لا تزال المذبحة المروعة التي ارتكبها عناصر تابعون للنظام السوري في حي التضامن عام 2013، والتي كشف تحقيقٌ بعنوان قرابين التضامن عن أبرز تفاصيلها وهوية مرتكبيها، تثير كثيراً من النقاشات والتساؤلات ومشاعر الغضب والحزن في أوساط السوريين وأوساط المهتمين بالقضية السورية. وقد استضافت الجمهورية مساء أمس الأربعاء 11 أيار (مايو) 2022، الباحثَين أنصار شحود وأور أونغر اللذين أنجزا التحقيق، والباحث مهند أبو الحسن أحد مترجمَي النسخة العربية التي نشرتها الجمهورية.نت، للحديث عن جوانب أساسية من هذه النقاشات.
أدار الزميل عروة خليفة النقاشات، التي بدأت بتقديم الباحث أور أونغر عرضاً مختصراً للعمل على إنجاز التحقيق، شرح فيه أنهم اختاروا منذ البداية التركيز في تحقيقهم على كشف هوية مرتكبي المذبحة كي لا تبقى هذه الجرائم منسوبةً إلى مجهولين، بحيث يمكن للمسؤولين التنصّل من مسؤوليتهم عنها. ويقول أور خلال النقاش إنهم اختاروا طريقة «البحث الاستقصائي المتخفّي»، للتمكن من التواصل مع الجناة عبر خداعهم، لأن هذه الطريقة، التي قد يعتبرها البعض غير أخلاقية، هي الطريقة الوحيدة الممكنة للكشف عن مرتكبي مذابح تنفّذها أنظمة إجرامية مثل النظام السوري.
في جوابها على سؤالٍ حول مراحل العمل على كشف الجناة، تقول أنصار شحود إن العملية بدأت من خلال ملاحظة الفوارق في اللباس العسكري بين مرتكبَي الجريمة الظاهرَين في الفيديو، ما يعني احتمال تبعيتهما لجهتين مختلفتين. جرى التركيز بصورةٍ أساسية على فرع فلسطين وفرع الدوريات، ولكن بعد بحثٍ طويل، تبيّنَ أن الفرع 227 التابع للمخابرات العسكرية هو المسيطر على المنطقة، وبالصدفة تم الوصول إلى أمجد يوسف عبر حسابه على فيسبوك. تضيف أنصار: «في ذاك الوقت، كانت شخصية آنّا الوهمية قد بدأت منذ عامين بالتعرف على مجموعة من المجرمين وإجراء مقابلاتٍ معهم، ثم تم استخدامها للتواصل مع أمجد».
ولكن هل كان لدى آنا شخصية واحدة؟ أجابت أنصار شحود أن «شخصية آنا كانت تتغير بحسب الحاجة وبحسب إطار العمل وطبيعة المجموعات التي نقابلها، وعلى هذا الأساس، وبشكل نسبي، كنا نرسم شخصيتها. هي شخصية تحمل اسماً واحداً، ولكن مواصفاتها تتغير بحسب الشخص الذي تلتقيه، وذلك بعد دراستنا لحسابه على فيسبوك والمجموعة التي ينتمي لها».
وعن المخاطر النفسية والأمنية لهذا العمل تجيب شحود: «كنا قد عملنا سابقاً على إجراء مقابلات مع عناصر مخابرات، ولكنها مقابلات معدودة على الأصابع. نحن هنا إزاء جهاز سرّي قادر على الوصول إلى معلومات عن أي أحد إذا قرَّرَ ذلك، وكان أحد مخاوفنا الكبيرة أن يفكر أمجد بالبحث عن آنّا». تشرح شحوّد كيف أنهم قرروا الحديث معه رغم ذلك، وكيف أنه كان عليها «الحرص في كل تفصيلٍ تناقشه معه». أما عن الصعيد النفسي، فتقول أنصار: «كنا نشاهد إنساناً سبق لنا رؤيته يقتل، وتمكنّا من الوصول إليه وإقناعه بالكلام بعد صبر. كان الفارق الزمني بين أول حديث مع أمجد والثاني عدداً من الأشهر، وذلك حتى كسبنا ثقته وتمكنا الحديث معه دون حواجز وهو مرتاح. تطلَّبَ هذا منا مرونةً مضاعفةً، كأن نتحدث إليه في الساعة الثانية ليلاً. هذا النوع من البحث تطلَّبَ مني العيش مع شخصية مختلفة، والتقلب بين شخصيتي الحقيقية وشخصية آنا المختلفة تماماً، ولهذا بالطبع انعكاسات نفسية كبيرة».
