خسرَ حزب الله وحلفاؤه الأكثرية النيابية، وانتهت السنوات الستّ التي استطاعَ الحزب فيها تطويع القوى السياسيّة في «تسويّة» تتجاوز الانقسام بين قوى الثامن والرابع عشر من آذار، ولعبَ طوالها دور ضابط الإيقاع والوصيّ المباشرعلى الحياة السياسيّة اللبنانية. وبينما لا تزال صورة المجلس النيابي الجديد غير مكتملة المعالم، بات ممكنًا الحديث، نظريًا، عن ثلاثة اصطفافات كبيرة في المجلس الجديد، فإلى جانب «الممانعة» ثمّة عودة «السياديين»، وعلى وجه الخصوص حزب القوّات اللبنانيّة ومن عارضوا التنازلات الحريريّة. وقبل هذا وذاك، شهدنا الخرق البارز الذي مثّله «التغييريون» الذين حملوا خطاب انتفاضة 17 تشرين وما تلاها.
مشاكل بالجملة
ليست خسارة حزب الله وحلفائه سببًا للتفاؤل بتبدّل المشهد السياسيّ اللبنانيّ في المدى المنظور، فالسنوات التي مكثت فيها «الممانعة» كأقلية نيابيّة، مكّنتها من تطوير أدوات متنوّعة للسيطرة على المشهد حتى عندما تكون أقليّة، بِدءًا من إرساء فتاوى وتقاليد دستوريّة تتطلب تأمين أغلبيات كبرى (أغلبية الثلثين حضورًا وتصويتًا) في كافة استحقاقات الحياة النيابيّة، مرورًا «بالميثاقيّة»، التي تمّ توسيع مفهومها بشكل مضطّرد ليشمل منح الطوائف حقًا اعتباطيًا في نقض أيّ ملفٍ قيدَ النقاش الحكوميّ؛ وانتهاءً باستخدام السلاح في الشارع عند الضرورة. وفي تصريحٍ ليل الانتخابات لمحمد رعد، رئيس كتلة حزب الله النيابية، أكّد «رغبة» الحزب بالتعاون مع الجميع، إلا أنّه لم يستطِع ضبط نفسه وتأجيل التلويح باستخدام العنف إذا ما لزم الأمر.
يُضاف إلى ذلك أنّ خمس لوائح منتخبة فقط تجاوزت في تمثيلها عشر نوّاب على المستوى الوطنيّ، في حين لم يتجاوز المتوسط العام للوائح أكثر من أربعة مقاعد لكل لائحة. يكشف النظر إلى خارطة توزّع القوى داخل المجلس المنتخب عن متوالية من التمايزات والتعرجات، تجعله أكثر المجالس انقسامًا وتذرذرًا مقارنةً بأي مجلس سابقٍ منذ سقوط النظام الأمنيّ في 2005، وهو ما سيرفع من زخم «التعطيل» بوصفه الأداة الأولى في رسم المشهد السياسي اللبنانيّ.
وبينما من المُرجَّح أن يعود وليد جنبلاط إلى لعب دور الحَكَم المرجِّح في تشكيل «الأكثريات الظرفية» – وهو ما أجاد القيام به منذ إعادة تموضعه في 2011 ولغاية «التسوية» في 2016 – ولا سيّما في الاستحقاقين التاليين، أي انتخاب رئيس مجلس النوّاب وتسمية رئيس الحكومة، فإنّ تصادماته المتكررة مع العونيين، وتصادم هؤلاء الدوريّ مع حركة أمل، يعني الانفراط المسبق لعقد أي أكثرية مستقرّة، لا سيّما أمام الملفات المتعددة التي سيجد المجلس نفسه مضطرًا لمواجهتها – كالموازنة العامة التي لم تُقرّ بعد، والاتفاقيات مع صندوق النقد الدوليّ، وانتخاب رئيس الجمهورية الذي تبدأ المهل الدستوريّة لانتخابه في آخر آب (أغسطس) المقبل، أي بعد ثلاثة أشهر فقط من بِدء ولاية المجلس الجديد.
في صناعة الانتخابات
هل ثمّة ما يستدعي إذًا الفرح والتغنّي بـ«انتصار» ما؟
بعض أوقح رجال الممانعة وأصدقاء بشار الأسد في لبنان سقطوا: إيلي الفرزلي، نائب رئيس مجلس النوّاب والمدافع الفصيح عن السياسات الماليّة والنقديّة المتّبعة؛ فيصل كرامي، المرشح غير المعلن لرئاسة الحكومة في بلاد الممانعة؛ وضيوف بشار الأسد الدائمون: وهّاب وأرسلان وأسعد حردان. في رسوب الأخير أمام فراس حمدان، أحد ناشطيّ انتفاضة 17 تشرين الذي كان قد تعرض للضرب والسحل من قبل شرطة المجلس النيابيّ، ثمة كثيرٌ من البلاغة.
يحقّ لنا كذلك، التغنّي بأنّ شعارات التحريض على اللاجئين السوريين والفئات الأكثر تهميشًا، وخطاب «الجيوسياسة» وتهمه الجاهزة من أموال «السفارات» إلى «منظمات المجتمع المدني»، وهو ما كان موضوعة الدعاية الانتخابية الوحيدة تقريبًا لأقطاب الممانعة، قد بدت في ظلّ النتائج قوقعة فارغة. كما لم تساهم الدعوات الحثيثة لدعم الممانعة، واعتبار الاقتراع للممانعة «جهاداً» ووصفه بـ«أكبر فرائض الله»، في رفع سويّة التصويت العام في المناطق التي تشكّل بيئتها التقليدية الحاضنة. وبينما لم تنحرف نسب الاقتراع بشكل ملحوظ عن المتوسط العام على مستوى الدوائر سوى في صيدا والمنية – الضنية، وهو ما يمكن تفسيره كاستجابةٍ لدعوة سعد الحريري إلى المقاطعة، بلغت نسبة المشاركة في الاقتراع تبعًا للبيانات النهائية لوزارة الداخلية، 46.7% بتراجع طفيف عن النسبة في الانتخابات السابقة التي بلغت 49.1%.
