هل يمكن الكتابة عن مجزرة التضامن بهدوء، أقلّه بمثل هدوء بطلها أمجد يوسف وهو يقتل أناساً لا يعرفهم؟ يعتقلهم لكي يقتلهم؟ يمكن ويجب. المجزرة تطلب منا الكلام بشأنها، ألّا تُنسى، وألّا تَغرق في هياج عاصف لا يلبث أن يخمد، مخلفاً وراءه المرارة والسينيكية. كرامة الضحايا لا تُصان بكلام زاعق، والكتابة ليست مجالاً للانفعالات الهائجة، لمجازر بحق الكلمات لطالما سارت يداً بيد مع المجازر ضد البشر. في مواجهة المجزرة، نستجمع كل ما يتاح من حسّ بالكرامة الإنسانية كي لا تكون الكتابة استئنافاً لجنون القتل الذي يتعذر على من يشاهده إلا يُمَسّ به.
تثير المجزرة التي ارتكبت يوم 16 نيسان (أبريل) 2013، وأُتيحت معلومات مفصلّة عنها بعد تسع سنوات من ارتكابها، مجموعةً من القضايا ننظر عن قرب هنا في سبعة منها. تتصل أولى القضايا بتوثيق المجازر والكشف عنها، ماذا نعرف وماذا لا نعرف؟ وثانيتها، ما يتصل بالطائفية والثأر وضرورة العدالة. والثالثة بما تقوله لنا المجزرة عن نمط ممارسة السلطة في سورية. والرابعة ما يتعلق بالصور والفيديوهات، وما إذا كان لنا أن نراها ونريد أن تُرى من غيرنا في سورية والعالم، أم العكس. والقضية الخامسة تتصل بوصف وتمييز الشرّ الذي شهدناه في الفيديو، وربما شهده معنا ملايين الناس. والقضية السادسة تتصل بما يمكن قوله، تأسيساً على المجزرة، عن تكوينٍ إباديّ للحكم الأسدي، والقضية السابعة والأخيرة تتطرق إلى الاقتصاد السياسي للحكم بالمجازر.
أنوِّه إلى أن هذه المناقشة مبنية على ما نُشرَ من معلومات بخصوص المجزرة في كل من صحيفة الغارديان البريطانية والجمهورية ونيولاينز يوم 27 نيسان (أبريل) 2022، وعلى ندوة عبر زوم نظمتها الجمهورية مساء 11 أيار (مايو) 2022.
ماذا نعرف وماذا لا نعرف؟
ليس الجديد بخصوص مجزرة التضامن وعموم المجازر في سورية معرفة وقوعها، أو عدد ضحاياها، أو مآل أجسادهم وأجسادهنّ المقتولة. فقد جرى تداول أخبار كهذه طوال الوقت منذ بدء الثورة السورية تقريباً. لكنها كانت أخباراً عائمة وغائمة، إمّا غير موثقة بقدر كاف، أو أن توثيقها لم يُتَح لاطّلاعٍ واسعٍ بين السوريين وغيرهم، أو هي معروفة ضمن دوائر محلية محدودة. معرفةُ أن مجزرةً وقعت شيء، ومعرفة المجزرة، أي الإجابة على أسئلة ماذا ومن ومتى وأين وكيف، شيءٌ آخر. الافتقار إلى توثيق مفصّل بشأن عشرات المجازر يفتح باب التنصّل من المسؤولية عنها، أو التقليل من شأن ما جرى فيها، أو التشكّك بحدوثها ذاته. هذا غير ممكن بخصوص مجزرة التضامن. صورة المجزرة كما صرنا نعرفها منذ شهر مرسومة بالألوان إن جاز التعبير، غنية بتفاصيل عن الزمان والمكان والفاعلين والإطار الذي وقعت ضمنه. خلال 11 عاماً لا نملك نموذجاً مماثلاً. وحتى حين كان ثمة تغطية معقولة لبعض المجازر، مجزرة الحولة (أيار 2012) التي حققت فيها الأمم المتحدة مثلاً، فإنه لم تُتَح إلى اليوم فيديوهات تُمكِّنُ من معرفة صور المرتكبين المباشرين وأسمائهم. وحيث أُتيحت فيديوهات لعمليات قتل، فإن تحديد القتلة بالأسماء والمواقع الوظيفية يحتاج إلى جهد كبير، مثلما نعلم بخصوص جريمة التضامن وبطلها أمجد يوسف. لزمَ عامان من التحرّي عنه ومتابعته حتى انكشفت الحقيقة، أي حتى نطق الشرط المُصوَّر بما لا يقوله بحد ذاته. كان هذا جهداً بطولياً من الباحثة أنصار شحود، أنهكها نفسياً وروحياً، على ما أشار تقرير الغارديان. مثلُ هذا قد لا يُتاح بخصوص معظم المجازر. فنحن لا نتحدث بخصوص مجزرة التضامن عن فريق تحقيق مختص، بتفويض دولي وتمويل وافٍ، بل عن «عملية فدائية» نادرة. ورغم ذلك، نعرف الآن أن معلومات وأسماء عن بعض الضحايا، وعن الجناة، صارت معروفة بصورة أفضل بعد أن رُويت القصة، ونُشر تقرير الباحثيْن، أور أونغر وأنصار شحود بالعربية والانكليزية. مصدر المعلومات والتفاصيل الإضافية هو أهالٍ من منطقة التضامن أو جوارها (مخيم اليرموك بخاصة)، أو متابعين لمجازر النظام المتنقّلة في المناطق حول دمشق.