أيضاً، أجاب مهند أبو الحسن عن أسئلة متعلقة بمعايير ومتطلبات، عملية وأخلاقية، لهذا النوع من العمل الاستقصائي. يقول أبو الحسن إن «سلامة الباحث وسلامة المتعاونين معه شرطٌ أساسي، إذ ينبغي أن نكون شديدي الحرص من خلال استخدام وسائل تواصل آمنة وغير قابلة للاختراق». يحتاج هذا العمل أيضاً بحسب أبو الحسن إلى فهم النظام الحيوي أو البيئة التي يتم البحث في نطاقها: «كان من الصعب الوصول إلى أمجد يوسف ونجيب الحلبي دون فهم طبيعة العلاقات بين هؤلاء الناس واللغة المستخدمة بينهم ودلالات اللغة التي يتخاطبون بها. إن فهمَ النظام الحيوي للأفراد والمؤسسات هو شيءٌ أساسيٌ يُجنّبنا الوقوع في معلومات مضللة، لأن الشخص المُقابل، عن قصد أو دون قصد، قد يعطي فهمَه أو استنتاجاته لما نحن بصدد السؤال عنه وليس المعلومة الحقيقية».
يقول مهند إن الأسئلة الأخلاقية الصعبة تحضر دائماً: «رغم أن أمجد شخصٌ قاتل، فإننا قررنا الكشف عن اسمه قبل النشر ببضعة أيام فقط، لأننا سألنا أنفسنا: هل من حقنا تعريض أمجد للقتل؟ فالنظام قد يقتله مباشرةً. هذا مثالٌ عن جدالاتٍ كثيرة حدثت قبل النشر». يضيف أيضاً: «إن قواعد هذا النوع من العمل الصحفي لم يتم الاتفاق عليها بعد، وهناك محاولات جادة لوضع قواعد أخلاقية بشأن ما يمكن استخدامه من أدوات، وإلى أي حد يحق للصحفي التعدي على خصوصية الآخرين. لكن يمكنني الإشارة إلى ثلاثة معايير أساسية الآن: الأمان وفهم البيئة والالتزام بالمعايير الأخلاقية».
أثار التحقيق بعد نشره نقاشاتٍ حول المسألة الطائفية ومدى حضورها في التحقيق وفي تفسير دوافع القتلة، وعن هذا تقول أنصار شحود إن الطائفية كانت أحد الأسباب الدافعة لارتكاب الجرائم في حي التضامن، ولكنها ليست السبب الوحيد: «هذه الجريمة أتت نتيجة عدة دوافع، ويمكننا التمييز بين دوافع السلطة السياسية ودوافع الأفراد المُنفذين». ترى شحّود أن الأفراد لديهم مزيجٌ من الدوافع السياسية والطائفية، بالإضافة إلى الخوف: «وقعت المجزرة في منطقةٍ تحت سيطرة النظام، والضحايا من منطقة تقع بين مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة فصائل المعارضة. يبدو إذن أن القتلة اعتبروا ضحاياهم أناساً غير أهلٍ للثقة، ومن المحتمل أن يصطفّوا مع الأعداء، وذلك طبعاً نتيجة الخلفية السنيّة لهؤلاء الضحايا. إذن البعد الطائفي أساسي، ولكنه ليس الوحيد». بالنسبة لأمجد مثلاً، تقول شحود إنه لم يُبدِ أيّ دافعٍ طائفي: «بالعكس، هو أصرّ على أن عمله اتّباعٌ لأوامر المؤسسة، ولم يُقدِّم خطاباً طائفياً، كما لم يكن هناك في الفيديوهات نفسها خطابٌ طائفي. ولا نستطيع أن ننسى أن قسماً من مرتكبي المجزرة من السنّة، مثل السعيدي وكثيرين من الشبيحة غيره. وبالعموم، يبدو البُعد الطائفي أكثر وضوحاً لدى الشبيحة من الدفاع الوطني، مثل أبو منتجب». أما النظام نفسه، فلديه أيضاً مزيجٌ من الدوافع الطائفية والسياسية والاقتصادية بحسب أنصار شحود، من بينها «التغيير الديمغرافي للمنطقة»، و«الاستيلاء على الملكيّات فيها».