في التحليل، هناك ما يشي بانزياح عميق لآلية أو «صنعة» الانتخابات اللبنانيّة – فالعملية الانتخابية في لبنان لم تكن يومًا عملية فرديّة، مواطنيّة، مستقلّة، يستفتي فيها المواطن ضميره في الصندوق، بقدر ما هي نتاج شبكة ضخمة من «العائلات» على المستوى القاعديّ، تلقي بثقلها بشكل جماعيّ خلف «شخصية» مؤثرة، حزبيةً كانت أو «شبه» حزبية، ودون كثيرٍ من الاعتبار لمواقفها السياسيّة أو الاقتصاديّة، في مقابل تأمين هذه الأخيرة لقاعدتها منافعًا وخدماتٍ في الإدارة العامة أو عبرها. هكذا، انطبعت الانتخابات اللبنانية على الدوام، بمفاهيم مثل «دور المخاتير» و«فعّاليات المناطق» و«المفاتيح الانتخابيّة» و«القدرة التجييرية». وعلى ما يبدو، فإنّ الشبكة الخدماتيّة هذه قد اهترأت إلى درجة معتبرة بحكم الأزمة الاقتصاديّة والعطالة السياسيّة في مقاربتها، وهو ما يُمكنه تفسير تراجع الإقبال (بدل اشتداده في أوقات التأزم) من جهة، وفوز أحزاب السلطة في غير دائرة بهوامش ضئيلة من جهة ثانية، وصولاً إلى «خروق» المجتمع المدنيّ العديدة وغير المسبوقة من جهة ثالثة في كامل المناطق اللبنانيّة (عدا، وبشكل لافت، أحد أفقر المناطق اللبنانية أي عكار، وأحد أغناها أي جبل لبنان الشمالي).
ذلك من شأنه أيضًا أن يقدّم تفسيرًا لفشل «استطلاعات» الرأي، التي لم تتمكن من استشراف أية تغييرات جديّة في تركيبة المجلس، بل ذهبت في الغالب لاعتبار أنّ انسحاب الحريري سيعزز من أكثرية حزب الله وحلفاءه. وبالنظر إلى أن هذه «المفاتيح الانتخابية» و«شخصياتها» من ضمن الإرث المستمرّ للإقطاع اللبنانيّ، وأزمنة مناطق النفوذ والسيطرة في الحرب الأهلية، فإن تفتّتها وتداعيها نحو «صناعة» انتخابيّة أوفر تحررًا من الشبكات الزبائنيّة والمصالح الخاصّة، هو دون ريب الإيجابية الكبرى التي تمخّضت عن الانتخابات على مستوى الانزياحات القاعديّة البطيئة.
تحدّي «الاستمرارية»
خرقُ «التغييريين» هو التبدّل الأبرز في خارطة توّزع القوى في المجلس النيابي منذ انتخابات 2005، لكن استمراريته، وضمانة عدم امتصاصه ضمن أحزاب السلطة المختلفة، سيتطلب بناء تفاهمات وإرساء قواسم مشتركة صلبة بين أقطابه. يصعب مثلاً، على المستوى السياسيّ في الآن الراهن، استقاء موقفٍ موحّد من قضايا الاستقطاب – كآلية التعامل مع الإفلاس اللبنانيّ، والحكم من خارج المؤسسات، وسلاح حزب الله، والتطبيع مع بشار الأسد.
وما يزيد من صعوبة تكوين الصورة، أنّ «قوى التغيير» قد خاضت الانتخابات بعد الفشل في الاتفاق على لوائح مشتركة حتى على مستوى الدوائر الصغرى، وثمة بالتأكيد مقاعد عدّة ضاعت حواصلها الانتخابية بنتيجة حالة اللا-توافق هذه، وأقربها مثالاً دائرتا المتن الشمالي وبعبدا حيث حالت دون إحداث الخرق هوامشُ ضئيلة لم تتجاوز فواصل النقطة المئوية الواحدة. المقاعد الثلاثة عشر التي استطاع المجتمع المدني تحصيلها، أيضًا، تعود فعليًا إلى ستة لوائح مختلفة وحزبين، وهو ما يبدو عددًا كبيرًا حتى بالمعايير اللبنانيّة.
ليس المطلوب أن تأتلف قوى التغيير اعتباطًا على طريقة الأنظمة الشمولية، لكنّ البرامج وآلية العمل وشكل التعاطي مع سائر الكتل النيابية «التقليدية» هو ما سيحدد ما إذا كان الخرق ظاهرة اعتراضية مؤقتة و«تصويتاً عقابياً»، أم أنه تحوّلٌ في انتفاضة 17 تشرين و«الوطنية اللبنانية» المنبثقة عنها نحو منهجٍ مؤسساتيّ قابل للاستمرار والديمومة، في وسعه أن يؤمّن للبنانيين، عاجلاً أم آجلاً، تجاوز ما بقيَ من الحرب الأهلية، وزعاماتها، وطقوسها، وسلاحها.
(لمشاهدة الصورة بالحجم الكامل)