هناك شرط سياسي معلوم لتواضع التوقعات بإحاطات مفصلّة بخصوص مجازر أخرى: النظام الأسدي لم يُقلب وتُكشَف أسراره ويُحاكم أركانه مثلما جرى للحكم النازي في ألمانيا، وفُرص الإيقاع بقتلة آخرين بالطريقة نفسها أو ما يقاربها تبقى محدودة جداً، ولو لأن القتلة يتعلمون من انكشاف بعضهم. الشرط الجذري لمعرفة الحقيقة هو سقوط الحكم الأسدي، والدولة الباطنة بخاصة، أي الأسرة الأسدية وجملة الأجهزة المعنية بالوظيفة الأمنية، وذلك لكونها المنظمة المسلّحة الأكثر سرية وفئوية وعنفاً في سورية، أي نقيض الدولة وضدها. والأرجح أن رواية الحقيقية الكاملة ستأخذ سنوات وعقوداً حتى بعد أن يقلب النظام، فالأمر يتعلق بأزيد من نصف قرن من الجريمة المنظمة. الفيلم السوري الطويل لا يزال أمامنا.
المجزرة والطائفية
هل يمكن الاعتراض على منطق الثأر الذي مارسه أمجد يوسف، ويدعو إليه أشباهٌ له ضد العلويين، دون التعامي عن البعد الطائفي في الجريمة؟ يمكن ويجب هنا أيضاً. ليس لأمجد يوسف، وهو مساعد في جهاز الأمن العسكري، أي حق في الثأر. هذا لأنه يعمل فيما يفترض أنها مؤسسة دولة، عاملة على إنفاذ القانون، والثأر نفيٌ للقانون والدولة معاً. نعلم أن الدولة الأسدية ليست مؤسسة حكم عامة ولم تكن كذلك قط، وأنها في الواقع دولة ضد الدولة (ومن هذا الباب «ضد الأمة» كذلك، بتعبير الدكتور برهان غليون). أجهزة أمن النظام مُطيَّفة جداً، ينتشر فيها مزيجٌ سرديٌ معقد من التفوق والحصانة والتهديد والخطر الوجودي، وتُشكّل بيئةً ثأريةً نشطةً باستمرار يزدهر فيها أمثال أمجد يوسف. نتكلم على نظام طائفي لأن الأمر يتعلق بحكم متمركز حول الوظيفة الأمنية التي يعتمد عليها في إعادة إنتاج نفسه وضمان دوامه، ولأن هذه الوظيفة مُطيَّفة تكوينياً، أي منذ البداية وطوال الوقت، ولها تاريخ في القسوة الوحشية والتمييز. الجريمة بالتالي ليست جريمة شخصية، بل هي جريمة بنيوية، تنبع من تكون النظام وأجهزته الأمنية. وإنما لذلك لا يجدي في مواجهتها الشحن الطائفي وطلب الثأر. ما يفعله الثأر الطائفي المضاد، على افتراض إمكانِ الأخذ به، هو إحلال قتلة محل قتلة ومقتولين محل مقتولين، وبالتالي تسويغٌ بمفعول راجع لمجزرة التضامن ذاتها. الثأر الطائفي يضفي النسبية على الجريمة التي أطلقت المسلسل الثأري، لتصير جريمةً مثل غيرها في سلسلة مفتوحة من جرائم، يبرر بعضها بعضها الآخر. والواقع أنه وقعت سلفاً مجازر طائفية، كان أبطالها طائفيون سنّيون في مناطق من شمال اللاذقية وفي عدرا العمالية وغيرها، وبرَّرت نفسها بمنطق الثأر. أتاح ذلك لكثيرين القول: المجزرة بالمجزرة والجريمة بالجريمة، وإذا كان النظام مجرماً فإن معارضيه مجرمون كذلك. وهو ما تواترَ قوله بالفعل بعد انكشاف مجزرة التضامن، وسبق أن قيل مثله كلما وقعت أو انكشفت جريمة كبيرة. وليس رداً مقنعاً على ذلك بأن جرائم المعارضة أقل بكثير من جرائم النظام، وتكاد تكون بنسبة ضحايا أمجد يوسف الـ41 (ويبدو أنه ومجموعته ضالعون في مقتل 288 توفرت للباحثيْن الفيديوهات عن مقتلهم)، مقابل فرد واحد هو أخوه نعيم الذي قتل في معركة داريا. ليس رداً مقنعاً لأن المسألة ليست في أنه كان يجب أن يقتل النظام أقل، أو يقتل الثائرون عليه أكثر، بل في أن اعتماد القتل كسياسة مفتوحٌ فقط على الإبادة. نعيم يوسف، بالمناسبة، قتل وهو يحارب مقاومين محليين يدافعون عن بلدتهم التي كانت، قبل شهور من مقتله في الشهر الأول من 2013، قد شهدت مجزرة سقط فيها ما لا يقل عن خمسمائة من أبنائها في آب (أغسطس) 2012.
الثأر يُطيِّف، تتشكل حوله جماعات ناقمة وثأرية. والطوائف ذاتها (والعشائر كذلك) تتشكل بالثأر، ولا تدفع إلا باتجاه الثأر. ومثل الطوائف والعشائر، الدولة الأسدية الباطنة التي هي منظمة ما دون دولة، سرّية وفئوية وعنيفة مثلما تَقدَّمَ القول، تحتل الدولة العامة التي انقلبت طوال عقود إلى قناع مؤسسيّ لها. والفاعلية العامة لهذه الدولة الباطنة خلال نصف قرن هي تقدم التطييف العام عبر التمييز والمعاملة العدائية والعنيفة للمحكومين. نحن لا نولد علويين أو سنيين أو غير ذلك سياسياً، وإنما نصير كذلك. هذا أساسي في أي نظرية عن الطائفية، مثلما هو أساسي في النسوية ونظرية الجندر (وهو يحاكي قولاً شهيراً لسيمون دو بوفوار عن النساء). والعلاقة بين الاثنين، الطائفية والجندر، ليست خارجية ولا عارضة فيما يبدو. تقرير الباحثين يكشف عن استغلال جنسي وعبودية جنسية من قبل المخابرات والشبيحة بحق نساء المنطقة، بدلالة هويتهن الأهلية، بصورة لا تختلف في شيء عن استغلال داعش الجنسي واستعباد الدواعش الجنسي لنساء إيزيديات. أمجد يوسف شخصياً بطلُ استعبادٍ جنسي لنساء، بقدر ما هو بطل قتلٍ لرجال.
