تعني كلمة «كايوس» الإغريقيّة القديمة هوّةً أو خلاءً [وأُترجمها هنا بكلمة شَوَاش]، أمّا الكلمة التي تقف كضدّ لها، «كوزموس»، فتعني التصميم البديع للكون. ولقد أدهشَ علماءَ الفيزياء الفلكية ما يُسمّونه «التناغم الدقيق» الذي يتّصف به الكون، ذلك المكان الذي يبدو كأنّه رآنا قادمين فصاغَ قوانينَه وفقاً لذلك التناغم. إذ الرياضيات لغة الله. غير أنّه قد تكون هنالك أكوانٌ أخرى، ربما ما لا يمكن إحصاؤه منها، أكثرُ شَوَاشاً من كوننا. وثمّة في واحدٍ منها على الأقلّ ماويٌّ ببطاقة اسمه جيكوب ريس موغ.جيكوب ويليام ريس موغ سياسيّ ووزير بريطانيّ محافظ جدّاً في وزارة بوريس جونسون، اشتهر بمناصرته خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي. أمّا وصف تيري إيغلتون له بأنّه ماويٌّ ببطاقة (أي ماويٌّ متحزّبٌ) فلعلّي لم أفهم مرماه تماماً (المترجم).

يُعَدّ الشَّوَاش خلاءً لأنّ العدم لا شكلَ له، وما من نوع مُثلّثيّ من السلبية في مقابل نوعٍ آخر بيضويّ منها. وتتعامل ما تُسمّى «نظريّة الشّواش» مع نُظُم ذات سلوك عشوائي وغير متوقَّع، يُعرَف أحدها باسم فلاديمير بوتين. ذلك أنَّ إحدى السِّمات الغريبة لهجوم الرئيس الروسي على أوكرانيا هي التهوّر. قد يكون عملاء الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي) السابقون قساةً أو بليدين أو ساديّين، لكنه لم يكن منتظراً أن يكونوا من الرّعونة بمكان.

لكنّ بوتين كان رجلَ استخباراتٍ لزمنٍ طويلٍ مضى، وحَظِيَ مُنذئذٍ بمتّسعِ من الوقت كي يُصاب بالجنون. ليس الجنون بمعنى أن لا يعي ما الذي يتطلّع إليه، بل الجنون على غرار نجوم البوب المحاطين بالمتملّقين ولا يعرفون ما هي فتّاحة العلب. وهذه هي حال الملك لِير في بداية مسرحية شكسبير التي تحمل هذا الاسم، ولا بدّ أن يذوقَ الأمرّين كي يشفى منها. (فهو أيضاً لم يكن يعرف ما فتّاحة العلب، لكنَّ ذلك كان مفهوماً).

إنّ دَافِعَ بوتين لتسوية أوكرانيا بالأرض هو دافعٌ إثنيّ في جزء منه. فهو يعتقد أنّ ذلك البلد، من الناحية الإثنيّة، نوعٌ من التّخييل، قطعةُ ورقٍ مقوّى مقصوصةٌ من أمّة، ويجب أن يوضع حدّ لذلك بأسرع وقت ممكن. فأوكرانيا هي خلاء، انعدامٌ للكيان، وروسيا سوف تفرض شيئاً من النّظام على هذا الشَّواش بإدماجه فيها. وبذلك سوف يكفّ الأوكرانيون عن كونهم غير حقيقيين ويصيرون ما هم عليه في الجوهر، أي روساً.

بهذا المعنى، تُذكّرنا الحرب بمخاطر الإثنيّة. فهذه الأخيرة، بخلاف ما يرى التفكير ما بعد الحداثيّ، لا تستحق أن يُصَفَّق لها دائماً. ولا حاجة بنا لأن نكون عنصريين كي نعلم أيّ صراعات فتّاكة أنزلَ الاختلافُ الإثنيّ بالبشرية. ولو كان الجميع من كورنول أو من جمهورية الكونغو الديمقراطية، لكان العالم أشد وحشةً بكثير، ولكن أقلّ تلطّخاً بالدماء بكثير أيضاً.

تقبع وراء اعتداء بوتين على جيرانه إحدى أسوأ الأفكار التي لطالما حملتها البشرية: المطلبُ الرومانطيقيّ القوميّ بأنّه لا بدّ من وجود توافقٍ دقيقٍ بين السّياسة والإثنيّة، بحيث يحقّ لـ«شعب» إثنيّ، كائناً ما كان معنى ذلك، أن تكون له دولته ذات السيادة، وأن يوسِّعَ هذه السّيادة لتشمل أولئك الذين هم من نوعه ويعيشون حاليّاً في ظلّ أنظمةٍ مختلفة.

كانت نتيجة هذا المذهب خراباً سياسيّاً. فللإنجليز الحقّ في تقرير المصير، ولكن ليس لأنّهم إنجليز. والاستقلال الاسكتلندي مسألة ديمقراطية، وليس شأناً جينيّاً أو وطنيّاً. ولقد طردت الأمم المُستعمَرة مستعمِريها، من الهند إلى موزمبيق، لكنّ هذا شأنٌ سياسي، وليس شأناً إثنياً.

