تتشابه مصائر السوريين في الشتات على بعض المستويات، لكنّها تتباين بشكل بادٍ على مستويات أخرى؛ فهي، على سبيل المثالِ، متشابهةٌ من حيث البعد القسري عن المكان واللغة والثقافة الأولى، وكذلك من حيث التحديات الحتمية في سياق تثبيت الأقدام على أرض المكان واللغة والثقافة الجديدة. كما أنها متشابهة، بهذه الدرجة أو تلك، من حيث المشقّة المرتبطة بالاغتراب وشجونه، وبالعلاقة الإشكالية مع الذاكرة وتفاصيلها المُعدَمة بقسوةٍ وعجالةٍ يصعبُ على المرء تفسيرها. لكن ثمة عوامل أخرى أيضاً، كالفئة العمرية أو السوية العلمية أو المجال المهني، تساهم بدورها في تقريب أو تفريق هذه المصائر. ويشكل السوريون بين طلبة الجامعات الألمانية، لاسيما بعد سنة 2015، فئةً مُعتبرةً تتشارك كثيراً من القواسم في حياتها اليومية والتعليمية.
نحاول في هذا النص إلقاءَ الضوء على ما بات يمكن وسمه بـ«الحياة الجامعية السورية في ألمانيا»، وذلك من خلال تناول جوانب من تجربة سوريين قرّروا خوض حياتهم في ألمانيا من بوابة جامعاتها ومؤسساتها التعليمية ذات الطبيعة والشروط الخاصة.
اندماج أم صراع؟
يحتلُّ مصطلح الاندماج الإشكالي حيزاً جدلياً كبيراً في النقاشات الأكاديمية والعامة في ألمانيا، فثمّة تعريفات مختلفة له، لكن مصطلح «الاندماج» أو «المُندمِج» المستعمل هنا فيعتمد بشكلٍ أساسي على الفهم الأسهل والأشيع، باعتبار أن المُندمِج هو كلّ من أتقن الألمانية و«انسجم» مع قوانين البلد. وكثيراً ما يتحقّق هذان الشرطان لدى سوريين تعلموا الألمانية وقرروا إثرها متابعة تعليمهم الأكاديمي، ليُعتَبروا تاليّاً، وبصورةٍ آلية، «مُندمجين» يقضون حياتهم دونما قلاقل تُذكر. غير إنّ السؤال الذي يلحُّ هنا هو: هل حياةُ الطلبة الجامعيين السوريين في ألمانيا يسيرةٌ حقّاً؟ انطلاقاً من هذا التساؤل، سيسعى النّصُ إلى إماطة اللثام عمّا يُزعزعُ هذا الفهم الميكانيكيّ لحياة الطلبة السوريين في الجامعات الألمانيّة، مع التركيزِ على طلبة العلوم الإنسانيّة، الذين زاد عددهم في الجامعاتِ الألمانيّة بشكلٍ لم يكن متوقّعاً من قبل.
