منذ خلو إدلب ومحيطها شمال غرب سوريا من المنافسين المحليين لسلطة هيئة تحرير الشام عام 2018، بدا ملاحظاً توجهها نحو الهيمنة الكاملة على اقتصاد المنطقة، وممارسة دور القطب التجاري الواحد والتحكم في مختلف القطاعات الاقتصادية، وبشكلٍ خاص الاستيراد. ومع نجاحها في ذلك، انتقلت الهيئة عام 2021 إلى وضع استراتيجيات للسيطرة على سوق التجارة الداخلية، والتوغل في مجالات اقتصادية جديدة واحتكارها لزيادة أرباح شركاتها التي تتنامى بشكلٍ مطرد، من خلال التضييق على التجار وافتعال أزماتٍ معيشيةٍ تنعكس بشكلٍ مباشرٍ على حياة المدنيين.
ويواجه القاطنون في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام مشقةً في تأمين العديد من المواد الغذائية والتموينية، فضلاً عن ارتفاع أسعارها في حال توافرها. ويشير الأهالي والتجار دوماً إلى اختلاف الأوضاع بين هذه المناطق الخاضعة للهيئة والمناطق القريبة الواقعة تحت سيطرة فصائل الجيش الوطني المدعوم من تركيا، حيث تباع البضائع بأسعارٍ أفضل وكمياتٍ أوفر بحسب ما يصلهم من معلومات.
في شهر حزيران (يونيو) عام 2020، تمّ فرض الليرة التركية بدلاً من الليرة السورية كعملة تداولٍ رسمية من قبل الحكومة السورية المؤقتة بريف حلب وحكومة الإنقاذ في إدلب، بعد وصول سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي إلى حدود 5000 ليرة مقابل الدولار الواحد. وعليه فقد جرى تسعير البضائع وتحديد الأجور ورواتب الموظفين بالليرة التركية. وشمل ذلك التغيير مناطقَ سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب وريفها وأجزاء من ريف حلب الغربي وريف اللاذقية الشمالي، ومناطق سيطرة فصائل الجيش الوطني شمالي حلب، امتداداً من مدن عفرين وإعزاز والباب وجرابلس إلى مناطق عديدة بريفي الرقة الشمالي والحسكة الغربي بين مدينتي تل أبيض ورأس العين.
بداية الاهتمام بالسوق الداخلية
كانت تحرير الشام أقل اهتماماً بتقييد الحركة التجارية مع مناطق سيطرة الجيش الوطني، رغم وجود المعابر وحواجز التفتيش، لكن منذ منتصف عام 2021، بدأت بالعمل على تشديد الإجراءات ومنع دخول البضائع وخروجها دون دفع الإتاوات والضرائب. كما شنّت العديد من الحملات العسكرية لهذا الغرض، أبرزها كان على معبر الغزاوية في الرابع من شهر آب (يوليو) 2021، وتوغلت إلى عمق مناطق سيطرة الجيش الوطني في عفرين لمنع عمليات تهريب المحروقات والمواد الغذائية.
ويربط مناطق إدلب بريف حلب معبران أساسيان هما معبر قرية الغزاوية المقابل لبلدة سمعان بريف حلب الغربي، ومعبر قرية دير بلوط، وهي معابر مخصصة للحركة التجارية وعبور المدنيين. حيث شددت الهيئة من دورياتها وحراستها على القرى الواصلة مع ريف حلب الشمالي، ونشرت المزيد من عناصر لواء الحدود على طول الشريط، كما كثّفت من ملاحقة المهربين ومنع دخول المواد الأساسية، وعلى رأسها الخضار والفواكه والمحروقات، الأمر الذي يؤكد حرص الهيئة على تثبيت الخط الفاصل بين مناطق سيطرتها مع المعارضة لإنجاح مشروعها الاقتصادي.
ويبدو أنّ السبب الأبرز لتوجه تحرير الشام للسيطرة على الاقتصاد الداخلي هو انخفاض مواردها المالية وفقدان العديد من مصادر التمويل التي كانت تعتمد عليها، وخاصةً المعابر التي كانت تربط مناطق سيطرتها بمناطق سيطرة النظام بريف حماة، مثل معبري مورك وقلعة المضيق، وهي معابر كانت تستخدمها الهيئة لعمليات تهريب السلع الغذائية والحديد والخردوات وغيرها. وهذه الموارد قد جفت مع خسارتها مناطق واسعة من ريف حماة وادلب وحلب لصالح النظام.
وبناءً على الوضع المالي الجديد، توجهت الهيئة عبر دائرة اقتصادية ضيقة والعديد من الشركات التي أنشأتها، للتوسّع والاستحواذ على مختلف القطاعات التجارية المحلية المربحة، وذلك بتنسيق حكومة الإنقاذ، وهي الجناح المدني لها والواجهة التي تدير من خلالها مناطق سيطرتها.