نصير سنيين وعلويين وغير ذلك عبر عمليات صانعة للطوائف وصانعة لنا كطائفيين، منها ممارسات سياسية تمييزية، ومنها جَنسنة الجماعات الأخرى واستحلالُ نسائها، ومنها اعتبار جماعاتنا الأهلية أُطُراً للعدالة، وهذا هو معنى الثأر، ومنها بخاصة المجازر. رأينا منذ وقت مبكر من عام 2012 مسلسل مجازر طائفية بدأ في شباط (فبراير) 2012 بكرم الزيتون، وتنقَّلَ في مناطق حمص ودمشق وطرطوس وحماة، ومنها الحولة والتريمسة والقبير وداريا وجديدة عرطوز وبانياس والبيضا وغيرها، مجازر قَدَّرت أنصار شحود ضحاياها في المنطقة حول التضامن وحدها بما بين 30 و50 ألفاً؟ هل كان ذلك بهدف خلق أوضاع ثأرية وتغذية التطرف؟ أياً يكن، نَصيرُ علويين أو سنيين أو غير ذلك عبر عمليات صنع الطوائف هذه. الطائفية هي بالضبط صنع الطوائف كوحدات سياسية من مواد أهلية أقل تمايزاً وأقل سياسية. أمجد يوسف نتاج تطييف اجتماعي وسياسي، لا ينبع حتماً من واقعة ميلاده لأبوين علويين، ما دمنا نجد ترجمات مختلفة ومتناقضة لوقائع الميلاد. الشاب الذي سرَّبَ الفيديوهات من منبت علوي، ما يعني أنه قاومَ أن تتحكم به مصادفةُ الميلاد التي لا يدَ له فيها.
ولذلك يُخطئ منطق الثأر الطائفي لأنه يتجه نحو الميلاد، الهوية الموروثة، وليس نحو عمليات التطييف وديناميكياته.
هذا يطرح سؤالاً عن الجريمة التي أطلقت المسلسل الثأري؟ ما هي نقطة البداية التي لا يمكن إضفاء النسبية عليها؟ أرى أنها تطييف الوظيفة الأمنية التي هي جوهر الحكم الأسدي، وهذا لأنها ليست حدثاً، بل بنية مستمرة طوال نصف قرن، وتُشكِّلُ الإطار الدائم للتطييف وإعادة إنتاج الطوائف. يجري إنكار هذه البنية علانية طوال الوقت، وتأكيدها ضمناً في الوقت نفسه: حين يبرر موالون للنظام مجزرة التضامن أو غيرها بمجازر ارتكبها معارضون، يظهرون فقط أنه يفكرون في النظام كطرف فئوي خاص، بالضبط كطائفة، لا كدولة عامة. ولذلك فإن تغيير البنية هو وحده ما يمكن أن يقطع سلسلة الثأر، ويؤسس للانتقال من منطق الثأر والطائفة إلى منطق العدالة والدولة، فلا نسوغ جريمة لاحقة بجريمة سابقة.
الدفاع عن عدالةٍ سوريّةٍ عامة ممتنعٌ دون تغيير سياسي أساسي، لأن «الدولة» هي المجرم العام، الذي استهدف المدنيين بصورة منهجية طوال سنوات الصراع، وأفرد قطاعاً أهلياً من محكوميه بالمجازر الطائفية والبراميل المتفجرة والاستهداف بالغازات السامة. قد لا يكون ذلك مستطاعاً اليوم أو في أي وقت قريب، لكن تبّني منطق التحريض والثأر الطائفي يُبعدنا عنه أكثر ولا يقربنا منه.
الحكم اليدوي
قُتِلَ ضحايا التضامن عن قرب شديد، أُوقعوا في حفرة، وأُطلقت عليهم النار من مسافة تتراوح بين متر وخمسة أمتار، باستثناء رجل مسن قتله أمجد يوسف ذبحاً بحسب تقرير الباحثيْن، أي بالتماسّ المباشر. ثم قتل الجميع مرة ثانية بعد قتلهم الأول بأن أُحرقت أجسامهم المقتولة للتو مع عشرات من دواليب السيارات المهيئة سلفاً. الضحايا مدنيون، يبدو أنهم أُوقفوا لتوهم، قُيدت أيديهم خلف ظهورهم وطُمّشت عيونهم وسيقوا فيما يبدو إلى مكان قريب من الحفرة التي حفرها لهم أمجد يوسف نفسه بجرافة قادها بنفسه، وهناك قُتلوا وأُحرقت أجسادهم المقتولة، وطمرت بالجرافة نفسها التي قادها أمجد يوسف بنفسه. صارت الحفرة قبرهم الجماعي. ظاهرٌ أن هناك نية مسبقة وتخطيطاً واستجماعاً لأدوات المجزرة. نية تبحث عن مقتولين، وتعثر عليهم بيسر على واحد أو أكثر من 60 حاجزاً مسلحاً نصبها النظام في حي التضامن الذي قُسِّم إلى 13 قطاعاً، فاستحق بذلك لقب «مثلث برمودا» بحسب التقرير. المطلوب مدنيون يُقتلون بسهولة. ولا يبدو أنه حُقِّقَ معهم، ما يعني أنه لم يكن مهماً ما فعلوا أو لم يفعلوا، ولا العمر ولا الجنس ولا الجنسية الأصلية (يبدو أن بين الواحد وأربعين ضحية ثلاثة فلسطينيين على الأقل). ما بدا أنه يهم القاتل الطائفي هو تطييف الضحايا على نحو يجعلهم أعداء، مباحين للقتل.
