منذ خمسينات القرن الماضي بدأ الاهتمام يتركز على موضوع التلوث الضوئي (Light Pollution)، الناجم عن الاستخدام المفرط للإضاءة الصناعية، وذلك بسبب تأثيراته الضارة على الإنسان والحيوان والنبات. كما أنه يُعدّ مشكلة لعلماء الفلك وهواة الرصد الفلكي، لأنه يمنعهم من رؤية النجوم والأجرام السماوية.
بموازاة ذلك، نستطيعُ، نحنُ السوريون، اليوم وفي السنوات الماضية، الحديث عن «التلوّث بالعتمة»، دون أن يكون المقصود استعارةً كلاميةً لوصف واقع سياسيّ مظلم – وهو كذلك – ولا عَمَاء العالَم عن مأساتنا المتروكة في قعرٍ حالكٍ – وهي كذلك – بل نقصد به هنا أن بيوتنا وشوارعنا، مدارسنا وجامعاتنا ومشافينا، قرانا ومدننا كلها، من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب، غارقة في ظلامٍ شبه كامل. وأن حياتنا وأيامنا باتت ملوّثة بالعتمة مع الانقطاع شبه الدائم للتيار الكهربائي.
في ثمانينات القرن الماضي تأسست الجمعية الدولية للسماء المظلمة (International Dark-Sky Association)، وأصبح لها عشرات الفروع في أنحاء العالم. حتى أن دولاً كثيرة قامت بإنشاء حدائق ومحميّات للسماء المظلمة. والمفارقة هنا، أن منطقتنا العربية التي تغرق فيها ثلاث دولٍ على الأقل في العتمة، سوريا ولبنان والعراق، نتيجة أنظمة الفشل والفساد والاستبداد الحاكمة فيها، تضمّ حديقة مظلمة واحدة أنشأتها دولة الاحتلال الإسرائيلي في وادي الرمّان في صحراء النقب.
سوريا في عتمة الظلام
في ورقة عمل للشبكة الأورومتوسطية للدراسات الاقتصادية، بعنوان سوريا في عتمة الظلام، نُشرت في 4 آذار (مارس) 2020، قامت الباحثتان جورجيا جيوفانيتي وإيلينا بيرّا بتقدير الدمار الاقتصادي الذي شهدته سوريا من خلال الإضاءة الليلية المأخوذة من صور الأقمار الصناعية، لتستنتجا أن الوضع أكثر سوءاً مما تورده الإحصاءات الرسمية، في إحدى الصور التي تعود إلى العام 2018 تبدو سوريا وكأنها معتمة تماماً.
وكانت شبكة بي بي سي قد نشرت في العام 2017 ثلاثة فيديوهات لكل من دمشق وحلب والرقة بناء على صور أقمار صناعية لوكالة الفضاء الأميركية ناسا، بين عامي 2012 و2017، تُظهِرُ التراجع الكبير في إضاءة هذه المدن حتى العتمة الكاملة.
بالمقابل، يكتفي المسؤولون السوريون، كعادتهم، باجترار حديث «النصر»، كما في مقابلة على الفضائية السورية لمدير عام المؤسسة العامة للكهرباء يتحدث فيها عن «تحقيق النصر بصناعة الغاز، والنصر بصناعة الكهرباء»، علماً أن ساعات تقنين التيار الكهربائي تصل في مناطق كثيرة إلى 20-23 ساعة يومياً!
العتمة الباهرة
في ليالٍ كثيرة، عندما تأتي الكهرباء بعد انقطاع طويل، تجدنا ننشغلُ باستغلال وجودها المؤقّت كحدثٍ فريدٍ ونادر، فنسارع إلى تشغيل مضخات المياه، وشحن بطاريات الإنارة، وشحن بطاريات الموبايلات واللابتوبات. وأيضاً تسخين المياه للاستحمام؛ فهذا الفعل اليومي البسيط كما هو مفترض، أصبح أسبوعياً لدينا! وتشغيل غسّالة الثياب التي لن يُتاح لها إنجاز مهمّتها كاملة على كل حال، أو كيّ الملابس، أو إكمال طبخة على السخّان الكهربائي في ظل فقدان أسطوانات الغاز المنزلي، أو الحصول على قسط من الدفء مع ندرة وغلاء المازوت للمدافئ، أو الاكتفاء بالجلوس في إضاءة جيدة للقراءة أو الكتابة. لتُذَكِّرَ حالتنا بذلك المقطع من رواية تلك العتمة الباهرة للكاتب المغربي الطاهر بن جلّون، الذي يصف المرّات القليلة التي كان عزيز يخرج فيها من عتمة الزنزانة إلى ضوء الشمس:
«طوالَ ساعةٍ أو أقل، أبقيتُ عينيَّ مفتوحتين، وفمي فاغراً، لكي أتجرّع ما أمكن من الضوء، لكي أتنشّق الضياءَ وأختزنهُ في داخلي، وأحفظه ملاذاّ لي فأستذكره كلما أطبقت العتمةُ ثقيلةً فوق جفنيّ. أبقيتُ جذعي عارياً لكي يتشبّع جلدي بالضوء ويختزنهُ كأثمن ما يُقتنى».