منطقة اقتصادية مغلقة
بعد السيطرة على منطقة إدلب وما حولها، عمدت الهيئة إلى تمكين دور حكومة الإنقاذ التي شكلتها عام 2017، والعمل على تأمين اقتصاد محلي منعزل عن بقية المناطق في سوريا، منه ما هو مرتبط بمؤسسات ووزارات تابعة للإنقاذ، أو من خلال ما يمكن تسميته الدائرة الاقتصادية لتحرير الشام، وهي شبكة تضم أشخاص وشركات على صلة مباشرة بزعيم التنظيم وأبرز قياداته، أو شركات تدار من قبلهم مباشرةً. حيث بدأت خلال الفترة الممتدة بين 2018 و2020 بتأسيس شركات ومؤسسات تجارية في إدلب، ومهدت لها الطريق لاحتكار تجارة واستيراد البضائع التركية الواردة من معبر باب الهوى بريف إدلب الشمالي، كما عملت على مأسسة عمل المعابر الواصلة مع مناطق النظام وفصائل المعارضة.
وظهرت أولى بوادر هذه السياسة في احتكار شركة وتد لاستيراد المحروقات، كالغاز المنزلي والمازوت والبنزين، سواءً من تركيا أو من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شمال شرق سوريا، وتوزيعه محلياً في إدلب. كما عملت على إنشاء مؤسسات وشركات استثمارية وتجارية تعمل في مجالات مختلفة، مثل النقد الذي تديره مؤسسة النقد التابعة لحكومة الإنقاذ من خلال تحكمها بسوق الصرافة ودعم مشاريع الهيئة الاستثمارية، والبناء والمقاولات مثل شركة الراقي للمقاولات والتعهدات وشركة نماء للاستثمار، والإعلام تحت غطاء المديرية العامة للإعلام ومؤسسة إباء التي تراجع دورها مؤخراً لحساب شركة Creative Inception، التي يصرّ القائمون عليها على استقلالية الشركة، إلا أن المنشقين عن الهيئة، ومنهم المدعو أبو يحيى الشامي القيادي السابق في تحرير الشام، أكدوا فعلاً تبعية الشركة لتحرير الشام، وهو ما يعزّزه النفوذ الذي تحظى به الشركة ضمن منطقة إدلب وهيمنتها على حقوق الدعاية والإعلان واللوحات الطرقية وغيرها.
أما بالنسبة لقطاع الاستيراد، فتستحوذ شركة زاجل للتخليص الجمركي على حصةٍ وازنةٍ منه، علاوةً على هيمنتها على قطاع النقل والمواصلات وسوق المواد الغذائية. وقد دخلت مؤخراً إلى على خط مشاريع الإنتاج الداخلي في مزارع تربية الدواجن وإنتاج المشتقات الحيوانية، والتي تحتكرها شركة اليمامة للدواجن والأعلاف، والتي تتبع أيضاً لهيئة تحرير الشام.
ويعزو أحمد عزوز، الخبير الاقتصادي المطلع على الحركة الاقتصادية في الشمال السوري، توجّه تحرير الشام نحو السيطرة على المجال الاقتصادي واحتكار أبرز القطاعات الاقتصادية إلى غياب التمويل عنها، مشيراً إلى أن البداية كانت عبر سوق المحروقات وسوق الاستيراد، ومؤخراً شملت أنشطتها سوق المواد الغذائية، وكل ذلك بغية الحصول على مصدر تمويل ذاتي. وضيف عزوز: «نجد أن حكومة الإنقاذ، وكباقي قوى الأمر الواقع في سوريا، تعمل على احتكار القطاعات ذات الأرباح الآنية بدلاً من التدخل في القطاعات التي تمثل صلب العمل الحكومي، مثل التعليم المنهار حالياً نتيجة غياب الدعم، والقطاع الصناعي والتنمية الزراعية، واقتصار عملها على تنظيم سوق المحروقات وسوق التجارة الداخلية».
ويعتقد عزوز أن تحرير الشام «وإذا كانت تحقّق الفائدة الآنية المرجوة من هذه السياسات، إلا أنها على المدى المتوسط والبعيد ستكون خاسرة، فقد أثبتت التجارب السابقة، ومنها تجارب الدولة السورية، أن التدخل في الشؤون الاقتصادية واتباع سياسة الاحتكار الحكومي يؤديان إلى انهيارٍ اقتصادي وفوضى تنعكس بشكل مباشر على معيشة المدنيين جراء الفساد الذي يصيب هذه المؤسسات».
