يفتقر كتابنا المعاصرون إلى شيء من الإيمان بمحبوب مُتخيَّل؟ هل تفتقد بعض الكتابات الحالية الحيوية بل وشيئاً من البهجة الضرورية والسحر ورؤية معارك الحياة بنظرة أكثر مرونة؟ هل يفتقد إنسانُ هذا العصر أن يُشطَر إلى نصفين، لا بدافع المعاناة من أجل البقاء وتحصيل لقمة العيش بل من أجل حب مَزَّقه؟ وليس بالضرورة أن يكون على شكل علاقة عاطفية، هل الغرام كما صوره لنا أدب الرومانسية إلّا تذكرة بأن هناك شيئاً ما على الإنسان أن يبذل من أجله القلب والروح والدم؟ هل نفتقر إلى حب عاصف كي تتدفق الدماء إلى الأوردة المتصلّبة في حياتنا وتفك شيفرة تبلد الحواس؟

هل يختلف الجانب السلبي من رومانسية ناجي التي ترغب في مطابقة الخيالات مع الواقع، عن الإصرار المقيت على الكراهية في عصرنا هذا لأن الواقع لا يمتثل لتصورات أذهاننا؟

* * * * *

يصور ناجي نفسه في المدونات كشخص مأزوم مهنياً ومادياً ونفسياً على عكس صورة الأب القوي التي رسمتها بناته في مخيلته، ترصد سامية غربته عن المجتمع ومؤسساته، كمؤسسة العمل والمؤسسة الثقافية، بل والزواج أيضاً كمؤسسة اجتماعية. الوحدة والاغتراب والشعور بعدم التآلف يُنبئ في الأساس عن شاعر أكثر حداثة من نسخة شاعر الأمّة أو القبيلة وتصوراتها الجمعية عن نفسها، كأنه بذرة لمستقبل الأدب والشعر.

بسبب هذا الاغتراب يُقصى من المؤسسة الرسمية كطبيب، ويُفصل من وزارة الأوقاف عام 1952 بسبب عمله كشاعر. لكن بسبب هذا الإقصاء نفسه، تنفجر طاقته على شكل مجهودات أدبية متنوعة كمحاضر وقاص ومترجم وناقد، بشكل يكشف غزارة إنتاجه خارج صورة «شاعر الرقة العاطفية»، التي اختزله فيها أصدقاؤه سعياَ لتكريمه وأعداؤه سعياً للبخس من مكانته. وكذلك يربح الناسَ واللقبَ الرمزي «طبيب الغلابة»، اللقب الذي سيلازمه بعد رحيله، حتى إن نقابة بائعي الصحف تعيد نشر مجموعته القصصية أدركني يا دكتور على نفقتها عرفاناً بفضله في علاج أعضائها بلا مقابل، وهو اختيار له دلالته الهامة بعد تبرؤ الوزارة منه كطبيب لأنه شاعر، فالبطل في المجموعة يحمل الصفتين ويحمل الكثير من سمات إبراهيم ناجي، الذي يشير في مقدمة المجموعة إلى اضطرار عدد من الأطباء إلى الكتابة سراً ومن خلف ستار، مُعرّياً موقف زملائه الذين يمارسون الأدب خِفية كي لا يصطدموا بالمجال العام لمهنتهم.

تتساءل سامية كيف لم يلتفت أحدٌ ممن كتبوا عن ناجي إلى أهمية المجموعة القصصية ومقدمتها، بوصفهما رداً على إقصائه، فضلاً عن إدراجها في هامش إنتاجه الأدبي.

تتضح صورة أخرى أكثر تعقيداً لناجي، كرجل منخرط وذي علاقات مشتبكة ومتعددة داخل الوسط الثقافي والعلمي، وثقافة موسوعية واطلاع مُواكِب لأحدث ما أنتجه الأدب الغربي.

كان عليها، من أجل أن تكتشف أبعاد الصورة، أن تطارد أولئك اللذين سعوا إلى اختزالها؛ كُهّان الثقافة في كل عصر ومن بينهم صالح جودت، الذي ساهم في إضفاء صبغة رومانسية تبدو للوهلة الأولى كأنها تضيف إلى عظمة ناجي، لكن سامية تكشف أن ما فعله جودت لم يكن إلا عملية سطو على سيرة الجد، ادعاءً للحب وحسداً مدفوناً وتحايلاً، فعبر ادعائه لامتلاك تلك السيرة، مرَّرَ جودت إساءات وافتراءات، وقد زعم زمالته رغم فارق العمر.