عموماً يتسم القتل الثأري بأنه قتل عن قرب، بحيث تتماس أجساد القتلة والمقتولين، ربما لأن هذا القتل ممتزج هنا بالكره الذي ينتقل بالقرب أو التماس. ثم لأن التمتع بمعاناة الضحايا تقتضي القرب. في تقريرهما المنشور في الجمهورية، يقول الباحثان اللذان اطلعا على جميع الفيديوهات المهربة: «كما مارس جناة الحرب، بمن فيهم أمجد يوسف ونجيب الحلبي، تعذيباً قاسياً وتجريبياً بغرض الاستمتاع بمعاناة الضحايا». وفي موقع آخر يقولان إنهما لمحا «درجة من الاستمتاع» عند القتلة بعمليات القتل.
القتل عن قرب في «سورية الأسد» مكتوبٌ في نمط الحكم عن قرب، أو الحكم اليدوي إن جاز التعبير، على نحو يكثفه التعذيب أكثر من غيره. التعذيب هو العلاقة السياسية الأساسية في سورية الأسد، وهو يقتضي القرب الشديد، فلا تتوسط بين الجلاد وضحيته غير عصا أو «كبل» أو أدوات تدار يدوياً. والتعذيب بطبيعة الحال مشحون بالكره والانفعالات العدائية. ولِتَخلُّلِ المجتمعِ بالمخبرين وتشجيع الوشاية، والاعتقال السياسي المزدهر منذ بدايات الحكم الأسدي، وتقييد الحصول على جوازات السفر، دلالةُ التعذيب ذاتها على الحكم اليدوي. وخلال خمسين عاماً ونيّف، تمخَّضَ ذلك عن سورية صغيرة وضيقة، مثل حفرة أمجد يوسف.
ولعلنا نفهم تطميش عيون الضحايا وتقييد الأيدي إن فكرنا فيهما كإنتاج أناس مسلوبي الإرادة من الرعب، مشلولين نفسياً، معدين للقتل، فقدوا القدرة على التوجه والتحكم بحركة أجسادهم، فلا يستطيعون الهرب ولا المقاومة. تلزم منهم الآذان كي يسمعوا الأوامر والإهانات (الرجل عرص والمرأة شرموطة)، والأقدام كي يتحركوا في العماء نحو حفرتهم الأخيرة. هذا نموذج للحكم الأسدي: أن يَرى الناس ولا يروه، أن يكونوا مكشوفين له تماماً، عراة، بينما يكون هو سراً مكتوماً عنهم، يرتدي ألف حجاب وحجاب، وأن يعزز بالسلاح يديه بينما تقيد أيديهم. الحكم عن قرب هو أن يكون المحكومون عزّلاً، عمياناً، مشلولين، وتحت عيون الحاكمين المسلحين.
ويتنافى القرب الشديد مع اتجاه التطور السياسي والعسكري المميز للحداثة، وهو تطور باتجاه البعد، بما في ذلك الحكم عن بعد، أو بالمؤسسات، في «المجتمع الانضباطي» الذي اقترن بزوال التعذيب مثلما نعلم، وبما فيه القتل عن بعد في الحروب.
سارت سورية نسقياً باتجاه البدائية السياسية مع رَوْتنة التعذيب ومع تطييف أجهزة التعذيب في وقت مبكر من حكم حافظ الأسد، ثم مع النزع المتفاقم لبيروقراطية الدولة لمصلحة الشخصنة والمحسوبية. وإلى جانب الحكم عن قرب وتعبيراً عنه، أخذنا نشهد سيلان العنف في الحياة اليومية، وهو عكس مسار العملية التحضيرية التي درسها نوربرت إلياس، وتميزت بانسحاب العنف من الحياة اليومية. إهانة مواطنين في الشارع وضربهم، أو حتى قتلهم، ميزت الحكم الأسدي منذ سبعينات القرن الماضي.
وبطبيعة الحال، لا نخرج من نموذج الحكم عن قرب ببدائيته ووحشيته بإحلال قتلة طائفيين محل قتلة طائفيين، أو بإحلال «شفاء الصدور» و«إرواء الغليل»، أي الانتقام الذي يريده طائفيون سنّيون، محل عدالة قضائية تحاسب الناس على أفعال ارتكبوها، وليس على ما يكونون أو على هوياتهم الموروثة.
وقد نتذكر في هذا السياق أن القتل عن قرب كان مُفضَّلاً عند داعش بالتناسب مع انفعالات الدواعش المفعمة بالكراهية ومع مخيلة سياسية قبل حديثة، يجري تَصوُّرُ الحكم فيها كسيطرة مباشرة على أجساد تُضرَب وتُجلَد وتقطع وتصلب وتقتل، وتفضيلياً بالسيف.
المسألة هي أن تُطوى صفحة الحكم اليدوي أو الحكم عن قرب، وليس أن تتغير أيدي الحاكمين والجلادين العاملين بإمرتهم. أي أن تتوسط الحقوق والقوانين والمؤسسات العامة الفاعلة بين الحاكمين والمحكومين، على نحو يخلق مسافة أو بعداً، يحمي الناس ويقصر يد أصحاب السلطة.
هل ننظر؟
القضية الرابعة تتصل بالصورة والفيديوهات، هل تُرى؟ هل نراها؟ هل ينبغي أن تتاح لمن يريد أن يرى؟ جرى نقاش في هذا الشأن قبل سنوات، ودافعَ كاتب هذه السطور عن ضرورة أن نرى، وأن تُتاح الرؤية لمن يريد. الصور، إن وجدت، تدعونا إلى ننظر فيها، أن نرى. وما دام قد وقع ما وقع، فالأفضل أن يُصوَّر لا أن «لا يُصوَّر»، وما دام ثمة صور فالأفضل أن تُتاح لا أن «لا تُتاح»، وأن تُرى لا أن «لا تُرى». على أن نفتح نقاشاً عن معنى ما نرى وماذا نبني عليه من معان وأفكار وقواعد فُضلى. ثم على ألّا نجعل مما قد نستقر عليه من خيارات في شأن الصور عقيدة جامدة أو دوغما معصومة. الصور تمثل واقعاً، ومهما أمكن أن نفكر في ما تثيره من مشكلات، فليس لذلك أن يكون على حساب ما جرى في الواقع: لقد قتل الناس كالحشرات في مجزرة رهيبة. فمن له عيون، فليرَ!