تباين في الأسعار يهدد القوة الشرائية
بدا لافتاً خلال الثلث الأخير من العام 2021 الماضي، زيادة اهتمام تحرير الشام وحكومتها بسوق المواد الغذائية، الذي يعد أكبر المجالات التجارية وأكثرها جذباً للاستثمار ورؤوس الأموال في إدلب، ومحاولتها اقتحام السوق عبر شركاتٍ تابعةٍ لها، مستغلةً هيمنتها على القطاع التجاري بمختلف مجالاته، وتوجّهها للقضاء على المنافسة وتسهيل المضاربة، وبالتالي تحكّم الشركات المتنفّذة بأسعار مختلف أنواع السلع الغذائية وتحقيق أرباح أكبر.
فعلى الرغم من تشارك ريف حلب الخاضع لنفوذ الحكومة السورية المؤقتة المدعومة من تركيا، مع إدلب التي تسيطر عليها حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام، موجةَ الغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة نتيجة ارتفاع أسعار النفط عالمياً وارتفاع أجور الشحن الدولي وحضور أزمة غذائية جرّاء الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا إنّ سكان إدلب يحمّلون الهيئة أسباب التضخم المبالغ فيه والأزمات غير المبررة، برأيهم، التي تعيشها مناطقهم.
وبحسب أرقام حصلت عليها الجمهورية.نت من وزارة المالية التابعة للحكومة السورية المؤقتة، فقد بلغت نسبة التضخم في مناطق نفوذها 32 بالمئة خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2022 الجاري، فإن تقديرات اقتصادين مهتمين بالوضع الاقتصادي والسوق الداخلي في منطقة إدلب رجّحوا في حديثهم للجمهورية.نت ارتفاع النسبة في مناطق سيطرة تحرير الشام بين 37 و45 بالمئة خلال الفترة ذاتها.
وقد شهدت أسواق إدلب قفزاتٍ سعرية متسارعة مؤخراً، وخاصةً منذ بداية شهر رمضان، طالت مختلف أنواع السلع والبضائع الاستهلاكية والتموينية؛ مثل السكر وزيت الطعام والسمن والدقيق والمنتجات الزراعية والمشتقات الحيوانية، بما في ذلك البيض والألبان والأجبان واللحوم البيضاء والحمراء، وكذلك الأمر بالنسبة للمحروقات والغاز المنزلي، فضلاً عن تكرار انقطاع العديد من السلع الاستهلاكية، في الوقت الذي يواجه فيه الأهالي أوضاعاً معيشيةً صعبة.
يقول أبو أحمد، وهو تاجر تجزئة في مدينة ادلب للجمهورية.نت: «تُباع مختلف أنواع السلع والبضائع في ريف حلب بأسعار أقل من نظيرتها في إدلب، وذلك رغم الارتفاع في الأسعار الذي طرأ مؤخراً في أسواق المنطقتين خلال رمضان وعيد الفطر». يضيف: «مع أنّ الغلاء الأخير قارب بين الأسعار في المنطقتين، إلا أن الفروق لا تزال موجودة، ويمكن ملاحظتها بشكلٍ واضح في سعر بيع المحروقات والغاز، إذ يصل فرق السعر إلى خمس ليرات تركية أحياناً. وينطبق هذا على الدخان ومعسل النرجيلة والمواد الغذائية والتموينية مثل السكر والزيت والسمن والرز، ليتراوح فرق السعر بين ليرتين إلى خمس ليرات تركية. حتى إن الأمر وصل إلى بعض الخضروات والفواكه التي يفترض أن تكون محافظة إدلب مكتفيةً ذاتياً منها».
لكنّ هذه الفروق تعتبر طبيعيةً كما يؤكد أبو أحمد، الذي أوضح أن «غياب المنافسة واحتكار شخصيات وشركات محددة لتوريد السلع إلى سوق إدلب أدى إلى تضاعف الأسعار، بينما مناطق ريف حلب مفتوحةٌ على تركيا من خلال المعابر المنتشرة، مثل معبر الحمام بريف عفرين وباب السلامة في إعزاز ومعبر الراعي في الباب ومعبر جرابلس، ويمكن لأي تاجر أو شركة استيراد أي نوع من أنواع السلع، وهو ما يزيد من حجم المنافسة السعرية والمعروض من البضائع».
ازدهار التهريب
أدى التباين في الأسعار إلى نمو سوق التهريب من مناطق ريف حلب نحو إدلب، خاصةً المحروقات والبنزين السوري المُكرّر (المُفلتر) على وجه الخصوص، إضافةً إلى تهريب التبغ الذي يشهد نشاطاً كبيراً. وغالباً ما يعمل في هذا المجال الخطر الأطفال والنساء الفقراء الذين يقومون بقطع التلال والمناطق الوعرة قرب بلدة أطمة شمال إدلب مقابل جني ما يصل إلى 100 ليرة تركية عن كل عملية، وهي بالكاد تكفي العائلة متوسطة العدد لمدة ثلاثة أيام.