من بين تلك الافتراءات، زعمُ معرفته الوثيقة باسم محبوبته الأولى وهو ما أثبت الكتاب عدم صحته، وكذلك الإيحاء بأن بعض قصائد إبراهيم ناجي هي قصائد كتبها جودت.

وللأسف، يصير ذلك السطو والتزييف الذي مارسه جودت أحد مصادر السيرة الأساسية لناجي كما رواها جودت في كتابه:  ناجي حياته وشعره، بل إمعاناً في تثبيت الصورة التافهة التي نتجت عن هجوم العقاد عليه واصفاً ديوان الشعري بأنه «ديوان الشاعر الظريف».

* * * * *

نفرت المحبوبة الأولى من العلاقة مع ناجي لإيمانه الأعمى بها، لكن في سن متأخرة بعد أن ذاعت شهرته كشاعر وطبيب، أعادت الوصل بطريقة تفوق الودّ بدرجة، استدعاءً لأريج قصة الحب التي لو كانت قد اكتملت لكانت قد أصبحت زوجة الشاعر، وربما أيضاً بسبب مرورها بأزمة نتيجة تقدم العمر، فأرادت أن تستحضر روح الشاعر ليبثّ فيها شيئاً من الثقة والعزاء. وفي أواخر أيامها، ظلّت تؤكد فيما يشبه هذيان الشيخوخة لبناتها أن قصيدة الأطلال قد كتبت عنها، كأنها آخر وكل ما تبقى له.

في الأطلال أيضاً جزءٌ من لعبة الشيفرات، فإذا كان ناجي ينقل عادة توارثها عن أسلافه من الشعراء العرب في الجاهلية، وهي الوقوف على الأطلال وبكاؤها، فسامية تفعل الشيء نفسه، لكن ليس من أجل التحسر عليها، بل من أجل فحصها بالعين المتجددة الموضوعية عبر رحلة العودة، وبروح أكثر حداثة. فإذا بها قد أعادت تشييد الزمن وإدراكه بعمق، ناجيةً من فخ نباشي القبور الذين يَجرُّونَ أطلال الماضي إلى التفاهة.

كأنَّ في كل سلفٍ وماضٍ كنزاً ولعنة، فالديون التي لاحقت أسرة إبراهيم ناجي بموته تتحول إلى نعمة من خلال حقوق الأداء العلني التي وفّرتها الأطلال، التي ربما تكون أكثر أغنيات أم كلثوم نجاحاً في تاريخها.

القصيدة كما غنتها أم كلثوم لم تكن متطابقة مع تلك التي كتبها ناجي، بل أعاد تشكيلها ونَحتها صديقه أحمد رامي، والأقرب لمعرفة ذائقة أم كلثوم وجمهورها، من قصيدتين هما الأطلال والوداع.

كانت مسودة الأطلال بخط يد ناجي، والتي عرضتها سامية في كتابها بعنوان حوار بين الشاعر وشياطينه، تحمل أطياف تساؤلات وجدل وشكّ حول معنى «الحب» وتصوراته الخيالية عنه، لكن لأن شياطين سلفٍ ما هي ملائكة خَلَفِه، لا يواصل هو الحفر عميقاً وراء أطياف أسئلته، بينما لا تخشى سامية هذا الحفر.

باكتشاف الجهد الذي نظم به ناجي قصائده من خلال إعادة الكتابة مرات عدة، تنفي عنه صفة الشاعر الفوضوي المُلَهم من عدم، الذي يكتب القصائد على الروشتات لكلّ من هبّ ودبّ. تتوقف سامية كثيراً عند عمق معرفته بأدب وليم شكسبير، ربما لأنه لا يقلّ عنها من حيث الإلمام بالأدب الإنكليزي الذي رأت في مراهقتها أنه يحثّ على التفكير مقارنة بالنصوص العربية.