للصور والفيديوهات قيمة لا منافس لها كأدلة في أي عمليات قضائية قد تُطلق يوماً، وقيمة أخلاقية وسياسية مستمرة في غياب العملية القضائية. وأياً تكون أوجه إساءة استخدام الصور والفيديوهات فهي ليست حتمية، ولا تنبع بصورة ضرورية من وجود الصور والفيديوهات ومن نظرنا فيها. يمكن أن نتناقش حول سُبُل الاستخدام والتوظيف، ولا شيء يمنع أن يبقى النقاش مفتوحاً، بحكم تكوينه كتفاعل بين أفكار حول تمثيل الواقع في أوضاع قصوى واستثنائية، يصعب القطع في أفضلية حاسمة لبعضها (الأفكار) على بعض. في كتابها عن الصور، دعت سوزان سونتاغ إلى أن ندع الصور عن الفظائع تسكننا وتقض مضاجعنا، ما دامت تملك هذه الخاصة التي لا تملكها السرديات، وإن ساعدتنا هذه الأخيرة على الفهم. سونتاغ تخشى أن تُضفي الصور طابعاً جمالياً على المعاناة، أو أن تصير المعاناة كليشيهاً مكرورة، وأن تفضي إباحية الصور إلى إفقادها الشحنة الصادمة التي تُرهَن بها الاستجابة الأخلاقية (أحيل إلى فصل عن التعذيب وأخلاقية التصوير، خصصته جوديث بتلر لمناقشة أفكار سونتاغ، في كتابها: Frames of War, When Life is Grievable).
لكن سونتاغ تعول بعد هذا كله على أن تَسكُننا الصور الفظيعة. وقد لا يقتصر ما يمكن أن يعنيه ذلك على أن يكون ما يعتملُ في النفس بفعل الصور محرضاً أخلاقياً على الاحتجاج، لعل من شأنه أكثر من ذلك أن يكون حافزاً على تفكير يتجدد في شؤون السياسة والعنف والحياة والموت والتمثيل، الإنسان.
وليس ما تثيره النصوص مغايراً نوعياً لما تثيره الصور. ما ورد في تقرير الباحثين عن محرقة بدائية تحرق فيها الجثث يديرها أبو علي حكمت، فتخلف رائحة واخزة في المنطقة حولها بفعل اشتغالها اليومي، يستوقف، يمسك بتلابيب القارئ ويدعوه أن يقرأ ويتفكّر ويعي. والكلام على صالح ر، أبو منتجب الملقب «هتلر سورية»، تنويهاً فيما يبدو بقدراته الإبادية، ليس مما يُقرَأ بتعجُّل ليُنسى. النصوص والصور ليست أشياء جامدة، إنها علاقات، شؤون تتعلق بنا، تطلب أن تُقرأ وأن يُنظر إليها، وأن نستولد من القراءة والنظر معان لحياتنا.
في شروطنا المعلومة لا أحد يملك القرار في شأن إتاحة أو عدم إتاحة الصور والفيديوهات الفظيعة. هذا أحد أوجه افتقارنا إلى عامٍّ وطني من أي نوع، وإشغالِ خاصٍّ همجي، الحكم الأسدي، موقعَ العام. انتشار صور الفظيع اضطرارٌ في مثل شروطنا، يُترك القرار في شأنه للأفراد. وكل شيء يتوقف، والحال كذلك، على ما نفعله بهذا الاضطرار كأفراد. تدافع هذه المناقشة على أن ننظر ونرى، إن لم يكن من أجل الاحتجاج والإدانة الأخلاقية، فمن أجل المعنى والذاكرة. ثقافتنا تتكون حول تمثيل تجاربنا، وأهمها اليوم ومنذ 11 عاماً ما يتصل بالاعتقال والتعذيب والاغتصاب والقتل والمجازر والحصار والتغييب. من هذا المنظور، ليته لدينا صور أكثر وفيديوهات أكثر، وليتها تُحفَظ في أرشيف وطني يتاح الاطلاع عليه للباحثين والمشتغلين في الشؤون العامة. هل حقاً لم نكن نريد أن توجد فيديوهات مجزرة التضامن؟ ومنذ أن وجدت الفيديوهات، ثمة من خاطروا بحياتهم كي تتاح كإثبات لواقع، كدليل قضائي، وككشف لمصائر، وهذا مثلما سبقَ أن فعل المُصوِّرُ قيصر. هل كنا لا نريد أن تُرى وتُدرس ويُكتب عنها؟ هل هناك من يريد جاداً ألّا تتوفر صورٌ عن مجازر أخرى؟
لقد حُرم ضحايا التضامن أن يروا مواقع أقدامهم في لحظاتهم الأخيرة. نحن نراها عنهم. هذا أقل حق لهم.
أي شرّ؟
كيف نصف شر أمجد يوسف؟ هل يصلح مفهوم الشر الاعتيادي أو المبتذل لحنه آرنت في وصفه؟ يبدو أن هناك عدم توافق أساسي بين القتل عن قرب والحكم عن قرب وبين الشرّ المبتذل، الذي يتوافق بالمقابل مع الحكم عن بعد، مما أخذ يميز المجتمعات الأوروبية منذ القرن الثامن عشر. أدولف آيخمان الذي طورت آرنت تصورها للشر المبتذل عبر تغطية محاكمته في القدس كان جزءاً من آلة قتل بيروقراطية، محفزاته تتصل بموقعه في هذه الآلة. آيخمان قاتلٌ عن بعد، والقتل الحربي الحديث معظمه قتلٌ عند بعد، على نحو يقلل من الشعور بالمسؤولية والوساوس الأخلاقية، مثلما أظهر زغمونت باومان في الهولوكوست والحداثة. آيخمان دافع عن نفسه بأنه لم يقتل شخصياً أي يهود، وهذا صحيح. الرجل كان مسؤولاً عن نقل ما لا يحصى من يهود أوروبا إلى معسكرات الاعتقال النازية، التي كانت مصانع موت أنتجت ملايين المقتولين. أمجد يوسف قتلَ شخصياً وعن قرب، وباستمتاع، وأظهر عدائية أكبر في قتل النساء حتى من قتل الرجال (خص إحداهن بخمس رصاصات، بينما اكتفى بواحدة أو اثنتين للرجال)، وقتل أطفالاً، قال إنه يضحي بهم لروح أخيه. هذا ليس شراً اعتيادياً، ليس شرّاً بدون شرير وراءه. هذا شرٌّ شخصي، كاره وثأري، ناقم وإذلالي، يصدر في الوقت نفسه عن حس مترسخ بالحصانة. هذا شر بشرير وراءه.