مرحلة مواجهة
بتخطّي مرحلة الوصولِ وتقديم طلب اللجوء، ومن ثمّ البدء بتعلّم اللغة وفهم قوانين البلد الجديد، والانتقال بعدها إلى مرحلة الدراسة الجامعيّة، يكون المرء قد بلغَ سويةً أخرى من «المواجهة» مع وضعيّة حياته المُتشكّلة منذ تركه لبلده؛ فلا يعودُ يشغله التفاهم مع حارس معسكر اللجوء أو موظف مكتب العمل أو ساعي البريد، إنما التفاعل مع إيقاع الحياة الأكاديمية الألمانية المُرهقة. إذ يغدو السوريون في الجامعات الألمانية إزاء نظامٍ جامعي منضبط ومن طبيعة خاصة، ويتعاملون مع أساتذةٍ لا يعرفون التلقين منهجاً، وغالباً ما يكتفون بالملاحظات التنظيمية الأساسية بانتظار مساهمات الطلبة وتفاعلهم الذاتي. كما يصبحون إزاء زملاءٍ «أحرار» طليقي الألسن، ومُعَدّين جيداً للمناقشة والسجال والرفض بصوتٍ مسموعٍ لا تردعه خشية أو تردّد. معظمُ الطلبة السوريين المُلتحقين بالجامعات الألمانية في السنوات الأخيرة هم من خرّيجي مدارس البعث، المعروفة بوصفها «معسكرات تربويّة» ليس فيها تدريب على الحوار والنقد، فتزرع في النفوس الخوف من النقاش المفتوح، وتشكّل أجيالاً مُتلعثمةً ترتعدُ أوصالُها في الفضاءات العامة. ويتبدّى أثر هذه «التربية» واضحاً لدى الطلبة السوريين حين تشتعل قاعات المحاضرات والسيمِنارات بالسجال والرفض وإبداء الآراء بأصوات عالية. في هذا السياق، يحدثنا جمشيد، طالب الحقوق في جامعة فرانكفورت: «يا رجل إنّهم ينتقدون بقسوة أشد القوانين حساسيةً دون أن يرفّ لهم جفن. من كان سيجرؤ في بلدنا على نقاش المادة الثامنة في الدستور؟».
وخلال دراستي في أكثر من جامعة ألمانية، عرفتُ عدداً من الطلبة السوريين، وكان معظمهم قد حاز شهادته الثانوية في سوريا، وبعضهم تخرّج من جامعاتها، كما تسنّت لي فرصة التعرّف على سوريين أنهَوا في ألمانيا -على الأقل- سنوات دراستهم الثانويّة. ولا أظن أني أجانب الصواب حين أقول بوجود فارقٍ بين السـوريين الدراسين «هنا» والدارسين «هناك»، تحديداً فيما يخصُّ التفاعل مع المواضيع الإشكالية «الحساسة» أو النقد الحر، وذلك بغض النظر عن عمق ما يُقال أو مستواه المعرفي. ولأجل الإيجاز، يمكنني القول بأنّه ثمة نفحة حرية تهبُّ من كلام هؤلاء السوريين القادمين من المدارس الألمانية يفتقدُها سوريون أنهوا معظم مراحلهم التعليمية في المدارس السورية. ثمّة خوفٌ جوهريٌّ تجرّعناهُ، نحن السوريين، في المدارس والشوارع والميادين العامة، وكانت هنالك على الدوام آذانٌ تصيخ السمعَ إلينا داخل حجراتِ نومنا وأثناء جلساتنا العائليّة. نحن خائفون، والسوريون الذين تعلموا في مدارس ألمانية لا يعرفون الخوف. هذا هو الفارق الوحيد.
أستفسر من لمى، طالبة الدراسات الإسلاميّة في جامعة غوته، إن كانت تُشاطرني الرأي حول ذلك، فتردُّ بحزمٍ وغضب: «يحتاجُ السوري فصلين دراسيين حتى يبدأ بكسر سلاسله المجلوبة من تلك الأرض». وتذكرُ بأن إحدى صعوبات السوريّين في الجامعات هنا «تكمنُ في الوقوف والتحدث بحرية وطلاقة أمام الطلبة والمعلمين بلا خشيّة، حتى لو كان الحديث بالإنكليزية أو حتى بالعربية، في حين أن طلبةً من جنسياتٍ عدة لا يُبدون تأثراً، ويبقون على سجيتهم مهما كانت مهامهم. لقد تعوّدوا على الكلامِ بحريّة». بينما تُخبرني لمى بذلك، يخطرُ لي بأنّي لم أرَ طوال حياتي المدرسيّة في سوريا أيّ عرضٍ تقديمي (Presentetion) لطالبةٍ أو طالب، أو حتى نقاشاً مفتوحاً عن أمرٍ عام في الصف. كان هنالك معلمون وموجهون ومُدراء وحراس يُبادلوننا الخوف بالخوف. ومَن يعرف ســوريا البعث الأسدي يعرفُ أن الخوف منهاجها الأصل.