ومع ذلك، لا تبدي هيئة تحرير الشام أي تهاون في عملية ملاحقة المهربين النساء أو الأطفال، ففي شهر شباط (فبراير) الماضي، قتلت الهيئةُ السيدة فاطمة عبد الرحمن، ذات 28 عاماً، وهي أرملة نازحة من قرية سفوهن جنوب إدلب وأم لأربعة أطفال أيتام، بعد استهدافها بشكلٍ مباشرٍ من قبل عناصر حرس الحدود التابعين للهيئة قرب معبر دير بلوط، خلال نقلها بضعة لترات من البنزين من منطقة عفرين إلى إدلب.
كما شهدت عمليات تهريب مادة السكر ازدهاراً ملحوظاً خلال شهري شباط (فبراير) وآذار (مارس) الماضيين، وذلك بعد أزمة شح السكر وخلوّ الأسواق منه مطلع العام الجاري، حيث تجاوز سعر الكيلو الواحد في إدلب 40 ليرة تركية. ومع ارتفاع أسعار الخضروات والفواكه في إدلب وتوجّه التجار إلى التسوق من مدينة عفرين بريف حلب، دخل عناصر الهيئة على خط التهريب، من خلال السماح بدخول الشاحنات الصغيرة مقابل الحصول على مبالغ مالية تختلف باختلاف نوع وحجم السلعة الممنوع دخولها إلى منطقة إدلب، مثل الفلفل الأحمر والملوخية وغيرها من المنتجات الزراعية التي منعتها تحرير الشام، ما أجبر السكان على إدخالها عن طريق التهريب مقابل دفع إتاواتٍ لحواجز الهيئة.
التضييق أكثر
وبدلاً من تسهيل عملية الاستيراد وتخفيض الرسوم الجمركية أو إزالتها، وفتح الباب أمام التجار لتأمين حاجة السوق وخلق منافسة تنعكس إيجاباً على المستهلكين كما هو حاصل في ريف حلب الشمالي، قامت الإدارة العامة للمعابر التابعة لحكومة الإنقاذ بإغلاق كافة المعابر والمنافذ الحدودية مع مناطق سيطرة الجيش الوطني، بدأ من الأول من شهر نيسان (أبريل) وحتى الخامس عشر من ذات الشهر، وهو ما يؤكد زيادة اهتمام الهيئة بتقييد الحركة التجارية مع مناطق سيطرة الجيش الوطني مع اشتداد أزمات توافر السلع.
كما رفعت الهيئة قيمة الضرائب المفروضة على المستوردين عبر شركة زاجل للتخليص الجمركي، التي يديرها المدعو أبو عبد الرحمن زربة، وهو أحد الأذرع الاقتصادية النافذة في تحرير الشام. وتتخذ هذه الشركة من معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا مقراً لها، الأمر الذي دفع الكثيرين من التجار للإحجام عن الاستيراد، ما عمّق من المشاكل التي يعاني منها السوق المحلي وزاد من مخاوف توجّه هيئة تحرير الشام إلى توسعة نفوذها على قطاع التجارة الغذائية والسوق المحلية، وذلك بعد سيطرتها على المجال الاقتصادي وسوق الاستيراد في المنطقة، من خلال افتعال الأزمات المعيشية والاقتصادية بهدف فرض شركاتها وتمكين الكيانات الاقتصادية التابعة لها والمكونة من مجموعة متنوعة من الشركات والمؤسسات الاستثمارية والتجار الموالين في السوق الداخلية.
أبو عرب هو اسمٌ مستعارٌ لتاجر مواد غذائية في مدينة الدانا بريف ادلب الشمالي، وقد فضّل عدم الكشف عن اسمه الحقيقي خشية تعرضه لمضايقاتٍ من تحرير الشام، أشار في حديثه للجمهورية.نت إلى وجود العديد من الأسباب التي ساهمت في ارتفاع أسعار السلع ومعاودة ظهور الأزمات في سوق إدلب، أهمها زيادة الضرائب وحصر عمليات الاستيراد في شخصيات موالية، وأيضاً الارتفاع العالمي في الأسعار. يقول أبو عرب: «تنحصر سوق التوريد حالياً، وإلى حدٍّ كبير بشبكة التجار والشركات المحسوبة على الهيئة والتابعين لشركة زاجل أو المتعاونين معها بشكل مباشر، الأمر الذي أدى إلى ظهور أزمات نتيجة قلة البضائع، ما ضاعف بدوره من نسبة التضخم المرتفعة أصلاً بسبب موجة الغلاء والاضطراب الذي شهده السوق بعد أزمة انهيار الليرة التركية أمام الدولار، ثم موجة التضخم العالمي التي أحدثتها الحرب الأوكرانية».