كيف تَكوَّنَ هذا الشرير؟ أمجد يوسف من مواليد 1986، كانت الأسدية في السلطة منذ 16 عاماً عند ولادته، وأبوه كان رجل أمن قبله، أي أنه ابن النظام، وربيب أجهزته الأشد عنفاً وطائفية. قبل ميلاد أمجد، كانت الأجهزة التي عمل فيها أبوه متمرّسة سلفاً بالاعتقال وفنون التعذيب والقتل، وكان في سجلّها مجازر كبيرة قبل ولادته. رضع أمجد حليب الأسدية المسموم، مزيج التفوق والحصانة والتهديد والخطر الوجودي الذي أشير إليه فوق. بالمقابل، أدولف آيخمان من مواليد 1906، قبل ظهور النازية بنحو 20 عاماً، وقبل وصولها إلى السلطة ب27 عاماً. آيخمان ليس ابن النازية، بل من جيل النازيين الأول. هو أقرب إلى مُنتِج للنازية منه إلى نتاج لها. ولو طال الأمد بالحكم النازي الذي عَمَّرَ بالكاد 12 عاماً لربما ولّدَ أشراره المتمرسين، قتلة تكوّنوا نازياً، ونعموا بحصانة مترسخة مثل حصانة أمجد يوسف. طال الأمد بالمقابل بالأسدية حتى قد يكون معظم جلاديها اليوم من مواليد الحقبة الأسدية، ومن إنتاجها و«منجزاتها»، تربوا على جرائمها التي لم تُعاقَب يوماً.
نظام الذات مختلف بين نموذجي الحكم عن قرب والحكم عن بعد على ما تدل فكرة الثأر ذاتها، وما تحيل إليه من حضور روابط الدم أو القرابة في السلوك، ومن مستوى انفعالات خام، ومن غياب التجرد والانضباط، ومن الاستمتاع بالمعاناة. ليس هناك ما هو عادي في شخصية ومسلك كهذا، خلافاً لما أَوَّلت أنصار شحود ما عاينته في الندوة التي نظمتها الجمهورية مساء 11 أيار 2022. المؤسسة التي يحلو لأمجد يوسف أن يصف نفسه بأنه ابنها هي جهازٌ يجمع بين الاستثناء والعنف والطائفية، وليست بحال مؤسسة عامة تعمل وفق قواعد معلومة مطردة، تتوسط بينها وبين عموم السكان. مفهوم المؤسسة يتعارض مع القرب الذي يطبع عمل المخابرات الأسدية، ويتوافق مع البعد وتوسط القواعد والإجراءات بين العاملين في المؤسسات وعموم السكان. سورية دولة أجهزة وليس مؤسسات بسبب غياب التوسط.
ومع تقدم نزع بيروقراطية الدولة على نحو يتجسد في انعدام شخصية الدولة الظاهرة (الحكومة والإدارات العامة والشرطة وعموم تشكيلات الجيش النظامي…)، تتقدم بالمقابل «شخصنة» السلطة، أي تمركزها حول الشخص وأصله وفصله وروابطه، محلَّ الفرد المواطن الذي ينضبط بقواعد عمل مؤسسية. ومع الشخص يغيب التجرد والقاعدة والروتين، وتحضر النية، والهوى والانفعال، والغرض والكيد، والأخ والأب. أمجد يوسف الذي رأيناه يقتل العشرات بتمكُّن ثأراً لأخيه، لا يجرؤ على التدخين أمام أبيه. هذا غير ممكن التصور في عالم الشر المبتذل.
ودون أن يكون شر أمجد يوسف شرَّ فردٍ سادي منحرف بالضرورة، فإنه ليس شراً مبتذلاً أو اعتيادياً، يتوافق مع البنى البيروقراطية الكبيرة وطاعة السلطة في مجتمعات كبيرة. «السياق الموسَّع لحصانة أجهزة المخابرات السورية والميليشيات الخاضعة لسلطة بشار الأسد المباشرة»، بحسب تقرير الباحثين، يوفر له معرفة كافية بأنه طليق اليد في قتل 288 من «مواطنيه» السوريين والفلسطينيين، وبعلم وإشراف وتشجيع اللواء بسام الحسن، مدير المكتب الأمني والعسكري لبشار الأسد.
المخابرات وقد رُفعت إلى مرتبة القداسة بوصفها «نور السموات» تتوافق مع الإبادة. بوصفها آلة الحكم عن قرب، عملُ المخابرات هو التعذيب والاغتصاب والقتل، هو شغلٌ عنيفٌ مباشر على أجساد الرجال والنساء. مجزرة التضامن الإبادية هي قبسٌ من «نور السماوات»، استجابة لنداء مقدس، هو نفسه النداء الذي أخذ يستجيب له في الفترة نفسها جهاديو داعش والقاعدة وجيش الإسلام. الجرائم الطائفية في عمومها لا تندرج ضمن تصور مُعلْمَن وبيروقراطي للشر. نحن هنا في عالم مختلف تماماً. في تلاقي المقدس والجريمة يجب أن نبحث في الشر الذي عرفناه في سورية، من طرف السلفيين الجهاديين كما من طرف النظام. تَحوُّلُ أمنيي النظام بعد التقاعد إلى مشايخ دين، ومنهم والد أمجد يوسف، ومن مشاهيرهم علي حيدر ومحمد بركات، ظاهرةٌ لافتة، مستحقة لدراسة متأنية.