وربما أمكن، والحال هذه، التكلّمَ عن «تلعثم سوري» كظاهرة تُحيلنا بالضرورة إلى سياسات الخوف والتكميم والتلقين والحفظ بصماً والترديد ببغائيّاً من دون إتاحة مساحةٍ كافيةٍ للتفكير وإعمال العقل نقداً وتمحيصاً وتساؤلاً خارج القفص المفروض «من فوق»؛ ومن غير العادلِ أن يُتوقَعَ من طلبةٍ لم يُمنحوا مجالاً خاصاً ولم يُروا أفراداً بآراء تتعارض كلياً أو جزئياً مع رأيّ المُعلم في الصف أو النظام السياسي والاجتماعيّ السائد خارجه، أن يكونوا غير مُتلعثمين.
في الحياة الأكاديميّة الألمانيّة، لا سيما في كليّات العلوم الإنسانيّة، ليس ثمّة من يأمر فينهي، وقلما يُقالُ رأيٌّ لا يُعارَضُ، وثمة على الدوام فسحة نقاشٍ حول أبسط الأمورِ وأعقدها. ولعلّه من الممكن في هذا أن نشير إلى النقد كحاسة تُولد مع البشر كبقية حواسهم، لكنها غير فيزيائية، ولا تعمل بشكلٍ ميكانيكي، ما يجعلُ عملها غامضاً وأشد تعقيداً، بيد إنّها في نهاية المطاف كمثل باقي الحواس، يُمكنُ قمعها لتنعدم. هكذا، كأن تُقلَع عينٌ فتنعدمُ الرؤية، يمكن أن يُقلَع «النقد» فتتحطم الفعالية الذهنية. وهذه الحاسة النقدية كانت، تماماً، نقيض المناهج التربوية السـورية.
اختلال «العدالة اللغوية»
بالرغم من الأثر الهام لسياق التنشئة في المدارس التحضيرية للتعليم العالي، لا يمكنُ إغفال دور اللغة بوصفها عامل إرباك إضافي للطلبة الأجانب الذين يدرسون بغير لغاتهم الأم. ويتبدّى أثرُ ذلك بشدة لدى القادمين من بلدٍ ذي مرجعية ثقافية ولغوية مختلفة تماماً، كما هو حال الطلبة السوريين في الجامعات الالمانيّة. ليس الأمر «صراع ثقافات»، ولكن ثمّة أرضية ثقافية قد تُسهّل أو تُصعّب مهمّة التواصل مع ما هو «جديد». لذا هناك، والحال هذه، تباين بين القادمين إلى الأكاديميا الألمانيّة من ثقافات أوروبية، كالإنكليزية مثلاً، والقادمين من ثقافات أخرى، أشدُّ اختلافاً؛ فالقرب اللغوي والثقافي يخلق نوعاً من الألفة بين الطالب ومواده، ويخفّف من ثقل «غرابتها» لتصبح أقلَّ امتناعاً. يقول جميل، وهو طالب ماجستير في علم التربية: إن «الغيرة اللغوية» من زملائه الألمان والأوربيين تجتاحه غير مرّة، وإنه يتعثّرُ أحياناً في أمورٍ بسيطة لأسباب لغوية، في حين إن أقرانه يتقدّمون في أعمالهم بسرعةٍ أكبر، وتكون مشاكلهم من طبيعة مختلفة. ويجزمُ جميل بأنّه «يتمتّع بمهاراتٍ تفوق مهارات العديدين منهم»، لكن اللغة، أو «اللغة اللعينة» كما يسميها، لا تسعفه.