حنينٌ إلى الضوء
في ليالينا المعتمة المتكرّرة، سيبدو تساؤل محمود درويش في قصيدته حنين إلى الضوء ترفاً يغيظنا، نحنُ لا الليل! فنحنُ، وإن كنّا مثل الشاعر نتحرّقُ شوقاً لرؤية وجه من نحبّ «حين يغسلهُ الشعاع»، لكننا نأملُ أن يكون هذا الشعاع آتياً من ضوءٍ أسطع قليلاً من ضوء شمعتين!
تلعب حاسة الإبصار دوراً كبيراً في حياتنا، فمن ضمن المستقبلات الحسيّة الأخرى، تأتي العينُ كامتداد للدماغ، وهي ممر رئيسي للمعلومات، كيما نُشكّل إدراكَنا الحسيّ عن العالم من حولنا. وتلعب النمذجة البصرية دوراً في عملية المعرفة لدينا. فماذا نقول ونحنُ مُبصِرون لكننا نحيا عَماءً قسريّاً بسبب كل هذا الظلام الذي يلفّ حياتنا في هذه البلاد؟ نعم، هي جنّة العَمَاء السورية وفق تعبير الكاتب الصحفي راشد عيسى.
الدلالات التي تمنحها اللغة العربية شديدة الوضوح بربط الظلام، بوصفه انعداماً للضوء وغياباً للنور، بالظلم، بمعنى الجور والتعدّي، وما هو عكس الإنصاف والعدل، وبلادنا ترزح تحت ظلمةٍ وظلمٍ مَديدَين. يُقال في الموروث «مَن شابَه أباه فما ظَلَم». أما عندما يكون الأبُ هو حافظ الأسد – أو حافظ الأسى كما سمّته والدة غسّان الجباعي – فسيكون شَبَهُ الابن بأبيه ظلمُاً وظلامٌاً كابوسياً يخيّم فوق البلاد وأهلها.
ولأنّ الطغاةَ يتشابهون، فشِبهُ الشيء مُنجَذبٌ إليهِ كما يخبرنا المتنبّي، ترانا نشعرُ بقَرَابةٍ ووحدة حالٍ مع الشعوب التي عانت من ظلامِ حُكم المستبدّين. نتأمّل تجاربهم ومعاناتهم وتضحياتهم، ونتفكَّرُ في كيفيّة معالجتهم لآثار الخراب العَميم الذي خلّفته عقود الاستبداد.
المخرج التشيلي باتريسيو غوزمان، أنجز في مسيرته قرابة ثلاثين فيلماً موضوعها الأوحد بلده تشيلي خلال فترة حكم الديكتاتور أوغستو بينوشيه (1973-1990). في فيلمه التسجيليّ البديع حنين إلى الضوء (2010)، الذي صوّره في صحراء أتاكاما في تشيلي، نرى كيف يجتمع علماء الفلك وعلماء الآثار وأهالي ضحايا الديكتاتور بينوشيه، ليبحثوا جميعهم عن «الماضي». علماء الفلك يلتقطون بتلسكوباتهم ضوء النجوم والمجرّات ليبحثوا في ماضي الكون الذي يعود لآلاف ملايين السنوات، بينما يتتبّع علماء الآثار رسومات الرعاة الكولومبيين وآثارهم التي تعود إلى آلاف السنوات، في حين أن زوجات وشقيقات المعتقلين السياسيين يبحثن في الماضي القريب من تاريخ بلدهم، حيث يُنظّمنَ رحلات سيرٍ على الأقدام بجوار شاكابوكو، أكبر معسكر اعتقال في عهد بينوشيه، للبحث عن بقايا عظام أحبّائهم وأقربائهم الذين دفنوا في مقابر جماعية مجهولة في رمال صحراء أتاكاما.
ليس أن الديكتاتوريتين العسكريتين، في سوريا وتشيلي، وصلتا إلى الحكم في الفترة نفسها تقريباً، مطلع سبعينات القرن الماضي. وليس أن لمعتقل شاكابوكو نظيراً سورياً، يفوقه فظاعةً، في تدمر، وكونهما وسط منطقتين تضمّان آثاراً من تاريخ البلدين القديم، ليغدوا مَعلَمين أساسيين في تاريخهما الحديث! وليست المقابر الجماعية المجهولة لضحايا الاعتقال السياسي في صحراء أتاكاما ومثيلاتها في الصحراء السورية. ليست كل تلك التشابهات، فقط، ما يجعلنا نتلقّى بحساسيّة مختلفة، في عتمتنا الحاليّة، حنينَ غوزمان إلى الضوء. بل أيضاً مقاربته آثار الديكتاتورية، التي تبقى ماثلة في وجدان الشعوب لقرنٍ من الزمان، وتحتاج وقتاً طويلاً كي تزول وكي نشفى منها. في مقابلة معه، تعود للعام 2015، يقول غوزمان: «من أجل الحديث عن الإبادات التي حصلت عبر التاريخ الحديث، من سوريا إلى الأرجنتين ففلسطين وتشيلي، والعبور بها إلى التراجيديا المطلقة، من المهم جداً بالنسبة إليَّ كسينمائي اللجوء إلى لغة الاستعارة. الاستعارة أكثر تعبيراً عن آلامنا من أي وسيلة سرديّة أخرى. هي تقول ما لا يتمكّن من قوله أيّ طرح مباشر».