إبادة؟
وبسؤال الإبادة (الجينوسايد) تتصل القضية السادسة التي تثيرها مجازة التضامن. هل تقول المجزرة جديداً في هذا الشأن؟ الواقع أنه ليس هناك شيء قديم في شأن الإبادة كي نتكلم على جديد، ولم تجر دراسة الحكم الأسدي من هذا المدخل. لذلك لا تتعدى هذه الفقرة اقتراح تصور أول.
وقعت عشرات المذابح قبل مجزرة التضامن وبعدها، منها ما ارتكب بأسلحة الدمار الشامل، ومنها ما حمل التوقيع التدميري الخاص بالنظام، أي البراميل المتفجرة، واصطبغت دون استثناء بصبغة طائفية، هي بالتحديد ما تسوغ الكلام على بنية إبادية أو «جينوسايدية». الجينوسايد، بحسب ميثاق خاص للأمم المتحدة بخصوص «جريمة الجرائم» هذه هو أفعال تستهدف جماعة إثنية أو عرقية أو دينية أو قومية (أي معطاة الهوية سلفاً) بِنيّة تدميرها كلياً أو جزئياً، مثل القتل، الإيذاء الجسدي أو النفسي، التسبب بدمار واسع ينال الجماعة، منع الولادات ضمنها، أو مصادرة أطفالها. ويضمر الميثاق أن الجماعة “ضحية بريئة”، لم تقاوم بالسلاح. وبعبارة مألوفة أكثر في العربية، الجينوسايد هو القتل الجماعي على الهوية أو الإيذاء الجماعي بسبب الهوية.
المفهوم الذي ظهر أثناء الحرب العالمية الثانية، واعتمد في ميثاق خاص للأمم المتحدة عام 1948 بغرض تجريم ومنع هذه الجريمة، كان يحيل ضمناً إلى الهولوكست، إبادة يهود أوروبا على يد النازيين أثناء الحرب. يعاني المفهوم من مشكلات متعددة، منها ما يتصل بما إذا كانت الإبادة مسألة نيات أم وضعيات تاريخية انتقالية وسياقات حربية عنيفة؛ ثم بالهوية المقررة المعطاة سلفاً للجماعة المستهدفة وما إذا لم تكن نتاج عمليات فرز وتمييز، من صنف «تقطيع حي التضامن وتصنيف سكانه»، على ما قالت أنصار شحود في ندوة الجمهورية، أي ما إذا لم تكن الهويات مصنوعة سياسياً؛ وكذلك بالبراءة المفترضة للمستهدفين، أي عدم انخراطهم في مقاومة مسلحة ضد المعتدين، وهو ما يغفل أوضاعاً تكون الحرب فيها تعذيبية من جهة الأقوياء، وإن ووجهوا بمقاومات مسلحة. وهذه ليست مجرد مشكلات نظرية، فميثاق الأمم المتحدة الخاص بالجينوسايد يوجب جهداً دولياً لوقف هذه الجريمة، وهو ما يدفع الضحايا أو ممثليهم إلى التأكيد على أن ما يجري من مذابح هو إبادة من أجل شرعنة المساعدة الدولية في وقفها، وما يدفع المرتكبين إلى تصوير الأمر قمعاً لتمرد غير شرعي أو «حرب ضد الإرهاب» مثلما فعل الحكم الأسدي منذ وقت مبكر من الثورة السورية، ثم ما يدفع نافذين دوليين غير راغبين في مساعدة الضحايا إلى إنكار صفة الجينوسايد (إدارة كلينتون أوصت دبلوماسييها بعدم استخدام كلمة الجينوسايد بخصوص مجازر التوتسي في رواندا عام 1994، لأن ذلك موجبٌ للتدخل، مما لم تجد الإدارة الأميركية مصلحةً لها فيه).
على أنه ليس بين مشكلات المفهوم اقتضاء عددٍ مليونيٍ أو بمئات الألوف من الضحايا كي نتكلم على جينوسايد. قتل بالكاد تسعة آلاف في مجزرة سربرنتشا في البوسنة عام 1995، لكن يقر أكثر الدارسين بأن الأمر يتعلق بجينوسايد، استهدف فيه الضحايا لهويتهم: مسلمون، وكانوا فوق ذلك مسالمين، وتوفرت نية تحطيم مجتمعهم من قبل القوميين الصرب. مثل ذلك ينطبق على الإبادة الإيزيدية على يد داعش، ربما الضحايا بالآلاف القليلة فقط، لكن الجماعة استهدفوا (قُتل الرجال في سن الحرب، وسُبيت النساء واستُعبدنَ جنسياً…) لكونهم هم من هم وليس لأي شيء فعلوه.
على أنه قد يكون من الأنسب الكلام على مجزرة إبادية (وهو مفهوم اقترحه ليو كوبر، أحد دارسي الجينوسايد)، بخصوص الاستهدافات الجزئية، التي يقتل فيها عشرات هناك ومئات هناك. مجزرة التضامن مجزرة جينوسادية أو إبادية دون شك، قتل فيها مدنيون، بنية تدمير مجتمعهم، ولكونهم هم من هم، أي لاعتبارات هوياتية، ثم لكونهم مدنيين غير مسلحين.
وما سبق قوله عن التكوين الإبادي للنظام ينطبق على التشكيلات الطائفية السنية التي تستهدف العلويين بما هم علويون. حيث نتكلم على طائفية وتطييف، فإن باب المجازر الإبادية ينفتح على وسعه. لنا في سورية تاريخ كاف خلال 52 عاماً من الحكم الأسدي لإثبات ذلك.
يبقى أنه ليس من الضروري حصر النقاش في شأن القضية السورية بصورة ضيقة في إثبات أن ما جرى جينوسايد. لعل الأنسب أن نستند إلى التجربة السورية لنقد مفهوم الجينوسايد، ونستند إلى مفهوم الجينوسايد وأدبياته من أجل إضاءة الأوضاع السورية.