وكثيراً ما يكرر طلبةٌ سوريون أن تأخّرهم الدراسي عائدٌ إلى عامل اللغة، ما يدفعهم لإحساسٍ غريب بغياب أو اختلال «العدالة». وربّما في وسعنا هنا التحدّث عن «اختلال العدالة اللغوية».
تذكرُ لورين، طالبة الصيدلة، إنّها كانت في البلد معروفةً بسرعة تلقّيها لمضامين موادها المدرسيّة، بل وكانت تساهم خارج إطار دوامها المدرسي في تيسير ما يعسر على زملائها في الصفّ. لكنّها تجد نفسها في ألمانيا مُرغمةً في الغالب على إعادة دراسة موادها بشكلٍ فردي وبإيقاعٍ خاص، في حين إن الطلبة الألمان يتمكنون بسبب «بداهة اللغة» من التقاط ما هو جوهريّ في زمنٍ أقصر.
بينما فيكتوريا جابلي، طالبة الهندسة الميكانيكية، فتُخبر الجمهورية.نت عن «معضلة» اللغة بالقول: «شعوري بالانقسام الداخلي بين لغتين و فكرين ولّد لديّ نفوراً حتى من فكرة الذهاب إلى الجامعة، ما جعلني أصطدم في البدء بأسئلة من قبيل: هل أنا في المكان الصحيح؟ لم أنا هنا؟ وما الغاية من كوني يجب أن أقضي يومي في هذا المكان الذي كان في يومٍ ما مشتهىً؟ أمشي بين الطلاب وكأني شفافة، لا أحد ينتبه لوجودي، لا أحد يلقي عليّ التحية، ولا أحد حتى ينتبه لشكلي. لقد اعتزلتُ الحياة تقريباً، إلى أن مرّ بعض الوقت فنهضتُ بمشقّة لإتمام دربي».
ليست اللغة وحدها
بالإضافة إلى ما أسميناه «التلعثم السوري» وثيق الصلة بطرائق «التربية البعثية» و«اختلال العدالة اللغوية»، توجد عوامل أخرى تساهم أيضاً في تكدير الحياة الجامعيّة للطلبة السوريّين في ألمانيا، مرتبطة بطبيعة النظام التعليمي وبفارق الزمن. في هذا السياق، تذكرُ فيكتوريا أن حلمها بإتمام دراستِها رافقها منذ فرارها من البلد، وقد أفلحت بالفعلِ بعد مرورٍ مدّة، وبالرغم من ظروف عائليّة وماديّة عصيبة، من تعلّم اللغة والالتحاق بالجامعة في البلد الغريب؛ بيد أنّها صادفت عوائق مرتبطةً بـ«السيستم الجامعي» في ألمانيا. تقول: «لم نكن في سوريا نمتلك صفحة خاصة يمكننا من خلالها مشاهدة محتوى المحاضرات، ولا بريداً إلكترونيّاً لتلقي الرسائل ولا أي شيء يتعلق بِألف باء التكنولوجيا. من الطرائف التي أذكرها هي سؤالي لأحدهم عندما كنتُ أنتظر أن يُفتح باب القاعة حتى نعبر لحضور المحاضرة، فعرفت حينها أنها قد أُلغيت، فسألتُ زميلاً لي: كيف علمت أن المحاضرة قد تم إلغاؤها؟ فأجابني: عبر الإيميل. سألتُه: أي إيميل؟ فرد باستغراب، إيميل الجامعة! عرفتُ حينها لأول مرة أن لدى كل طالب إيميل، ولكني لم أكن أعرف ما هو إيميلي أو كيفية الوصول إليه».