شكسبير كان سبباً في أن تمتد العلاقة مع الجد الأكبر إلى ابنها نديم، الذي يبدأ معه أيضاً من منطقة سوء فهم، فيلومه على تمجيد شكسبير من خلال عين تقرأه بأفكار عن «الإمبريالية»، والتي تصوره كمجرد شخصية متخيلة شيدتها الإمبراطورية البريطانية لتكون واجهتها الأسطورية في عملية الغزو الثقافي. لكن سامية الناضجة، لا الشابة، تعيد شرح الأمر لابنها: لم يكن جيل ناجي يغترف من الثقافة الغربية بمنطق التابع بل منطق الند، كما أن أهدافهم كانت تسعى للنهوض بالثقافة العربية لتصير على قدم المساواة مع نظيرتها الغربية.

تدرك أيضاً أن الرأي العجول لابنها كان يمكن أن يكون رأيها في مراهقتها، لولا أن وعي جيلها قد استوعب لاحقاً دراسات ما بعد الكولونيالية ونقد الاستشراق والدراسات النسوية والجندرية، بل إنها تنتبه لتعلّقها بمسرحية تاجر البندقية، بسبب تماهيها مع بطلتها، رغم تصنيف البعض لها كمسرحية عنصرية ضد اليهود. ربما توافق سامية ابنها نوعاً ما، إلا أنها تجادل قناعاتها وقناعاته، وتنتهي في أن ما يهم في الجدل الذي أثير حول كون شكسبير حقيقياً أم متخيلاً هو حقيقة أكثر بداهة وأهمية؛ أنَّ أدبه موجود.

لا عجب إذاً أن تبدأ سامية كتابتها عن علاقة نديم بناجي من خلال شكسبير بمقطع فاتن لإحدى سوناتات شكسبير عن أن عين الرحمة بل والحنان أيضاً هي المنقذة، وخصوصاً في قراءة الأدب وتراثه، ربما كما فعلت سامية من خلال اختيار عنوان زيارة حميمة لكتابها، لكنها حميمية لا تخيفها شياطين أسلافها، ولا تروعها، بل ترعاها.

ربما تفكيك ناجي لا ينتهي إلى هدمه، بل إلى إعادة تشييده بوضع حدّ للصورة المتخيلة، ويعيد إنتاج ذلك التخييل ويضاعفه. فعوضاً عن ناجي واحد، صار لكل منا قراءته، إذ استعادَ ناجي كونه ناثراً وطبيباً ذا رؤية إنسانية ومؤلف كتب طبّية وقاصاً ومترجماً مهماً.

* * * * * 

لا تستعيد سامية إبراهيم ناجي من نفسه، بل أيضاً تستعيد نفسها وصورتها من داخل ضيق الحكم المسبق وصورتها الشخصية عن نفسها. إنها رحلة في قلب سامية أيضاً وروحها، تمحيصٌ للمراهق الذي كانت عليه، الذي لم يكن قد نضج بعد، الغاضب بلا أسباب عقلانية. ها هو الآن يفحص السبب، يدرك أنه كان على حق في أسباب غضبه ونفوره، لكن ما إن يغفر ويتفهم حتى تتسع الرؤية لإدراك أكبر، يقدم صورة تجعل المحبة جسراً لم يعد مبنياً على الأوهام.

هكذا انتهت إلى أن تقرن اسمها به بأفضل الطرق الممكنة، عبر كتاب، بل وعبر صورة الغلاف الرائعة أيضاً، والذي كان نديم الابن صاحب فكرته، حيث يتقاسمان الملامح وقد احتفظ الاثنان بالملامح الشبحية، لكن لا أثر للحزن أو القبح في وجه الجد أو النفور والقطيعة في وجه الحفيدة، بل الجمال والتآلف. كيف نهرب من الأشباح إلا عبر عناق كهذا؟ تحيا فينا، لكن شياطينها، الجزء المرعب والمخيف، يذوب. غير أن عناق الأشباح لا يحدث عبر الإيمان بهم، بل عبر الشك أيضاً، فعبر الخدوش والمثالب لا تتفتت الصورة أو تتهدم، بل تصبح أكثر ثراءاً. مع الوقت، يتحول هذا الجد إلى ما هو أكبر من صورة مشحونة عاطفياً ومعلقة في جدار، بل تتسرب رويداً رويداً إلى سامية كنقش في القلب، وتتضاعف صورة الحفيدة عن نفسها.