واعتبر التاجر أن أزمة السكر كانت بمثابة بوابةٍ لدخول شركة زاجل إلى سوق المواد الغذائية بشكل رسمي، خصوصاً «أن عملية توريد المادة وتوزيعها قد تم عن طريقها، وبعد أشهر من التضييق على التجار والموردين ورفع الرسوم الجمركية عليهم، مقابل توفيرها أنواع أخرى من السلع بأسعار أقل من السوق». ويشير أبو عرب إلى أن شركة زاجل قد لعبت دوراً كبيراً في «إغراق الشمال بالسلع الإيرانية، والتي تزايد حضورها بشكلٍ لافتٍ خلال الأشهر القليلة الماضية؛ مثل التمور والمُعلّبات والبقوليات وحليب الأطفال، إضافةً إلى مواد البناء مثل الرخام والأسمنت والحديد». وتتنوع مصادر استيراد المواد الإيرانية، فبعضها يأتي من المعابر التي تربط المناطق الخاضعة تحت سيطرة المعارضة بمناطق سيطرة النظام بريف إدلب، أو من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وحتى من تركيا. ويشير أبو عرب إلى أنه «غالباً ما يتم تمويه المنشأ بسبب الرفض الشعبي للتعامل مع إيران ورداءة هذه البضائع».
وبحسب تقرير نشره موقع الحل.نت المحلي عن حجم العائدات التي تجنيها هيئة تحرير الشام من معبر باب الهوى، وهو المعبر الرسمي الوحيد الذي يصل منطقة إدلب مع تركيا والعالم الخارجي، فإنها «تتراوح بين 2 إلى 3 مليون دولار شهرياً». وتأتي هذه الأرباح، التي لا يمكننا الجزم بصحة التقديرات حولها، عن طريق فرض الرسوم الجمركية على البضائع الواردة إلى منطقة إدلب إضافةً إلى عملية شحن المحروقات عبر المعبر، والتي تتسلّمها شركة وتد للمحروقات، والتي تحقق أرباحاً تصل إلى 800 ألف دولار من خلال بيعها في الداخل السوري.
شركة زاجل
تأسّست شركة زاجل كشركة متخصّصة بمجال النقل والمواصلات داخل إدلب، قبل أن تتوسّع وتمارس وظيفة التخليص الجمركي للسيارات المستعملة، وذلك بعد سماح تركيا بدخول السيارات نحو إدلب وتزايد أعداد المكاتب والتجار العاملين في هذا المجال. إذ وصل عدد المكاتب ومعارض بيع السيارات المستعملة إلى أكثر من 200 في المدن الحدودية بريف إدلب الشمالي. ومع ازدهار تجارة المواد الغذائية ومواد البناء على وجه الخصوص بين الشمال السوري وتركيا، بدأت الشركة بدخول سوق المواد الغذائية والبضائع المستوردة، ما جعل مكاسبها تتنامى بشكل أكبر.
وخلال أزمة السكر التي شهدتها ادلب مطلع العام الجاري، برز اسم الشركة مجدداً، مع تأمينها للسكر وتوريده للأسواق ودخولها في خط استيراد المادة من تركيا مقابل تعرفة جمركية كبيرة، ما خلق فارقاً سعرياً بين مبيع المادة في إدلب وبين بقية مناطق سيطرة الجيش الوطني، حيث وصل سعر كيلو السكر في منطقة إدلب إلى 42 ليرة تركية، بينما كان سعره في ريف حلب 13 ليرة تركية فقط. وتستخوذ الشركة اليوم على قطاع المواصلات، إضافةً إلى احتكارها قطاع نقل البضائع من معبر باب الهوى إلى مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام وعملية التخليص الجمركي، بعد أن أصبحت اليوم مؤسسةً شبيهةً بإدارة الجمارك التابعة للهيئة، مستغلةً الامتيازات التي يوفّرها قرب رئيسها مصطفى قديد المعروف باسم أبو عبد الرحمن زربة من زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني، إذ أن قديد هو المسؤول عن الملف الاقتصادي لهيئة تحرير الشام في إدلب وعن إدارة المعابر الداخلية والخارجية، وهو ما يسهّل سيطرته على قطاع تجارة المواد الغذائية، خاصةً وأنه المسؤول أيضاً عن شركة زاجل بكافة فروعها، إضافةً إلى شركة وتد للمحروقات.