صديقٌ سوريٌّ آخر يشكو من حياته الجامعية في ألمانيا انطلاقاً مما يمكن تسميته بـ«فارق الزمن»؛ فزملاؤه أقلُّ سناً وأشدّ حيويةً، في حين تعيّن عليه، بسبب الحرب والهجرة، أن يُكملَ تعليمه بعد سنواتٍ من التوقف. فقد توقّفَ زمنه الدراسي، بينما واظب زمنه الطبيعي على المسير دون مبالاة. هذا الفارق بين «الزمن الدراسي» و «الزمن الفعلي» يصنعُ هوّةً لا تني تتعاظمُ بين حياةِ الطالب الدراسية اليافعة، وحياتِه الأخرى المُتقدّمة في السن بلا هوادة. وليست الاهتمامات أو طبيعة النظر للعالم وحدها تتباين بين طالب عاد لإتمام مساره التعليمي بعد سنين من التوقف قسراً، وآخر يُكمِلُ تعليمه بصورة طبيعية دون مشاكل أو انقطاعات. وهناك تجلٍّ مُهِم آخر لهذا الفارقِ الزمنيّ، ويمكن ملاحظته في تباين فرص العمل وحظوظ الترقية الوظيفية. فكلّما قلَّ عمر المرء زادت حظوظه في مضمار التنافسية الرأسمالية. تباينُ الزمن الدراسي والزمن البيولوجي-الحياتي هو إشكاليةٌ يعاني منها عددٌ لا بأس به من الطلبة السوريين الذين توقّف زمنهم الدراسي عند ساعة الحربِ القاسية، في حين أتمّت الغالبية العظمى من أقرانهم حول العالم أزمنتهم التعليمية بسلاسة طبيعية.
النقاش حول سوريا وقضيتها
حين نتحدث عن سوريا بالنسبة للجامعيين السوريين في ألمانيا، فإننا نتحدث عن سوريا التي لم تعد مكاناً يُعاشُ فيه، بل سوريا التي غدت شيئاً-حدثاً نُزِعَ من الواقع وسكن المخيلات. وهي بذلك متباينةُ الخصال تبعاً للمُتفكِّرين فيها وظروفهم الحياتية الخاصة. الحديث في ألمانيا (وسواها من المنافي والمهاجر) عن سوريا أصبح، عملياً، حديثاً عن ماضٍ وذكريات. فسوريا البعيدة زمانياً وجغرافياً تبدو اليوم شيئاً حُلُمياً أكثر منه حقيقياً. ويتشاركُ المُهجّرون والمهاجرون السوريون هذا الشيء في أذهانهم وذكرياتِهم، بيد أن تمثّلاته تتباين بحسب واقع الأفراد وطبيعة ذكرياتِهم عنه. وعلى الرغم من خصوصية العلاقة مع هذا «الشيء» أو هذه «الذكرى» بالنسبة للمهاجرين والمُهجّرين بصورة عامة، فإنّه يكتسب سماتٍ أشدُّ تعقيداً لدى المُنشغلين بالعلم والفكر والثقافة. فهؤلاء عابرون مستمرون على الجسر الواصل بين الثقافة الأم والثقافة الجديدة، ما يجعلهم في تفاعلٍ مستمرٍّ ومُكثّفٍ مع خصائص هاتين الثقافتين وبناهما المركبة. وفي حالة سوريا يكون المرء إزاء «بلدٍ» لم يخرج طوعاً من حياة هؤلاء الناسِ، بل انتُزِع انتزاعاً، ما أضفى على صورته ملمحاً نوستالجيّاً لا يخلو من القهر والهزيمة. وربما أمكن القول إن سوريا بالنسبة للطلبة السوريين في ألمانيا، المُنهمكين طوال الوقت باستيعابِ ثقافةٍ جديدة ونظامٍ سياسي ديمقراطي وأساليب عيشٍ وتفاعلٍ اجتماعي مغايرة، هي طرفُ معادلةٍ صعبةٍ، يُرجَع إليها بوصفها نقيضاً، على الأقل من حيث طبيعة النظام السياسي والتعليمي والثقافة الرسمية السائدة.