ثمة سؤالٌ أيضاً عن اختيار فريق البحث للتركيز على التضامن، فيما لدينا منطقة كبيرة هي جنوب دمشق، فيها بالإضافة للتنوع السوري الشديد حضورٌ كبيرٌ للاجئين الفلسطينيين من سكّان مخيم اليرموك ومحيطه، والأرجح أن بين ضحايا المجزرة كثيرين من أبناء مناطق أخرى، بما في ذلك مخيم اليرموك. عن هذا قالت أنصار شحود: «المميز في حي التضامن أنه كان تحت سيطرة النظام السوري، وهذا يُرينا مجازر مستمرة ممنهجة ارتُكبت في مناطق النظام دون وجود نزاع أو عمليات قتال. المجازر تمت بين عامي 2013 و2015، وشهد الموقع ذاته مجازر أخرى في هذه الفترة، فضلاً عن وجود سجون سرية. ولم يكن فقط أهالي المنطقة يُحتجزون في هذه السجون، وإنما جميع الحواجز المحيطة بالمنطقة كانت تعتقل وتسحب المعتقلين إلى داخل حي التضامن، ما جعله البيئة الأساسية لعملية العنف. السجون كانت في التضامن، والتعذيب حصل في التضامن، وعمليات القتل كانت في التضامن. بحسب المقابلات التي أجريناها، فإن المستهدفين بهذه المجازر كانوا في غالبيتهم من هذه المنطقة والمناطق المحيطة بها، مثل مخيم اليرموك ودفّ الشوك. إذن يتضح أن المستهدفين مدنيون مقيمون في مناطق سيطرة النظام، وهذا يختلف عن تصور سياسي سابق بأنّ من اختاروا البقاء في مناطق سيطرة النظام كانوا في مأمن من المجازر».
أدّت عملية الاستقصاء الطويلة إلى كشف شخصية شريك أمجد في ارتكاب المجزرة، نجيب الحلبي، وكشف مسؤولين آخرين عن المجزرة هم شركاء وقادة أمجد ونجيب. وعن أهمية ذلك قال أور أونغر إن أغلب النقاشات خلال وبعد نشر التحقيق ركزت على بشار الأسد كمسؤولٍ عن المجزرة وعلى أمجد كمنفذٍ لها، ولكن بينهما سلسلة يمكن تسميتها بالإدارة الوسيطة، وهي سلسلة قيادة من جهتين: المخابرات والشبيحة، وكل فرد من هذه السلسلة يعمل مع جهة أخرى أعلى منه، وبشكلٍ متصاعد حتى نصل إلى بشار الأسد. يوضح أونغر: «هذه السلسلة تنفي أي ادعاءاتٍ بأن هؤلاء المجرمين يعملون من تلقاء أنفسهم ولا يأخذون أية توجيهات أو أوامر من النظام، لأن هناك روابط بين مرتكبي الجريمة والقيادة العليا وصولاً إلى أعلى المستويات. وهكذا نرى كيف أن أمجد يوسف ونجيب الحلبي ليسا فردين، ولكنهما يمثلان المخابرات والشبيحة كأجهزة».
وعن سؤالٍ حول الفارق بين مجزرة التضامن ومجازر أخرى موثّقة في أماكن أخرى من العالم، أجاب أونغر أنه «عندما قامت ميليشيا صربية بإعدام بوسنيين، وتم تسريب ذلك وعرضه، كان قائد تلك الميليشيا يصوّر جريمته بمبادرةٍ شخصيةٍ منه. وما يجعل مجزرة التضامن مختلفة هو أنها تشرح كيف أنه لم يسبق لنظام ارتكاب هذا الكم من المجازر، والقيام بأرشفتها بنفسه مع كامل فظاعتها. الاختلاف في سوريا وفي مجزرة التضامن هو أن الكاميرا والكمبيوتر الخاصين بفرع المنطقة قد قاما بأرشفة ذلك بشكلٍ مُنظَّم، وهذا مختلفٌ عن تاريخ مجازر الإبادة التي نعرفها».