تشبيح وتشليح
يبرز الباحثان أن ما سمّياه «القتل الجماعي الممنهج» الذي جسدته مجزرة التضامن هو أحد أوجه مُركَّب أوسع يشمل كذلك السجون، أو بالأصح الاعتقال ومعسكرات التعذيب والقتل الصناعي، ثم الاعتداءات الجنسية على النساء، وعلى رجال وأطفال، على نحو يُقصد منه الإذلال وتحطيم المجتمع، ثم الاستغلال الاقتصادي، من سُخْرة ورشاوى تدفع للنجاة أو الحصول على معلومات عن معتقلين ومُغيَّبين، وبالخصوص نزع الملكيات. شهدت السنوات الأحد عشر الماضية أوسع عمليات نزع ملكية وتحويل ملكية عرفتها سورية في تاريخها، ولا تزال غير مدروسة بصورة وافية. أمجد يوسف يستثمر لوحده ثلاثين محلاً استولى عليها في حي التضامن وحده. النطاق الكامل لنزع الملكيات وتحويلها إلى محظيي النظام صعب التصور، لكن الأمر يتعلق بـ«ثورة اجتماعية»، ثورة على المجتمع في واقع الأمر، أوسع نطاقاً بما لا يقاس من ثورة سابقة جرت في ثمانينات القرن العشرين بعد سحق تمرد اجتماعي أول على الحكم الأسدي.
كانت تجارة الاعتقال في سجون ومعتقلات النظام السوري موضع بحث أجراه سلطان جلبي ونشر في نيسان 2020، يدرس حالة 100 معتقل، ويُظهِرُ أن 85 من أُسرهم تعرضت لمساومات وابتزاز من قبل سماسرة مقربين من النظام، بعضهم ضبّاط مخابرات، وأن 75 أسرة دفعت أموالاً لمعرفة مصير أبنائها، وأن مجموع ما دفع من مال يبلغ 800 ألف دولار أميركي، أي فوق 10 آلاف دولار من الأسرة الواحدة. يُقدِّرُ الباحث مجموع ما دفع من أموال لهذا الغرض بما بين مليار وملياري دولار.
ويبدو العمل القسري أو السخرة شيئاً جديداً نسبياً في تاريخ الأسدية. في سنوات حكم حافظ، لم تتوارد معلومات عن استخدام معتقلين أو غيرهم لأعمال سخرة (كنا نستخدم الكلمة في المسلمية، سجن حلب المركزي، لتسمية عمل من يتناوبون يومياً منا على القيام بالخدمة الجماعية لرفاقهم). لكن هناك معلومات منذ عام 2013 عن استخدام معتقلين لحفر خنادق لقوات النظام، ورد أَبكُرها في حدود ما أعرف في تقرير لمركز توثيق الانتهاكات كانت كاتبته الرئيسية هي رزان زيتونة عن تمكن خمسة من هؤلاء المعتقلين من الهرب. تقرير الباحثين يذكر السخرة في إطار «الاستغلال الاقتصادي» للمعتقلين دون مزيد من التفاصيل. وفي غياب معلومات موثوقة تتيح الجزم، أُقدِّرُ أن الأمر غير واسع النطاق بعد.
يجمع بين السخرة وتجارة المعلومات عن المعتقلين والمغيبين ونزع الملكيات ما يمكن تسميته التشبيح من أجل التشليح. ويعني التشليح بالمحكية السورية الاستيلاء على ما يخص الغير بالقوة والحيلة. أو باختصار شديد وضع المسدس في الرأس (التشبيح) للاستيلاء على ما بحوزة الشخص (التشليح). السلطة في شكلها العنفي المجرد هي مصدر الثروة هنا، وليس الثروة هي مصدر السلطة مثلما هو الحال في النموذج الرأسمالي. ولأن السلطة هي مصدر الثروة، فإن الموقع القيادي في اقتصاد التشليح هو لمن يملك المسدس من أمثال صاحب المحرقة أبو علي حكمت، أو «هتلر سورية»، أو أمجد نفسه، أو بشار الأسد.
على أن الاقتصاد السياسي للتشبيح العام، من تجارة الاعتقال إلى المجزرة، ومن التهجير إلى السخرة، يفتح أفقاً لدراسة الأوضاع السورية، يضع الطائفية في مكانها. الطائفية منجمٌ لِولاءٍ متواضعِ الكلفة، تعود عوائده من سلطة وثروة على المستثمرين في المنجم، الشبيح العام. إنها أداة حكم فعالة لا يصح إهمال تناولها، لكن لا يُختزَل إليها كل شيء آخر. ومنذ أن نتكلم على اقتصاد سياسي للمجزرة وأخواتها، فإننا نتكلم على انقسام اجتماعي مغاير وعلى شراكات غير محصورة طائفياً، يجتمع فيها جمال الخطيب السني مع أمجد يوسف العلوي ونجيب الحلبي الدرزي.
وقد يمكن النظر في «إعادة الإعمار» التي تتكلم عليها دوائر النظام بين حين وآخر كتطبيع لنزع وتحول الملكيات الهائل لمصلحة طبقة المنتفعين الجدد. هذا على كل حال ما تظهره ليلى فنيال في الفصل الأخير من كتابها المهم: التمزيق حرباً، تفكيك سورية 2011-2021. أي عملياً ترجمة الثورة المضادة للمجتمع إلى واقع مُكرَّس، أو نقل تحويل الملكيات من واقع محقق بالاستيلاء إلى واقع مقنن وموثق.
في المجمل، تَصلُح مجزرة التضامن كنافذة نطلّ منها على مشهد سورية خلال أحد عشر عاماً، أو بالأصح ثغرة سرية خلّفها حجر سقطَ من جدار، نختلس منها الفرجة على حياة سورية وموتها، مثلما فعل بطل رواية القوقعة لمصطفى خليفة. ومن يَرى يروي.