يشير رودي، طالب العمل الاجتماعي، إلى أنّ سوريا بنظامها وسياساته هي مرجعه كلّما سُدّت في وجهه السبل وقست ظروفُ معيشته، غير إنّه لا يرجع إليها في ذهنه لنسيان ما يُقاسيه في الواقع، بل ليتذكر إلى أيّ دركٍ يمكن للحياةِ أن تهبط. ويُضيفُ بأنّ حياته مهما صعبت هنا، فهي تستحيل هناك. مُكمِلاً حديثه عن سوريا بما يشبه الاعتراف: «صراحةً مشكلتي مع الـ’هنا والآن’ ليست كامنةً في الـ’هنا والآن’، إنما في الـ’هناك ووقتذاك’. إيجازاً: مشكلتي هي سوريا».
أستفسرُ من روز، طالبة إدارة الأعمال، عن «سوريّاها»، فتؤكدُ بأنّ علاقتها بسوريا لا تتجاوز إطار تفكيرها أحياناً برفاقِ طفولتِها الباكرة، وهي بهذا المعنى علاقةٌ مع ماضٍ غائمٍ كالأحلامِ.
أمّا في ما يخصّ ســوريا بوصفها «قضية»، فكثيراً ما يكون الطلبة طرفاً في نقاشات «تنويرية» تدورُ في أروقة الجامعات والمقاصف حول ما جرى ويجري في ذلك البلد البعيد. لكن هذا لا يعني بطبيعة الحال غياب العلاقات التناحريّة بين الطلبة السّوريين أنفسهم بما يخص القضية السياسية في ســوريا. شهدتُ بنفسي شجارين «سياسيّين» بين طلبة سوريين. الأول نشب بين شاب لم يتجاوز في كلامه رفيع النبرة عباراتٍ مكررة حول تمجيد الثـورة السورية وتقديس شهدائها، وبين فتاةٍ أبدت في حديثها نزعةً نسوية تتخطى مجرد الكلام الثوري حامي الوطيس عن الحرية وإسقاط النظام ، مُبرّرةً كلامها بعقلانيةٍ استحسنتُها، باعتبار أنّ موضع النّساء الســوريّات على سلّم الحريّات متدنٍ تماماً، وذلك ليس فقط بسبب النظام الديكتاتوري الحاكم، إنّما أيضاً، وبشكل أساسي، نتيجةً لإرث اجتماعي-ثقافي مرتبطٍ بسطوة العلاقات الدينية-الذكورية وغياب مفهوم الحرية الفردية وحرمة الجسد. أما الشجار الثاني فكان بين طالبَين سوريين، أحدهما قادمٌ للدراسة في ألمانيا على حسابه الشخصي، ورؤيتُه لــما ينعتُها بـ«الأزمة الســورية» مختلفةٌ في جوهرها عن رؤيــة الشاب الآخر الفارّ من الخدمة الإلزامية، والحاصل على منحةٍ تعليمية من الدولة الألمانية التي قبلته لاجئاً فارّاً من بلدٍ مُحطّم. كان الأول يُبدي حياداً مُستفزّاً تجاه المشكلة السوريّة، ولا يخلو كلامه من التركيز على ما آلت إليه الثورة السورية من احترابٍ أهلي دموي، في حين أنّ الآخر حاول الإحاطة بالشروط القاسيّة التي اندلعت فيها انتفاضة السوريين، نابذاً اختزال الأمر إلى مجرّد حرب بلا قضيّة. وبكل أسف، عليَّ أن أذكر أن هذا الشجار قد تحوّل إلى عراكٍ بالأيدي واللكمات وانتهى بقطيعة وتشوّهات في الوجه.
من شأنِ هاتين الحادثتين أن تُظهرا، مرةً أخرى، الهوّة المتسعة بين السوريين، بغض النظر عن أماكن تواجدهم وطبيعة أعمالهم أو سويتهم العلمية. وليس الطلبة السوريون في ألمانيا، بلد اللجوء والهجرة، بمنجاةٍ عن احتدام الصراع السوري في إثر الثورة السورية المقهورة.