قطاع الصيرفة والأسواق التجارية
وعلى صعيدٍ مشابه، نجحت تحرير الشام بافتتاح فرعين لمشروع تجاري كبير في إدلب، يتمثّل بـ«سيتي مول» الذي يديره أبو حفص بنّش، وهو أيضاً أحد رجال الدائرة الاقتصادية الضيقة للجولاني، برأسمال يقدّره الباحث الاقتصادي عبد الرحمن أنيس، المتابع لاقتصاد الهيئة، بأكثر من مليون دولار أمريكي.
ومن جهةٍ أخرى، عملت المؤسسة العامة لإدارة النقد وحماية المستهلك التابعة لحكومة الإنقاذ على وضع أسس للسيطرة على سوق العملات والصرافة في إدلب، من خلال إلزام مكاتب الصرافين والحوالات المالية بترخيص مكاتبهم ودفع مبالغ مالية تحت مسمى «بدال»، يوضع في البنك المخصص للمؤسسة، وتقدّره المؤسسة تبعاً لانتشار الشركة المُرخصة، وغالباً ما يتم فرض مبلغ يتراوح بين 1500 و3000 دولار لترخيص المكتب الواحد، في حين تفرض رسوم تصل إلى أكثر من 30 ألف دولار على الشركات الكبرى.
وعملت المؤسسة على تقسيم الشركات البالغ عددها 81 شركة مرخصة إلى ثلاث فئات أساسية، وذلك بحسب قوتها ومجال عملها وانتشارها، وتضم الفئة أ الشركات العاملة في مجال التحويل المالي ونقل البضائع والشحن، ويقدر عددها بـ20 شركة. أما الفئة ب فتضم الشركات والمكاتب العاملة في مجال تصريف الأموال وتحويلها، ويقدّر عددها بـ28 شركة في إدلب وريفها وريف اللاذقية وريف حلب الغربي. بينما تضم الفئة ج شركات الصرافة ومكاتب التصريف المحلية ذات الفرع الواحد، ويقدّر عددها بـ33 شركة.
إضافةً إلى مجال المقاولات والاستثمار الخارجي الذي تستثمر فيه مؤسسة النقد رأسمال قدّره اقتصاديون متتبّعون لسياسات الهيئة الاقتصادية (رفضوا ذكر أسمائهم بسبب إقامتهم في إدلب) بـ«أكثر من 15 مليون دولار أميركي»، وذلك عبر شركاتٍ تابعة للمؤسسة مثل الراقي للمقاولات والتعهدات وشركة نماء للاستثمار التي تعد أكبر شركةٍ مُساهمةٍ في إدلب، ويديرها القيادي أبو ابراهيم سلامة، الذي يعتبر الرجل الثاني في دائرة الجولاني الاقتصادية الضيقة.
السيطرة على سوق اللحوم والدواجن
إلى جانب السيطرة على سوق التجارة الغذائية والنقد، عملت تحرير الشام على احتكار قطاع الدواجن والبيض الذي يمثل اليوم أحد أهم القطاعات الغذائية للسكان لما يمثله الدجاج من بديل رخيص عن اللحوم الحمراء. وبرزت شركتان لتسمين الدجاج وتسويقه في إدلب؛ الأولى هي شركة اليمامة ويملكها خير الدين السيد عيسى رئيس مجلس مدينة إدلب، وهذه الشركة تمتلك وتدير معظم مزارع تربية الحيوانات في إدلب.
واستطاعت شركة اليمامة على مدى السنتين الماضيتين اقتحام السوق وافتتاح سلسلة طويلة من الفروع في منطقة ريف إدلب، وذلك بعد توقيع السيد عيسى شراكةً تجاريةً مع تحرير الشام إلى جانب شراكته السياسية ضمن مدينة إدلب، تضمنُ له احتكار السوق والاستحواذ على خط استيراد الدجاج والأعلاف. وتبرز أيضاً في هذا المجال شركة المراعي للأعلاف والدواجن، والتي أنشأتها تحرير الشام بحسب موقع اقتصاد المحلي كمنافس لليمامة بغية التغطية على عملية استحواذ الأخيرة على قطاع الدواجن، خاصةً بعد تزايد شكاوى المربّين الذين رفضوا الانضمام لمشروع الهيئة.
ويعتبر الباحث في الاقتصاد السوري عبد الرحمن أنيس في حديثه للجمهورية.نت أن حكومة الإنقاذ «تقوم بمهام الذراع التنفيذي والإداري للهيئة»، وأنها «كأي جهاز حكومي تجمع المعلومات والبيانات المتعلقة بالحسابات القومية لمنطقة نفوذها وتقدّمها لصانع القرار، وبذلك تسهّل انسيابية توغّل شركات الهيئة في مختلف المجالات مع ضمان نجاحها».