تنوعت الأسئلة التي وجهها الحضور للباحثين، وتنوعت النقاشات التي أثيرت على خلفية هذه الأسئلة. وكان من بينها سؤال عن الفترة التي تدرَّبَ فيها أمجد، ومن هم في مثل عمره وموقعه، على القتل، خاصة أنه كان في أواسط عشرينياته مع قيام الثورة، وهو من جيل لم يشهد مذابح النظام السوري الأولى في الثمانينات. عن هذه النقطة قالت أنصار شحوّد إن أمجد عنصرٌ في المخابرات منذ كان في الثامنة عشرة من عمره، وهو مُدرَّبٌ على العنف وممارسة التعذيب منذ ما قبل الثورة بوصفه محققاً في المخابرات، و«التعذيب يحتوي عنصراً قد يكون أصعب من القتل، وهو التماسّ المباشر مع جسد الضحية لفترةٍ أطول»، ثم جاءت مرحلة الثورة وممارسة العنف الواسع ومقتل شقيقه، ما جعله مستعداً للانخراط في أعمال قتل ممنهجة مثل هذه.
أسئلةٌ عديدة أثيرت مراراً حول عائلات الضحايا والمغيبين، وحول ضرورة تقديم العون لهم في محاولاتهم لمعرفة ما إذا كان أبناؤهم من الضحايا الظاهرين في هذه الفيديوهات، وكيفية تقديم هذا العون دون أن يكون الأهالي مضطرين للبحث في فيديوهات بالغة القسوة كهذه بأنفسهم. وعن هذا السؤال قال أور أونغر إن دورهم كباحثين لا يتضمّن التعرّف على الضحايا، لأنهم غير قادرين على القيام بهذه المهمة التي تحتاج إمكانياتٍ لا يمتلكونها، كما أن تصديهم لهذه المهمة بأنفسهم قد يؤدي إلى أخطاء كارثية في تحديد هوية الضحايا، مضيفاً أن الفيديوهات كلها باتت في عهدة الشرطة والمدعين العامين في عدة دول أوروبية، ويتم العمل الآن على إطلاق آلية للتعرّف على الضحايا.
أثير نقاشٌ واسع أيضاً بشأن حديث أنصار شحود عن المجرم أمجد يوسف، عندما قالت إنه بدا من خلال الأحاديث التي أجرتها معه «شخصاً عادياً»، بمعنى أنه لم يُظهِر خللاً نفسياً ولا شخصية «سايكوباثية»، كما قالت إنه كان ينفذ مهمةً موكلةً له بوصفه جزءاً من مؤسسة ترتكب هذه الأعمال بشكل ممنهج. كان هناك وجهات نظر ترى أنه لا يمكن الحديث عن أجهزة النظام السوري بوصفها مؤسسات بيروقراطية لإنتاج العنف، وأن هناك مواصفات ودوافع شخصية ومعها بنى أهلية جعلت أمجد وأمثاله قادرين على ارتكاب هذا النوع من الجرائم، كما ذهبت بعض المداخلات إلى التأكيد على أن أمجد كان مستمتعاً ومسترخياً أثناء ارتكاب جريمته، بحيث يصبح وصفه بأنه شخص «عادي» أمراً غير صائب. وقالت أنصار شحّود رداً على هذه المداخلات إنها سجّلت هذه الملاحظة بناءً على محادثاتها مع أمجد، وإنها وصلت إلى خلاصات تقول إن أمجد «صُنِعَ ليقتل. خضع لعملية تدريب على كيفية التعذيب والقتل»، مضيفةً إن «العادية» التي كانت تبدو على أمجد أثناء الأحاديث التي أجرتها معه يمكن تفسيرها بالنظرية التي تقول إن هذا النوع من القتلة «لديه حياتان: الحياة العادية والحياة التي ينفّذون فيها أوامر القتل».
لم يكشف تحقيق قرابين التضامن سوى عن مذبحةٍ واحدةٍ راح ضحيتها 41 مدنياً، قتلهم عناصر النظام السوري وأحرقوهم في حفرةٍ جماعية ووثّقوا جريمتهم بالفيديو، وهذا الفيديو واحدٌ فقط من أصل 27 فيديو آخرين، يوثّق فيها المجرمون عمليات قتل 288 ضحية في المنطقة نفسها. يعطينا هذا تصوراً مؤلماً عن حجم الفظاعة المُرتكبة في سوريا على يد النظام الأسدي، وعن أعداد الضحايا الكثيرين الذين لم نصل بعد إلى أي معلوماتٍ حولهم في أنحاء البلد كلّه، كما يظهر جلياً أن المجرمين من أمثال أمجد يوسف ونجيب الحلبي أكثر وأشد إجراماً مما نعتقد بكثير. إن معركة العدالة والحقيقة طويلة جداً، وستتكشّف عن كثيرٍ من المذابح وكثيرٍ من المجرمين، ولا مفرّ من خوضها حتى النهاية.