يظلُّ الاستعمار مُستهجَناً حتى لو كان لمن نهبوا مواردكَ أصلكَ الإثنيّ نفسُه. وهنالك جمهوريّون في إيرلندا الشماليّة يعارضون تقسيم البلاد، لأنّهم يفضّلون العيشَ مع أترابهم الغَيليين عبر الحدود على العيش مع مجموعة من استكلنديي آلستر، المُضَلَّلين الذين يعتقدون أن العالم نشأ منذ 6000 سنة فقط. لكنّ هنالك أسباباً لمعارضة التّقسيم أجدرَ من هذا السبب. والإثنيّة في الغرب هي في الغالب مسألة ضمان حقوقٍ متساوية، ولا بدّ، إذاً، من التأكيد عليها؛ في حين رَفعت الإثنيّة بمقياس أعمّ أكوامَ الجّثث، ولاتزال تفعل وأنا أكتب الآن ما أكتبه.

تبقى المقابَلةُ المفرطةُ بين النظام والشَّوَاش أمراً مُضلِّلاً. فالحرب تخلق الشواش، لكنّها اضطرابٌ مُختلَقٌ عمداً، وليست معمعةً اعتباطية. ولعلّك تُشيع الدّمارَ واليأسَ، إنّما بطريقة مخطّط لها ومنضبطة قدر الإمكان. إلى جانب ذلك، فإنّ ما تعتبرْهُ شَواشاً يتوقف إلى حدّ بعيد على فكرتك عن النظام. وبهذا المعنى، فإنّ المفهومين متعايشان يتطفّل واحدهما على الآخر.

كلّ من عاد توّاً إلى بريطانيا ممّا يسمّى أمّةً ناميةً سوف يدهشه كم يبدو كلّ شيء مرتّباً وأنيقاً إلى أبعد حدّ، لكن البشر في بلدان أفقر لا يعتبرون حيواتهم فوضويّة. لقد رأت فرجينيا وولف الحياة متشَظية وعديمة الشّكل، لكنّه من غير المرجّح أن تكون خادماتها اللواتي كنَّ يفركن أرضيّاتها قد شَعَرْنَ مثلها.

كان أستاذي الجامعيّ يعتبر كلّ شيءٍ من حوله شواشيّاً، من طبطبةِ طفلٍ إلى هرهرة محرّك سيارة، لكنّ ذلك لأنَّ فكرته عن النظام كانت فكرة مَرَضيّة. وكان ليرفضُ مصافحتك في الإجازة بسبب قانون جامعيّ ما من العصور الوسطى لم يسبق أن سمع به أحد من قبل. ولقد سألته مرّة عند نهاية درس إن كنت أستطيع أن أستشيره حول دوره كموظَّف جامعي، فطلب مني أن أغادر الغرفة، وأطرق الباب، وأنتظر ريثما يدعوني للدخول مجدّداً. أمثالُ هذا الأستاذ يجب تقييدهم إلى الجدار في زنازين مبطّنة، ولا يقتربَ منهم سوى من يرتدون سترات واقية. ولا يسع المرء سوى أن يتساءل عن مدى جموح الدوافع العربيدة التي كان يكبتها.

كان أستاذي، مثل كثير من المحافظين المتزمتين، متمسكاً بشدّة بما يمكن أن ندعوه مبدأ الامتناع عن فتح بوابات الطوفان. جَرِّب أن تسمح لشخص واحد بعزف الترومبون في محطة مترو أنفاق، ولسوف تجد، قبل أن تعلم أين أنت (وهذه عبارة أساسية من عباراته)، أنَّ منظومة لندن تحت الأرض بأكملها سوف تعجّ بأناس يعزفون الترومبونات وسوف يعمّ الشواش. وبلغة فرويد، فقد وقع هذا الرّجل في حبّ القانون ذلكَ الحبَّ المرضي. ومثل الفَرّيسيين في العهد الجديد، حوّلَ القانون إلى صنمٍ كي يبقي الشّواش بعيداً.

يتفاعل الليبراليون السُذّج مع هذه الحالة المَرَضيّة بنبذ القانون برمّته، الأمر الذي يخفق في التمييز بين إطاعة القانون لما يوصي به وإطاعته لذاته. فجملة «القانون هو القانون» هي من أشدّ أنواع اللغو فتكاً في أيّ لغة من اللغات. ومن وجهة النظر هذه، فأنت لا تفعل ما يطلبه القانون لسبب من الأسباب، لأنّ ذلك سيعني أنّ القانونية متوقفة على العقلانية، ما يجعلها تكفّ عن كونها مطلقة.