ويضيف أنيس: «تتبع الهيئة نموذج اقتصاد الحرب القائم على سياسات اقتصادية صارمة تحمل العديد من الأهداف التي تعمل على تحقيقها، وتتمثل في تثبيت واقعية حكومة الإنقاذ وتمكينها اقتصادياً بهدف الوصول إلى مصدر تمويل ثابت من خلال أذرعها التي تحتكر السوق، وبالتالي توسيع السلطة العسكرية والسياسية ودعمها بسلطة اقتصادية». مشيراً إلى أن الهيئة تعزّز «الفصل التام بين مناطق سيطرتها ومناطق نفوذ الحكومة السورية المؤقتة، وقطع الطريق أمامها وأمام التجار للوصول إلى سوق إدلب، وذلك لتسهيل عملية الاحتكار ومنع دخول السلع والبضائع المنافسة. إذ إن مشروع تحرير الشام لا يعتمد على إنعاش المناطق المحررة بقدر ما يهدف إلى إنجاح أهدافها، في حين أن الانفتاح سيؤدي لإغراق السوق بالبضائع القادمة من مختلف المناطق وبأسعار منافسة، الأمر الذي يهدد مشروع الهيئة الاقتصادي».
لا يفوّت أنيس الإشارة إلى أنّ حكومة الإنقاذ تقوم بإمداد السوق ببعض المواد اللازمة، إلا أنها «تسبّب الكثير من الأزمات الاقتصادية والمعيشية نتيجة اعتمادها، إلى حدٍّ كبير على مجموعة من المحاسيب، بما يشبه سلوك النظام السوري». وأهم أوجه التشابه بحسب أنيس هي «تقويض القطاع الخاص والتضييق على التجار لحساب الشخصيات والمؤسسات الموالية للهيئة، مع العمل على ترسيخ دور حكومة الإنقاذ من خلال ضبط السوق والتحكم به وإصدار قرار منع التصدير والسماح باستيراد بعض المواد عبر أذرعها لتلبية حاجة السوق ضمن الإمكانات المتوفّرة لديها، وبما يضمن استمرارية سلطتها القائمة على تنمية الأرباح الاحتكارية».
ويرى أنيس أنّ هذا المشروع «لن يدوم طويلاً؛ نتيجة التضخم الكبير في الأسعار والاحتقان الشعبي وغياب الخطط الواضحة واعتماد الهيئة على الولاء والثقة على حساب الكفاءة والفاعلية كما أن بنية هذه المؤسسات القائمة على سياسة الاحتكار وقوة السلاح ‘أمر واقع’، وهذا النوع من المؤسسات يكون بيئةً خصبةً للفساد الذي تعاني منه فعلاً كوادر حكومة الإنقاذ والمؤسسات الموالية للهيئة».
تبعات تطال المناطق المحررة
لا تتوقف الآثار السلبية لسياسات هيئة تحرير الشام وممارستها دور القطب التجاري الواحد على مناطق سيطرتها، بل تمتد إلى باقي مناطق الشمال السوري الخاضع لسيطرة فصائل الجيش الوطني، وذلك نتيجة الإجراءات التي تتبعها من قرارات منع التصدير للعديد من المنتجات الزراعية ومنع انسيابية التبادل التجاري وفرض الإتاوات والرسوم على البضائع. وهذا ما يتّفق معه الدكتور في الاقتصاد يحيى السيد عمر، الذي أشار إلى أن «آثار السياسات الاقتصادية للهيئة تطال بشكل مباشر مناطق شمال غرب سوريا، وتطال بشكل غير مباشر بعض مناطق الشمال السوري الأخرى، لا سيما المناطق المتاخمة لسيطرة الهيئة». ويتابع السيد عمر: «من الناحية السياسية والعسكرية يمكن فصل عموم مناطق الشمال السوري عن مناطق سيطرة الهيئة، أما من الناحية الاقتصادية فلا يمكن ذلك، إذ إنّ تداخل الأنشطة الاقتصادية مرتبطٌ بالتداخل الديمغرافي، لذا فأيُّ سياساتٍ اقتصادية تنتهجها الهيئة إيجابيةً كانت أم سلبية ستنعكس بشكلٍ غير مباشر على عموم منطقة الشمال السوري، والتعرفة الجمركية بين مناطق الهيئة وباقي مناطق الشمال ظاهرةٌ سلبيةٌ من شأنها عرقلة العمل الاقتصادي والتجاري في المنطقة».