الليل والقنديل
لقد عُدنا في سوريا، خلال السنوات الماضية، ونحنُ في القرن الواحد والعشرين، إلى استخدام أكثر وسائل الإضاءة بدائيّة، كالشموع والفوانيس والقناديل. ومع ضوئها الشحيح الذي لا يكاد يبدّد عتمة ليالينا الطويلة، نستذكر محفوظاتنا من أعمال غنائية شكّلت ذائقتنا وأثْرَت مخيّلتنا لتغدو أحد مكوّناتنا الثقافية، وأقصدُ هنا تجربة فيروز مع الأخوين رحباني. ومع أن النهايات التصالحيّة في مسرحهم الغنائي لا تفيدنا كثيراً في مقاربة مشاكل بلدنا، من حيث أن الرؤية في أعمالهم هي رؤية مثاليّة رومانسيّة تقوم على الحنين إلى الفردوس المفقود، حيث الخير يهزم الشرّ في نهاية المطاف، والعدل والمصالحة ينتصران دائماً، كما تقول خالدة سعيد في كتابها يوتوبيا المدينة المثقّفة. مع ذلك، تحضر إلى أذهاننا مسرحية الليل والقنديل التي تقوم قصّتها على الصراع بين الضوء والعتمة، لينتهي النزاع بانتصار النور على الظلام كما هو متوّقع، وإن كان ذلك بتسويةٍ تؤدّي إلى تعايش قسريّ، حيث يحيلُ الأمر مجدداً إلى تداعيات المعجزة، بل إلى الإيديولوجيا المأزومة، وفق الباحث فواز طرابلسي في كتابه فيروز والرحابنة، مسرح الغريب والكنز والأعجوبة. لكن طرابلسي نفسه يختم كتابه بقوله: «من يحقّ له إعلان وقف الانتظار الخلاصيّ الذي هو سلاحُ المقهورين والمحرومين. وإن الانتصار ليس في أي حالٍ منوعاً من منوّعات الاستسلام للقدر».
إذن، لا بأس أن نردّد مع مَنتورة، وهي تبشّرنا مع أهالي ضيعتها:
«بكرة الضوّ بيغلُب هَوْلُو، وببحَيرات اللّون بيغرَق».
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلي
رغم أن امرؤ القيس كان يدرك حقيقةَ أنه بعد ليلٍ طويلٍ مثقَلٍ بأنواعِ الهموم والابتلاء، لن يكون الإصباحُ منه راحةً وسلاماً مباشراً، فتَبِعات الظلمة وأهوالها ستترك أثراً لن يزول بسهولةٍ، لكن ذلك لم يجعله يقبلُ مفاضلةً بين الضوء والظلمة، أو يتصالح مع الليل والعتمة، فيقدّم حديثه بطلبِ انجلاء الليل الطويل.
في قواميس اللغة العربية: العَتَمة، بفتح العين والتاء، هي ظلمة الليل، أو الثلث الأول من الليل، وجمعُها عَتَمات. وفعلها: أعتَمَ أي أظلمَ وذهبَ ضوءه. وعَتَمَ الليل: أظلم، مرّ جزء منه، أو مرّ الثلثُ الأول منه. وعَتَّمَ الشيء: أخّرهُ وبطّأهُ. وعتَّمَ على الخبر: أخفاه وتجاهله. أما سياسة التعتيم: سَتر الحقائق وشؤون البلاد عن الرعيّة والتكتّم في اتخاذ القرارات الهامة والخطيرة.
نرى أن جميع مفردات العتمة، باشتقاقاتها، أسمائها وأفعالها وصفاتها، تنطبق على أحوال بلادنا البائسة.
وإذا كان الأستاذ نجيب الريّس أخبرنا أن «ليس بعد الليلِ إلا مجدُ فجرٍ يتسامى»، نتطلّع اليوم، نحن السوريون، بعد أكثر من نصف قرن من حكم الأب وابنه، وبعد أكثر من عقد على الانتفاضة ضد عتمة هذا الليل الطويل، نتطلّع ونتوق إلى يومٍ سيتاح لنا أن نقول فيه: «عَتَم الليل ومرّ الثلث الأخير منه».