بالنسبة إلى إيمانويل كانط، ولعلّه أعظم الفلاسفة المُحْدَثين، يجب أن تكون أخلاقيّاً لأنّه من الأخلاقي أن تكون كذلك. وهذا مشكوك فيه للغاية، لكنّه يحتوي نواةً من الحقيقة، وهي أنّ كونك أخلاقياً لن يقودك إلى أيّ مكان. فهو ليس بالضرورة سبيلاً إلى حياة أكثر إنجازاً. بل إنّه، بالنسبة إلى العهد الجديد، سبيل يقود إلى ميتةٍ بائسة على يد الدولة. ويكتب روائيّ القرن الثامن عشر هنري فيلدنغ أنَّ هنالك مذهباً نبيلاً مفاده أنّ الصالحين سيَجْنون ثوابهم في هذا العالم، وهو مذهبٌ، كما يضيف، ليس فيه سوى عيبٌ واحد، هو أنّه ليس صحيحاً.

هنالك سُبُل أخرى يكون فيها النظام والشَّوَاش صديقين قديمين. فمن وجهة نظر فرويد، ما يفرض القانونَ والنظامَ هو الأنا الأعلى، وهو مَلَكةٌ تستمدّ قوتها الهائلة من قوى اللاوعي الشواشيّ. ولا يمكن لأي نظامٍ سياسيّ أن يصمدَ إن لم يُورّطنا على هذا القَدْر من العمق. فلا يمكنك أن تحكم البشر من فوق رؤوسهم، حتّى لو كانوا فرنسيين. وكلّ سلطة سياسية يمكن أن تستغل اللاوعي الجّمعي سوف تُثبت على نحوٍ واضحٍ أنّه يَصعبُ خلعُها. وإذا ما أمّنت لمواطنيها ما يكفي من الإشباع أيضاً، مهما كان ضئيلاً، كي تجعلهم يواصلون العمل، فمن المرجّح أن تبقى. يجب أن يكون في السلطة شيءٌ لك. فإذا لم يكن، سواء كان معنوياً أو مادّياً، كانت السّلطة هشّة للغاية.

النّظام الاجتماعيّ من الذّكاء بما يكفي لتشجيعنا على بلبلته من حين لآخر. وكان الاسم التقليديّ لهذا في أوروبا العصور الوسطى هو الكرنفال. إذ يتطوّح عامة الناس في الشوارع وهم يرتدون قضباناً ومهابلَ رهيبة من عجين الورق، ويقصفون ويعربدون في تحدٍّ للدولة. وتكتسح الحياةَ الاجتماعيةَ موجةٌ من التقليد الساخر وقلب الأشياء عكسها: أنف/ قضيب، وجه/ ردفان، فم/ شرج، أعلى/ أدنى. ما من شيء على الإطلاق يفلت من نوبة السخرية العظيمة هذه. ما من شيء مَهيب أو مقدس فلا يمكن التجديف عليه. يرتدي أُناسٌ زيّ كرادلة ويتبوّلون في الشوارع. وهذا كلّهُ يضع النّظام الاجتماعي القائم موضعَ تساؤل، لكنّه أيضاً وسيلةٌ لحمايته، انفجارٌ جمعيّ تشرق بعده الشمس على عدد لا يحصى من أباريق الخمرة الفارغة وأفخاذ الدجاج المقضومة، ويعود الرعاع إلى العمل طواعية.

أنت بحاجة إلى نظامٍ إن كنت تريد أن تكون حرّاً. وما لم تستطع التّنبّؤ بالطّريقة التي يُحتمَلُ أن يتصرف العالم بها، لا يمكنك تحقيق قدراتك وإمكاناتك، وهذا هو المعنى الإيجابيّ للحريّة. ولا يمكنك أن تلعب لعبة الكروكيه إذا كانت الأطواق التي يجب أن تمرّ منها الكرات مشكَّلةً من طيور الفلامنغو التي لا تكفّ عن التنقل، شأنها في أليس في بلاد العجائب.

بالمثل، فإنَّ الحياة الاجتماعية ما كانت لتسير لو كان كلّ جزء فيها ملزمَاً بقواعدَ محدّدة. وما كنتَ لتستطيع أن تقول «قف هناك تقريباً»، وهو قول ذو معنى بلا شكّ، أو أن تصافح شخصاً ما، لأنّه ما من قواعد تحدّد المدّة التي يجب أن تستغرقها المصافحة. ولعلّ هذا ما كان يقف وراء حذر أستاذي الشديد حيالها.

نحن نعيش ونعمل على ما يسمّيه لودفيغ فيتغينيشتين الأرضية الخشنة للوجود الاجتماعي، حتى ولو كان هناك أولئك الذين يحاولون السيرَ على الجليد النّقي الذي تتصف به رؤيةٌ إلى النظام لا تشوبها شائبة. لكنّ الاثنين ليسا مجرد ضدّين. وما شهدناه في أوكرانيا هو مدى السهولة التي يمكن بها لمثل هذه الرؤى، التي لا تشوبها شائبة، أن تخلق أرضية خشنة لمدينةٍ دُكَّت دكَّاً.