ويرى السيد عمر أنّ قرار منع التصدير الذي أصدرته الهيئة «يؤثر سلباً على الفلاحين في مناطق سيطرتها، باعتبار أن الإنتاج في غالبيته زراعي، وهو يقلل من منافذ التسويق المتاحة لتصريف الإنتاج، كما ينعكس سلباً على مناطق الشمال السوري عموماً، كونه يؤدي إلى نقص في الإمدادات الزراعية والغذائية، ويقود لتشكيل قطاعات اقتصادية منفصلة، ويعرقل أي نمو اقتصادي مستقبلي محتمل، فالقيود الاقتصادية عامل سلبي على عموم المنطقة وعلى المستويين الكلي والجزئي».
ويؤكد السيد عمر أن هيئة تحرير الشام «تريد الاستحواذ على القطاعات الاقتصادية؛ كقطاع تحويل الأموال والمحروقات والمعابر والتجارة لتعزيز سيطرتها السياسية والعسكرية على المنطقة من بوابة الاقتصاد، فلا يمكن إحكام السيطرة السياسية والعسكرية بدون غطاء مالي».
يخشى السكان من النتائج الكارثية الناجمة عن سياسة احتكار السوق من قبل تحرير الشام والدائرة الاقتصادية، والمتمثلة باحتكار بعض السلع الأساسية وقرارات منع التصدير والاستيراد وما يرافقها من موجات غلاء متكرّرة، بينما يتعرض عشرات التجار للإفلاس وبالتالي خروجهم من سوق التجارة، مع ما يعنيه ذلك من فقدان رؤوس الأموال المهمة للسوق. وهي تداعياتٌ تنعكس على الوضع الاقتصادي العام، إذ إنّ خروج التجار من السوق وانعدام المنافسة يؤديان إلى تضاعف معدلات البطالة وخروج المئات من العمال والمزارعين وأصحاب عربات النقل وغيرهم من سوق العمل، وبالتالي انعدام دخل هذه الشرائح الشعبية الواسعة.
كما من شأن الممارسات الاحتكارية تحويل المجتمعات، خاصةً التي تعاني مشاكل معيشية عميقة مثل إدلب، إلى كانتون استهلاكي تعمّه البطالة وأكلاف المعيشة العالية، وهو ما يؤثر أيضاً على الجهات المحتكرة على المدى المتوسط، جراء اضطرار السكان إلى إتباع سياسات تقشفية أكثر صرامةً، وبالتالي العزوف عن الشراء كنتيجة طبيعية لاتساع الفجوة بين الدخل والإنفاق، خاصةً وأن دخل الفرد المياوم في مناطق سيطرة الهيئة لا يتجاوز وسطياً ثلاثين ليرة تركية في اليوم الواحد (2 دولار أمريكي بحسب أسعار سوق الصرف الحالية).
وفي شهر شباط (فبراير) من عام 2021، أصدر فريق منسقو استجابة سوريا، وهو منظمة غير ربحية متخصص بالإحصاء والتقييم، نتائج استبيان يوضّح ارتفاع معدل البطالة شمال غرب سوريا بين 78 و80 في المئة من السكان، مستثنياً الذين يعملون بشكل يومي (نظام المياومة). وأشارت النتائج التي قدمها الفريق إلى أن 11 بالمئة ممن شملهم الاستبيان يعملون، بينما 89 بالمئة عاطلون عن العمل.
والغالب أن نسبة البطالة أكثر ارتفاعاً في الوقت الحالي مما كانت عليه العام الماضي، وذلك جرّاء التغيرات الاقتصادية التي شهدتها إدلب خلال الأشهر الماضية، من تشديد هيئة تحرير الشام قبضتها على القطاعات التجارية الحيوية في إدلب، واحتكارها حتى عمليات نقل البضائع وتوزيعها لأصحاب محلات البقالة، وهو ما أدى إلى خسارة أصحاب سيارات النقل مصادر رزقهم. ثمّ يأتي انهيار الليرة التركية أمام الدولار وما نجم عنه من خسائر كبيرة للتجار على اختلاف طبقاتهم. كما تضرّر القطاع الزراعي الذي يعد مصدر رزق لغالبية سكان منطقة إدلب جرّاء العوامل المناخية وتراخي سلطات الأمر الواقع عن توفير الأدوية والمستلزمات الزراعية.
تجيب السياسات الاقتصادية التي تتبعها هيئة تحرير الشام عن شطرٍ من السؤال الذي يشغل قاطني مناطق شمال غرب سوريا حول أسباب تدهور معيشتهم المتواصل، أما الشطر الثاني من السؤال فهو متعلقٌ بالحكومة السورية المؤقتة التي تواجه الكثير من الانتقادات والاتهامات بفشل إدارتها الاقتصادية والتنموية.